عرض مشاركة واحدة
  #226  
قديم 06-07-2013, 10:48 AM
 
Cool

[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('http://im36.gulfup.com/vpjl3.png');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]



.

.



* الفصل الخامس *




موجة قوية تكسرت بطرف الصخرة الضخمة حيث يجلس ،
وصله شيء من رذاذها البارد .. دون أن يغير في تعابير وجهه الشاردة ،
ألقى حصاة التقطتها من جواره ليبتلعها البحر الهائج مثله هذا الصباح.

صر أليستر على أسنانه غاضبا من نفسه ..
متضايقا من كل شيء ..
من سخافات الأعياد ،
مقالات الصحف ،
ذكريات الماضي ،
كل شيء اتحد ضده لينبش آلامه و يعيدها إلى الحياة دفعة واحدة !

ألن يحين الوقت أبدا لينسى الماضي و يتابع قدما ؟!
إلى متى سيبقى هائما على وجهه في هذه الحياة يحاول إيجاد معنى .. أي معنى لوجوده فيها ؟!


رغم هدير الموج المرتفع .. استطاع أن يشعر بالشخص الذي دنا منه حتى توقف خلفه ،
ظل يتأمل البحر الممتد أمامه .. و لما لم يبدر أي صوت من الشخص الواقف وراءه ، قال :
_أخبرتك أني أريد البقاء وحدي رايان !

وقف رايان على طرف الصخرة حيث يجلس أليستر ، و ابتسم عندما عرفه دون أن يلتفت حتى و قال :
_سمعت ذلك ، لكنني تجاهلته !

لم يعلق أليستر .. ظل يحدق بالبحر الثائر الامواج دون أن يبدو عليه أي إهتمام بوجوده.
نظر رايان إليه لبرهة ثم قال :
_أتعلم أن لديك أغرب ردود أفعال على الإطلاق ؟!

أدار أليستر رأسه إليه للحظة دون أن تغادره تقطيبته .. هم بقول شيء ما لكنه عاد ينظر أمامه متراجعا عن ذلك ،
فجلس رايان إلى جواره على حافة أكثر ارتفاعا لا يصلها رذاذ الماء ،
تأمل فسحة المياه الزرقاء الممتدة على مد البصر أمامهما محاولا رؤية ما يراه أليستر فيها ، قال بعد دقيقة صمت :
_أنت غاضب .. يحق لك ذلك و لا أعرف لماذا تكتمه ، لو كنت مكانك لذهبت إليها و جعلتها تندم على ما فعلته !

هز أليستر رأسه و تمتم ساخرا :
_حقا ؟!

تحدث رايان بحكمة لم تناسب هيئته العابثة :
_حسنا .. لا ترغب بالتحدث ، و لا تريد أن تغضب ... إن الكبت شيء غير صحي !

_ماذا تريد رايان ؟!

_أريد أن أفهم كيف تجلس هنا متظاهرا بالهدوء رغم ما حدث ، كيف لا تغضب منها .. هل هذا لأنك ماتزال تحبها ؟!!

ابتسم أليستر متفكها لوقع العبارة الأخيرة و كأنه يسمعها أول مرة ،
لكن ابتسامته سرعان ما تلاشت بينما يجيبه بشرود :
_أنا لا أحبها .. لم أحب يوما !!

إعلان أليستر لهذه الكلمات بدا غير قابل للتصديق بالنسبة لرايان ،‏

و قد كان يعرف أبعاد علاقته بجيني ، يعرف العاشق الذي كان عليه ... أم أنه توهم ذلك ؟!
سأله بحيرة :
_و لكن عما تتحدث ؟!

ردد أليستر و كأنه لم يسمعه :
_الكبت شيء غير صحي !

ثم أغمض عينيه بإرهاق ، و حين تكلم من جديد كان هادئا .. بعيدا .. كما لو أنه يخاطب نفسه :
_لا يسعني أن أغضب الآن .. لقد توقعت منها شيئا كهذا ، و الحقيقة أنا و جيني لم نحب بعضنا يوما ... ما جمعنا كان علاقة استغلال متبادل فحسب !

سأل رايان مدهوشا بما يسمعه :
_كيف لا تحبها و قد تألمت لانفصالك عنها ، ثم كتبت لها تلك الأغنية .... هل أنت بخير ؟!!

أضاف السؤال الأخير حين ضحك أليستر على نحو مباغت ،
ضحكة اختفت فجأة كما بدأت ، بدا صوته غريبا وهو يقول :
_تألمت صحيح .. لكن بسبب انتباهي المفاجئ إلى ما أوشكت أن أصبح عليه ، أما تلك الأغنية .. فلم تكن لها ، لقد جعلتها تبدو كذلك ، لكنها لم تكن المقصودة بها .. ليست لها !!

ساد الصمت بينهما للحظات ، لم يكن يسمع خلالها سوى صوت أمواج البحر ..
لا شيء مما يقوله أليستر بدا مفهوما لرايان ،
لقد كان صديقه منذ سنوات طوال ، تحديدا منذ كانا في المدرسة الإعدادية ،
و رغم أنه قد تشارك معه الكثير بحيث صار أقرب أصدقائه .. إلا أنه لم يعرف يوما أكثر من ظاهر الأمور.
إذا تعلق الأمر بأليستر .. يكون ثمة دائما جزء بعيد عن الآخرين .. خفي عن الناس ، جزء يحتفظ به لنفسه !
لقد كان يشبه أخاه بهذه الصفة ... لذا فبقدر استغرابه لسوء تفسيره لما اعتقده حبا طيلة الفترة الماضية ،
كان غير متفاجئ كليا .. فخطب ما بدا له غير صحيح في تلك الأيام ، إذ لم تكن جيني يوما الفتاة القادرة على سلب قلب أليستر !

لحظات كهذه نادرة .. أن يرغب أليستر بالبوح بما يدور داخله يعني الكثير ،
و لم يكن رايان يمانع في دفعه للتكلم أكثر ، سأله :
_أتقول أنك لم تهتم لجيني يوما ، كنت تزيف مشاعرك نحوها كما كانت تفعل هي بالضبط ؟!!

و لما ظل أليستر صامتا و كأنه يؤكد على صحة ذلك ، تمتم رايان :
_لم أعلم أنك تستطيع أن تخدع أحدا !

أطلق أليستر ضحكة أخرى قصيرة .. لم تخفي حجم البؤس القابع وراءها بينما يتمتم :
_مثير للشفقة ، أليس كذلك ؟! لم تتوقع هذا .. أو لعلك توقعته لأنك تعرفني جيدا رايان !

تنهد بعمق قبل أن يردف :
_لم أستطع أن أشعر بأي شيء اتجاهها .. لكنني استمررت في محاولة نيل حبها فقط لأجل تحدي سافر بيني و بين نفسي ،
لم يكن ذلك عدلا .. أدركت هذا حين بدأت أنجح فيما سعيت إليه ... لذا انسحبت !

نظر رايان إلى وجهه الشارد و شيء من الفهم بدأ يتسرب إليه :
_تشعر بالذنب لخداعك لها ، و لهذا لا تريد أن تغضب ؟!

زفر أليستر :
_ألا يجب علي ؟!

هز رايان رأسه :
_كلا إن سألتني .. فبعد كل شيء ، هي أيضا كانت تخادع !

ثم أرجع جذعه إلى الخلف محاولا أن يرتاح أكثر في جلسته فوق الصخور .. قال :
_ليس المقال ما يزعجك ، و ليست جيني .. إذا ما الخطب ؟!

نهض أليستر واقفا ، ألقى بحصاة أخرى و عيناه لا تفارقان صفحة المياه المتخبطة أمامه ..

_أتذكر كيف كان الوضع حين بدأنا هذه الفرقة ، كيف كنا نتخيل ما ستكون عليه الأمور إذا نجحنا فعلا و أصبحنا مغنيين مشهورين ؟!

أومأ رايان إيجابا ، و قال وهو يستعيد تلك الذكريات :
_كان الحماس يغمرنا في تلك الأيام ..

تنهد أليستر و قال :
_كنت أعتقد أنني سأتغير عندما أصبح نجما ، سأكون شخصا آخر مختلفا قلبا و قالبا ... لكنني مازلت كما كنت دوما ، مازلت الشخص ذاته !

اعتدل رايان واقفا يلتفت إليه ، الطريقة التي نطق فيها كلماته الأخيرة بدت له غريبة :
_و هل هذا شيء سيئ ؟!

صمت أليستر متوقفا عن محاولة التفسير ،
لعل هذا لن يكون مفهوما لغيره أبدا .. شيء أحد غيره لن يدركه ،
لقد تمنى هوية جديدة يحصل عليها بطريقة ما مع قفزه لعالم المشاهير ..
أراد أي شيء يلهيه عن ماضيه و ذكرياته التي تأبى أن تفارقه ،
لكن هذا عيد الميلاد يقترب .. و ها هو يشعر كما اعتاد أن يشعر طوال سنوات حياته في هذا الوقت ،
لا شيء قد اختلف .. كم هو إحساس غير مريح أن تعلم يقينا أن بعض الأشياء لا تتغير في الحياة أبدا !



لم يتفاجأ رايان حين استدار إليه أليستر بعد دقائق .. راسما ابتسامة لم تصل لعينيه ،
قائلا و كأن الحديث الذي دار بينهما لم يكن :
_لنذهب حيث الآخرون .. سأطلعكم على أمر كدت أنساه.

_انظر إلى نفسك ..

بدأ رايان يقول بابتسامة ساخرة ، و واصل :
_كم بدوت بائسا قبل قليل .. و أنا الذي لحقت بك ظانا أني سأجدك تبكي ، لقد تجهزت بكل عبارات المواساة حتى !

ضيق أليستر عينيه و قال مجاريا مزاح رايان :
_هل تريد أن تجرب الغطس في البحر .. أستطيع أن أساعد ؟!

رفع رايان يده مستسلما وهو يقول بتقليد هزلي :
_لا شكرا .. "الماء البارد يفسد لي شعري" !

لم يستطع أليستر أن لا يضحك :
_لو أنها تسمعك فقط.

_لماذا ؟! أنت تعلم أنني لم استلطف تلك الفتاة يوما و لطالما تساءلت عما يعجبك فيها !

مط أليستر شفتيه و قال باستهتار :
_ألا يكفي أنها جميلة ؟!

زفر رايان ساخرا :
_توقف .. فهذا لا يناسبك !

ثم سأله بينما يغادران الشاطئ المنعزل الواقع خلف الفيلا الخاصة بهم ، في طريقهم إلى الداخل :
_علام تريد إطلاعنا إذا ؟

أجاب أليستر :
_شيء لن يروق مارتيل على الأرجح !





لم تستطع كيلي فهم سؤال الأستاذة .. و الحقيقة أنها ما كانت تملك فكرة عن الدرس هذا اليوم !
و رغم أنها لطالما برعت في الإسبانية كما هي الحال مع جميع الدروس ،
إلا أنها لم تستطع أن تركز في شيء و هي تشعر بعيني ليو تحطان عليها كل حين و آخر.
و مع كونه يجلس أمامها في طرف بعيد من الفصل ، استطاعت عيناه إيجاد طريقة للإلتفات إليها في كل مرة !

ماذا في الأمر ؟! لماذا ينظر إليها بهذا الشكل المربك كما لو كانت كائنا عجيبا ؟!

تمتمت بأنسب شيء اعتقدته قريبا من سؤال الأستاذة العجوز ، و التي اكتفت بأن طالبتها بالانتباه أكثر عندما اخطأت الإجابة !

عادت كيلي تجلس في مقعدها في آخر الفصل وهي تحملق بإصرار في كتابها ..
تقاوم رغبتها في رفع رأسها إليه لترى إن كان قد كف عن النظر إليها.

كان الأمر على هذا النحو منذ بداية اليوم تقريبا ..
مازالت تذكر كيف ألقى عليها التحية صباحا عندما صادفها في الرواق .. جاعلا الدهشة ترتسم على جميع رفاقه الذين كانوا معه ،
ثم خاض معها حديثا قصيرا لم يكن ذا أهمية .. حديثا مقتضبا جدا من قبلها و قد هربت من أمامه حرفيا بعدها !

و مع أنها قضت الليلة الماضية تتخيل كيف سيكون لقاؤها به غدا ،
و تهيئ نفسها للتصرف بشكل طبيعي ..
إلا أن كل ذلك تبخر لحظة وقف أمامها يحييها بعفوية كما لو أنه يعرفها منذ زمن !
لم تنتظر منه هذا ،
لقد كانت نصف ساعة فقط تلك التي قضتها برفقته البارحة ، انصرف كل منهما لشؤونه بعدها .. و لم تحتك به بقية اليوم ،
لقد ساعدها ببضع تعليمات مفيدة عن كيفية قيادة الدراجة ... و هذا كان كل ما في الأمر ،
رغم أن قلبها ظل يرفرف سعيدا طيلة تلك الدقائق .. إلا أن ما حدث لم يكن مهما تحت أي منظور ،
لم يكن مهما بما يكفي لجعله ينتبه إليها .. ليلقي عليها التحية كما لو أنها غدت ضمن قائمة أصدقائه فجأة ،
ليس بوسعها أن تفهم ليونيل وارن .. إنه فقط ليس كغيره من الشبان !

رفعت رأسها عن الكتاب أخيرا .. و التقت عيناها بعيونه الواسعة ،
شيء غامض كان يبرق فيها إلى جانب وميض الحيوية و المرح المعتادين ،
شيء لم تعرف ماهيته ..
لكنه لم يحاول إخفاء أمر تحديقه بها .. لم يحاول أن يبتعد ببصره عنها ،
تبادلا النظرات لثوان بدت لها طويلة .. قبل أن يبتسم لها ببساطة ، ثم يوجه إهتمامه إلى كتابه و إلى الدرس ...
ليمنحها بحركته هذه شعورا يائسا بكونها وحدها من يهتم ... وحدها من ينتفض قلبها بتأثير عاصف لمجرد نظرة !!

و في اللحظة التي ما عادت فيها عيناه تحاصرانها أحست براحة مفاجئة ،
و زفرت بعمق ... لتدرك متأخرة أنها كانت تحبس أنفاسها !


رن الجرس أخيرا معلنا عن إنتهاء أطول درس اسبانية كما شعرته كيلي ..
و أسرعت تجمع كتبها و أغراضها لتغادر الفصل .. شاكرة للمرة الأولى لانشغال ليو عنها بأصدقائه ،
أمنيتها الساذجة بأن تحظى بنظرة واحدة منه يوما ، ما عادت تبدو لها بهذه الروعة الآن و قد تحققت !
كانت مذعورة .. لا تدري كيف عليها أن تتصرف ،
هي اعتادت أن تبقى في الخلف ... أن تكون دائما تلك الفتاة الهادئة التي تراقب من هم حولها دون أن تشاركهم أي شيء ،
لم يسبق و أن كانت محط أنظار أحد ... و بمرور سنوات على هذا النحو أصبح الأمر أكثر من عادة ،
أصبح أسلوب حياة .. قد لا تكون راضية أو قانعة به ، لكنه بات خصلة فيها ما عادت تستطيع تغييرها !

ليونيل وارن ..
فكرت و الاسم يضج في رأسها بصخب متوافقا مع ضربات قلبها ،
ليونيل وارن كان من قلب نظرتها إلى الحياة أعمق .. كان من عرفها إلى مشاعر تعيشها لأول مرة ،
حتى دون أن يبذل جهدا .. حتى دون أن يشعر بها !


_كيلي ميتشل !

أوقعت الكتاب الذي همت بإعادته إلى خزانة كتبها حال أن اخترق سمعها صوت ذلك الشخص الذي يحتل أفكارها ،
و في محاولة منها لكسب الوقت لتهدئ من ارتباكها .. انحنت تلتقط الكتاب أولا ، تضعه في الخزانة و تغلق بابها ثانيا .. قبل أن تستدير إليه !


نظرت لوجهه ذي الوسامة الصبيانية .. بعيون عسلية واسعة و شعر مجعد بفوضى تلائمه ،
و ابتسامة ملتوية ترتسم على شفتيه تضفي شيئا من المكر الشقي إلى هيئته المرحة !
شعرت بقلبها يتعثر بإحدى نبضاته ...
لقد كان أمامها فعلا يخاطبها ،
بدا أن حتى دهرا كاملا لن يكون كافيا لتعتاد ذلك.


_كيلي ...

ناداها من جديد لتنتبه من تحديقها فيه ،
شعرت بالحرارة في وجهها .. هل ذنبها أن يمتلك هذا السحر الذي يجذب الجميع إليه ؟!
ثم قطعا لم يكن عدلا أن تشعر هي بالاحراج لما ظل هو يفعله طيلة الدرس دون أن يبدو عليه أي تأثر !

_ما الأمر ؟!

تمكنت من السؤال بطبيعية رغم ارتباكها الذي تضاعف عندما استرقت نظرة جانبية إلى أصدقائه ،
و الذين كانوا بعيدين يمنحونهما شيئا من الخصوصية الزائفة .. نظرا لعيونهم الفضولية التي لم تفارقها !

قال ليو مبتسما وهو يمد لها ورقة صغيرة :
_هذه تذكرة للحفلة التي سيقيمها السيلفري سبيريتز نهاية الأسبوع ... أتمنى أن تحضري !

تناولت الدعوة منه بتردد قائلة بدهشة :
_لكن .. لماذا تقدمها إلي ؟!

مال ليو برأسه يشرح بإختصار :
_عادة ما أجلب أربع تذاكر أوزعها على الأصدقاء بشكل عشوائي ، آممم إنه شيء سخيف في الحقيقة لكنه مثل التقليد ، التذكرة للأهم .. و حسنا ... جاكسون فقد هذه الأهمية اليوم !

قال الجزء الأخير وهو يلقي نظرة على أصدقائه في الخلف .. و الذين أسرع كل منهم يتظاهر بالانشغال لحظتها ،
فضحك لمنظرهم قائلا :
_و أتساءل ماذا علي أن أفعل مع مجموعة كهذه ؟!

ضحك ببساطة ... جاهلا كم يبدو رائعا دوما بتلك الضحكة المختالة ،
جاهلا كم التركيز الذي تحتاجه كي لا تفلت مشاعرها في هذه اللحظة و تطفو إلى السطح !
حاولت أن تبتسم .. فقد بدا كلامه الأخير كدعابة ،
كتمت أي انفعال لا داعي له ... و استفسرت أكثر :
_و لماذا أنا ؟!

رأت ذات البريق الغامض في عينيه العسليتين ،
لكن ابتسامة ماكرة امتدت على شفتيه شتتتها عن ذلك ، قال :
_لأني رغبت بذلك !

اتسعت عيناها لإجابته البسيطة المباشرة ،
قبل أن تبتسم بدورها .. شاعرة بموجة فرح تعصف داخلها ..
أردف بنبرة مرحة .. دون أن يمنحها فرصة للرد :
_ستحضرين لأنك مدينة لي يا فتاة .. الدراجة ، أليس كذلك ؟!

غمز لها مبتسما ... ثم انصرف تاركا إياها تتساءل عن المعنى الخفي الذي استشعرته في عبارته.
تساؤل لم يستمر طويلا و هي تشعر بفرحتها تتلاشى في أعقاب الحقيقة المرة ... لن يكون بوسعها الذهاب مهما رغبت !





زفرت سارة بعصبية وهي تغادر قاعة محاضرات الجامعة أسرع من أي من زملاءها ،
عدلت معطفها الأحمر الأنيق محاولة إغلاق زرين إضافيين فيه ،
رامية عرض الحائط ... خطة التباهي بالقميص الجميل باهض الثمن الذي ارتدته تحته هذا الصباح !
دعت أن لا تلتقي بتيريزا فما كانت قادرة على سماع أي تعليق منها في هذه اللحظة ،
بينما تتحرك إلى الخارج تحمل ملاحظاتها و حقيبتها بيد ... و تغلق المعطف بالأخرى متقية البرد.

لم تكن قد غادرت مواقف السيارات بعد حين رن هاتفها من داخل الحقيبة بنغمة بيانو عاطفية تعرفها جيدا ،
أشرق وجهها المكتئب بابتسامة فرحة ... وهي تناظل لإخراجه من بين كومة الأشياء التي تملأ حقيبتها ،
سحبته و نظرت إلى شاشته بلهفة ، رغم أنها ما كانت بحاجة لتقرأ الاسم حتى تعرف المتصل.

دوما هي من يتصل به لكن هذه المرة ...
عضت على شفتها السفلى تكتم ضحكة ... إنه يظنها غاضبة منه حتما و لهذا يتصل كتغيير ،
حسنا ... تستطيع أن تكون غاضبة كما وعدته في مكالمة هذا الصباح !

رفعت رأسها و أجابت ببرود ... ناحية كل أثر للسعادة التي تشعر بها عن صوتها :
_ماذا هناك ؟!

جاءها صوته العميق يقول متسليا :
_هل أفهم من ردك هذا أنك غاضبة سارة ؟!

هزت رأسها بعبوس و أجابت :
_بالطبع أنا غاضبة و ماذا تتوقع ؟! ما من مرة أطلبك فيها عبر الهاتف فتجيبني بشكل لائق ... لقد وعدت أن لا أخاطبك حتى نهاية الأسبوع فقل ما تريد بسرعة رايان !

_إذا أنت غاضبة مني ، هممم .. ألهذا السبب كدت تقفزين فرحا لاتصالي قبل قليل ؟!

ضحك حين اتسعت عينا سارة وهي تهتف بإنكار :
_ماذا ؟! انك واهم حقا !

قال رايان بعبث متجاهلا ردها :
_و الأحمر يبدو جميلا عليك !

صمتت سارة بإندهاش ،
ثم لم تلبث و أن استوعبت الأمر وهي تتلفت حولها بحثا عنه ...
رأته أخيرا أمام سيارته الرياضية الحمراء المتوقفة في بقعة بعيدة نسبيا عن الأنظار ،
يرتدي كنزة صوفية داكنة كقفاز يده التي لوح بها اتجاهها ،
و على عينيه نظارة شمسية لم تنجح في إخفاء هويته ... ليس عنها !

وصلتها ضحكته المتسلية عبر الهاتف من جديد حين ظلت تحدق فيه متفاجئة ...

فأقفلت الخط قبل أن تتوجه إليه بخطوات سريعة ساخطة ،
ما إن وقفت أمامه حتى هتفت به :
_كم أنت ظريف رايان ، لمعلوماتك الأمر سيان و مازلت لن أتحدث إليك حتى نهاية الأسبوع !

ثم زمت شفتيها محاولة أن تبدو غاضبة ،
الأمر الذي كان شاقا ... فقد كانت سعيدة لزيارته المفاجئة ،
كما و أنه يصعب أن تغضب من رايان حين يكون بمزاج مبادر كهذا ..
بدا وسيما و قد جمع شعره الرملي الطويل برباط خلف رأسه ،
رفع النظارة عن عينيه مثبتا إياها فوق رأسه ، و قال بابتسامة ساحرة :
_ماذا إن قدمت عرضا جيدا لإرضائك ، كأخذك الآن للتسوق لتشتري ما تشائين على حسابي ؟!

لم تنتبه كثيرا للعرض الذي كانت لتجده مغريا جدا في وقت آخر ،
ما أثار إهتمامها كان نظرة عينيه ... ثمة ما يوتره ،
تعرفه بما يكفي لتستطيع التكهن بهذا ... أمر ما يقلقه بالرغم من البهجة التي تغلفه اليوم !

_أي شيء أريد ؟!

سألته و قد قررت منحه كل الوقت الذي يحتاج ليخبرها عما يشغله بنفسه ،
فأومأ برأسه إيجابا :
_أجل أي شيء ... إنها نوبة كرم يجدر بك الاستفادة منها !

نظرت جانبا و كأنها تفكر مليا ، قبل أن تعلن وهي ترفع رأسها بدلال :
_أنا موافقة ، سأسامحك ... لكن هذه المرة فقط !



ابتسم رايان و صحح بثقة جعلتها تعبس مجددا :
_بل في كل مرة عزيزتي ... في كل مرة !

ثم أردف وهو يفتح لها باب السيارة :
_و الآن ... تفضلي أيتها الأميرة !

صعدت إلى السيارة مبتسمة فأغلق الباب خلفها ، و التف ليصعد إلى جوارها خلف المقود ،
سألها بينما يدير محرك السيارة :
_إذا ... أين تريدين الذهاب أولا ؟!

_إلى المركز التجاري.

هتفت بحماس ... فابتسم لها قبل أن يحرك السيارة نحو الوجهة التي تريد.


في وقت لاحق من ذلك المساء ،
كان رايان جالسا على مقعد إنتظار داخل المحل العاشر ربما .. فقد كف عن الإحصاء ،
راح ينتظر أن تنتهي سارة من تجربة "الفستان الغامض" الوحيد الذي لم تسمح له برؤيته ،
بينما يبذل كل جهده كي لا يشعر بالندم لكونه أقدم على هذا الاقتراح الجنوني و اصطحبها في رحلة تسوق !


_لا أكاد أصدق كم يبدو ملائما و جميلا ... علي شراؤه في الحال !

كان يسمع صوت سارة قادما من خلف باب غرفة القياس الموصد التي يجلس أمامها ،
رغما عنه ... أدفأته السعادة التي لونت صوتها ،
و كان ذلك أكثر من كافي ليتشجم العناء من أجله.
ابتسم قائلا :
_هل أستطيع رؤيته ؟!

صاحت من خلف الباب بكلمة واحدة سريعة :
_كلا !

ضيق عينيه بتساؤل ، لكنه لم يلبث أن ترك الأمر وهو يغوص في مقعده بضجر !



بعد تجوال دام ساعات كان ذلك الفستان هو الشيء الوحيد الذي اشترته سارة ...
و كان رايان شاكرا لإنتهاء مسألة التسوق تلك بحيث تجاهل فضوله لإصرار سارة على إخفاء الثوب عنه !

جلسا متقابلين في واحد من المقاهي الأنيقة المنتشرة داخل المركز التجاري ،
ظل يستمع إليها وهي تحكي له عن حياتها في الجامعة ...
إنها المرة الوحيدة التي يفترقان فيها دراسيا ،
فطوال حياتهما كانا معا في المدرسة نفسها .. من الابتدائية إلى الإعدادية و حتى الثانوية ،
و ربما أبكر بكثير بحسب بعض الصور التي كانت لدى عائلته ... لكنه لا يذكر ذلك الوقت لذا لا يحتسبه !

تبادر إلى ذهنه تعليق ساخر أو اثنين يقوله حين أخبرته بزهو أنها ستغدو معلمة أطفال خلال ثلاث سنوات فقط ،
لكنه اكتفى بالابتسام ... مراقبا إياها عن كثب افتقده و إن لم يكن راغبا بالاعتراف بذلك.

الطريقة التي تحرك فيها يديها عندما تتكلم متحمسة لأمر ما ،
الضحكة الناعمة التي تطلقها بين الحين و الآخر ... فتحمله على الابتسام حتى مع كونه يفوت معضم حديثها ،
سارة في حياته منذ أمد بعيد ...
وجودها الدائم حوله ... علاقتهما الغريبة ، القوية و العميقة ...
كان شيئا حتميا أن يكلل كل هذا بالخطوبة التي لم يرها أحد باكرة رغم صغر سنهما ،
لطالما كانت تلك مزحة عائلتيهما المفضلة ... حب الطفولة بينهما و الذي سينتهي يوما بالارتباط !
لكنه الفترة الأخيرة كلما فكر في ذلك ، في ماضيهما و المستقبل شعر بإنقباض غير مريح داخله ...


_رايان ماذا بك ؟!

سؤال سارة أخرجه من أفكاره ،
فنظر إلى وجهها القلق مفكرا ...
بوسعه أن يدعي أن لا شيء يشغله ، يتناسى أي أمر آخر و يسخر من تلك الملاحظة ،
لكن مع سارة ... و في أمر كهذا ما كان ليفعل ... فهي الشخص الوحيد الذي قد يفهمه !

أطلق رايان تنهيدة ، و تراجع مستندا بظهر كرسيه ، قال متوقعا صدمة عبارته عليها :
_اتصلت بجوني البارحة.

اتسعت عينا سارة وهي تسأل باندفاع :
_ماذا .. كيف .. أقصد من أين حصلت على رقمه ، ماذا قلت له و بماذا أجابك ؟!!

رسم ابتسامة جانبية ساخرة وهو يقول بلامبالاة :
_على مهلك سارة ... لم يكن الأمر كما تظنين ، لم نتحاور مباشرة ... لقد تركت له رسالة مسجلة في هاتفه ، فرد علي برسالة يطلب فيها أنا لا اتصل به مجددا !

ارتفع حاجبا سارة بعدم تصديق للحظة ،
قبل أن تعقدهما بحزن حائر :
_لكن لماذا ؟! جوني ما كان ليتصرف هكذا ، أتقول أنه لم يكلمك حتى بعد مرور كل هذه السنوات ؟!! لكنك شقيقه الوحيد !!

صحح رايان عاقدا حاجبيه بضيق :
_شقيقه بالتبني ...

هتفت سارة بإصرار ، و قد شعرت بغضب مفاجئ من عناده الدائم في هذه المسألة :
_لا أظن أن ذلك شكل فرقا لدى جوني ، أو لدى أحد من أفراد عائلتك ، رايان لما لا تنسى هذا الأمر فحسب ، لما لا تتصرف و كأنه لم يكن ؟!!

هتف بحدة مماثلة لحدتها :
_لأنها حقيقة سارة ، حقيقة لا جدوى من التظاهر بأنها غير موجودة ... ألا يكفي أنني عشت زمنا طويلا حياة زائفة مع عائلة زائفة ؟! حبذا لو أنك لا تثيرين هذا الموضوع مجددا لأنني لا أرغب بالخوض فيه !!

خيم صمت ثقيل عليهما بعد عبارته تلك ،
تشاغل رايان بكوب قهوته خلاله ..
و بقيت سارة تراقبه بأسى على الحال التي انتهت عليها عائلة كانت في يوم ما مثالية بنظرها !

قطعت الصمت تسأله بحذر ، غير راغبة في إثارة غضبه من جديد :
_هل هذا ما كان يشغلك ؟!

ظل رايان صامتا حتى خالته لن يرد عليها ،
لكنه تكلم أخيرا .. قائلا بنبرة هادئة :
_لا .. ليس هذا ، الأمر أنني تلقيت مكالمة من شخص غريب ظهر اليوم ، أخبرني فيها أشياء غير مفهومة عن جوني ثم أغلق الخط !

مالت سارة بإتجاهه عبر الطاولة .. تسأل بإهتمام :
_أي نوع من الأشياء ؟!

انعقد حاجبا رايان و ضيق عينيه بتركيز ، محاولا استرجاع تفاصيل تلك المكالمة ،
الرجل ذي الصوت المبحوح كان يملك لكنة مميزة لايزال يذكرها ،
خاطبه مباشرة و كأنه من المفترض به فهم الترهات التي تفوه بها ،
تذكر تلك الكلمات التي قالها و أعادها على مسامع سارة :
_قال لي أن العمل الذي يقوم به جوني في "جنوه" ، بلعبه مع الكبار سينتهي بمأساة ... و يريدني أن اعيده إلى صوابه بطريقة ما !

زفر رايان مستنكرا ثم واصل :
_و كأنه من المفترض أن أعلم ماذا يعني ذلك ؟!

ظلت سارة صامتة عدة دقائق تفكر في الأمر ،
ثم هزت كتفيها أخيرا قائلة :
_انسى الأمر ...

تطلع رايان إليها باستغراب فتابعت بابتسامة :
_إن لم يكن لهذا معنى واضح فانسى الأمر ، الأغلب أنها مزحة سخيفة ... لا يجب أن تقلق نفسك لأجل اتصال مبهم من شخص غريب.

زفر رايان و قال ينفي بنبرة لامبالية :
_لست قلقا ، أنا متعجب فحسب !

ضيقت سارة عينيها وهي ترمقه بانزعاج ،
هل هذا الجزء الوحيد الذي التقطه من عبارتها ؟!!

قالت فجأة تغير الموضوع :
_ألا يكفينا تضييعا للوقت ؟! هيا بنا !

نظر إليها رايان و قد قطعت شروده مع نفسه للمرة الثانية ،
لكنه سرعان ما قال رافضا :
_لا مزيد من التسوق سارة !

عقدت حاجبيها و ذكرته :
_وعدت أن تفعل ما أريده هذا اليوم !

برطم رايان :
_أنا و فمي الكبير !!

_ثم إنني لم أذكر شيئا عن التسوق.

قالتها سارة وهي تنهض واقفة ، و تابعت بضحكة متحمسة :
_أريد أن نذهب إلى صالة التزلج !

نظر إليها رايان و كأنها تفوهت بأغرب شيء على الإطلاق ،
لكنها تجاهلت نظراته و راحت تسحبه من ذراعه تستعجله و قد عاد مزاجها المرح مجددا.

_هيا .. هيا تحرك قبل أن ينتهي اليوم !

_حسنا .. حسنا ، انتظري لحظة فقط !

ترك رايان بعض النقود على الطاولة ثمن المشروبات ، قبل أن يسير خارجا من المقهى و سارة تتأبط ذراعه بسرور ..










xX تحذير .. يرجى رجاءا حارا عدم الرد ~





‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
__________________




افتَقِدُني
music4

رد مع اقتباس