يوميات باحث عن عروسة - الجزء الثالث
.................................................. ...
لا أصدق ذلك, بل لا أصدق نفسي حتى ... ها أنا بعد رحلة المعاناة الطويلة,
والتنطيط في شقق الناس, قد جلست أخيرا في الكوشة بالبدلة السوداء,
وابتسامتي تشق وجهي إلى نصفي بطيخة طازة, بينما ألمح هذا الحقد العزوبي في
أعين ذاك الركن الذي اجتمع فيه أصدقائي القدامى ... أستطيع أن أسمعهم
يتحدثون عن "ابن المحظوظ ده" الذي حاز للتو لقب متزوج جالسا إلى جانب
عروسه التي ...
- تامر
التفت إلى العروسة ... غريبة !!! ... لا أستطيع تبين ملامحها ... هل هذا عائد إلى إرهاقي الشديد
-يا تامر
أفقت من تساؤلاتي مجاوبا : خير يا حبيبتي ؟
لكنها استمرت ... تامر .... تامر
ثم ... فتحت عيني ... لأجدني على سرير غرفتي محدقا في شهادتي الجامعية
التي أصررت على تعليقها في غرفة النوم برغم حملها لقب "مقبول" أو "يدوب
ناجح" على رأي أبويا
" تامر .... يا تااااااااااااااااااااااااااااامر"
أفقت أكثر ... ده صوت الحاجة ... حبيبة قلبي, عليها صوت يصحى الزومبي
النايم في مدغشقر ... قمت واعتدلت في سرعة محاولا الرد, قبل أن تطلق نداءا
آخر يتسبب في انهيار صخري جديد في المقطم :
أيوه يا أمي, خير ؟
الأكل يا حبة عيني, يلا لحسن هيبرد
حاضر, حاضر ... جي أهوه
قمت في تثاقل كدب قطبي أكل للتو عشرين بطريق ولم يتناول حبة فوار واحدة,
تعثرت في بعض الألوان والكشاكيل الدراسية التي تلقيها أختي الصغرى في كل
مكان معتبرة أن هذه "ديموكراسي" كما أفهمتها الميس, وأن "الأرض أرض ربنا,
براحتي" كما أفهمتها جارتنا أم "وي وي" ...
من الصعب أن تنام بهدوء في يوم الجمعة, خصوصا إذا كان عدد سكان البيت يكاد
يقارب فريق كرة قدم خماسية بالحكم, وإذا كان عليك الاستيقاظ مبكرا لأن
الحاج ممكن يقلبها معسكر تعذيب لو لم يتناول إفطاره قبل الصلاة.
وصلت إلى السفرة, أو "استاد الأكل", أبي يقرأ الجريدة في صدر المائدة, أو
أنه يستخدمها كحائط صد دفاعي, أمي مثل النحلة بين السفرة والمطبخ, العيال
قالبينها ملاهي ... أزحت في هدوء كتب محاضرات أختي الكبرى, أحنيت رأسي
بسرعة لأتجنب تلك الكرة التي ألقاها أخي عليّ ظاناً أني "دونالدو" كما
يدعي, أخرجت في لا مبالاة قلما من طبق الفول الخاص بي صائحا:
مين يا إخوانا اللي ناسي قلم المذاكرة هنا ؟
تناولته أختي وهي تردد : إيه ده ؟ ... مش تقول إنه معاك من الصبح بدل مانا دايخة عليه ؟
رددت بعين نصف مفتوحة : معلش ... كنت عايز أدوقه مع الفول بالزبدة ... بيقولوا دايما "عليك بعصير العلم"
ثم انفجرت ضاحكا, ضاحكا بعنف ... فتحت عيني لأجد الكل ينظر لي في ازبهلال واضح, وأبي لا يزال يقرأ في الجريدة , بينما تقول أمي :
إنت لسه سخن يا تامر يابني
تلاشت ابتسامتي في هدوء معتاد وأنا أردد :
ولا حاجة ... شكلكو شاربين عصير "نكد وز" على الصبح
أخذت رغيفا من بتوع الجمعية, والذي أكاد أقسم أنه لولا لوحة مضيئة تضع
سهما عليه لتخبرك أنه "رغيف عيش", لم أكن لأعرف ذلك وحدي ... قطعت لقمة
"جملي" تدل على جوع فحيت, غمست اللقمة بربع طبق الفول, سميت, ورفعتها إلى
فمي بينما رائحة السمنة البلدي تداعب نخاشيشي و ...
- بقولك يا تامر يابني
تجمدت يدي عند هذه الوضعية, نقلت بصري إلى مصدر الصوت بينما فمي لا يزال مفتوحا, وهناك, من خلف الجريدة, أطل أبي بوجهه الطيب مرددا:
انت مش ناوي تتجوز بقى ؟
"يادي الداء اللي منتشر في العيلة دي, هوه حد عاملهم عمل اسمه جوزوه" هتفت
بالكلمات في سري, ثم ... أغلقت فمي, وأنزلت اللقمة في حسرة, لمعرفتي أن
هذا بداية حوار أطول من مفاوضات حرب البسوس ...
طبعا, لم تسلم العبارة من تعليقات "آه يا توتي, نفسنا نفرح بيك بقى" ,
"بجد يا تامر انت لازم تشد حيلك" , "تامر ... انت هتتجوز وتسيبنا ...
واااااء" ... و ... "يا حاج يتجوز إيه, ده ياكل العروسة وأبوها في طقة
واحدة"
نظرت إلى أخي -الذي يصغرني بعام وصاحب التعليق الأخير- شزرا , ثم عدت إلى أبي:
خير يا حاج يعني ... إيه اللي فتح السيرة دي معاك ؟
ولا حاجة ... أصل ليا واحد صاحبي في الشغل, حبيبي أوي , من أيام ما كنا في السعودية, أيام ما اتشحططنا , عارف عمك ده .....
واستمر أبي يحكي قصة فتحه هو وصديق عمره لطروادة, وانتصارهم على
الأناكوندا في أدغال المسيسيبي, بل وصل الأمر إلى سرد أسماء كل عسكري في
جيش تحرير أكتوبر ... وأخيرا ..
بس يا سيدي, فمن يومين, كان جايب بنته معاه و ... إيه ده؟ ... انت نمت يا تامر ؟ تااااااااااامر ...
هه ... أيوه ... معلش ... نعم ... بتقول إيه يا حاج ؟
مش قلتلك بطل سهر على أم النت والقرف ده ؟ ... المهم, هوه كان جايب بنته معاه, شفتها وحسيت إنها تنفعك ... إيه رأيك ؟
رأيي في إيه ؟
يبقى على بركة الله ... أنا حددت معاه ميعاد النهاردة بليل ... روح أجرلك بدلة ..
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
---------------------------------------------
في تمام التاسعة مساءا, كنا نقف, أنا ووالدي, أمام عمارة في أحد الشوارع
المتفرعة من شارع الهرم ... هم أبي بصعود المدخل, لكني أمسكت ذراعه بسرعة
متسائلا:
طيب يا حاج أنا معرفش عنها أي حاجة خالص, انت عارف إني عايز شروط في اللي هتنيل أتجوزها ...
يابني دي بنت مؤدبة وجميلة ومتدينة كمان ... صدقني الوضع هيعجبك ...
نفخ والدي في روحي اليائسة, ورفع من معنوياتي التي كانت قد وصلت إلى بير سلم العمارة, فأخذت نفسا قويا , وصعدت معه ..
صعدنا إلى الشقة حيث استقبلنا والدها بحفاوة تنافس أجدعها وزير, أدخلنا إلى الصالون, وجلس معنا مرحبا ...
شوية رغي, ثم قال والدي : طيب مش هنشوف عروستنا سارة ؟
نادى الأب عليها ... دخلت في حياء ... ونظرت إليها ... يادي النيلة ... إيه ده ؟
بنطلون وبلوزة ومسرحة شعرها ولا بسة "برادا" ذات الكعب العالي و .... من الآخر , مجلة موضة على ساقين ...
ميلت على والدي هامسا :
- إيه ده يا حاج ... انت متأكد إن دي بنت صاحبك ولا حضرتك غلطت في العنوان ؟ ... مش بتقول متدينة
- أيوه يابني, دي لما بتيجي تنام بتقلب الراديو من إف إم على إذاعة القرآن الكريم ...
- لا بجد ؟ ... هوه ده بقى التدين ؟
- انت هتعلمني من الأول ياض انت, أنا غلطان إني مشيتلك في موضوع
أخرجت زفيرا حارا من ذلك البركان في صدري, لكني قررت ألا أظلم الفتاة وأن أتحدث معها أكثر , فقد يكون ما تبطن أفضل مما تظهر ...
- ازيك يا أستاذة سارة ؟
- كويسة ... تسمحلي أسألك سؤال ؟
- فاجئني أنها هي التي بدأت ... لكني لم أجد أي مشكلة وأنا أحثها : أكيد ... اتفضلي
- انت عايز تتجوز ليه ؟
- أصل عليا جمعية وعايز حد يسددها معايا
- نعم ؟
- إيه السؤال الغريب ده, يعني إيه عايز أتجوز ؟
- يعني انت عايز تتجوز عشان الجواز ولا عشان إيه بالضبط ؟
"البت دي هتطلع زرابيني (اللي معرفش معناها لغاية دلوقتي) وهتخرجني عن شعوري" همست في سري,ثم, تمالكت أعصابي, وأنا أرد :
- بتجوز عشان سنة الحياة, عشان تأسيس أسرة مسلمة, والواحد يحصن نفسه و ...
- يعني كده, ... البنت في نظركم مجرد بضاعة ..
"نظركم ؟!! بضاعة ؟!! هي الأخت منين"
- مش فاهم قصد حضرتك
- يعني أنا شايفه إنك مربي دقنك ... يعني من الناس دول المتزمتين ... بتوع الدقن والجلابية ...
أيوه ... وفيه ناس منهم شاطرة بتصنع أسلحة نووي من أقراص الطعمية المزيتة
- سيادتك بتهزر ؟
- لأ ... بضحّك بس
- طيب وانت شايف المفروض تعامل مراتك إزاي ... عشان أنا عارفة إنكو بترجعوا بالزمن لورا ؟
أبدا ... بجيب خيمة 50 متر في الصحرا, وبروح الشغل بناقة مرسيدس فور باي
فور, وأربط مراتي بسلسلة من رقبتها لحد ما أرجع تكون عملت الطبيخ ...
وبعدين أقضيها ضرب فيها بالكرباج لحد قبل ما أنام ... في الآخر بزنبها
ترفع حلة محشي ووشها للحيط لحد الفجر
- أنا مش عارفة إنت ليه عمال تهرج ؟
- وأنا نفسي أعرف بتجيبي الكلام ده منين ؟؟
- لأ ... أنا كلامي واثقة منه ... أنا دايما متابعة البرامج الوثائقية على
"سي إن إن" و"فوكس نيوز" و"فورمز" متخصصة في المجال الاجتماعي تابعة
لجامعة أكسفورد
- طيب ما هو بدل ما تروحي تاخدي الكلام من ناس عايشة بعيد عننا في الناحية
التانية من الأرض, تنزلي تحت الشارع وتشوفي عم حسين بتاع الفول والشيخ علي
المحامي وأم حبيبة الدكتورة ... عيشي مع الناس بجد وافهمي الحياة
- إزاي يعني عايزني أسيب الكلام "الديكيومينتري" الموثق ده وأسمع لشوية ناس وأقتنع بيهم ؟
- لأن الكلام الموثق ده معمول عن الناس دي, ومحدش هيعرف عن الناس أكتر من الناس نفسها ...
- مش مقتنعة ... انتو عايزنا دايما نرجع لورا, للخيمة والسيف والـ "هورس"
انتو مين؟ هو أنا جايب قبيلة جاية تتجوزك ؟؟
- شايف أسلوبك الهمجي ... لأ, وبعد ما نتجوز تقولي أنا عايز أجوز تلاتة تانيين عشان الشرع محلل أربعة
- ليه يا ماما؟ ... هوه أنا قادر أجيب شقة لجوازتي الأولانية لما هتجوز
تلاتة تانيين, ده غير إن مش أي حد يتجوز أكتر من واحدة أساسا, فيه شروط ؟
... وبعدين إنتي قريتي لمين في موضوع الزواج من أربعة ؟
- أحد المستشرقين اللي عاشوا في التمانينات ... وبيقول إن الموضوع مجرد فهم خاطئ
- طيب يافندم ... ممكن تدوري على حد من أحفاده الأوائل عشان تتجوزيه ما دام هوه اللي بقى يفتي دلوقتي ...
التفتُّ إلى والدي اللي شكله "اتمزج" بكلامي, وإلى أبيها "المصدوم" من كلامها قائلا :
طيب معلش يا حاج, "ليتس جو", عشان شكل الأستاذة سارة عايزة حد من "الهيومان رايتس" ...
سحبت أبي من يده وهو مسبهل مرددا : من الهيومان إيه ياخويا ؟؟؟
ثم ذهبت إلى صديقه العزيز, سلمت عليه , وهمست له : خلي بالك من بنتك يا حاج ...
--------------------------------------------
نزلنا أسفل العمارة ودمي يفور من حرقة الدم , بحثنا عن مواصلات حتى البيت, لم نجد ما يوصلنا, فزاد هذا من غضبي ...
فجأة, وجدت أبي يطبطب على ظهري قائلا : اهدى يا تامر, الموضوع مش مستاهل
- متضايق ... متضايق جدا يا حاج من التفكير ده ...
- يا عم ... خليها على ربك ... انت قولتلها رأيك والهداية بإيده سبحانه وتعالى
- أخذت نفسا عميقا ثم أخرجته في حرقة محركا رأسي تأييدا على كلامه , ثم مال عليا قائلا :
- طيب ... مادام الموضوع خلص بدري, وانت عايز تهدى ... إيه رأيك نروح المكان إياه ونضربلنا اتنين من اللي بالي بالك ؟
- لا يا حاج ... بتتكلم بجد؟ .. دي أمي لو عرفت هتعمل مشكلة
- ومين اللي هيقولها يلا ... يلا بينا بس
أطعته, واستقلينا ذاك الميكروباص من على الناصية متوجهين إلى "الجيارة", حيث جلسنا على طاولة مخصوص ... وطلبنا من عفيفي اتنين ...
اتنين عصير قصب ...