عرض مشاركة واحدة
  #32  
قديم 08-11-2015, 06:17 PM
 
البرقية الاخيرةه

.












.












.. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
.. سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ..



اآلبرْقِية ُ الأخيرةه



عند زاآوية الاانكساآر تبعثر شتات روح تحطمت..

قلبتْ الرياح المندفعة من الشرفة الأرضية, سلة الرساآئل تلك ..فقلبتْ معهاليالي الحبور تعاسة ً أبدية!!

~~

أطبقت جفنيها و هي تُدندنْ بهدوء, صوتها الرخيم اخترق الغرفة الصامتة المستسلمة للنسمات الربيعية التي تعبق بها, تمامًا مثلما استسلم قلبها لتلك الأحاسيس التي اجتاحتها مع تَردُدِ بعضِ الذكريات على مخيلتها..

اليوم هو الـ 26 من الشهر يومُ الانتظار الطويل.. يومَ تتلقى رسالةً من "أكرم" زوجِها..

استيقظتْ مع طلوع الشمس و رتبتْ المنزل جيدا بينما ابنها "يامن" يجوب الحديقة يلاحقُ أحلامه الطفولية بكل براءة ,ثم جلستْ على كرسيها الخشبي الهزاز قبالة الشرفة المفتوحة ذات الستائر البيضاء المتحررة ..أخذتْ معها سلة من القصب زُينت بشرائط ملونة و في قلب تلك السلة انتشرتْ أظرفة ذات ألوانٍ باهتة ..

حملتْ إحداها و فتحتْ ما بداخلها و ظلّتْ تقرأ ,

فمِنْ عادتِها أن تقرا رسائلَهُ القديمة بينما تنتظر رسالة اليوم..

مشاعرُها تجسدتْ على وجهِهَا ذو الجمال السَّرمَدِيْ ,تراكماتٌ من التوتر و الخجلِ المفرط..

أطرقت برأسها تتنهد بعمق تحاولُ كبح المهتاج الذي بين أضلاعها, هي ضعيفة جدا أمام كلماته التي تقطر رقة و حبا..و دائما تكون لها نفس ردود الفعل كلما قرأتْ مرسولا منه..هذا هو حالها منذ ثلاثِ سنوات..منذ اليوم الذي غادر فيه "أكرم" ليلتحق بالجيش جهادا في سبيل الوطن..فالحرب لم تكد اندلعت في كل قطر من الأرض لتبلغ ضيعتهم المسالمة..

ساعي البريد يصل حوالي العاشرة صباحا, يدق بابها بلطف و يقابلها بتحية صباحية عطرة ثم يسلمها البريد المميز..و اليوم يبدو انه تخلف عن موعده فهاهي الساعة الحادية عشرة تكاد تُغرد و لم يُطرق بابها !!

بعد فترة صبر حاولت فيها الهاء نفسها عن التحديق بالساعة الحائطية ها هي الطرقات الخفيفة على الباب تصل..نهضت من مجلسها مهرولة الى المدخل و هي تمنع ابنها يامن من فتح الباب فقد سبقها و هو يردد بكل طفولية بريئة

~جاء العم ساعي البريد~

عدلت خمارها الذي ضربت به على راسها تتستر..

وصلت للمقبض و أدارته كاشفةً على الطارق..لم تجد أي شيء أمام بصرها لكن لفتها الشبح الذي يقبع أسفل زاوية نظرها..

على كرسيّ مُدَولَبْ..أشْعَثَ الشعر..كثيفَ اللحية..ذابلَ العينين..نحيفَ الوجه..هزيلَ الجسد,و قد ازداد سُمرة!

كتمتْ الصّدمة الكبرى بداخلها و اكتفت بـ:

"أكرم؟؟.."

دون أن تلتّفَ شفتاهُ بحرف لاعَبَ عجلاتِ كرسيهِ بيديه و دفعَ بنفسه الى الداخل فابتعدتْ عن دربه بارتباك وسط العصبية الظاهرة في حركاته ..

و هو يمر بجانبها , حثّتْ الخُطَى هيئةٌ شبابية ضحوكة باتجاهها..

كان ذلك "حسام" صديق أكرم و زميله في الجيش..ألقى التحية على ريهام و وضع الحقائب في الردهة, بينما أجبرت هي نفسها على مجاراة بسمته الدائمة فتدحرجت على شفتيها متقهقرة..

فور استقرار أكرم وسط البيت حتى ركض إليه يامن مرتمياً في أحضانِه

ـ أبي!

عانقه أكرم بحُبْ ثم مدَّ يده الى جيبه و اخرج كيسا صغيرا به قطعٌ من "حلوى السكر" الملونة و التي يعشقها يامن

ـ انظر ماذا جلبت لك

التقطها يامن مسرورا بل انه خطف الكيس و ركض الى الحديقة كي ينفرد بها جيدا

بقي أكرم يتأمله حتى شرد فيه لكن صوت ريهام دق سمعه و هي تناديه:

ـ أكرم..

لحظة صمت رهيبة أعقبها بنبرة جافة:

"أنا متعب و أريد أن ارتاح"

ليضيف و هو يُكلّم حسام:

ـ شكرا لكْ على كلِ شيء!

و أدار عجلات كرسيه و تحرك نحو غرفته ,راقبته ريهام ينعطف عند الرواق و هو يختفي عن ناظريها

صوت الباب يُفتحْ و تحَرُكُ الكُرسي..ثم انقطعَ الصوتْ.

التفتَتْ بسرعة إلى حسام و كأنها كانت تتحين ابتعاد أكرم لتسأل:

ـ حُبًا بالله اخبرني ما الذي حصل؟!

و كأن الشمس غربَتْ من على وجهه البشوش لتُحيلَهُ سوادا كالحا حين ردَدَ بقهر:

ـ أُفَضِّل أن تسمعي من عنده..

هزت رأسها نفيا, و عيونها تبعثان إصرارا لتعرف من عند الواقف أمامها..فاستسلم و هو يسرد لها تلك الوقائع:

ـ لُغْمْ!...كان فجرا ممطرا..صلينا جماعة..هو من أصّر أن نصلي جميعا ذاك اليوم..

كنا نحو عشرين رجلا ..قائد الكتيبة أمامنا يتقدم بخطوات مُرتعدة فوق حقلِ الألغام و نحن وراءه..

أكرم يسبقني و بيننا ثلاثة رجال..
الجوُ كان سيئا, الرياح, المطر الغزير..لم اعتقد أننا سننجوا..
و بقيتُ أدعو الله أن يسدد خطواتنا..أن يعيننا لنصل بأمان..
ظلّت الأدعية تتردد على لساني و أعلم أن أكرم كان مثلي فقد رايته و هو يُتَمتم بخفوت..
و إذْ بانفجارٍ يخسفُ بالأرض من أمامي و تتطايرَ كتل التراب و الحجارة في الهواء..
انزلقتْ قدمه في التربة الضحلة و داس على لغم كان بالقرب منه..

قاومت..صارعت دموعها بكل شجاعة و انتصرت بأن تنهدت و الجَلَدُ يلوح في عبارتها:
" الحمدُ لله ..الحمد لله أنه أعاده لي حيا ! "

~“

مشت بهدوء إليه و وصلت الى المدخل استرقت النظر من الباب المفتوح و ما رأته جمد أوصالها

لقد كان يحاول و بجهد مضني أن يصعد و يجلس على السرير لكنه لم يقدر كيف و هو بهذه الحالة..مُقعد!

سحبت نفسها على جنب الى الجدار و أطبقت على فمها تحبس شهقاتها مع دموعها المتسربة..

وسط أساها صدر صوت ارتطام قوي من الداخل عادت تنظر تتفقده و إذ به واقع أرضا ,الكرسي المدولب مقلوب بعجلته التي تدور و هو متألم من السقطة

سارعت إليه تحمله..رغم ثقله عليها لكنها شدت أزرها و تمكنت من مساعدته على رفع نفسه و الارتماء على السرير

حدقت به و هو يتنهد بإرهاق, و إذ به يزيح ذراعه التي كانت على رقبتها فتنهض هي مستوعبة انه يريدها أن تبتعد

ـ أرجوكِ أريد أن أبقى وحدي لبعض الوقت..

قالها و قد ضاق من بقائها متسمرة عند رأسه تنظره و بعيونها المحمّرة الكثير من الكلام..

لم تنصع بل عاندت و لم تتحرك فصاح بها بنفاذ صبر:

ـ قلت دعيني وحدي!..وحدي!

ارتعد جسدها من صرخته التي دوّت بقوة في أرجاء الغرفة الصغيرة ,فازدرّت ما وجدته في ريقها و قد أحست بالغصّة في حلقها تخنقها بشدة جراء ابتلاعها المتواصل للكلمات و اكتفت بعدما هدأّت نفسها المضطربة بـ:

ـ لا تصرخ هكذا, ستخيف يامن..!

و أطرقت برأسها تحني به إلى الباب أين خرجت و نظراته التائهة المرتبكة ترمقها من خلفها بيأس و ندم..

~“

على الطاولة الصغيرة التي تتوسط الغرفة و بالقرب من الأريكة الكبيرة أين نامت هي ليلتها الماضية..استيقظت متشنجة الجسد و هي تحن للنوم في سريرها المريح إلى جانبه..

لكن حالته النفسية لم تسمح..

تذكرت كيف تصرف معها بخشونة على غير عادته و تفهمت وضعه و انتهى بها الحال هنا في غرفة الجلوس..

لفت انتباهها الظرف الأبيض الموضوع على الطاولة ..فتحته و أمل حب ترتسم أمامها..

كلمة تداعب مخيلتها..و تسحبها إلى بؤرة من السحر الذي يسلطه عليها..

اشتاقت لغزله ,حنّت لعبارة غنج منه..

لتخبو شمعة نور من عينيها , انزلقت ابتسامتها المضيئة من على شفتيها و كلمة الاعتذار المهيبة تستقبلها بخط كبير داكن..!!

سامحيني!

~“

التّلْ..!!

ذلك مكانه كلما أراد أن يعتذر منها..لكنه يدرك يقينا انه لا يستطيع الذهاب و هو بحالته تلك!

تقدم إلى التلْ و الجُرف المُنحدِر بان له..تأمل ما تحته من جذوع شجر و صخور كبيرة مدببة..

اخذ آخر نفس من هذه الحياة التعِسةْ و دفع بعجلات الكرسي للإمام..

رحل بإرادته..

~“

هرولت..خطواتها انطلقت على غير هوادة..ركضت و كأنها ملاحقة..ارتسم الذعر على عينيها الوديعتين و انجبس منهما نبع غزير من الدموع فتلطخ وجهها السرمدي بخطين طويلين من العذاب!..

رأت كل الدنيا أمامها تنهار..تفسخ المستقبل نصب عينيها إلى أشلاء و احترق الماضي بنارٍ من قهر

أضواء سيارة الإسعاف الحمراء تنعكس على وجهها المرعوب و انكماشات الحزن تتخذ طريقها فيه..

رأت الكرسي المدولب و قد تشوه و اعوج بالكامل يتقدم بين يدي عون الأمن ..

و خلفه الجسد البارد الملفوف داخل رداء ابيض..

اقتربت و صرخاتها المبحوحة تنطلق مترددة..

" لا ...أكرم..لااا... لا.. أكرم ... "

وضعت رأسها عليها بعدما استوقفت من كانوا يحملونه على النقالة و أرثت لحالها هناك

على صدره..بكت بكت ..و ذرفت ما لم تذرفه في حياتها من دموع..

أطلت على وجهه و قد سحبت عنه الغطاء..ذلك زادها قهرا..

كان كالحا..كئيبا..مهموما..فارق دنيا البؤس بهذه الملامح العابسة..

لم تكترث للدماء المتخثرة التي تفجرت من جانب رأسه بقدر ما تحطمت أمام ثغره الذي سُجنت البسمة عنه

ستلحق به..!

فكرت و هي تعصر الرسالة بقبضتها و رأسها ينسحق أكثر على أضلاعه و كأنها تود اختراق هذا الجسد و النبش فيه بحثا عن ضحكات أكرم!

لتحتل صورة يامن عقلها..تركته عند جارتها..سألها مرارا

ما بكِ يا أمي؟

لكنها ظلت صامته و هي تدفعه إلى حضن تلك السيدة

هو كل ما تبقى لها منه..إضافة إلى اعتذاره القاتل!..

ستحتفظ بالماضي و تحتفظ بيامن القطعة النفيسة من روحه التي تركها لها..

و ستتذكر برقيته الأخيرة...




تمت و الحمد لله



.



.
رد مع اقتباس