عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-19-2016, 08:50 PM
 
الذّكرى الأولى: ليسَ مُجرد حُلُم!

.













.
.









ــ سأُسابقُكْ !
لفظتها بحماس..!
بخطوات مُتسارعة ركضت لوسي نافرة خلفها شعرها الحريري غرابي اللون هاربة بطفولتها و براءتها ملتجئة إلى حديقة منزلهم الشاسعة
و خلفها صدر طرق أقدام تقترب و صوت يناديها بتحدٍ:
ــ حتى لو كان اليوم عيد ميلادك لا يعني هذا أنني سأدعُكِ تتفوقين عليّ!
سارع شقيقها الأكبر خُطاه وراءها متجاهلا تحذير الخادمة التي كاد يصطدم بها للتو و نزل الدرجات المُفضية إلى الحديقة ..
كان ذلك ماتي ذو الخمسة عشرة ربيعا ففاق بذلك لوسي بثلاث سنوات من الحيلة و الفطنة!

شبيهُ والدته مثلما ينادونه.. فسنابل القمح الذهبية التي تشع عندما تشرق خيوط الشمس على شعره مع عيونه الأصفى من البحر تمنحه جمال الملائكة !
لمحته يقترب منها فشدَّت أكثر على الدُّب المحشو الذي تحمله بين يديها و انطلقت راكضة قدر ما استطاعت مُحاولة التقاط أنفاسها و ضَحكاتها المُتحررة بغير إدراك و بلا سلطة منها
و لكن يدُ ماتي كانت الأسبق إلى حزام ثوبها ,استدارت إليه بعيون تتوسل العطف ثم صاحت بدهشة و هي تُشير بسبابتها إلى الأعلى:
ــ ماتي! ..انظر سمكة طائرة !
حرك ماتي رأسه مرددا ببلاهة:
ــ أين ! ..أين؟ !
و إذ بحركة لوسي المفاجئة و العنيفة أفلتت على أثرها منه, تُدركه مدى غبائه
فصاح بحنق طفولي:
ــ سأمسِككِ و سأشد وجنتيك بقوة !
هربت منه نحو الشجرة الكبيرة لتجزع من الجسد الذي ظهر أمامها فجأة ,فصرخت ببناتية محضة!
وتوقفت ليتهاوى على كتفيها ثقل جسد ماتي الذي حوطها بذراعيه و هو يتنفس بتعب:
ــ رباه صغيرة فعلت بي العجب !
ليُطرد كريس, الذي كان له الفَضل في القبض عليها أخيرا , مربتا على رأسها:
ــ الجنية القزمة
"الجنية" نسبة إلى ترينكبيل الجنية التي ترافق بيتربان ,دور لوسي المميز في مسرحية المدرسة و الذي لطالما حلمت به
أما "قزمة" فتلك قصة مختلفة تماماً
أغمضت عينيها بقوة و أخرجت طرف لسانها باعثة الشعور بعدم الاهتمام لتخفي انزعاجها الشديد من لفظة «قزمة»..
فتحت عينيها و نظرته بعدم رضا ,فكان لكريس نفس رد الفعل المكتوم كالعادة..لون عينيها المُتغيّر يدفعه دوما للتفاجئ ,إذ تبدوان زرقاوين في الظل و رماديتين في النور و لعل الثوب الأبيض المبرقش بزهور سوداء هو ما زاد من لمعان النجوم الفضية وسط سواد شعرها كليلة صيفية!

اقترب منها و شد وجنتيها بلطف:
ــ لا تعبسي هكذا
أزالت تقطيبة حاجبيها و تأملته يحاط بذراع شقيقها ماتي ,لم تكترث لما دار بينهما بل ركزت على مراقبة صاحب الشعر الخريفي و العيون الترابية الداكنة و الذي بمثل عمر شقيقها و اعز أصدقائه.

أمالت رأسها قليلا و سدَّدت نظرها لبُقعة خلفهما و قالت:
ــ إنها قطة !
انتبه الفَتيان لها و ابتدر ماتي:
ــ هه لست أحمق لتلك الدرجة ,أسماك طائرة و الآن قطط ؟ جرِّبي حيلة أفضل..
وسط تفنن الأشقر بالتعليق على أخته الصغيرة كان كريس قد التفتت بفضول, فرأى القطة السوداء العالقة أعلى الشجرة, تتوسل بمُواء خافت
ــ يجب أن نُنزلها..

استدار ماتي هو الآخر و تأكد من صدق لوسي هذه المرة فشمر على ساعده قائلا:
ــ دع هذا لي !
و تقدم يتسلق الشجرة شيئا فشيئا حتى وصل إلى الغصن حيث تقف القطة, مد يده بحذر و امسكها بين يده, ما لم يكن ينتظره هو ألا تستلطفه الهرة صفراء العينين و إذ بها تنبش أظفارها بوجهه, ففقد توازنه و سقط بقوة من أعلى الشجرة !
ــ اوه قطة شرسة..

نظر حوله و هو واقع أرضا بألم متوقعا بعض الرحمة أو الشفقة لكن كريس تتبع القطة التي هربت و لوسي خلفه صائحة:
ــ لا تدعها تهرب !

لحقها و هي تجتاز سور الحديقة إلى الشارع و هناك...

صوت بوق السيارة !
صَريرُ احتكاك العجلات بالطريق!
دوي ارتطام شديد و شظايا الزجاج في كل مكان !
و الدب المحشو الذي تهاوى من يد لوسي!
عقبها صرخة حادة باسم "كريــــس" !!


*~


شدّت فجأة على قلبها فاتحة عينيها باتساع!
لاحظ الشاب داكن الملامح الذي يجلس إلى جانبها استيقاظها المُغلف بالتوتر و الفزع:
ــ لوسي, أأنتِ بخير؟
ترددت للحظات استذكرت فيها بشاعة ذلك الكابوس و الذي كان واقعا عاشته قبل عشر سنوات و لا تزال تلك الذكرى المشؤومة تلاحقها
سحبت يدها من تحت يده و التي كان قد وضعها كرد فعل ليتفقدها و ردت بهدوء:
ــ مجرد كابوسٍ مزعج
التفتت ناحية نافذة الطائرة الصغيرة إلى جانبها و سألت:
ــ كم تبقى لنصل إلى "كاوس" ؟
"مارتن" مُتفقدا ساعة يده : ــ نصف ساعة بالأكثر

أعطاها مُهلة لعلها تبوح بشيء ما و عندما أيقن بأنها لن تفعل بل ستُفضِّل الصمت كالعادة, قرر اخذ جهاز الآيبود خاصته و وضع السماعات مرخيا رأسه على مسند المقعد و مغمضا عينيه..
على الأقل يُمضي ما تبقى من الوقت بالاستماع لبعض الموسيقى التي يصنعها بنفسه !
عادة تعتبرها لوسي سيئة بينما يراها هو إعادة لصقل المهارات و اكتشاف أخطاءه
بينما غاص هو بين الألحان و النغمات حركت لوسي عينيها المنطبعتين بحزن غريب خانقة جمال تعابيرها الملائكية و بثغر أبى الابتسام
تطلّعت إليه أولا ,حالك الطلة و الذي شاركها الشعر الفحميّ ..

ثم إلى "آنا كريستين" التي هي الأخرى انسدل من أذنيها خيطان رفيعان زهريان للسماعات , لون أنثوي و اسم يكاد يكون بناتيا أكثر لا يناسب أبدا متمردة الطبع و المظهر مثلها!

بقصّة شعر قصيرة شبابية و لون أصهب مصفّر, تحمل عِصيّ الدَّفِّ بيديها و تنقُرهما ببعض محاولة تتبُّع الإيقاع الذي تسمعه..
هي فتاة كسول عادة و لكن فيما يخص دروس العزف على الطبل فلا درس يجب أن يمضي عليها.

على المقعد المُقابل لآنا ,يجلس شاب طويل و نحيف ,ابيض البشرة ,بشعر مصبوغ بلون احمر قاني , ذاك هو "جيمي" و بيده PSP
بدا واضحا انه منغمس في اللعبة, أيا كانت, فهي مستحوذة عليه كليا, إذ راح يدق الأزرار بسرعة و عيونه تتردد يمينا و يسار الشاشة !
لم تجد ما تفعله هي حتى تقضي بقية الوقت, لن تتأمل المناظر من نافذة الطائرة فالمرتفعات ترعبها..!

نظرت إلى مارتن و بما انه الأقرب إليها فهو ضحيتها ,أصلا لا ضحية لها غيره!
من ذا غيره يملك قدرة صبر جبارة ليتحمل صبيانيتها النادرة ,المركزة !..
يصبر على أي شيء فقط ليراها تبتسم..
حملت جهاز الآيبود الموضوع على ساقه دون أن يشعر و غطاء من المكر الشيطاني يغلف براءتها . و رفعت الصوت حتى أقصاه !!

دقت أذنا مارتن بقوة و شعر بهما على وشك الانفجار فقفز مكانه مزيلا السماعات عنه بعنف , كاد يعاتبها, لولا منظرها الطفولي البريء ذاك ,تلك الضحكة الخفيفة التي ما انفكت أن تصاعدت قهقهة عالية مستمتعة بنصرها و بردة فعله :
ــ أنظر لنفسك هههههه ...
لكنها توقفت لما رأت نظراته المتصلبة:
ــ أحمم... أنا آسفة.
اقترب منها و قابلها واضعا كفه على رأسها بينما أغمضت هي عينيها بقوة, سمعته يقول بمكر و تحدٍ:
ــ سأردها, أعدك !
فتحت عينيها ناظرة إياه بتوجس, ثم أظهرت بلاهة غير متوقعة عندنا أخرجت طرف لسانها:
ــ لن تتمكن مني !
ابتعد عنها عائدا لمكانه متنهدا:
ــ لا تتحديني يا قزمة !
صاحت به بغيض:
ــ قلت لك لا تنادني هكذا, لست قصيرة لتلك الدرجة !
ــ لكنكِ قزمة بحق عندما تقفين مع جيمي!
ــ جيمي عملاق مفرط في الطول حتى أنت تبدو قزما أمامه!
هنا التفت جيمي ناحيتهما بطريقة مفاجئة و حملق فيهما بعيونه البنية المصطبغة بحمرة شعره المنعكسة عليهما, مع شحوب بشرته ما يمنحه منظر فامباير !!
ارتبكت لوسي و حوّل مارتن نظره عنه , لكنه عاد ليلتهي بلعبته دون أي كلمة..

همهم مارتن بخفوت :
ــ أحيانا اشعر و كأنه سينقض علي في أية لحظة !
ابتسمت و هي ترمق جيمي :
ــ مهما قلت فانا لن أغير رأيي فيه انه أستاذي الأول و الأخير
ـ عازف اورغن يعلم عازفة قيتار كهربائي أمر غير منطقي أبدا! يفترض بك إيجاد أستاذ متخصص يعلمك ؟
ـ ما ذنبه لو كان بارعا في التعامل مع كل ما تمر أصابعه عليه؟!... مع ذلك أتقبل أي اقتراحات.
لفظ هاتفا:
ــ أنا مثلاً !
ضحكت باستخفاف و اكتفت بذلك فقد قلب مارت تعابير وجهه قائلا :
ــ كنت اعلم أنني في آخر القائمة
جيد أن صوت مضيفة الطيران صدر, طالبة منهم ربط الأحزمة استعدادا للنزول في مطار العاصمة "كاوس" ..
قبل أن يضيف مارتن المزيد و يتأزم وضعه أكثر ,يكفيه الرفض المباشر الذي تعرض له للتو دون احتساب المرات الماضية خلال السنتين الأخيرتين!

*~

تفقد ساعي البريد ما بيده من أظرفة و سحب ظرفين أبيضين باسم "كريس هاملتون" و دسّهما عند حواف الباب رقم (4) كون العلبة المخصصة لحفظ البريد مكسورة !
دون أن يتمكن من التغاضي عن الانتباه لسجادة الأقدام المتسخة عند المدخل, و محبس الزهور التي يبست لعدم الاعتناء بها و سقيها..
حالة لا تليق أبدا بشقة فخمة تقع في احد الأحياء الحديثة و الغنية بالعاصمة !!
ما كان له سوى أن يتنهد و يعدّل قبعته و كوفيته ثم يمضي في طريقه ليكمل عمله أسرع ما يمكن ليتقي برد هذا الشتاء القارص .

وراء ذلك الباب ..الشقة رقم (4), الطابق الثاني, شارع العاصمة "كاوس"
غرفة نوم بجدران بيضاء و سقف مُلاحظ من قِبل أيّ داخل إليها و ذلك للسماء الليلية المرسومة عليه و المزينة بالنجوم اللامعة !
يتوسط الغرفة الواسعة سرير كبير بأغطية سوداء ,يُطل من أسفلها شعر بني أملس انه " كريس" الذي لفّ نفسه يغط في نوم عميق ,و التيارات الباردة تلفح الجانب الخارجي للنافذة التي ترك منها شقا ً صغيراً عبَر منه بعض النور الضئيل بينما طغت السّتائر الرمادية على بقية الزجاج..

إضافة إلى النفحة الدافئة المنبعثة من المَوقِد عند الزاوية, عزف الهدوء لحنا صامتا في أرجاء المنزل جعل من كريس هدفا سهلا لتداعبه أنامل النعاس, بعد يوم شاق عصيب انتهى بشجار تسبب في فصله من عمله كنادل في مقهى !

لحظة السكون تلك قطعها رنين الهاتف المتواصل, لم يسمعه كريس فنومه كان ثقيلا رغم انه ظل يرن منذ قرابة الساعة !
لكن القطة السوداء فعلت...!
قفزت إليه و راحت تمسح عليه و تعبر فوقه و كأنها تريد إيقاظه و قد تمكنت من ذلك حين فتح عينا واحدة و لمحها تنظره بعيونها الصفراء و تموء ,قال بتثاقل:
ــ تركت لك الطعام في المطبخ !
استمرت بالمواء..
ــ ماذا؟ الم يعجبك؟ ,ظننته طعامك المفضل !
إلى أن انتبه إلى الهاتف الذي يرن بأغنية هادئة منذ مدة !
و بعينين شبه مغمضتين تمكن بصعوبة من قراءة اسم المتصل " ماتي روبنسون"
قرب الهاتف من وجه القطة:
ــ حبيبك المزعج يتصل!
ثم رد على المتصل :
ــ صباح الخير
أجابه صارخا بتأنيب:
ــ إنها الرابعة عصراً ! منذ ساعة و أنا اتصل و حضرتك نائم ؟!
ابعد كريس الهاتف عن أذنه لصوت ماتي الحاد ثم قال محاول الاعتذار و تبرير موقفه بعدما رفع رأسه قليلا و تأكد من المنبه على الطاولة الجانبية:
ــ غلبني النعاس
قالها و قد نفض برأسه على الوسادة
تنهد ماتي, لم يكن بتلك القمة من الانزعاج رغم انه تابع مباراة الكلاسيكو الاسباني وحيدا فلم يجد من يسانده على مناصرة برشلونة , وضع في حسبانه عمل صديقه الليلي المرهق..
ــ لا بأس, المهم أننا ربحنا !
ــ اهاا و بكم؟
ــ ثلاثة مقابل هدف ,لو رأيت تسديدة سواراز !
ــ فوّتُ الكثير من الحماس ,مستعد لأعوضه..

قالها فقط لإرضاء صديقه فهو حقا غير راغب في مغادرة سريره, بينما أجاب ماتي من الجانب الآخر بحماس:
ــ لهذا اتصلتُ بك, حصلتُ على تذكرتين لحضور حفلة مواهب ,ستكون على السادسة مساءا, و لا تتحجج لي بالعمل سنعود قبل العاشرة
رفع كريس جسده من أسفل الغطاء معتدلا في جلسته, ليظهر القميص الأبيض بلا أكمام و السروال الرياضي الرمادي, حاملا الهاتف الخلوي بيد و مغربلا خصلات شعره الأمامية بالأخرى, بينما تهتز كتفاه و هو يهمهم ضحكا !

أتاه صوت ماتي المتسائل:
ــ ما الذي يُضحك؟؟
ــ لقد فُصلتُ من العمل !
رد بسرعة متفاجئا :
ــ مرة أخرى ؟! ...اآه حسنا سنتكلم فيما بعد ,سأمر لأقلك على الخامسة
اقفلا الخط, فقام كريس و رمى الهاتف بين ثنايا غطائه الحريري و قفزت قطته خلفه تلحق به.

أثاء مروره بالقرب من الباب رأى جزءا من ورقة بيضاء, شكه كان في محله..
آخرُ تحذير له عليه دفع فاتورة الماء و إلا قُطع عنه !
رمى الظرف إلى جانب كومة أظرفة أخرى ثم تفقد الظرف الثاني , أُرسل من طرف "ماري هاملتون" ..

فتحه و إذ به رزمة أوراق نقدية كلها من فئة الألفين !
تمتم لوحده: ــ أمي رقيقة جدا!
لن يعيد المال لامه مثلما يفعل دوما, سيدوس على قلبه هذه المرة و يحتفظ بالمبلغ, انه بأمّس الحاجة له الآن..
قال مخاطبا الهرة السوداء :
ــ سأذهب لأستحم, لا تفتعلي الفوضى اتفقنا؟
بيده المال الآن ,تهديد شركة المياه ما عاد مُقلقا و هذا بفضل رِّقة أمه الحنون!
هكذا فكر و هو يأخذ منشفة من خزانته و يدلف الحمام..


انتهى و الحمد لله~


*~

و الآن ...
لا تقلقوا لن أُثرثر كالمُعتاد
أريدُ آراءكم ,و انتقاداتكم و كل شيء
حول الفصل..
حول الشخصيات..
حول التصنيف..

دعوا حماسكم يتفجر مثلما تفجر حماسي اليوم xD
أنتظر ردودكم على أحر من الجمر

في أمان الله و رعايته












.
.









.
رد مع اقتباس