عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 03-09-2016, 04:07 PM
 



الفصـــل الرابـــع





كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة عندما عدنا نجر أقدامنا إلى المنزل خائري القوى.. استمتعنا كثيرا بتجولنا في الأسواق رغم أننا لم نشتر إلا القليل ، فالأسعار كانت باهظة جدا حتى مع التخفيضات ، يا لهم من محتالين !

اجتمعنا في غرفة الجلوس بعدما بدلنا ثيابنا و جلسنا نشاهد فلم غموض مشوق .
مرت ساعة تقريبا و أعيننا مسمرة على التلفاز ، كنا مندمجين تماما مع الفيلم .. أما الخالة التي لم تعطه كثيرا من انتباهها فقد نهضت فجأة و قالت متجهمة في شك : أظنني.. سمعت صوت الجرس !

قلت أنا وفلورا أننا لم نسمع شيئا .. في الواقع ما كنا لنسمع أي شيء و نحن نركز كل حواسنا على شاشة التلفاز بتلك الطريقة البلهاء

فقالت الخالة : حسنا سأذهب ﻷتاكد فقط..

خرجت من الغرفة وعدنا نحن الاثنتين لمشاهدة الفيلم..

لحظات وسمعناها تفتح الباب وتقول مرحبة : اوه.. هذا أنت يا سيدي ! اعذرني فلم أسمع الجرس إلا الآن ، تفضل بالدخول !

تبادلت النظرات مع فلورا نتشارك استغرابنا.. قلت : من يكون يا ترى ؟!

وأضافت هي : وفي مثل هذه الساعة ؟!

نهضنا من مكاننا و تسابقنا إلى الصالة و الفضول يتملكنا .. كان ضيفنا هو ذلك الرجل اللطيف الذي اصطدمت به في منزل ريستارك !

ابتسم عندما رآنا وقال بأدب و لطف : مساء الخير آنستي ! أعتذر لقدومي في مثل هذا الوقت..

فردت الخالة بدماثة و هي تبتسم : لا مشكلة أبداً يا سيدي ، تفضل اجلس ! ماذا تحب أن تشرب ؟!

- شكرا لك سيدتي ، لا أريد أن أشرب شيئا..< سكت لثانية ثم قال : لا أظنكن تعرفنني ، لذلك سأقدم نفسي أنا تشارلز باتون سكرتير السيد ريستارك ! و قد أرسلني السيد ﻷقدم لكن اعتذاره عن معاملته غير اللطيفة ، و أسالكن - من بعد إذنكن طبعا - عن ذلك الشخص الذي يهدد حياته !

رميت بنفسي على كرسي قريب و زممت شفتي باستياء و أنا أقول : كنا عنده قبل ساعات وأخبرناه بكل ما نعرفه و قد سخر منا وعاملنا بوقاحة !

ابتسم مرة أخرى وقال بلطف : أجل.. علمت أنه تصرف بشكل غير لائق معكن و دون أي مبرر واضح ، لكن أرجو أن تغفرن له هذا ، أنتن آنسات نبيلات و سيدي وإن لم يكن شخصا لطيفا فهو يبقى إنسانا و هو - في هذه اللحظة - في أمس الحاجة إلى مساعدتكن .

تحدثت فلورا بهدوء : لكننا أخبرناه بكل ما نعرف بالفعل !

- ربما كنتن تظنن ذلك ، لا أعني بالطبع أنكن أخفيتن أمورا مهمة عن عمد ، ربما تكون تفاصيل صغيرة بدت تافهة و غير مهمة فلم تذكرنها !

التزمنا الصمت و بصعوبة تجنبنا أنا و صديقتي النظر إلى بعضنا .. و يبدو أن باتون قد فطن لوجود سر نتعاون نحن الاثنتان على إخفائه ذلك أنه أضاف قائلا : سيدي لديه الكثير من الأعداء الذين يحسدونه على نجاحه وتفوقه و يسعون إلى التخلص منه ، لكننا لا نستطيع تحديد شخص بعينه ، لذلك نحتاج إلى كل معلومة تقدمنها لنا مهما كانت صغيرة !

لم ينقطع صمتنا غير أنه غدا مشوبا بالحيرة و التردد .. ارتبكت ألستنا و لم نعرف بماذا نجيبه .. فقال بتفهم : حسنا.. ربما إن طرحت الأمر على شكل أسئلة فسيساعدكم هذا على التذكر ..ما رأيكم ؟!

وافقنا على اقتراحه بإيماءة متوترة .. فمضى يقول : حسناً إذن.. سأبدأ بسؤالكم : من منكن التي سمعت ذلك التهديد أم أنكن سمعتنه جميعا ؟!

ترددنا في الاجابة طويلا و نظرت إلي فلورا بقلق .. كنت متوجسة من إخباره .. لكنني حسمت أمري و تنهدت قائلة : لقد سمعته أنا.. أنا فقط !

نظر إلي بود ، لم يسألنا لماذا قلنا أننا جميعا سمعناه مع أني أنا وحدي التي فعلت .. ربما لم يرد أن يزيد ارتباكنا..

قال : حسنا يا آنسة..

فأكملت جملته معرفة عن نفسي : ويندي.. ويندي ماكستر !

ضحك عندها بشكل مفاجئ و قال : إنها أنت تلك الآنسة الجريئة سليطة اللسان التي أهانت السيد ، أليس كذلك ؟! إن ويندي اسم جميل وهو يناسبك تماما ..تشرفت بمعرفتك آنسة ماكستر !

ضحكت أنا الأخرى عندما شرع في وصفي بتلك الطريقة المشرفة - في نظري على الأقل - و قلت دون أن تفارقني البسمة : أشكرك !

- إذن هلا أخبرتني من فضلك متى بالضبط سمعتي ذلك الشخص ؟!

- ليلة أمس ، بعد الساعة العاشرة

نظر إلى ساعته وقال : في مثل هذا الوقت تقريبا !

انطفأت ابتسامتي فجأة و ارتعش جسدي عندما مرت بذهني ذكرى الليلة الفائتة.. كان الأمر يبدو حتى تلك اللحظة و كأنه مجرد حلم مخيف ليس إلا !

أكمل : حسنا هذا جيد جدا ، أين بالتحديد وقع ذلك ؟!


شعرت بالتوتر وترددت في قول الحقيقة فقد وقعت الحادثة في مزرعة أسرة فلورا ، و قد يسبب هذا لهم المشاكل ! لم أنتبه إلى أني قد أسأل عن ذلك ، كم كنت حمقاء !

عرفت فلورا ما أفكر فيه فربتت على كتفي وهمست مطمئنة : لا بأس، قولي الحقيقة !

ارتبكت لحظات ثم أجبته : في قرية سانت ماري في مانشستر ، وتحديدا في.. في مزرعة السيد غريغ !

أضافت فلورا بسرعة حاولت من خلالها إخفاء توترها : في مزرعة أسرتي !

نظر باتون نحوها و تبسم بامتنان : شكرا على صراحتك آنسة غريغ ، هذا يساعدنا كثيرا..

ثم أعاد انتباهه الي وقال : هل يمكنك آنستي أن تروي لي أحداث الليلة الماضية بتفاصيلها ؟!

أخذت نفسا عميقا ثم شرعت أحكي :
حسنا .. كان أمس يوم ميلاد صديقتي فلورا غريغ و قد ذهبنا أنا و أصدقائي إلى بيتها لنحتفل بعيد ميلادها ، بقيت عندها حتى الساعة العاشرة مساء ، بعدها خرجت عائدة إلى منزلي.. كان منزل فلورا بعيدا عن باقي المنازل و تحتم علي أن أعبر مزرعتهم حتى أصل إلى بيتي.. و بينما كنت أجتاز المزرعة ، سمعت صوت شخص يتكلم.. و قد أثار هذا استغرابي لأن المزرعة يفترض أن تكون فارغة تماما في مثل ذلك الوقت ! لم أستطع تجاهل الأمر فاقتربت من مكانه و أخذت أنصت لحديث الشخص المجهول .. كان يقول أنه سيقتل ريستارك ، هندسون ، روبارج ، بيفورت ، لابوف ! فشعرت بالخوف و ركضت عائدة إلى منزلي !

- هل هذا كل ما حدث ؟! ألم تري شيئا غريبا لفت نظرك ؟! شيئا غير مألوف ؟! نحن نحتاج إلى كل المعلومات الممكنة حتى نعرف هوية ذلك الشخص ، حياة خمسة أشخاص في خطر يا آنستي لذلك أرجوك حاولي التذكر !

لم يكن في نيتي أن أخبر أحدا حقيقة لقائي ب " شادو" لأنهم لن يصدقوا و سيقولون أني أختلق كل ذلك لأجذب الانتباه إلي .. لكني أصبحت حائرة بعد كلام السيد باتون.. لم أعرف ما علي فعله ، هل أخبره أم لا ؟!

ترددت و تخبطت كثيرا في حيرتي .. و ما كنت لأترك صمتي ما لم تكن حياة أناس آخرين معلقة بما أقوله ! تشبثت بكل ما لدي من جرأة وثقة و قلت : بلى.. لقد حدث ! آسفة ، لم أقل الحقيقة كاملة .. كنت أخشى ألا تصدقني !

قال بصبر : لا عليكي آنستي.. تكلمي !

أطلقت تنهيدة عميقة نفثت عبرها كل توتري و خوفي ثم تكلمت : عندما دخلت المزرعة سمعت أصواتا غريبة.. كصوت تحرك الأحجار والحصى ، بالبداية ظننت أنه مجرد حيوان فلم أكترث و أكملت طريقي ، لكن هذا الصوت عاد مجددا و في هذه المرة كان أشبه بصوت الحفر ! شعرت بالخوف و الفضول في ذات الوقت.. فدنوت و اختبأت خلف شجرة قريبة من مصدر الصوت ... و ... رأيته !

أخذت شجاعتي تتلاشي وأنا أتذكر تلك اللحظة .. كانت تلك المرة الأولى التي أروي فيها ما حدث بنفسي !
كان باتون يستمع إلي باهتمام شديد و عندما توقفت سأل و عيناه تكادان تقفزان من عدسات نظارته من فرط لهفته : ماذا رأيتي ؟!

واصلت حديثي و أنا أرتجف : رأيت ذلك الشخص .. كان يحفر .. ثم .. ثم خرج من تحت الأرض ! لم أستطع رؤية وجهه.. فقد كان الظلام حالكا ، ك.. كان يتنفس بصعوبة في البداية .. لكنه بعدها ضج بالضحك و قال : "هندسون ، ريستارك ، بيفورت ، لابوف ، روبارج ، أيها الأوغاد الأغبياء لقد حانت ساعتكم !".. فقدت وعيي بعد ذلك ولا أعرف ماذا حل به !

بدا باتون <والخالة دوروثي ايضا> مشدوهين تماما و لم ينبسا بحرف واحد !

عبست يائسة : لابد أنك لا تصدقني و لكن هذا ما حدث حقا !

قال دون أن تفارقه دهشته : لا.. أنا أصدقك ! لكن .. هذا الأمر في منتهى الغرابة !

- نعم.. إنه كذلك

و خيم صمت طويل على مجلسنا ، لم يقطعه إلا رنين هاتف السيد باتون .. حدق في شاشته المضيئة ثم نهض قائلا : إنه السيد ريستارك ! لابد أني تأخرت و يجب أن أعود في الحال ، شكرا جزيلا لكن آنساتي وأعتذر مرة أخرى على إزعاجكم بزيارتي المفاجئة !

قلت له : أتمنى أن يكون ما قلته مهما !

- إنه مهم بالطبع آنسة ماكستر ! أتمنى فقط أن نحسن استخدامه في الكشف عن هوية ذلك الشخص .. والآن سأغاد..

قاطعته فلورا : مهلا لحظة ! لم تخبرنا كيف عرفت مكاننا ! فنحن لم نخبركم أي شيء عن هوياتنا !

دس يديه في جيبه و قال بمرح : كان ذلك سهلا جدا ، رقم السيارة ! لم يستغرق الأمر أكثر من دقائق حتى عرفنا اسم صاحبتها ومكان إقامتها !

ثم اتجه إلى الباب ونحن خلفه و قال بابتسامة جميلة : ليلة سعيدة !

أغلقت الخالة الباب بعد خروجه والتفتت إلينا لتقول شيئا.. لكن فلورا منعتها بقولها السريع : أعرف ، أعرف ما تريدين قوله ، لم لم نخبرك بالحقيقة منذ البداية ؟! حسنا لم تكوني لتصدقينا يا خالتي فنحن أنفسنا بالكاد نصدق ! و كان علينا التصرف بسرعة فالأمر لا يحتمل أي تأخير ، لكنني آسفة مع ذلك..

- حسنا .. لا بأس ، لكن يجب أن تثقي بالخالة دوروثي أكثر المرة القادمة !

- سأفعل !

- و الآن ، هيا للنوم فقد تأخر الوقت ... ليلة سعيدة يا فتاتي !

- ليلة سعيدة !

صعدنا أنا وفلورا إلى غرفتنا و عندما دخلنا و استلقينا فوق أسرتنا المريحة سألتها : هل ترين ما فعلته صوابا ؟!

فردت عابسة و نصف وجهها غاطس في الوسادة : تعنين قولك الحقيقة للسيد باتون ؟! لا أدري فعلا .. و لكن لم يكن أمامك خيار آخر فقد يموت عدة أشخاص بسبب عدم افصاحك عن الحقيقة كاملة <سكتت قليلا ثم عقدت حاجبيها و سألت باستغراب : لكن لم قلتي أنك كنت وحدك ؟! لو أخبرته أن هناك شخصين آخرين شهدا الحادثة معك كان سيقتنع بكلامك أكثر !

- لا يا فلورا ، إن الأمر يبدو خطيرا ولا أريد توريط جوني وجيسيكا فيه !

بدت صديقتي و كأنها تلقت صفعة على وجهها كيف فاتها أمر بديهي كهذا ؟! تمتمت بلهجة من يريد إغلاق الموضوع : نعم .. فهمت ... كان هذا اليوم طويلا جدا !

لم نتحدث أكثر بعد ذلك.. و خلدنا للنوم .

استيقظت باكرا صباح اليوم التالي .. كان الجو لطيفا - مقارنة بالمعتاد للندن - و الشمس تعلو كبد السماء بنورها الساطع .. لذلك و بعد الفطور مباشرة خرجنا أنا و فلورا ، كانت تأتي كثيرا إلى المدينة لزيارة خالتها لذلك فقد اتخذت دور المرشد السياحي لي.

تجولنا في الشوارع والحدائق والميادين .. كان ذلك مسل جدا ، فلم نشعر بالتعب إلا قليلا . توقفنا عند مقهى صغير قرب المحطة لتناول بعض المرطبات و قلت لفلورا بسعادة و نحن نجلس على الطاولة : كان ذلك ممتعا ! هذه أول مرة أزور فيها لندن !

قالت محاولة إستثارة حماسي أكثر : لم تري شيئا بعد !

كنا قد شرعنا في أكل المثلجات عندما جاء صوت من خلفي : أنتما هنا إذن ، أيتها المزعجتان !

التفتنا إلى الخلف و قلنا في وقت واحد و بذات الدهشة : جوني !

تقدم مبتسما بزهو و اتخذ مقعدا على طاولتنا .. فقالت فلورا متعجبة : جوني ! ما الذي أتى بك إلى هنا ؟!

- خرجت اليوم من القرية وذهبت إلى "مانشستر المدينة" لخوض امتحان القبول في كلية الطب ، و بعد أن انتهيت قلت لنفسي لم لا أزوركما وأرى ما حصل معكما و ما فاتني من اثارة ؟!

تحلت نظراتي نحوه ببرود ساخر : إثارة ؟! الشيء الوحيد الذي فاتك هنا هو الإهانة !

وافقتني فلورا بتجهم : نعم تماما !

ثم قصصنا عليه ما حدث معنا مساء أمس ، من لقائنا غير البهيج بريستارك إلى استجواب السيد باتون لنا..

بانت عليه خيبة كبيرة و هو يقول : هكذا إذن .. يبدو أن الأمور لم تسر بشكل جيد..< صمت لدقيقة ثم قال متذكرا : صحيح ، ويندي ! إن جيسيكا حزينة جدا فهي تظنك غاضبة منها ولا تريدين رؤيتها .. حاولت إقناعها بأن ما تفكر فيه ليس صحيحا ولكنها لم تتأثر بما أقوله ، أظن أن عليك التحدث معها بنفسك !

- أنت محق ، سأتحدث إليها عندما أعود للمنزل .

أطلق فلورا زفرة من بين أسنانها و تطلعت إلى الشارع بتململ : لم يعد هناك سبب لبقائنا في لندن .. يجب أن نرجع للقرية هذا المساء !

قلت و قد هبطت معنوياتي تحت قدمي : أجل...

و لم تمر أربع ثوان من الهدوء حتى صاح جوني فجأة : انظرا إلى تلفاز المقهى ! لقد فاز فريق "مانشستر يونايتد" في مباراته ضد "ليفربول" !

- هذا رائع !

- بالطبع ، فريقنا هو الأفضل !


انتهت الأخبار الرياضية ، تلتها الاقتصادية .. لم نكن نستطيع سماع صوت التلفاز بوضوح لأن طاولتنا تقع خارج المقهى ، و لكن كان بإمكاننا قراءة الأخبار الرئيسية التي تكتب بخط كبير على الشاشة .
نهضنا بعد أن فرغنا من تناول المثلجات و دفعنا الحساب ، ثم شرعنا بمغادرة المقهى .. لولا أن فلورا توقفت ... كانت تنظر إلى شاشة التلفاز بتعابير غريبة ، فقال جوني بسخرية : ما الأمر يا فلورا ؟! هل تزوج أحد مشاهيرك المحبوبين ؟!

التفتنا أنا و هو نحو الشاشة بدورنا بينما يواصل سخريته : إذن من يكون هذ...

و بتر عبارته .. فقد شاهدنا ما كانت تنظر إليه فلورا .. خبر عاجل مكتوب بخط أحمر كبير !

وكان مفاده :

"وفاة رجل الأعمال الكبير السيد ألكسندر ريستارك هذا الصباح متأثراً بإصابته في حادث مروري مروع !!"












رد مع اقتباس