عرض مشاركة واحدة
  #38  
قديم 03-17-2016, 03:36 PM
 



الفصــل الثامـن





هنا... في المدينة الروسية العريقة سان بطرسبورغ.. حيث يغطى الثلج الشوارع ، الحدائق، و أسطح البيوت و المباني .. حتى بدأت و كأنها كسيت عباءة بيضاء ممتدة إلى ما لا نهاية !

على تلة ترتفع بعيدا عن ضجيج المدينة كان يقبع مختبر كابوستين للعلوم الإنسانية .. و في غرفة كئيبة معتمة الإنارة ، تفوح منها رائحة المعقمات النفاذة .. جلس الدكتور بارانوفسكي إلى مكتبه شاردا ، ينقر بإصبعه على حزمة أوراق كان من المفترض أن يقرأها.. لكن الأفكار التي أخذت تتدفق بغزارة إلى ذهنه شغلته عن ذلك لفترة.. تنهد بعمق و عندما هم أخيرا بمباشرة عمله و فك الحزمة.. على صوت طرق عجل و سرعان ما فتح الباب دون أن ينتظر الطارق الإذن له بذلك .. دخل أحد مرؤوسيه قائلا : عذرا يا سيدي ! لكن البروفيسور كابوستين قد عاد !

انفكت الكآبة و اللامبالاة عن سحنته في لحظة و صاح باستهجان : ماذا تقول ؟! لقد مضى على عمليته الجراحية أسبوع واحد فقط !
- قلنا له ذلك و لكنه أصر على البقاء في المختبر !
- يا إلهي ! فيم يفكر ذلك العجوز ؟!!

دفع كرسيه للخلف باستياء و دار حول مكتبه قبل أن يخرج قاصدا مكتب البروفيسور كابوستين .. توقف أمام الباب و طرق مرة واحدة و بصعوبة وصله صوت البروفيسور المخنوق و هو يقول : تفضل !

دلف الدكتور يسبقه سخطه و حالما وقع بصره على البروفيسور و لاحظ وجهه الهزيل الشاحب و عينيه المتورمتين ، قال مستنكرا : ما الذي أتى بك هنا سيدي ؟! لقد مضى أسبوع واحد ! أسبوع واحد فقط على عمليتك !

أجاب البروفيسور فيما يكافح كي يجعل صوته مسموعا : لم أكن أستطيع المكوث في المشفى أكثر من ذلك ، كاد الملل يقتلني ! كما أن لدي الكثير من الأعمال المهمة التي ينبغي إنجازها بسرعة !

- و لكن يمكنني القيام بها نيابة عنك بينما تسترد عافيتك بشكل كامل !

غمغم البروفيسور نافيا : لا لا يا بارانوفسكي.. أنا أحب إنجاز أعمالي بنفسي !

- لكن..

- يكفي جدالا ! هذا شأن يخصني وحدي !

تنهد الدكتور بإذعان : كما تشاء سيدي .. لكن لا تضغط على نفسك كثيراً !
أجاب البروفيسور و هو يتفحص بعض الملفات : أعلم يا بارانوفسكي.. أعلم !

حدق الدكتور فيه للحظات ثم تقدم وجلس على كرسي قبالته.. كان على وشك أن يتكلم لكن البروفيسور فاجأه بقوله : اسمعني يا بارانوفسكي ! أريدك أن تذهب "حالا" وتفصل كل العاملين الجدد في المختبر أيا كانوا !

فغر الدكتور فاه مستغربا و قال : و لكن لماذا ؟!

رفع البروفيسور حاجبيه بتعجب ثم قال : تسألني لماذا ؟! وكأنك لا تعرف السبب ! <رفع يده المهتزة إلى عنقه يتحسسها و أطلت الرهبة من عينيه حين أردف : كانت تفصلني عن الموت شعرة واحدة .. نجوت بمعجزة حقيقية ! لكن المعجزات للأسف لا تحدث كثيرا و لا يمكننا المراهنة بحياتنا على أمل وقوعها ! <سكت ثانية ثم استأنف : إن لم نكن حذرين بما فيه الكفاية.. فلا استبعد أن يكون مصيرنا مثل مصير السويسري البائس !

اقشعر جسد الدكتور و دق قلبه برعب لحظة تذكره الباحث السويسري الشاب الذي التحق بالمختبر منذ سنة تقريباً.. كان ذكيا نشيطا عالي الهمة ، و كاد يصبح المعاون الأول و اليد اليمنى للبروفيسور كابوستين لولا الحادث المروع الذي وقع الأسبوع الفائت .. فقد تعطلت مكابح سيارته بشكل مفاجئ أثناء اجتيازه طريقا منحدرا نحو بيت البروفيسور ثم انقلبت عند محاولته حرفها عن مسارها و أدى تسرب الوقود لنشوب النيران فيها ! نجا البروفيسور بأعجوبة بعدما تمكن من الزحف خارج السيارة قبل اشتعالها .. أما السويسري فلم يسعفه الوقت و مات ميتة شنيعة.

ابتلع الدكتور ريقه في رعب : نعم.. أظنك محقا سيدي.. لابد أن أحد العاملين الجدد.. هو الذي تسبب بمقتل السويسري !

- هذا مؤكد ! لهذا إذهب بسرعة ونفذ ما طلبته !

- حالا سيدي !

و انطلق بارانوفسكي عائداً إلى مكتبه و طلب من مرؤوسه أن يستدعي كل العاملين الذين لم يمض على عملهم في المختبر أكثر من سنة .. ثم جلس ينتظر .. إلى أن طرق الباب أخيرا معلنا وصولهم ... كانوا تسعة أشخاص ستة باحثين مبتدئين ، حارسان و عامل نظافة !

وزع الدكتور نظره بينهم .. ثم تحدث بصرامة : آسف لقول هذا .. لكن لا يمكنكم الاستمرار بالعمل هنا !
عمهم الغضب والاستياء و تبادل بعضهم نظرات مرعوبة و أخرى غير مصدقة .. صاح أحد المتدربين : و لكن لماذا ؟! ما الخطأ الذي اقترفناه ؟!

أجاب الدكتور كاذبا : لم تقترفوا أي خطأ.. كل ما في الأمر أن ميزانيتنا لم تعد تسمح بوجود عاملين أكثر !

هنا اندفعت فتاة شابة حادة الملامح تدعى آنوشكا و قالت بلهجة هجومية عنيفة : هذا ليس صحيحا ! لقد زودتم المختبر قبل يومين بآلات و معدات حديثة باهظة الثمن ! ولو كانت لديكم مشكلة في الميزانية لما استطعتم شراءها !

وافقها الثمانية الآخرون بإيماءات و همهمات حانقة ..و تكلم متدرب آخر يدعى لابين : آنوشكا محقة ! الأمر لا علاقة له بالميزانية ، أخبرنا السبب الحقيقي فهذا من حقنا !
لم يحرك الدكتور ساكنا و لبث يرقبهم بهدوء .. فاستدارت آنوشكا نحو الثمانية الباقين و قالت : لا داعي لسؤاله فالسبب واضح ! <ثم نظرت إلى الدكتور شزرا و أضافت : إنه يظن أن قاتل السويسري واحد منا !

رد أحد الحارسين و هو يكاد يبكي : لكني لم أفعل ذلك ! أنا لم أقترب "مطلقا" من تلك السيارة ، أقسم بذلك !

صاح الدكتور أخيرا بنفاذ صبر : اوه نعم هذا ما تقوله ! لكن هل هناك من يشهد على ذلك غيرك ؟!
أطرق الحارس رأسه بأسى و لم يسعه الرد .. و عاد لابين يقول و قد انتفخت أوداجه غضبا : "نحن لم نرتكب أي جرم حتى نطرد !"
و أضافت آنوشكا بحنق مماثل : "كل ما تملكونه ضدنا مجرد شكوك لا يدعمها أي دليل ! هذا أغبى شيء رأيته طيلة حياتي !"

ضرب الدكتور المكتب بيده بقوة أجفلت بعضهم و صاح عابسا : نحن لا نعلم من فعل ذلك ! ولم نستطع التوصل إلى أي نتيجة حتى الآن ! لذلك لا يمكننا أن نخاطر ببقاءكم -أنتم المشتبه بهم - في المختبر مدة أطول ، هل تفهمون ؟! و الآن غادروا فورا و لا تضطروني لاستدعاء الشرطة !

كان السخط يغمر المتدربين الستة و بان الغضب قويا على سحناتهم ، مسح عامل النظافة دمعة قبل هبوطها من عينه في حين تطلع الحارسان لبعضهما في غم و كدر و قلة حيلة ... كانوا جميعا يشعرون بالظلم لكن لم يكن لديهم خيار غير المغادرة !
ضربت آنوشكا الأرض بقدمها و اندفعت خارجة و لم ينس لابين أن يصفق الباب وراءه بأعنف ما استطاع !

تنهد الدكتور و التفت إلى حزمة الأوراق أمامه ثم التقطها و لكن للمرة الثانية لم يتمكن من الإطلاع عليها .. إذ ارتفعت أصوات صراخ و شجار في الممر !
فقام من مكانه يسب و يلعن و خرج و قد تجاوز انزعاجه حده..

كانت آنوشكا و زملائها الخمسة في مواجهة البروفيسور كابوستين !

- لقد أخبرتني أنني أبلي بلاء حسناً و أنك سوف تجعلني مساعدتك الأولى ! و لكنك الآن تنكث وعدك و تطردني من المختبر فقط لأنني جديدة وأنت لا تثق بالجدد ! يا للسخف !

كان وجه البروفيسور يحمر غضباً لكن لم يعد في استطاعته الاستمرار في الجدال .. فقد بدأت حنجرته تؤلمه بشدة !
ركض الدكتور إليهم يستشيط غضبا و صرخ في الستة : هذا يكفي ! اخرجوا من هنا حالا !

غادر المتدربون بعد سيل من الشتائم الوقحة وعيونهم تقدح شررا! أما الدكتور فقد اتجهه إلى البروفيسور - الذي اضطر للاستناد إلى الحائط حتى يتمكن من الوقوف - وأخذ بيده و ساعده في الوصول إلى مكتبه ..
قال بحزم حالما أجلس رئيسه المنهك على كرسيه : سأتصل بسائقك حتى يعيدك إلى منزلك !

أشار البروفيسور بيده رافضا.. فأدرف الدكتور و قد نفذ صبره : سيدي ! أرجوك توقف عن التصرف كالاطفال ! انظر إلى حالك إنك لا تستطيع النطق حتى ! و لا تنس أنك أصبت في ذراعك وساقك أيضا ! إن بقيت على هذه الحال فستقتل نفسك بيديك !

لم يبدو على البروفيسور الاقنتاع فأضاف الدكتور مقترحا : إن كنت مصرا على أن تدير الأمور بنفسك فسأرسل لك كل شيء على بريدك الإلكتروني و ستتولى الإطلاع والرد عليها - وأنت في فراشك- و تخبرنا بأوامرك و توجيهاتك ! ما رأيك ؟! أليست فكرة جيدة ؟!

هز البروفيسور على مضض ، فانطلق الدكتور ليتصل بالسائق الذي وصل بعد عشر دقائق.. و أخذ البروفيسور إلى بيته .

***

بعد يومين من ذلك.. كان الدكتور بارانوفسكي نائما بعمق في غرفته حين دخل عليه رجل سمين -كان أحد الباحثين في المختبر ويدعى دوبرينين - نظر بقلق إلى زميله الذي استمر في نومه الثقيل و تقدم و وقف إلى جانب سريره.. ثم بدأ يهزه قائلاً بارتباك : بارانوفسكي ! بارانوفسكي ! هل تسمعني ؟!

غمغم الدكتور بتثاقل دون أن يفتح عينيه : ماذا تريد ؟! دعني أنم فأنا متعب .. جدا !
تنهد دوبرينين ... و قال باستهجان : ولكنها الواحدة ظهراً !
فتح الدكتور عينيه أخيرا و تمتم غير مصدق : ماذا ؟!

- نعم ، و لذلك أتيت للاطمئنان عليك فليس من عادتك أن تتأخر هكذا !

بحركة ثقيلة أزاح الدكتور الغطاء و نهض من فراشه بصعوبة من يحمل صخرة على ظهره ! قال و هو ينظر إلى الساعة بجانبه : يا إلهي لقد نمت 15ساعة ومع ذلك أشعر بإرهاق شديد و كأني لم أنم أسبوعا بكامله ! <ثم أخذ يفرك عينيه و يضيف بصوت ناعس : كما أنني لا أستطيع الرؤية بوضوح !

حدجه زميله بنظرة قلقة قبل أن يقول متجهما : أظن من الأفضل لك البقاء في المنزل لترتاح ، فأنت تبدو مريضاً !

- لا بأس.. الأمر ليس خطيرا.. أعتقد أن هذا الانهاك ناجم عن تجاوزي المدة الطبيعية للنوم .. عد أنت إلى المختبر .. أما أنا فسآخذ حماما ساخنا و آكل شيئا يقويني ثم ألحق بك.

- حسناً...

غادر دوبرينين منزل الدكتور عائداً إلى المختبر ، ثم تبعه الدكتور بعد أقل من ساعة .



عندما وصل إلى مكتبه رمى بجسده على كرسيه و أطبق جفنيه لبعض الوقت... ثم فتحهما إثر طرق على الباب.. اعتدل في جلسته و نطق بصوت مبحوح : تفضل !

كان الطارق دوبرينين و الذي قال عند دخوله : جئت لأتأكد من أنك على ما يرام..

- اوه .. أظن أنني أفضل .. قليلاً ..

كان وجه دوبرينين ممتقعا يعلوه التوتر والقلق .. سأله الدكتور : ما بك ، دوبرينين ؟! إن وجهك مصفر !
فتح دوبرينين عينيه و قد أجفله السؤال ثم تلعثم قائلا : لا .. لا شيء .. مهم ، إنني فقط .. غير مرتاح .. لما يحدث !

- وما الذي حدث ؟!

- لقد.. لقد.. انهار أربعة من العاملين هنا قبل.. عشر دقائق !

هتف الدكتور مصعوقا و قد انسحبت الدماء في لحظة من وجهه : ماذا تقول ؟!!

- نعم.. إنهم في حالة سيئة جدا ! و قد حاولنا الإتصال بالإسعاف لكننا لم نفلح ، فتغطية الشبكة سيئة جدا بسبب الجو ! كما أن الهواتف الأرضية لا تعمل أيضاً ! <أضاف متطلعا إلى الدكتور و الخوف يبرز من عينيه : لقد .. لقد عانوا من نفس الأعراض .. التي كنت تشكو منها عندما استقيظت.. و لهذا جئت أطمئن عليك !

تصلب جسد الدكتور و لف وجهه الرعب.. و خرج صوته يرتجف : م.. ماذا ؟! < شرع ينتحب و يحملق في يديه : إنه سم !! ل.. لابد أنه.. قد تم تسميمنا ! لكن.. كيف ؟! متى ؟! و أين ؟!

- هذا ما يحيرنا و يخيفنا أيضاً !!


و قبل أن يصدر عنهما أي فعل .. فتح الباب فجأة بعنف و دلف اثنان من الباحثين و هما يصيحان بفزع : دوبرينين !لقد مات الأربعة.. كلهم للتو !!

تجمد الدكتور و دوبرينين في مكانيهما وكل منهما ينظر إلى الآخر في هلع !
ثم قال الأخير و هو يجاهد لإيجاد كلماته : علينا .. الذهاب إلى .. المشفى.. بأسرع ما نستطيع..

تأخرت كلماته في الوصول إلى عقل الدكتور الذي كان لا يزال مصدوما مما حدث ! وعندما استوعب أخيراً ما قيل له قام بصعوبة بالغة من كرسيه و هو يرتعش بأكمله ! بدأ مشيه.. كالأعمى ! يتحس طريقه بيديه.. كأنه لا يبصر ! حتى تعثر بطاولة كانت في طريقه و سقط على الأرض !

هرع إليه الآخرون .. و حاولوا مساعدته على النهوض.. إلا أنه قال بصوت قطعه الارتعاش : لا ف..ائدة ! .. جسد..ي .. قد شل .. ت..ماماً !

تعاون الثلاثة على حمله و اتجهوا به إلى غرفة الطبيب كي يجري له الاسعافات الأولية ريثما تجهز السيارات لنقله و جميع من في المختبر إلى المشفى -كان دوبرينين قد أرسل بالفعل الحارس كي يجهز أحدها لنقل الأربعة المصابين قبل قدومه إلى بارانوفسكي لكن ظهر أن ذلك الحارس قد واجه بعض المشاكل - .

كان الطبيب هناك مهموما ومنشغلا بالجثث الأربعة عنده ، وحينما رأى الدكتور بارانوفسكي محمولا إليه زاد غمه و قلقه و قال باستنكار يشوبه الذعر : يا إلهي ! ما الذي يجري هنا ؟!!

وضع بارانوفسكي على السرير حيث كان أحد الأموات ممدا قبل وصوله .. مع أنه لم يكن يستطيع الرؤية بوضوح.. إلا أنه تمكن -و ليته لم يفعل- من مشاهدة الجثث وهي تحمل خارج الغرفة .. كان منظر تلك الأجساد التي سلبها الموت أرواحها أفظع ما يمكن أن تقع عيناه عليه !

تقدم الطبيب منه قائلاً : سأجري لك الإسعافات الأولية ثم نأخذك إلى المشفى بإحدى سياراتنا <عبس و بدا الغم في وجهن و صوته : كما كنا سنفعل مع أولئك الأربعة لو لم يداهمنا الوقت !!

أنهى الطبيب عمله سريعا و اتجه صوب الباب قائلاً : سأذهب للتأكد من أن السيارة جاهزة لنغادر !


أغمض الدكتور بارانوفسكي عينيه.. و بدأ شريط حياته يمر أمامه.. لحظة بلحظة... فشله ثم نجاحه.. سفره إلى غرب أوروبا ثم عودته إلى روسيا.. تكريمه على انجازاته و اكتشافاته المهمة في مجال العلوم الإنسانية... ماذا بعد ؟! شيء ما.. شيء كان يقلقه.. لكنه لم يستطع تذكر ماهيته ! و لم يكن عليه أن يجهد نفسه ليتذكر .. فقد سمع فجأة صوتاً ساخرا جمد الدم في شرايينه !


"كم تبدو مثيرا للشفقة ! يا بارانوفسكي !"


فتح الدكتور عينيه فزعا وتلفت حوله ليرى محدثه .. كان جالساً على كرسي قرب الباب !
حدق فيه بارانوفسكي و فرك عينيه.. لم يكن باستطاعته تمييز ملامحه بدقة .. لكن ذلك الشعر الثلجي الأبيض والعينين الفيروزيتين .. قد جعلوا شكله مألوفا لديه !

قام ذلك الشخص من مكانه و اقترب من الدكتور - الذي لم يكن بمقدوره أكثر من تحريك رقبته - ثم انحنى باتجاهه و هو يضع يديه خلف ظهره و قال بابتسامة بريئة تناقض ما ينطق به لسانه : ما بك يا بارانوفسكي ؟! ألا تتذكرني حقاً ؟! أوه صحيح .. أنت لا تستطيع رؤيتي بوضوح بسبب تأثير السم ! <انتصب في وقفته وأردف مسرورا : لقد استغرقني صنعه وقتا لكنه استحق بكل تأكيد !!

تكلم الدكتور لأول مرة مصعوقا : هل أنت من .. من سممنا ؟!!

زم المعني شفتيه بطريقة طفولية : همم إنه من صنعي لكني لست من دسه لكم ! <عاد يتطلع إلى الدكتور بنظرة حالمة : كنت تقول دوماً أنني سأصبح كيميائيا بارعا ! و قد أجبتك بأنني حين يحين ذلك اليوم.. سأصنع سما من أجلك !! لكنك لم تعر ما قلته اهتماماً لأنني كنت طفلاً حينذاك !

شهق الدكتور ثم بجهد مضن و ألم ساحق في مفاصله رفع رأسه قليلا و تمتم بصوت مرتعش خائف : أ.. أنت.. آليكسي.. آب.. آبراموف ؟!!

قال آليكسي وهو يبتسم بسعادة : أوه لقد تذكرتني أخيراً !

- إذن.. فأنت لم تمت !!

- نعم .. لسوء حظك !

- جئت.. لتقتلني.. أليس كذلك ؟!

- أقتلك ؟! أوه يا عزيزي المغفل .. أنت ميت بالفعل !إنها مسألة وقت لا أكثر ! دقائق معدودة وتنتهي .. إلى الأبد ! و قد جئت فقط لأجل أن أشهد هذه اللحظة !

- كيف ؟! كيف تمكنت من تسميمي ؟! لقد كنت أتأكد من كل شيء آكله .. أو أشربه و لم أكن أقبل ما يقدمه لي .. أي أحد !

ضحك آليكسي باستمتاع قائلاً : حقاً ؟! هل كنت حذراً تماماً ؟! هل أنت عادة تتأكد من المياه التي تشربها أو تغسل يديك بها منالصنبور؟!

اتسعت حدقتا عينيه و همهم غير مصدق : لا تقل.. أنك وضعته.. في خزان المياه !! أيها العقرب اللعين !!
ضحك آليكسي ملء شدقيه مرة أخرى و قال : أخبرتك مسبقاً أنني لست من وضعه !

- من ؟! من إذن ؟!!

ابتسم آليكسي وأجاب : هل تريد حقاً أن تعرف من هو ؟!

- إن كنت سأموت فعلى الأقل أريد معرفة المتسبب في ذلك !

- حسناً .. كما تشاء ! < التفت نحو الباب وصفق بيديه قائلاً : هيا ادخل يا صديقي ! بارانوفسكي يرغب في رؤيتك قبل موته !

فتح الباب ببطء .. التفت الدكتور ليرى القاتل الذي سيجتاز العتبة ... وعندما وقع بصره على وجهه صرخ : مستحيل ! هذا مستحيل ! لا يمكنني أن أصدق ! لا يمكن أن تكون أنت من فعلها !!

أجاب الداخل : بل صدق ! كنت أنا !

- لكن لماذا ؟! لماذا فعلت ذلك ؟! أجبني ! أجبني.. يا كابوستين!!

ابتسم البروفيسور باستخفاف بارد .. فأردف الدكتور لاهثا : لماذا تفعل ذلك .. وأنت رئيسنا ؟! ألست أنت .. ألست من أنشأ المختبر وكان صاحب الأفكار والخطط ؟! وكل ما كنا نفعله "نحن" هو .. تنفيذ أوامرك ! إن كنت تظن أن"الكونت دراكولا"سيصفح.. عنك مقابل ما فعلته بنا فأنت مخطئ تماماً ! سيقتلك .. سيقتلك دون رحمة بعد أن تنفذ له ما يريده !

قهقه آليكسي و تحدث إلى البروفيسور قائلاً : المسكين ! يبدو أنه لم يفهم الأمر بعد ! اشرح له يا صديقي فهذه أمنيته الأخيرة !

بادله البروفيسور الابتسام قبل أن يرفع نظارته و يضعها في جيبه ثم يمسك رقبته بكلتا يديه .. وفي لحظات .. يخلع قناعه !!
لم يعد الذي يقف أمامه هو البروفيسور العجوز كابوستين بل شاب ذو شعر متفحم السواد و عينين بذات اللون !

صعق الدكتور .. جحظت عيناه و ارتعشت شفتاه اللتين استحال لونهما للأزرق ! كان ذلك الشخص آخر من يمكن للدكتور أن يتوقعه !

قال مرعوبا ينتحب : كنت أنت كل هذا الوقت ؟! أيها السويسري الحقير !!
تدخل آليكسي و هو يمط شفتيه بطريقته الطفولية : إنه ليس سويسري بل فرنسي !! <ثم أردف موجها كلامه إلى شريكه : سيبا ! يبدو أنه لا يتذكرك !

- سيبا ؟! أنت .. أنت سيباستيان لاكلير ؟!!

تبسم سيباستيان قائلاً : بلى إنه أنا دكتور بارانوفسكي ! يسعدني أنك تتذكرني !

- لكن مهلا .. إن كنت أنت حيا .. إذن فتلك الجثة كانت ل..

قال سيباستيان بابتسامة بقدر ما هي هادئة بقدر ما هي مفعمة بالشر :للبروفيسور كابوستين !

فازداد الدكتور رعباً : إن كانت هذه مهمتك منذ البداية .. لماذا انتظرت كل هذا الوقت إذن ؟!

-التأني وحسن التصرفمن أهم صفات العقارب إن كنت لا تدري! يجب أن تعرف عدوك جيداً قبل أن تفكر بالهجوم عليه !
نحن لا نهتم بالسرعة في إنجاز المهمة بل في إتقانها ، و كان يجب علي أن أعرف كل ما يتعلق بكم قبل القضاء عليكم... خصوصاً كابوستين ! - فقد كانت خطتنا من البداية أن نقتله ثم أتنكر أنا بشكله ليسهل علينا التخلص من الباقين - راقبت سلوكه ، تصرفاته ، أسلوبه في الكلام و كل ما يخصه ! و بعدما شعرت أنني جمعت ما يكفي من المعلومات لتمثيل دوره .. أخذته في سيارتي بحجة إيصاله إلى بيته - إذ كان سائقه مريضاً ذلك اليوم وكان هذا من تدبيرنا طبعاً-
وهكذا... حينما كنا في أعلى طريق منحدر قفز كلب من جانب الطريق و اعترض طريقنا -كان قد دربه أحد زملائنا على فعل هذا- فنزلت من السيارة متظاهراً بحاولة إبعاد الكلب .. كان البروفيسور يعاني من صداع شديد - جراء إصابته بالصداع النصفي كما تعرف - ولم ينتبه أني لم أضغط المكابح !
فاستمرت السيارة بالنزول و زاد انحدار الطريق من سرعتها ! وعندما حاول البروفيسور أن يحرفها عن طريقها -عندما انتبه أخيرا- حتى لا تصطدم بالعامود.. انقلبت السيارة به.. ثم اشتعلت إثر تسرب الوقود منها ! وكل ما حصل بعدها كان مسرحية أحسن إخراجها ! الدماء والكدمات المزيفة ، الملابس المتسخة و الممزقة ، القناع و التبديل بين أغراضي وأغراضه ، والعملية "الخيالية" للحنجرة <التي ادعى طبيب منا أنه أجراها> لتبرير التغير "الملحوظ" في صوت البروفيسور ! أوه ، كم كانت مسرحية طويلة لكنني رغم ذلك استمتعت بالتمثيل فيها !

كان الدكتور ينصت إلى كلام سيباستيان و يضغط بيديه على حافة السرير من شدة الألم ! فقد وصل السم إلى.. محطته الأخيرة !

تحدث آليكسي و الابتهاج باد عليه لما يحل بالدكتور : لا تقلق بارانوفسكي ! لن تكون وحيداً في رحلتك !كل زملائك هنا.. سيرافقونك فيها !

أضاف سيباستيان : نعم ، لقد وضعت السم في خزان المختبر منذ يومين ! و كل الموجودين فيه تم تسميمهم بسم فتاك لا أمل في علاجه بعد ظهور أعراضه !!

أكمل آليكسي وعيناه تلتمعان حماسة : و قد عطلنا سيارات المختبر و قطعنا خط الهاتف و قمنا بالتشويش على اتصالات هواتفهم المحمولة ! أما إن حاولوا المشي إلى المشفى -الذي يبعد 10 كم عن المختبر- في هذا الجو ، فلن يعجل ذلك إلا موتهم !لهذا لا أمل "لأي منكم" في النجاة !!

لم يقل الدكتور شيئاً إذ تلاشى صوته ولم يكن في إمكانه التنفس حتى ! كان يلهث.. و يلهث..

عاد آليكسي يتحدث : أظن أنه يجب علينا المغادرة ، سيبا ! فلم يعد لدينا سبب للمكوث هنا.. لقد انتهى أمره ولم يعد في استطاعته الكلام !

قال عبارته الأخيرة بحزن طفل فقد لعبته الجديدة و لم يعد يجد ما يسلي به نفسه !

رد سيباستيان مبتسما : نعم.. لقد أنجزنا مهمتنا.. لنذهب !

نظر كلاهما برضا إلى الدكتور الذي كان يحتظر.. ثم اتجها صوب الباب.. و التفت آليكسي للمرة الأخيرة إلى بارانوفسكي قائلاً بابتسامته القططية :

باي باي بارانوفسكي ! رحلة سعيدة .. "إلى الجحيم" !











رد مع اقتباس