عرض مشاركة واحدة
  #47  
قديم 03-24-2016, 06:15 PM
 




الفصــل العاشــر





كنا نصغي إلى السيد آوتنبورغ بكل جوارحنا و هو يكمل قصته :

شهقت عندما رأيت الطارق.. كان إيريك !!

تكلم بأدب : مساء الخير ، أرجو ألا أكون قد جئت في وقت غير مناسب !
فهززت رأسي بحرارة نافياً : لا أبداً ، أتيت في أنسب وقت ، فأنا لا أعمل الآن.. تفضل بالدخول !

كنت مسرورا تغمرني نشوة النصر ، أخيراً وقع الفأر في المصيدة !

قدته إلى الصالة و بعد أن قدمت له الضيافة.. سألته : و الآن بماذا يمكنني مساعدتك ؟!

تحرك قليلا في جلسته و بدا عليه شيء من التردد حين قال : في الحقيقة.. إنه بشأن ذلك الطبيب.. أعني طبيب جدي الذي أوقفته الشرطة..

- نعم ، ما باله ؟!

فكرت في نفسي أنه لابد قد لفق دليلاً ضد الطبيب حتى يقنعني ببراءة نفسه !

و ما كان منه إلا أن رفع عينيه البنيتين إلي.. رفت جفونه بارتباك و هو يضيف : أظنني كنت مخطئاً في ما قلت عنه !

- مخطئاً ؟! في ماذا ؟!

تنهد بعمق.. ثم حسم أمره و قال بقوة : أنا لا أراه"قاتلاً"!!

لم أصدق ما سمعته للوهلة الأولى.. ما الذي يقوله هذا اللعين ؟! هل هي مزحة ؟!
هتفت بدهشة قائلاً : ماذا ؟!!


- نعم ، أحسبني قد تسرعت في الحكم عليه.. كان طبيب جدي لعشر سنوات و جدي كان يثق به تماماً ، و لا أعتقد أنه سيوافق إن عرض عليه قتل مريضه مقابل المال ، لأنه سيكون تصرفا في منتهى الغباء منه ! فعندما يقتل شخص ما بالسم فإن طبيبه أول من توجه له أصابع الاتهام !

كنت أحدق فيه غير مصدق.. تتقاذفني الصدمة و الحيرة و الحنق !
لم يعر اهتماماً لدهشتي و أردف بهدوء : لقد طلب الطبيب مساعدتي و هو يقسم بأنه لم تكن له يد في موت جدي و أنا أصدقه بالطبع ! لذلك كلفت محامياً جيدا بتولي قضيته وإخراجه من هذه الورطة !

لم أستطع وقتها أن أسبر غوره أو حتى أقترب من تخمين مراده .. بقيت قابعا فوق أريكتي متخبطا في تساؤلاتي ..

- لكن لماذا تخبرني أنا بهذا ؟!

- بصراحة.. لقد أحسست بوخز الضمير قليلاً .. فلم أكن في البداية مباليا بما يحدث لأي أحد.. لكن عندما أرسل إلي الطبيب يطلب العون ، لم يكن في وسعي غير الشعور بالعطف نحوه .. إن لديه زوجة و ابنة ، كما أن سجله نظيف تماما ! لقد أخبرتك أنت -كما سأفعل مع المفتش بيرترام- بهذا الأمر لأني وجدتني غير منصف تماما في كلامي عنه !

كان يتحدث ببراءة لا يشك في صدقها و يتطلع إلى عيني بنظرات دافئة لم تعكرها و لو مسحة من قلق أو اضطراب !

و بدا أنه قد أفرغ كل ما في جعبته إذ نهض واقفاً.. و قال : سأغادر الآن ! آمل ألا أكون قد أزعجتك بزيارتي ..

رمقته بجفاء و ابتسامة ماكرة تتراقص على جانب فمي : ولكن إن كان الطبيب بريئاً فمن يكون القاتل يا ترى ؟!!

رفع حاجبيه في عجب و رد دون أن يبرح الهدوء لهجته : أليس هذا هو عملكم ؟!

- بلى ، لكني أسألك عن توقعاتك فقط !

أجاب دون لحظة تفكير : كيف لي أن أعرف بالضبط ؟! ربما يكون أحد رجال الشرطة الذين أرسلهم المفتش.. من يدري ؟!!

- آه حقاً ؟! لكنهم موثوقون تماماً !

- عندما يتعلق الأمر بخفايا النفوس لا يمكنك الجزم أبدا !

- بلى .. هذا صحيح

- إذن.. أتمنى لكم التوفيق في تحقيقاتكم !

ثم اتجه صوب الباب .. تبعته بخطى متثاقلة و أخذت أتفحص ظهره بنظرة حادة يملؤها الشك .. أي تعبير يرتسم على وجهه الآن يا ترى ؟!!

صحت به قائلاً حالما أمسك قبضة الباب : هل تريد"فعلاً"أن نمسك بالمجرم يا إيريك ؟!!
استدار نحوي بوجه خلا من التعابير سوى مسحة خفيفة من التفاجؤ : نعم ، أريد ذلك طبعا ! ليس الأمر و كأنني أرغب بالثأر منه ، لكنني أظن أن المجرمين من أمثاله لا يجب أن يبقوا طليقين !

- أيا كان ذلك الشخص ؟!!

- أيا كان !

عندها.. رميت بكل تحفظي و حذري عرض الحائط و لفظت شكوكي في وجهه مباشرة : حتى لو كان.."أنت" ؟!!

للمرة الأولى.. رأيت إيريك يبتسم ! اتقدت نظراته بالتحدي و الجرأة و رد بثقة لا متناهية :نعم ! حتى لو كان أنا !!

ثم أعطاني ظهره و غادر !

و بقيت أحملق في خياله تطوق الدهشة لساني .. حتى تنامى إلى مسمعي صوت رنين هاتفي .. فأفقت من ذهولي و أسرعت أجيب و أنا أعض شفتي بغيض : هل سمعت ذلك يا بيرترام ؟!!

فجاءني بصوت ملول تشتد فيه نبرة التأنيب : نعم ، أخبرتك منذ البداية أن هذا الشاب ليس قاتلاً ! لكنك أصررت على رأيك و طلبت وضع جهاز تنصت داخل سترتك بحجة أنه سيأتي إليك عندما تكون وحيداً ليحاول قتلك وعندها ستكشفه.. لكن هذا لم يحدث !

و بالكاد خرجت كلماتي المغمورة بالحنق من بين أسناني المطبقة : ذلك الوغد ! جاء فقط ليسخر مني !
تنهد صديقي حائراً و قال : ألا تزال مصرا أنه القاتل بعد كل هذا ؟!!

أجبت و صوتي يرتفع في ثقة و عناد : بل إنني أكثر اصرارا الآن !

- يا صديقي ! ستجعل من نفسك أضحوكة الموسم ! لو كان القاتل كما تقول لم يدافع عن الطبيب ويحاول مساعدته ؟! إن إعتقاله في مصلحته فهو يبعد عنه الشبهات ، أما تبرئته فتضيق دائرة الشك حوله ! إضافة إلى أنه كان سيحاول قتلك ﻷنك تشك فيه.. لكنه لم يبد حتى ذرة اهتمام لما تقول ! لن يكون إلا مجنونا إن فعل كل ذلك و هو القاتل !!

- لا على العكس تماماً ! سيكون في منتهى الذكاء !! فمن سيتوقع للحظة أن قاتلاً يمكن أن يفعل هذا ؟! إنه بأفعاله تلك كأنه يوقع على شهادة براءته ! انظر إلى نفسك ماذا قلت لتوك !
كما لا تنس عمن نحن نتحدث ! قضيتنا لا تتعلق بقتلة متوحشين ذوي عقول فارغة كحال كثير من المجرمين هذه الأيام ! إننا نتكلم عن العقارب! أكثر المغتالين احترافا و دهاء في العالم !

التزم صديقي الصمت لبعض الوقت و لم أشك في عدم إقتناعه بحجتي.. و عندما تحدث ظهر الشك مسيطرا على لهجته : لا أدري.. حتى لو كان ما تقوله صحيحاً لا أستطيع مساعدتك يا آلفين.. ليس بمقدورنا فعل شيئاً حياله ما لم يتوفر لدينا من الأدلة ما يكفي لذلك !

◇◇◇◇


ضغط المحقق الألماني بيديه على ذراع الكرسي منفسا فيها غضبه و أضاف : و هكذا لم أفلح في كشف"العقرب المتخفي"إيريك إيردمان ! لكنني أدركت فيما بعد أنه ما من فائدة من الجري وراءه ، فهو ليس إلا تابع ! و إذا أردنا القضاء على المنظمة سيتوجب علينا إقتلاعها من جذورها ! و الركن الأساسي للمنظمة الذي لا يمكن أن تقوم بدونه.. هوالكونت دراكولا ! لهذا السبب قدمت إلى باريس فقد أشيع أن مقر المنظمة هنا !

اعتدل السيد أوتيير في جلسته و هز منكبيه قائلاً بغير يقين : نعم ، هذا ما يقال !

حل صمت قصير.. لم أتريث حتى قطعته بسؤال خطر ببالي فجأة : كم هو .. عدد ضحايا تلك المنظمة يا ترى ؟!

التفت السيد أوتيير نحوي و قد تجعد جبينه و تجهمت ملامحه : لا نملك عددا دقيقا فليس من السهل اكتشاف جرائمهم لأن كثيرا منها تبدو مجرد حوادث ! لكن عدد جرائمهم المؤكدة عندنا لا يقل عن 500و هذا العدد في إزدياد !

شهقت في رعب : يا إلهي !

و أردف الدكتور كروست : أولئك القتلة لا يردعهم أي شيء ، إن مجزرة مختبر كابوستين في سان بطرسبورغ مروعة بمعنى الكلمة !لقد قتلوا فيها 22 باحثاً !

فتحدث الشرطي بيكارت لأول مرة و سبقني بسؤاله : وهل ارتكبوا جرائم في روسيا أيضاً ؟!
رد السيد أوتيير : نعم ، لكنها ليست بتلك الكثرة كما في فرنسا أو ألمانيا !

أسرعت سائلة : لكن لم يقتلون باحثين مسالمين كهؤلاء ؟!

- لا نعرف شيئاً حتى الآن عن دوافعهم ، إن الأمر كله يبدو همجيا تخريبيا لا هدف من ورائه سوى الإرهاب ! فمختبر كابوستين قدم الكثير من الإنجازات والاكتشافات المهمة في مجال العلوم الإنسانية ، و فقده يمثل خسارة كبيرة !

فرك كلارك ذقنه الحليق مضيقا ما بين عينيه و قال : سمعت أن جميع من في المختبر مات بإستثناء البروفيسور كابوستين.. فقد اختفى دون أثر له !

قطب المحقق الفرنسي جبينه و قال : إنه لغز محير حقاً ! الشرطة الروسية تبحث عن البروفيسور منذ شهور لاشتباههم به في ارتكاب المجزرة ، لكن لم قد يفعل شيئاً كهذا ؟! و إذا لم يكن هو الفاعل.. لم يختفي فجأة بهذه الطريقة ؟!

وافقه الدكتور كروست بهزة من رأسه وأضاف : وما يجعل الأمر أكثر غرابة هو تصرف البروفيسور مع العاملين الجدد.. فقد طردهم قبل يومين فقط من تلك المجزرة !

- قالت آنوشكا -وهي إحدى المتدربين الذين طردوا- أن السبب وراء ذلك هو اشتباه البروفيسور بهم في مقتل مساعده السويسري ! إذا كان هو القاتل فعلاً فلابد أنه فعل ذلك ليبعد عنه الشبهة !

أيده الآخرون بحرارة .. أما أنا فكانت لي وجهة نظر مختلفة لم أتردد كثيرا في طرحها عليهم : ربما لم يكن ذلك هو السبب الوحيد ! فلو كان الغرض مجرد إبعاد الشك عنه لاكتفى بطرد اثنين أو ثلاثة ، لكن طرده لكل العاملين الجدد قبل يومين فقط من الجريمة .. ألا يمكن أن يدل هذا .. على أنه.. لم يرد لهم الموت !

حدق الجميع في باندهاش كبير و علق المحقق آوتنبورغ ساخراً : ها هي ذي إحدى معجباتهم تتحدث ! يقولون أن العقاربجذابون !
قلت و أنا أزم شفتي مستاءة : ليس الأمر و كأنني أدافع عنهم ! لكن.. حتى لو كانوا مجرمين.. هم يبقون بشرا يملكون و لو القليل من المشاعر ، و قد تستيقظ في أي لحظة !

أيدني كلارك بإيماءة تشي بإعجابه و تزين وجهه بابتسامة ساحرة : وجهة نظر جميلة ! أنا أراها معقولة تماماً ! "زودياك" مثلا-و كان مجرما متوحشا ذاعت شهرته في سبعينيات القرن الماضي - لم يكن القتل بالنسبة له غير هواية مسلية يمضي بها وقته ! قتل عدة أشخاص بقسوة دون أدنى سبب أو دافع ! لكنه ذات مرة.. امتنع عن قتل إمرأة.. فقط لأنه سمع بكاء ابنتها الرضيعة ! و تركها تهرب رغم أنها رأت وجهه !! لكنه كان محظوظا لأن الرعب الرهيب الذي استبد بها .. قد شوش ذاكرتها و مسح صورته من عقلها !
ولهذا السبب أظن أن كلام الآنسة ماكستر منطقي جداً !

ابتسمت له بامتنان.. أما الألماني المغرور فلوى شفتيه و غير دفة الحديث قائلاً : وصلني أن المستشارة الألمانية ستأتي إلى باريس في الغد للاجتماع برئيسكم ! وأحد أهم أسباب ذلك اللقاء هو البحث في أمرالعقارب و الاتفاق على خطة مناسبة للقضاء عليهم !

بدت الدهشة و الاهتمام على السيد أوتيير : فعلاً ؟! كنت أظن أنه من أجل الأزمة الإقتصادية فقط ! لكنها بشرى خير ، فأؤلئك المجرمون خطرون للغاية و لن نحقق شيئاً ما لم نأخذ أمرهم بجدية و نتعاون جميعاً على إيقافهم !

إن الأحداث تجري و تتطور بسرعة هائلة ! الآن.. سيكون على شادو محاربة دولتين من أقوى دول العالم ! ماذا سيفعل يا ترى ؟!! هل سيكون قادرا على الوقوف في وجههم ؟! أم تراه سيسقط بعد أولى الصدامات ؟!

قطع حبل أفكاري دخول السيدة أوتيير و قولها بصوتها اللطيف : تفضلوا إلى الصالة لقد أعددت الشاي و بعض الكعك و المعجنات !

خرجنا برفقة مضيفينا .. كانت السيدة قد جهزت كل شيء و وضعته بترتيب فوق الطاولة المستطيلة التي تتوسط مجموعة من الارائك و الكراسي المتحلقة حول بعضها.. اخترت مكانا بين بيكارت و كلارك و جلست أرتشف الشاي اللذيذ و أنا أتبادل أطراف الحديث مع الأمريكي الجذاب ، إن الكلام معه مسل حقاً ! كنت أصغي إليه باستمتاع و انتباه شديد و هو يروي لي حادثة حصلت له مع أحد المجرمين في نيويورك.. لكن الوقت لم يسعفني لإدراك نهاية القصة ..فقد فتح باب المنزل فجأة و اتجهت أنظار الجميع نحوه..

كان القادمون ثلاثة أشخاص.. شابة ممشوقة القوام ، ينسدل شعرها الأحمر بتموجاته الأنيقة على كتفيها بدلال ، فتى مراهق يغلف الملل و الكسل ملامحه و حركات جسده ، و طفل حاد النظرات يبدو مزاجه عكرا ! توجهت السيدة أوتيير إليهم و قالت بمحبة : اوه لقد عدتم يا أعزائي ! كيف كانت مغامرتكم ؟!

ألقى الطفل بحقيبة ظهره على أقرب كرسي و قال ببرود يخالطه الاستياء : هراء ! لم نجد أي أثر للشبح الذي تحدثوا عنه ، ذلك المنزل ليس فيه ما يثير ! لابد أنها إحدى الأكاذيب السخيفة التي تنشرها تلك العجوز حتى تخيف الأطفال الجبناء !

أمعنت النظر في الثلاثة بشيء من الدهشة.. هل هؤلاء هم أبناء السيد أوتيير ؟! إنهم لا يتشابهون على الإطلاق ! خاصة الفتاة القريبة من عمري إنها لا تتوافق في شكلها مع أي فرد من العائلة (بيضاء كالثلج ، شعرها أحمر و عيناها خضراوان) ، أما المراهق الملول حنطي البشرة بني الشعر فهو أقرب للسيد أوتيير ، في حين تتماثل ملامح الطفل الأشقر طويل اللسان مع السيدة !

أفصحت لكلارك عن استغرابي قائلة : أولئك الأخوة لا شبه بينهم أبداً ، لاسيما ..
أمسكت لساني عن الاسترسال بامتعاض عندما أدركت أن انتباهه ليس معي ، كان كل اهتمامه منصباً على تلك الفتاة منذ وصولها ! و ليس هو وحده بل جميعهم كذلك !

همس بيكارت و عيناه تلمعان بانبهار : ما أجملها ! كأنها ملاك !
تجعد جبين المحقق آوتنبورغ و قال بلهجة متعالية محاولا أن يبدو رائعاً : نعم ، لكننا لم نأت إلى هنا من أجل هذا ! يجب أن لا تنس مهمتنا يا بيكارت !

أدار بيكارت عينيه و هز رأسه كما لو كان يريد نفض كلمات المحقق من أذنه الأخرى ..
أما الدكتور فقد همس للسيد أوتيير مازحا : عندك ابنة بهذه الروعة و تخفيها عن أصدقائك العزاب ! يا للأنانية !
ضحك السيد أوتيير ملئ فمه و قالت السيدة للفتاة : ألن تشربي الشاي معنا يا عزيزتي ؟!
رسمت الفتاة ابتسامة رقيقة و كان صوتها ناعما شجيا : أشكرك سيدتي ، لكن علي العودة كي أعد الغداء لجدتي !

- حسناً يا عزيزتي أبلغي جدتك تحياتي !

- سأفعل.. إلى اللقاء !

اتجه الطفل نحوها و هتف بمحبة : إلى اللقاء ، لونا !

فلوحت له بيدها مودعة ..ثم غادرت .


و حالما أوصدت السيدة الباب التفت المحقق آوتنبورغ إلى مضيفنا الفرنسي قائلاً : لم تكن ابنتك على أي حال !

نظر إليه بيكارت و رفع حاجبه مستهزئا : تبدو مهتماً !

فاحمر وجه الآخر و أنكر قائلا : أحمق ! كنت أتساءل فقط !

ضحك الجميع باستثنائه و أنا و قالت السيدة أوتيير في حين تناول ولديها فنجانين من الشاي : هل كنتم تظنونها ابنتنا ؟! للأسف ليست كذلك ، كنت معلمتها أثناء دراستها في الثانوية.. إنها فتاة في غاية الروعة و كنت سأسعد كثيرا لو كانت ابنتي !

تحدث الدكتور كروست بمرحه المعتاد : هذا مؤسف ، كنت سأدعوكم إلى زيارتي في مانشستر ، ولكن لم يعد هناك داع لهذا !

ضحك معه بيكارت و السيد و السيدة أوتيير.. أما الولدان فجلسا يشربان الشاي بهدوء مثل ما فعلت أنا .

نظرت إلى كلارك.. من طرف خفي.. كان من الغريب أن يظل صامتا ولا يعلق على الأمر مرة واحدة و هو صاحب الشخصية المرحة !

سألته باستغراب : ما الأمر ؟!
أجفل و قد أقيظه سؤالي من غفلته : ها ؟ لا شيء ، كنت .. شاردا فقط !


****

لم أنم ليلتها حتى جلست أمام طاولة الزينة في غرفتي أبحلق ببلاهة بصورتي المنعكسة على المرآة الطويلة .. ما الذي يجعل الفتاة الفرنسية أجمل مني ؟! تلمست شعري الأشقر القصير .. ربما كان ليغدو أفضل لو زاد طولا و مال لونه للذهبي أكثر.. مططت شفتي كالبطة.. لو كانت فقط أكثر امتلاءا ! و هذا الأنف لو كبر قليلا و استقام أكثر بدل أن يظل ضئيلا دقيقا كأنف الفأرة ! لم أجد في شيئا خاليا من العيوب غير عيني .. إنهما واسعتان و بلون سماء الصيف الصافية ، لكنهما لا يقارنان بعينيها الزمرديتين ! ليت فقط رموشي ..

نفثت زفرة حنق من بين أسناني.. و نفضت هذه الأفكار الغبية عن رأسي.. تبا ! منذ متى أهتم بهذه الأمور ؟!! إن التفكير فيها عديم المنفعة و لا يجلب سوى الكآبة و الإحباط ! و ماذا يعني ألا أكون فاتنة ؟! يا للسخف ! كدت أتحول دودة بائسة مثيرة للشفقة !

رمقت صورتي في المرآة بنظرة تقريع حادة ثم أويت إلى فراشي !



لم يكن لدى الدكتور صباح اليوم التالي موعد أو أمر مهم يستدعي خروجه .. فمكث في الفندق أما أنا فنزلت للتمشي ..
أخذت أتجول في طرقات المدينة و ساحاتها و أتوقف بين حين و آخر في أحد المتنزهات و أمارس بعض التمارين الرياضية .. تحركت كثيرا و سرعان ما شعرت بالجوع فاتجهت إلى محل قريب للحلويات..

كان كل ما فيه يبدو شهيا جدا ! لكن وجب علي أن أقتصد فليس لدي الكثير من المال.. فتنهدت و اتجهت مزمومة الشفتين الى قسم الشوكولاتة ذات الأسعار المقبولة نسبيا .. مددت يدي لآخذ واحدة لكن شخصاً آخر وضع يده عليها أيضاً ! فرفعت يدي و قلت بأدب : آسفة تفضل !

أخذها.. و التقط على الأقل عشرة أنواع غيرها !
كان شخصاً غريباً حقاً شكلا و أفعالا ! شعره أبيض بياض الثلج و عيناه فيروزيتان !

رأيت فتاة طويلة بشعر بني يتجاوز خصرها تسير برفقته ، قالت له مؤنبة : هل ستأكل كل هذا ؟!
أجاب بابتسامة قططية : إنها لسيبا أيضاً !

- حقاً ؟! لكن سيباستيان لا يحب الشوكولاتة !

- أجل ، إنها له و لكنني من سيأكلها فهو لا يحبها !

تجعد أنف الفتاة في اشمئزاز : يا لك من قط شره يا آليكسي ! هل استبدلوا معدتك بمعدة فيل يا ترى ؟!!

أجاب بلؤم تغلفه براءة زائفة : لا أدري إن استبدلوها بمعدتك عندما كنت نائما !

قالت بغيظ : سحقا لك ! ستدفعني للجنون !

لم يرد و اكتفى بالضحك !

انتابني شعور غريب نحوه ! هل بسبب شكله الفريد يا ترى ؟!


غادرت المحل بعد شراء قطعتين صغيرتين من الشوكولاتة.. و بدأت أبحث عن مكان ﻷجلس فيه فليس من اللائق أن آكل و أنا أمشي .. و بينما أسير.. سمعت صوتا قريباً يقول : ماذا تفعلين هنا يا ماكستر ؟!

استدرت للوراء ثم هتفت متفاجئة : إنه أنت يا بيكارت ! كنت أتمشى فقط !

- أين الدكتور ؟! لا أراه معك !

- لقد بقي في الفندق ! وأين المحقق آوتنبورغ ؟!

- في الفندق أيضاً فهو يشعر بالصداع ! وقد أرسلني لأجلب له بعض الملفات من السيد أوتيير -كان قد طلبها سابقاً-

- أي نوع من الملفات هي ؟!

- سجلات بأسماء ضحايا العقارب ، أعمالهم ، و تواريخ وفاتهم .

- اوه ، هكذا إذن !

- نعم .. كان من المفترض أن أصل إلى منزل السيد أوتيير قبل ربع ساعة.. لكنني ضللت الطريق !

ضحكت ساخرة و قلت : ظللت الطريق ؟! تتحدث و كأنك في أدغال أفريقيا ! تعال معي ، سآخذك إلى منزله !

غيرت طريقي و مشيت و بيكارت خلفي.. أخذت يميناً ثم يسارا ، يسارا ثم يمينا،ً يميناً ، يسارا... ثم توقفت..
التفت إلي بيكارت قائلاً باستهزاء : إذن أيتها الذكية ! إلى أين سنذهب الآن ؟!

ارتمت أبله التعابير على وجهي و أنا أقول : حسناً.. لنسلك الطريق الأيسر ! أو ربما الأيمن ؟!

تبا ! نسيت الطريق !

اعوج فمه و هو يقلدني ساخرا : و كأنك في أدغال أفريقيا ، هاه ؟!!
تجاهلت سخريته و قلت : لنسترح قليلاً .. فقد تعبت من المشي !

لحظتها رن هاتف بيكارت.. التقطه و قال : إنه آوتنبورغ !
فتح الخط و أخذ يتحدث و مستوى الغباء في كلامه قد ارتفع درجات : مرحباً.. لا لم أصل بعد إلى منزل المحقق ! لا ، لم أضل الطريق ! كل ما هنالك أني لا أعرف المكان الذي أتواجد فيه !<يا لك من عبقري يا بيكارت!>.. ماذا ؟! أصف لك المكان ؟! حسناً..<تلفت يمينا ويسارا ثم أكمل : هناك عدة بيوت لها الشكل ذاته ، و الكثير من الأطفال والشبان.. هناك أيضا كلب كبير رابض على الطريق !

كاد يغمى علي من الضحك ! إنه ليس شخصاً طبيعياً أبداً !
و كان بإمكاني سماع صوت المحقق آوتنبورغ يصيح و يتأوه.. و لم تمر ثوان من الجدال العقيم حتى أغلق الخط في وجه بيكارت !

توقعت أن ينزعج أو يشعر بالاهانة لكنه ضحك من أعماق قلبه مسرورا : قال أنه سيحضرها بنفسه !

يبدو أنه يستمتع بإثارة أعصاب المحقق آوتنبورغ .. و أنا كذلك !

مسحت دموعي الضاحكة ثم توقفت و بيكارت على الرصيف لنستريح قليلاً.. استندت على سياج أحد المنازل.. و بدأت أغني !
نظر إلي بيكارت في عجب مرعوب : واه لم أكن أتخيل أن هناك شخصاً يغني بهذا السوء !

أعرف أن غنائي مروع لكني واصلت بعناد و رفعت صوتي أكثر .. إلى أن سمعت صوتاً قادما من المنزل خلفي : هذا أنتم ؟!!

استدرنا أنا و بيكارت....
كان المتحدث و صاحب المنزل شاباً أسمر ، شعره فاحم السواد و عيناه الحادتان بنيتا اللون .. وسيم ، لكنه غير ودود البتة !

نظر للصحن الملون في يده بخيبة واضحة : لقد ظننتك كولين !
فقلت بخجل : آسفة لذلك ! هل كولين هذه.. صديقتك ؟!

التفت نحوي و أجاب بوقاحة مفرطة : لا.. إنها كلبة جاري، و هي تأتي إلي عادة في مثل هذا الوقت و تجلس تنبح خلف السياج حتى أعطيها الطعام !

فغرت فاي و تجمدت أوصالي من الصدمة.. أما بيكارت فقد ازرق وجهه و أوشك أن يسقط من شدة الضحك !
من الغبي الذي قال أن الفرنسيين رومانسيون ؟!!

كاد ذلك الشاب يدخل إلى منزله لولا أن صوتاً موبخا أوقفه : جان ! ما هذا الذي قلته ؟!
التفت و نحن كذلك إلى صاحب الصوت.. و صاح بيكارت فرحا : لونا !!

نظرت الفتاة نحوه باستغراب فتمتم محرجا : آ.. آسف ، لا أعرف غير اسمك الأول !
فابتسمت بلطف : لا ، لا مشكلة في ذلك ، كل ما في الأمر أنني استغربت معرفتك لإسمي ! لكن يبدو أن السيد أوتيير قد أخبرك به !

- في الحقيقة لقد عرفته عندما ناداك به ابنه الصغير !

- اوه نعم ، فهمت !

قال لها المدعو جان ببرود : ماذا تريدين ؟!

تلاشت ابتسامتها و عادت تؤنبه قائلة : لقد أهنت هذه الآنسة ويجب أن تعتذر !

- و لم علي ذلك ؟!

- الرجل المهذب يفعل هذا !

- ومن قال لك أني مهذب ؟!

- حسناً كن كذلك الآن !

سحبتنا أنا و بيكارت من ذراعينا و قادتنا إلى الحديقة ثم قالت لجان مبتسمة : أظن أن كوبا من الشوكولاتة الساخنة مع بعض الكعك سيكون مناسباً !

ثم أدخلتنا إلى منزله دون أن تنتظر إذنه بذلك !

كان المنزل في منتهى النظافة و الترتيب تفوح منه رائحة عطرة ! يبدو أن جان يمضي كثيرا من وقته في الاعتناء به !
أخذتنا لونا إلى الصالة.. و قالت لي معتذرة : أعتذر بشأن ما قاله ، قد يبدو وقحا و لامباليا لكنه شخص طيب !

مططت شفتي و قلت كاذبة : لا بأس لست منزعجة !

- هذا جيد !

تكلم بيكارت : يبدو أنك تعرفينه جيداً !

- إلى حد ما.. كان زميلا لي في الجامعة ، لكنه أكبر مني بعامين ، و قد تخرج السنة الماضية ! < ثم استدركت قائلة : صحيح أنا لم أتعرف عليكما بعد !

انطلق بيكارت يعرف نفسه بحماسة : أنا شرطي ألماني واسمي دان بيكارت .

قلت ببرود مستفز : أنا بريطانية واسمي ويندي ماكستر .

لكنه لم تبال لفظاظتي و ردت بود : أما أنا فاسمي لونا آردوان -و أنا فرنسية طبعا- يمكنكما مناداتي لونا فقط ، سررت كثيراً بمعرفتكما ، دان و ويندي ! سأناديكما بالاسم الأول كذلك فأنا لا أحب الرسميات ، هذا إن لم تمانعا طبعاً !

بدا بيكارت سعيدا بذلك كل السعادة ، فأجاب نافياً : لا على الإطلاق ، أنا أيضاً لا أحب الرسميات !
بينما رددت أنا بجفاء استغربته من نفسي : أما أنا فلا أحب أن تناديني باسمي الأول !

رمقني بيكارت بنظرة حادة ، و تضاءلت ابتسامة لونا لكنها قالت بلطف : كما تحبين آنسة ماكستر !

لم أحب لونا إطلاقا -مع أنها تبدو لطيفة- ، و فضلت أن أبقي مسافة بيني و بينها ! ربما أكون مخطئة ... لا أعرف..

دخل جان في تلك اللحظة حاملا أكواب الشوكولاتة .. ألقى الصينية فوق الطاولة على مضض و أخذ مكانا له على الاريكة بجوار لونا و تكفلت الأخيرة بتقديم الأكواب لنا..
أمسكت كوبي و أخذت أحدق فيه مترددة في شربه.. في الواقع خشيت أن يكون مسموما ، فجان يبدو مستاءا من دخولنا منزله عنوة !

انتبهت لونا لما يعتمل في رأسي و قالت ضاحكة : لا تقلقي ، إنه آمن !

فرد جان ذراعيه فوق ظهر الاريكة و قال بأسف : نعم ، فقد نفذ مبيد الحشرات و سم الفئران من عندي لسوء الحظ !

ضحك بيكارت باستمتاع صادق أما لونا فنظرت إلى جان موبخة.. لكنه لوى فمه و أدار وجهه بعيداً !

أفرغت كوب الشوكولاتة الشهية في جوفي ثم انتصبت واقفة و قلت : شكراً على الشوكولاتة !

قال بيكارت بقليل من السخرية : ستذهبين ؟! هل تعرفين كيف تعودين أصلا ؟!

- سأستقل سيارة لتعيدني إلى الفندق !

فنهضت لونا قائلة : هل ستكونين بخير وحدك ؟! يمكنني مرافقتك إن أردت !

رددت بفظاظة جارحة ندمت عليها لاحقا : لا داعي لذلك ، لست طفلة !


ثم وليت ظهري لهم و غادرت المنزل.











رد مع اقتباس