عرض مشاركة واحدة
  #57  
قديم 03-31-2016, 04:36 PM
 



الفصل الثاني عشر




كان الوقت قبيل الثالثة بقليل عندما عدت للفندق ، صعدت لغرفتي و لم أكد أجلس فيها حتى سمعت طرقا على الباب ! قمت بسرعة و فتحته.. ثم قلت بقليل من التفاجؤ : آه هذا أنت يا دكتور ، ما الأمر ؟!
كان الدكتور يشتعل حماسة و إثارة حتى أنه لم يعرف كيف يشرح الموضوع.. فقال : شغلي التلفاز فقط !

دون أي استفسار اتجهت نحو التلفاز و شغلته.. كان هذا موعد أخبار الساعة ! وكان الخبر الرئيسي :
" اتضح بعد التحقيقات التي أجرتها الشرطة الروسية أن مختبر كابوستين كان يجري تجاربه بشكل أساسي و مباشر على البشر ! فقد اكتشفت الشرطة وجود مستشفى بدا في ظاهره مستقلاً و نظيفا إلى أن تبين أنه ليس إلا مختبر تجارب تابع لمختبر كابوستين ! وقد تسببت تلك التجارب في موت العشرات من المرضى وإصابة بعضهم بعاهات دائمة !"


صحت مصدومة : يا إلهي ! هذا فظيع !
وافقني الدكتور بانفعال بسيط : نعم ، فظيع حقاً ! من كان يتصور شيئاً هكذا ؟!
كنت مصدومة و متأثرة بالخبر فلم أتريث في اختيار كلماتي و أضفت دون لحظة تفكير : إنهم مجرمون ! يستحقون ما حصل لهم ! <و عندما انتبهت لنفسي استدركت بارتباك : لا أعني.. أقصد..

لكن لحسن حظي طمئني الدكتور قائلاً : لا بأس ، أعرف ما تقصدين ! إنهم مجرمون ويستحقون العقاب ، لكن لا يحق لأي كان أن يلعب دور القاضي و يحاكمهم ، فهذا سينشر فوضى ليس لها آخر !

- هذا مؤكد !

ألقى نظرة سريعة على ساعته و قال : لقد اتصل بي المحقق أوتيير قبل دقائق و طلب حضورنا إلى منزله للنقاش حول هذا الأمر ، يجب أن نذهب الآن يا ويندي !
- أنا جاهزة !


مشيت بصحبة الدكتور و كأنني رجل آلي ! لم أكن أرى شيئاً أمامي ، أو حتى أسمع تعليقات أستاذي المتقطعة.. أفكر و أفكر فقط !

هل يمكن أن يكونشادوشخصاً.. جيداً ؟! هل قتل الباحثين في ذلك المختبر بسبب جرائمهم "فعلاً" ؟! أي أن هدفه هو معاقبة المجرمين ؟! إن كان كذلك فأؤلئك الخمسة قبل أربع سنوات قد تكون لهم جرائمهم أيضا ! لكن حتى لو كانوا أشرار سينتهي الأمر بشادو مجرما كذلك !


-ويندي إلى أين أنت ذاهبة ؟!!

إنتشلني صراخ الدكتور المفاجئ من خيالاتي ﻷجد نفسي متخلفة عنه أكثر من عشرين متراً !!
ضحك مني قائلاً : ما بك يا فتاة ؟! لقد وصلنا إلى منزل المحقق !
تلفت حولي ببلاهة ثم اعتذرت و أنا أركض عائدة : آسفة لقد شردت..


كان الأربعة مجتمعين في المكتب عندما دخلنا.. قال المحقق آوتنبورغ : لقد تأخرت يا دكتور !

- المعذرة !

جلسنا.. فقال السيد أوتيير مهموما : هذا سيء !
هز المحقق الألماني رأسه عابسا : نعم ، ستغدو مهمتنا أكثر صعوبة !

تساءلت قائلة : و كيف ذلك ؟!

رد السيد أوتيير بضيق : في السابق كان الجميع متفقا على خطورةالعقاربو ضرورة الوقوف في وجههم ، لكن بعد هذه الأخبار.. ستتغير المواقف ! سيظهر من يؤيد أولئك المجرمين و يدافع عنهم باعتبارهم"أنصارا للعدالة"!!

أومأ كلارك موافقا و أضاف : بالضبط ! هناك الكثير من السذج الذين ينخدعون بالظواهر و ينظرون إلى مثل هذه الأمور نظرة سطحية قصيرة دون تمحيص !

تنهد الفرنسي : نعم ، و ليس هذا فحسب ، لقد وصلتني قبل قدومكم بقليل أخبار أكثر خطورة !

أوليناه كل اهتمامنا فأكمل : لقد تمكن العقارباليوم من إقتحام قصر اﻹليزيه أثناء إجتماع الرئيس مع المستشارة الألمانية ! بل إنالكونت بنفسه جاء و تحدث إليهما !

صحنا جميعا في وقت واحد و بالذهول ذاته : ماذا ؟!!

سأل السيد آوتنبورغ و قد احمر وجهه و ارتفع صوته في انفعال ملحوظ : وما الذي فعلوه ؟! هل تركوهم يهربون ؟!
رد السيد أوتيير قائلاً : لم يكن في استطاعتهم فعل شيء ! فقد زرعالعقارب عددا من القنابل داخل القصر مهددين بتفجيرها إذا لم يخضع المسؤولون ﻷوامرهم !

صفر الدكتور متعجبا و معجبا في الوقت ذاته : يا لها من جرأة !
و انحنى كلارك للأمام و عيناه تتسعان في حماس : وماذا قالالكونتلهما ؟!!

قال السيد أوتيير : طلب إليهم أن يبقوا بعيدين ولا يعترضوا طريقه !

فزمجر المحقق الألماني : من يظنون أنفسهم أولئك اﻷوغاد ؟!!

إنشادو-كما أحب أن أدعوه- مدهش بالفعل ! رغم أنه سفاح عديم الرحمة إلا أني لا أستطيع أن أنكر إعجابي بذكائه و جرأته .

التفت بيكارت نحوي فجأة و تحدث بأسلوبه التهكمي المعتاد : لماذا تبتسمين يا ماكستر ؟! تبدين مسرورة بما حصل !
سحبت ابتسامتي البلهاء سريعا عن وجهي و قلت : هاه ؟! أنا كنت أبتسم ؟! متى حدث ذلك ؟!

يا لي من حمقاء لم أنتبه إلى أنني كنت أبتسم ، هذا محرج حقاً ! تبا لبيكارت المزعج ! إنه يتعمد مضايقتي.

قال الألماني الآخر بمكر : بلى كنت تبتسمين ! <ثم هتف ممثلا البراءة : آه آسف نسيت أنك من معجبيهم !

ضحك كلارك بمرح : ما بك يا رجل ؟! أنا كنت أبتسم أيضاً ! إنها الإثارة ! اﻹثارة فقط !

بالفعل إن كلارك هو اﻷفضل ! دائما ما ينقذني من المواقف المحرجة التي يضعني فيها هذان الأحمقان !

و حرصا على عدم الوقوع مجددا في مواقف محرجة أطبقت فمي و لم أتفوه بشيء آخر ! بينما واصل الآخرون نقاشاتهم وتحليلاتهم لساعة أخرى دون أن يتمكنوا من الوصول لنتيجة مفيدة ..
تثاءب بيكارت .. تمطى ثم قام من مكانه قائلا : سأعود إلى الفندق ، سيد آوتنبورغ ! إنني متعب !

رمقه المحقق بنظرة باردة و قال باستهزاء : و ما الذي فعلته غير الجلوس و السرحان ؟! على كل.. اذهب فلست أستفيد شيئاً من بقائك معي !

هز بيكارت كتفيه في عدم اكتراث و خرج..و بعد أقل من دقيقة نهض كلارك بدوره و علل قائلاً : أرجو المعذرة ، يجب أن أنصرف فلدي موعد مهم ، طاب مساؤكم !
ثم أسرع مغادرا .. حينها التفت الدكتور إلي و قال بلطف : تستطيعين المغادرة أنت كذلك يا ويندي ، ليس لدي ما أكلفك به !

كم كنت ممتنة له وقتها ! فقد كدت أغفو على كرسيي من الضجر ! وقفت على قدمي و لم أتمالك نفسي من الابتسام : حسناً يا دكتور ، أراك لاحقاً ! اتصل بي في حال احتجت إلي !

لم يكن أي من كلارك أو بيكارت قد خرج من المنزل بعد.. و عند رؤيتي أشرق وجه الأول بابتسامة جميلة : ستغادرين أنت أيضاً آنسة ماكستر ؟!

- نعم ، لقد طلب مني الدكتور ذلك فليس لديه ما يكلفني به !


في تلك اللحظة اندفع الطفل الأشقر خارجا من غرفته ، و هبط السلالم بعجالة حاملا على ظهره ما بدا كحقيبة مدرسية.. فاتجه بيكارت نحوه متبسما : مرحبا يا نواه ! كيف حالك ؟!

لوى الطفل نواه شفتيه متململا و رد بضيق : إنني مشغول !

- حسناً يا حضرة الرئيس ! أريد أسألك سؤالا واحداً فقط !

- بسرعة إنني على عجلة !

- حسناً.. هل تعرف عنوان لونا ؟! لقد اقترضت منها بعض المال.. و أريد أن أعيده إليها !

متعب وتريد العودة للفندق ؟! حسناً سأريك !

وقفت قرب غرفة المكتب و تعمدت رفع صوتي حتى يسمعني المحقق آوتنبورغ : ألست متعبا و تريد العودة للفندق يا بيكارت ؟! لماذا إذن تريد الذهاب عند لونا ؟! يا لك من محتال و مهمل لعملك !
التفت نحوي و وجهه يحمر غضباً.. فركضت مسرعة و اختبأت خلف كلارك الذي كان يتفرج علينا و هو يضحك !

عاد بيكارت لسؤال نواه : والآن أخبرني..

و قاطعه الطفل بسخرية لاذعة : اسمع ! قد تكون أنت مغفلا لكني لست كذلك ! اقنرضت منها نقودا وتريد إعادتها إليها ؟! كذبة عفى عليها الزمن !
! <ثم أزاح بيكارت بيده و كأنه ذبابة و أضاف : هيا ابتعد عن طريقي أيها المتطفل ! لدي أشياء أكثر أهمية لأفعلها !

فغر بيكارت فاه مصدوما ! بينما انفجرنا أنا و كلارك ضاحكين .


و أسرعت السيدة أوتيير من المطبخ إثر سماعها كلام نواه و قالت له
معنفة : نواه ! كيف تتحدث هكذا إلى من هم أكبر منك سنا ؟! هيا اعتذر فوراً للسيد بيكارت !
رفع نواه أحد حاجبيه باستخفاف و جاء رده متعاليا : لن أعتذر ! و ليس لدي وقت للجدال ! آه قد أتأخر لذلك لا تتصلوا بي كل خمس دقائق و لا تنتظروني على العشاء.. وداعاً !

لم نستطع منع أنفسنا من الضحك ،يا له من طفل !

لم تجد السيدة ما ترد به سوى أن تحملق في ابنها و هو يغادر في دهشة و سرعان ما تنهدت و هزت كتفيها قائلة : أولاد آخر زمن !

و عادت إلى المطبخ.. تنهد بيكارت بدوره و قال بخيبة : لم تخبرني السيدة أيضاً.. سأحاول أن أسألها مباشرة !
لكن كلارك مد ذراعه معترضا طريقه : و ما الفائدة من معرفتك عنوانها أصلاً ؟! ستطردك جدتها ، فهي لا تحب الرجال.. كما يبدو..

حدقنا فيه باستغراب... و تساءل بيكارت : و كيف عرفت ذلك ؟! لا تقل ..
ضحك كلارك و هز رأسه إيجاباً.. ثم قال متصنعا العبوس : لقد طردتني !
قهقه بيكارت و ربت على كتف الأمريكي مواسيا : أيها المسكين !
و قال كلارك بمرح : لا بأس ، لم يكن الأمر بهذا السوء ، فقد طردتني بلطف

كنت أنظر إليهما و أكتم حنقي و استيائي ..يا للرجال ! كلهم متشابهون !
التفت كلارك إلى ساعة الجدار ثم قال بجدية مفاجئة : علي الذهاب حالا ! سوف أتأخر ..

تقدمنا إلى الخارج و تنهد بيكارت قائلا : أظنني سأتجول قليلا في المدينة قبل أن أعود إلى الفندق ! <ثم نظر إلي و قال : ماذا ستفعلين أنت يا ماكستر ؟!

مططت شفتي و هززت منكبي في حيرة : ربما سأتسوق ، أو قد أعود للفندق..


تطلع كلارك إلي برقة أثناء اجتيازنا الحديقة : لابد أنك تشعرين بملل كبير و أنت الفتاة الوحيدة هنا ! لم لا تزورين لونا وتتعرفين عليها ؟ أظنكما ستصبحان صديقتين في وقت قصير !
قلت ببرود : لونا ؟! تصبح صديقتي ؟! لا يمكن !

فرفع حاجبيه مستغرباً : ولم لا ؟! إنها لطيفة جدا !

- لا أحبها !

ابتسم .. و أدار ناظريه للأمام : هذا لأنك لا تعرفينها ! إن أعز صديق لدي الآن كان أكثر شخص أتجنبه و أتحاشى التحدث إليه ! كنت أظنه شخصاً مملا مزعجا . لم أكن أرى منه غير جوانبه السلبية ، لكن الأمر تغير تماماً عندما أعطيته فرصة و بدأت بالتكلم معه ، فقد وجدت فيه الصدق و الوفاء ! صفات نادرة في أيامنا هذه أليس كذلك ؟! و بالتدريج .. لم نشعر إلا و قد أصبحنا صديقين مقربين . لهذا فإنني أرى من الظلم أن تكرهي شخصاً دون أن تعرفيه حق المعرفة !

إنه مصيب في كلامه.. ربما أكون مخطئة في تصرفاتي مع لونا ، لكن مع ذلك..

كان بيكارت قد انفصل عنا وسلك طريقاً آخر.. قلت لكلارك و أنا أضغط على نفسي : حسناً.. سأجرب ! هل تدلني على عنوانها ؟!
رد دون أن يمكنه إخفاء سروره : إنه قريب جداً من هنا ! خذي الفرع الأيمن من ذلك الشارع ثم استديري يسارا وامشي قليلا حتى تصلي إلى المنزل رقم 45 !

- شكرا !

- أهلاً بك ! و الآن سأسلك الطريق المعاكس ، أتمنى لك قضاء وقت ممتع ! <وقبل أن يغادر التفت نحوي و أردف بشكل مفاجئ : آه صحيح ، لا تخبري بيكارت بهذا.. أنا لم أذهب لزيارة لونا أبداً !

حدقت فيه مشدوهة.. فضحك ثم ولى هاربا !

و لكن إن لم تزرها.. فكيف تعرف عنوانها أيها المحتال ؟! لحظة ! و لم أنا مهتمة إلى هذه الدرجة ؟! لقد جئت إلى هنا للبحث عنشادو، و ليس ﻷجل فيلم رومانسي فاشل ! أطلقت زفرة طويلة و واصلت طريقي.. يجب علي التغاضي عن هذه الأمور و التركيز على هدفي !

نفذت تعليمات كلارك ، سلكت الفرع الأيمن ثم استدرت يسارا.. و مشيت.. المنزل رقم 43 ، 44 ، ها هو المنزل 45 !

وقفت أمامه مترددة.. ثم انتبهت لسيدة عجوز كانت تسقي الزهور في الحديقة ..لابد أنها جدة لونا ! رأتني هي كذلك فابتسمت بود ثم قالت : أنت إحدى صديقات لونا صحيح ؟! إنها في الداخل ، تفضلي عزيزتي !

- اوه.. شكراً !

رافقتني الجدة إلى بهو المنزل و طلبت مني الجلوس بينما صعدت هي إلى الطابق الثاني قائلة : سأذهب ﻷناديها !

كان أكثر ما لفت انتباهي في هذا البهو هو كثرة الكتب التي كانت مصفوفة ومرتبة على الرفوف !
وقفت أطالع عناوينها.. أمام القاضي ، خبايا النفس البشرية ، تطوير الذات والمهارات ، مجرمون مجهولون ، عباقرة على مر العصور ، عجائب الطبيعة !

يبدو أن لونا مثقفة ، و تهوى مطالعة الكتب بمختلف أنواعها

- هذه أنت ، آنسة ماكستر !

قالت لونا ذلك بابتسامة لطيفة ساحرة و هي تنزل الدرج بصحبة جدتها ، و غالبني الشعور بالحرج و الارتباك بسبب معاملتي الفظة معها.. و يبدو أنها لاحظت ذلك فلم تسألني مباشرة عن سبب قدومي و إنما سألت برقتها المعهودة : هل تفضلين العصير أم الشاي ؟!

- أي شيء..

- حسنا ، تفضلي بالجلوس !

ثم وقفت عند أولى درجات السلالم و نادت : لوكا سنأخذ استراحة !

عندها فتح باب غرفة في الطابق الثاني و خرج منها طفل صغير نزل ليجلس قريباً مني.. بينما عادت الجدة لحديقتها و دخلت لونا المطبخ .. و رجعت بعد لحظات تحمل عصير الفواكه و حلوى الكراميل !
ثم جلست بجانب لوكا -الذي شرع يأكل الحلوى بسعادة- و مسدت شعره بحب قائلة بصوتها الناعم : هل أعجبتك الحلوى ؟!

أومأ لوكا برأسه إيجاباً ، و حالما التفتت نحوي سألتها : أخوك ؟!

- بل ابن صديقتي ! إنها تعمل في مثل هذا الوقت ، لذا يبقى لوكا عندي إلى حين عودتها ، فهو صغير و لا تستطيع تركه في البيت بمفرده .

إنها لطيفة و حنونة ! أعتقد أن كلارك كان محقا ، من الظلم أن أكره إنساناً لم أحاول حتى أن أعرفه .

- إذن.. كيف يمكنني مساعدتك ؟!

أربكني تحول الموضوع فجأة إلي و قلت بتوتر : ا.. في الحقيقة.. سأكون صريحة معك ! كنت أشعر بالضجر و لا أعرف فتاة هنا غيرك لذلك جئت لزيارتك ، أعلم أنها وقاحة ، لكن..

قاطعتني قائلة : لا عليك أبدا ، إنني أتفهم موقفك !
تنهدت و غمرني الشعور بالراحة و الامتنان : شكراً لك على ذلك !

- لا داعي للشكر ، أخبريني ! هل تحبين عروض الأزياء وما إلى ذلك ؟!

- إلى حد ما

- جيد ، سيكون هناك الليلة عرض خاص لأحدث الأزياء الخريفية !

- هذا رائع !

- سنذهب بعد أن أعد العشاء لجدتي و لوكا !

- يمكنني مساعدتك !

- سيكون هذا لطفا منك !


لا أحسبه كان لطفا مني ! و يا ليتني أغلقت فمي و لم أعرض المساعدة ! فقد حرقت الفطائر التي جهزتها لونا مسبقاً ، ثم سكبت دون قصد العصير فوق السلطة ،إنني الأفظع دون منازع في هذه الأمور !

و لحسن حظي أن لونا لم تغضب و بدلاً من ذلك أخذت تضحك على بلادتي !
لا أدري كيف يمكن لفتاة جاهلة مثلي لا تقدر أن تحمل صحنا دون أن تكسره.. أن تمسك بأخطر المجرمين في العالم !

و نتيجة لبراعتني غير المألوفة في أعمال المطبخ .. اضطرت لونا لإعداد طعام آخر للعشاء ، و تأخرنا ساعة إضافية !

و بعد أن انتهت أخيراً.. ارتدت معطفها ثم قالت للوكا الذي أنهى دراسته لتوه : أحسنت يا صغيري لقد أبليت حسنا اليوم ، تناول عشاءك ، بعدها يمكنك مشاهدة التلفاز ريثما تصل والدتك !< ثم التفت نحو جدتها قائلة : سنذهب الآن جدتي ، اتصلي بي إن احتجت أي شيء !

- حسناً يا عزيزتي ، اعتنيا بنفسيكما !

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة عند خروجنا من المنزل .
قالت لونا : العرض سيبدأ في السابعة تماماً ، هل ترغبين في التبضع حتى يحين ذلك الوقت ؟!

- لا مانع لدي .

أخذتني لونا إلى إلى شارع جميل و هادئ -كحال باريس كلها- يحوي العديد من المحلات الحديثة الراقية ..

كانت الأسعار جيدة إلى حد ما لكن جيوبي فارغة ! إذ استنفذت إقامتي في الفندق أغلب ما عندي ، لذلك لم أشتر شيئا.. بحجة أني لم أجد ما يناسب ذوقي الرفيع ! و لا أظن أن هذه الكذبة البالية قد انطلت على لونا .. فقد سألت و نحن في طريقنا إلى دار العرض : أنت تقيمين في الفندق أليس كذلك ؟!

- بلى !

- هل ستمكثين طويلاً هنا ؟!

- لا أدري.. لكن يبدو أن الأمر سيستغرق أكثر مما توقعت !

- لكن هذا سيكلفك كثيرا !

- ليس لدي خيار آخر..

سكت لحظة ثم فجأة اندفعت قائلة : يمكنني استضافتك في منزلي !

فوجئت بعرضها.. و رددت سريعا : لا شكراً لا أريد إزعاجك أنت و جدتك !

قالت نافية بقوة : لا يوجد أي إزعاج إطلاقا ! و لو كان لما اقترحت الموضوع من أساسه ! نحن نشعر بالملل فمن النادر أن يزورنا أحد ، لذلك سنسعد كثيراً بوجودك !
ترددت في البداية.. لكن لا يمكنني رفض عرض مغر كهذا ! فقلت و أنا أخفي سعادتي الكبيرة تحت ابتسامة خفيفة : حسناً.. سأفكر في الأمر.. شكراً جزيلا على كرمك !

توقفنا بعد دقائق أمام بناء أبيض ضخم عرفت فيه دار العرض .. سألت باستغراب ونحن نهم بالدخول : لا يبدو أنه عرض مفتوح ! كيف يمكننا الدخول إذن ؟!

- لا تقلقي ، أحد أصدقائي يعمل هنا ، وهو من دعاني للحضور .. ها هو قد أتى !

تقدم منا شاب أشقر حنطي البشرة ، متناسق الجسم و الملبس.. خيل إلي أنني رأيته في مكان ما .. و لكن أين ؟! و متى ؟! لم أستطع التذكر..

قالت لونا تعرفه علي : ليون ! هذه صديقتي.. ويندي ماكستر !
ابتسم بود و صافحني قائلاً : أنا ليون ميلارد ! تشرفت بمعرفتك آنسة ماكستر !
صحت : أووه !!

و ضربت جبهتي بكفي فنظر الاثنان إلي باستهجان ، و تداركت معتذرة : عذراً ، لكن هل تصلك بالسيد كريستيان ميلارد مدير مؤسسة لوميير أية قرابة ؟!

ارتسمت على وجهه ابتسامة أقرب للضحكة : بالطبع ، إنه أبي !

أزاحت لونا خصلة من شعرها الأحمر عن وجهها و بدا الاستغراب عليها حين سألتني : هل تعرفين السيد ميلارد ؟!

- لم ألتق به من قبل ، لكنني شاهدته على التلفاز ذات مرة ، و لهذا بدا شكلك مألوفا لدي يا سيد ليون ميلارد !

- فهمت ، و ليس عليك أن تكوني بهذه الرسمية ، نادني ليون فحسب !

بادلته الابتسام و قلت بإعجاب أثناء دخولنا المبنى متجهين إلى صالة العرض : هذه الدار الفخمة الرائعة ملك لأسرتك ، صحيح ؟!
هز رأسه نافياً : لا ، أنا أعمل هناك كعارض أزياء فقط !

- حقا ؟! ألن تخلف والدك في إدارة المؤسسة ؟!

أدار وجهه إلي و رمقني بنظرة غريبة لم أستطع تفسيرها سرعان ما اختفت و أضاف بهدوء : لا ، أريد الاعتماد على نفسي و اختيار المهنة التي تناسبني ، فأنا لم أخلق للعمل وراء المكاتب ، و لا أملك عقلا تجاريا بارعا كوالدي !

- ألم يعارض والدك قرارك هذا ؟!

أجاب مبتسما : لا إطلاقاً ، بل كان يقول لي "أفهم ذلك ، كونك ابني لا يعني أن تكون نسخة مني . اذهب ، و جرب ، و تعلم فبقائك هنا في هذا القصر المرفه لن يعلمك غير الكسل والخمول ! و لا يهم أيا كان ما تختاره.. فأنا أثق بك !"

هتفت بانبهار : إن والدك رجل رائع حقاً !
تحلت نبرته بالاعتزاز : نعم ، و أنا ممتن كثيراً لكونه والدي !


في هذه اللحظة كنا قد وصلنا إلى صالة العرض.. و تعالت أصوات الموسيقى قال ليون : لقد بدأ العرض الآن !

أسرعنا و أخذنا أماكننا في الصفوف الأخيرة و بدأت العارضات بالتوافد على المنصة الطويلة تحيطهن أضواء الكاميرات من كل جانب ..

و كالعادة... أزياء متنوعة ، منها الجميل و الفريد و منها العجيب و المجنون ، سراويل فضفاضة بألوان غريبة ، و قصات شعر أغرب ! فساتين أشبه بفناجين القهوة ، و أقمشة بدت كما لو كانت مصنوعة من جلود الديناصورات !
مصممو الأزياء مجانين !

كان ليون جالساً على يميني.. فجأة نهض و هو يهمس : سأعود بعد لحظات !
تبعناه أنا ولونا بنظراتنا.. انسل بين الجمهور نحو رجل يجلس في الجهة المقابلة لنا .. كان الأخير في بداية عقده الرابع كما بدا لي ، طويل القامة ، يبدو عليه الاعتداد بنفسه .. حياه ليون ، صافحه بحرارة ، و تحدث إليه بحماس ! ثم ودعه.. و عاد إلينا !
سألته لونا حالما اقترب : من هذا الرجل ، ليون ؟!

بدت عليه بعض الدهشة من سؤالها : ألا تعرفينه ؟! إنه ساندرو آليغرا ، مصمم ديكور إيطالي ! مع أنه حديث عهد بهذا المجال إلا أنه استطاع تحقيق نجاح باهر ، أنا أعده قدوتي .
سألت مستغربة : قدوتك ؟!

- نعم ، فحلمي أن أصبح مصمم ديكور شهير ، أما عملي كعارض أزياء فهو مؤقت..


تابعنا ما تبقى من العرض بصمت تقطعه ضحكاتنا كلما مرت عارضة بزي سخيف.. كدت أقسم أن الثوب الذي تمشي متبخترة به لم يكن أكثر من ملاءة سرير رخيصة !
انتهى العرض .. و بعد جولة من التصفيق الحار تركنا مقاعدنا و اتجهنا إلى الباب..

- اوه انظري من أتى !

استدرنا نحو صاحب الصوت.. كانتا فتاتين بغيضتين ، تكسوان وجهيهما بثلاث طبقات على الأقل من مساحيق التجميل و تقفان بغطرسة مرتديتين ملابس أنيقة و فاخرة . أخذتا تتطلعان إلينا باشمئزاز و تكبر و أضافت الأخرى فيما تشير إلى ثيابنا ضاحكة باستهزاء : ما هذا الملابس التي ترتديانها ؟! هل التقطتماها من القمامة ؟!

اجتاحني الغضب و حدجتهما بنظرة نارية لكن لونا ابتسمت بلطف و ببراءة و ردت : كما التقطوكما منها !

تلاشت ابتسامتهما في لحظة و صوبتاها بنظرة حاقدة تملؤها الكراهية ، و ضحكت أنا ملء فمي.. أحسنت لونا ! كدت أسيء الظن بك و أدعوك سندريلا المسكينة !

رمتها الفتاتان بكلمات نابية و سباب قذر فقطب ليون جبينه و رمقهما بنظرة حادة محتقرة .. ثم سحبنا أنا و لونا و قادنا إلى الخارج..


قالت الأخيرة فجأة و هي تتفحص هاتفها : هناك مكالمة فائتة ! لم أسمع رنين الهاتف بسبب الضجيج .. عن إذنكما لحظة ! سأجري مكالمة ثم أعود ..

اتجهت إلى ركن ليس ببعيد .. و التفت أنا نحو ليون سائلة : من تكونان تلك الكريهتان ؟! و لم تتحدثان إلينا هكذا ؟! أنا لا أعرفهما و لم ألتق بهما قط !

تنهد ليون في ضيق كبير و قال : إنهما زميلتان للونا في الجامعة ، و هما -كحال معظم الفتيات هناك- تكرهانها إلى أبعد الحدود ! لقد عاملاك بتلك الطريقة السيئة فقط لأنك معها !

- ولم يكرهنها هكذا ؟!

- الفتيات مثل لونا غالبا ما يكن مكروهات من بنات جنسهن ! فهي دوماً ما تستحوذ بجمالها و ذكائها على إعجاب الجميع ، و الفتيات من حولها كن يشعرن بالغيرة منها ، و إن لم يضايقنها و يسببن لها المشاكل يتجاهلن وجودها معهن.

- هذا ظلم !

- نعم ، طبعاً ! <ثم نظر إلي و ابتسم بامتنان : من النادر حقاً أن أرى لونا تخرج مع صديقة لها ، إنني سعيد لأنها التقت بك ، فأنت تبدين مختلفة عن باقي الفتيات !

ابتسمت بصعوبة.. و أطرقت .. شعرت بضميري يخزني بشدة بسبب معاملتي السابقة لها.. لا أظنني كنت سأغير موقفي تجاهها لو لم يحثني كلارك على ذلك .. لست أختلف عن غيري.. مع كل أسف..


عادت لونا و أمارات القلق بادية عليها..سألتها : ما الأمر ؟!

ردت بصوت مضطرب : إنه نواه !

- تعنين الابن الأصغر للسيد أوتيير ؟! ما به ؟!

- لقد اختفى !!

فتحت عيني بدهشة يعتريها الخوف ، و قال ليون محاولا طمأنتها : ربما يكون عند أحد أصدقائه !

هزت رأسها نافية و قالت و هي تكاد تبكي : لقد اختفى أصدقاءه أيضا !! و اتصل أهاليهم بالشرطة و هم يبحثون عنهم منذ أربع ساعات ! يا إلهي ! إنني خائفة جداً !

وضع ليون يده على كتفها برقة و قال : لا تقلقي ، سيكون بخير !

- يعتقد الشرطة.. أن عصابة قد قامت باختطافهم !

ماذا ؟!! عصابة ؟!! مستحيل ! لا يمكن.. لا يمكن.. أن يكون هو ! لكن.. من غيره قد يفعلها ؟!! ليجعل السيد أوتيير عبرة لغيره.. ممن قد يفكرون في السعي خلفه !

هدأت من روعها.. ثم قالت بحزم : سأذهب للبحث عنه ! ليون أرجوك أوصل اﻵنسة ماكستر إلى منزلي !
رفضت على الفور : لا ، سآتي معك ! أنا أيضاً أريد البحث عن نواه !

و قال ليون حاسما : سنذهب جميعاً للبحث عنه بسيارتي !

يا إلهي.. أتمنى أن نجده قبل أن يصيبه مكروه ! لم.. لم تفعل هذا ياشادو ؟!!











رد مع اقتباس