عرض مشاركة واحدة
  #61  
قديم 04-04-2016, 03:31 PM
 




الفصل الثالث عشر






"نواه.. نواه.. نواه !"

هذا الصوت المرتعد الذي يبتعد حينا و يقترب حينا آخر .. سحب نواه من عالم الأحلام و رماه على أرض صلبة باردة .. فتح عينيه بتثاقل .. كان الظلام دامسا لكنه استطاع مستعينا بخيوط رفيعة ضعيفة من الضوء تمييز وجوه أصدقائه !

قال آلفونس بقلق : ها قد أفقت أخيرا !
استوى نواه جالسا و تلفت نواه حوله مرة أخرى و تساءل و هو يرتعش : ما هذا المكان ؟! إنه مظلم ، رطب ، و بارد !

قال طفل يجلس بعيدا في الزاوية : إنها شاحنة لنقل الأسماك ! وهي تسير منذ استيقاظنا دون توقف !
قال نواه مذهولا : ولم نحن هنا ؟!!

تنهد بيير و رد بحيرة : لا نعرف.. كل ما نتذكره أننا ذهبنا -بإلحاح منك- إلى المقبرة للتحقق من صحة الخرافة التي أخبر بها الحارس أحد زملائنا في المدرسة..
عقد نواه حاجبيه و أخذ يتذكر : أجل..تلك الخرافة ! شبح طفلة صغيرة يبدأ بالتجوال في المقبرة عند الغروب و لا يستطيع رؤيته إلا الأطفال ! كانت خدعة ليس إلا !
قالت سيلين -أخت آلفونس الصغرى- نائحة و هي تتشبث بذراع أخيها : أخي أريد العودة للمنزل أنا خائفة !<ثم التفتت نحو نواه و أضافت : هذا كله بسببك ! ليتنا لم نستمع إليك !

أطرق نواه رأسه بحزن و خذلان و تمتم : أنا آسف..

و عاد آلفونس يقول : لسنا الوحيدين هنا.. يوجد 14 طفلاً آخرين !!
قال بيير منتحبا : ماذا سنفعل ؟! تحدث يا نواه ! فأنت...

و قطع عبارته توقف الشاحنة المفاجئ ! نهض نواه و ألصق جانب وجهه بالجدار.. و فعل أصدقائه المثل.. كان بإمكانهم سماع السائق يحادث رجالا آخرين فيما ينزل من الشاحنة مغلقا بابها بقوة : لقد وصلنا أخيراً ! كانت رحلة طويلة شاقة !
قال رجل خشن الصوت : وماذا عن الحمولة ؟!

- إنها في الشاحنة

- أريد التأكد منها

- بالطبع ، هذا من حقك ..

ثم سمع الأطفال وقع خطواتهم و هم يقتربون من الباب ثم صوت المفتاح يدار في القفل.. حتى فتح أخيرا.
كان نور الصباح الذي تسلل سريعا إلى داخل الشاحنة نذير شؤم لنواه جعل دقات قلبه تتسارع ..
بقي السائق خارجاً بينما سار الرجل عدة خطوات في الداخل.. عقد ذراعيه أمام صدره يوزع نظراته بين الأطفال في رضا !
وحينما أدار ظهره و هم بالرحيل .. انتصب نواه واقفاً و سأل بشجاعة : من.. أنتم ؟! وماذا تريدون أن تفعلوا بنا ؟!

التفت الرجل نحوه و كشر حتى برزت أنيابه : ماذا سنفعل بكم ؟! هل تريد حقاً أن تعرف ؟!!

لمح نواه في نبرته نذيرا مرعبا جمد الدم في عروقه !
ألقى نظرة سريعة إلى خارج الشاحنة.. و دهش حالما عرف المكان.. كان الميناء !!

سأل بصوت مرتجف : هل.. تريدون أخذنا رهائن.. لتطلبوا فدية من أهالينا ؟!!
ارتسمت على جانب فم الرجل ابتسامة قاسية : لا ، ما نريد فعله بكم سيدر علينا أموالا أكثر بكثير من مجرد فدية !

لف الرعب وجه نواه و أخرس صوته و باقي الأطفال فلم يتجرأ أحد منهم على السؤال !
كان الرجل عديم الشفقة يتفرج عليهم باستمتاع ! لكن هذا القدر من الخوف لم يكن كافياً تماماً له ! فقال بلا رحمة : نحنتجار الأعضاء !!

عند تلفظه بهذه العبارة المشحونة بالوحشية .. انفجر الأطفال بالبكاء و الصراخ ! أما نواه فهوى على ركبتيه.. و أخذ يحدق في الفراغ بعينين شاخصتين بهت لون الحياة فيهما .. لم يستطع كبح دموعه و انهمرت على خديه .. ( لماذا ؟! لماذا انقلب العالم لهذه البشاعة ؟! كيف حصل ذلك ؟! قبل ساعات فقط كان جميلا ، سعيدا ، مسالما ! فلماذا لم يستمر ؟! لماذا .. يجب أن أموت ؟! أنا لم أتجاوز العاشرة من عمري حتى ! لماذا تنتهي حياتي هنا و بهذه الطريقة المروعة ؟!!
أبي ! أمي ! أخي ! أين أنتم ؟! أنا.. أنا لا أريد الموت.. أريد رؤيتكم مجدداً ! لا أريد الموت ! )


وثب الرجل من الشاحنة و تحدث إلى السائق : ستسير بسيارتك و توقفها بجانب السفينة تماماً !
تمتم السائق البدين : نعم ، حسنا !

ثم أغلق باب الشاحنة و أقفله.. ليعود الظلام المقيت مرة أخرى !

ارتمت سيلين في حضن أخيها و اختلطت كلماتها بنشيجها : أخي.. أريد العودة للبيت !

فقال أخوها بقلة حيلة و صوته ينذر ببكاء قريب : ما الذي .. يمكننا فعله ؟!

تمتم نواه و اليأس يملأ عينيه الزرقاوين : لا شيء .. لا أحد يسمعنا أو يعرف مكاننا .. لقد انتهى الأمر..و كل ما بوسعنا ...هو الدعاء بأن تنتهي معاناتنا سريعا و في الوقت ذاته.. كي لا نموت مراراً و نحن نشاهد رفاقنا يقتلون واحداً تلو الآخر..

ثم تهاوى جسده على جدار الشاحنة.. كما لو أنه دمية من القطن..


فجأة.. تحدث الطفل الجالس قرب الباب : لقد توقفت الشاحنة ! <ثم وضع أذنه على الجدار.. و قال باستغراب : شيء ما يحدث ! إني أسمعهم يتجادلون..< ثم صاح : إنهم قادمون !
كف الأطفال عن البكاء...و اقتربوا من بعضهم عل ذلك يخفف شيئا من الخوف المسيطر عليهم.

فتح الباب مجدداً.. و دخل الرجل نفسه برفقة اثنين آخرين.. لكنه هذه المرة...بدا مختلفاً ! فبدلاً من الابتسامة القاسية الممعنة في الشر ..كان العبوس و الاستياء عنواناً لوجهه القبيح !

تقدم خطوة إلى الأمام.. و بدأ يتفحص الأطفال بنظراته الحادة واحداً واحداً...وكأنه يبحث عن شخص معين .. ثم توقف بصره عن الحركة و تركز على واحد منهم .. قال الرجل بامتعاض : انهض !

وقف نواه بطريقة آلية.. فأضاف الرجل : اتبعني !

ظل نواه مشدوها لثوان... ثم حرك ساقيه الثقيلتين ببطء.. وخرج من الشاحنة و الرجل يقوده من ذراعه !

كان الرجال يمشون و هم يتخاصمون فيما بينهم .. قال أحدهم مستاءا : و لم علينا الإنصات إليه أصلا ؟!
فرد الرجل الذي يقود نواه بنفاذ صبر : اصمت هذا يكفي ! لا نريد مشاكل معه ، فهو خطير جداً ! كما أنه سيأخذ هذا الطفل فقط !

تساءل نواه في نفسه ( عمن يتحدثون ؟!! ولم ذلك الشخص يريدني أنا بالذات ؟!! )

توقف الرجال عند مخزن مهجور لمعدات السفن ، كان يقف أمام بوابته ثلاثة أشخاص .. اقترب أحدهم.. فقال له تاجر الأعضاء و هو يدفع نواه إليه : هذا من تريدونه أليس كذلك ؟!
تمعن القادم في نواه للحظات قبل أن يقول بغير يقين : أظن ذلك.. انتظروا هنا حتى نتأكد و نخبركم !

أمسك يد نواه.. و اصطحبه إلى داخل المخزن و إثر صعودهما درجا حديديا صدئا.. توقف الرجل أمام باب علقت عليه لافتة قديمة "غرفة المدير" و طرق الباب قائلاً : أنا ماكس ! وصل الطفل ، سيدي !

جاء صوت من خلف الباب : أدخله !

فتح ماكس الباب و أدخل نواه إلى الغرفة.. انحنى باحترام ثم خرج !

نظر نواه حوله بحيرة و ارتباك.. إذ يسود الغرفة جو غريب تتخلله هالة ثقيلة مثيرة للرهبة !
تسمر في مكانه دون حراك.. كان بالكاد يستطيع تحريك عينيه !

◇◇◇◇

كان المختطفون لا يزالون في الخارج ينتظرون .. زمجر أحدهم بانزعاج شديد : إلى متى سنظل ننتظر ؟! من يظن نفسه ذلك المغرور حتى يفعل بنا هذا ؟!

تأفف الثاني و قال بنبرة ملولة : أخبرتك أنا مضطرون للاستجابة لمطلبه ! هل نسيت فعلته بالمافيا الإيطالية حينما وقفت في وجهه و تجاهلت إنذاره ؟!

- لم أنس لكن.. <ثم لمح نواه وهو يخرج فقال : انظر ! لقد عاد الصبي ! يبدو أنه يبكي..
قال الثاني باستنكار : ماذا يعني هذا ؟!!

و حالما اقترب نواه و ماكس من رجال العصابة .. أفلت الأخير يد نواه و دفعه إليهم قائلا : يمكنكم أخذه ! فهو ليس الطفل الذي نبحث عنه !

- حقاً ؟!! <قال أحد المختطفين بينما ينظر إلى نواه الباكي>

- نعم ، إنه يشبه الطفل الذي نبحث عنه بشكل كبير ، لكنه ليس هو ! لقد ظننا أنكم من اختطفه لأنه اختفى مع هؤلاء الأطفال في اليوم نفسه !

- آه ، هكذا إذن !

ثم بقبضته القوية أمسك ذراع نواه الذي كان ينظر إلى ماكس متوسلا.. لكن الأخير انصرف دون أن يلتفت إليه ..

حين وصول نواه برفقة الخاطفين إلى الشاحنة.. فتح السائق بابها الخلفي مبديا استغرابه : ما الذي حدث ؟!

فرد أحدهم عابسا و صوته يتميز غيظا : مهزلة !

و دفع نواه إلى داخل الشاحنة بعنف حتى وقع أرضاً .. فهرع إليه أصدقاؤه وباقي الأطفال...و الرعب يتملكهم ..

سأله آلفونس أولاً : ماذا حدث معك يا نواه ؟! لم أنت تبكي ؟!!
أضاف بيير بصوت مذعور : هل شرب مصاص الدماء من دمك ؟!!

حملق فيه نواه باستهجان.. و كرر مستنكرا : مصاص الدماء ؟!!

فأجاب الطفل الذي اعتاد الجلوس في الزاوية قرب الباب : لقد سمعت السائق يتحدث مع رجل آخر قائلاً أنالكونت دراكولاهو من أخذك !

كرر نواه و هو يسرح بأفكاره :الكونت دراكولا...

في تلك اللحظة كان باب الشاحنة قد أغلق ، و بدأت الشاحنة في إكمال مسيرها .

و عندما تأكد نواه من ذلك.. مسح دموعه و التفت نحو أصدقائه بوجه لم يعد فيه ما يدل على الطفولة إلا حجمه ! قال بصوت جاد : اسمعوني جميعا !
اقتربوا منه فأكمل : سأسألكم أولاً.. هل تريدون النجاة ؟!!

أذهلهم سؤاله لشدة بديهيته و لم ينطقوا بشيء.. فأعاد بنبرة أكثر حزما : أجيبوني ! هل تريدون النجاة ؟!!

صاح آلفونس : بالطبع !!
أضاف بيير ساخرا : ومن يريد أن يموت ؟!

فقال نواه : جيد ! إذن ينبغي عليكم تنفيذ ما أطلبه منكم !
نظر بعضهم إلى بعض باستغراب.. لكنهم ردوا بالموافقة !
فأضاف ببطء مؤكداً على كل كلمة يقولها : إن الطريقة الوحيدة للنجاة.. هيالقضاء على أؤلئك المجرمين !

قال بيير مدهوشا : ما الذي تقوله ؟! كيف يمكننا القضاء عليهم ؟!

- لا تقلق ! لدينا خطة جيدة ، و ليس هناك ما نخسره ! فأن نموت و نحن نقاتل أفضل من أن يشرحنا أؤلئك المجرمون و ينتزعوا أعضائنا !

تردد الأطفال.. بعضهم يرتعش.. و بعضهم يحدق في رفاقه متسائلاً.. و آخرون لم يستوعبوا الأمر أصلاً !

قال نواه و قد بدأ صبره بالنفاذ : ما بكم ؟! هل تفضلون أن تقتلوا بوحشية على الدفاع عن أنفسكم ؟! أؤلئك الوحوش لم و لن يرحمونا ! إنهم لا يعاملوننا كبشر بل كقطيع من الخراف ! يمزقون أشلاءنا و يبيعونها بلا إحساس أو ضمير !

عند سماع هذه الكلمات المفزعة .. بدأت سيلين بالبكاء.
رمقها نواه بنظرة تعنيف حادة.. ثم قال بقسوة : لا تبكي ! هذا هو الواقع ! هذه حقيقة العالم الذي نعيش فيه ! لا أحد سيأتي لنجدتنا ! نحن وحدنا من نستطيع إنقاذ أنفسنا ، و أي لحظة من التردد و الخوف قد تسلبنا آخر أمل لنا في النجاة.. هل تفهمون ما أقول ؟!!

كان لهذه العبارات القاسية وقع مدو في قلوب اﻷطفال...هبط ليدفن ما فيها من براءة !

نظر اﻷطفال إلى نواه مجدداً.. لكن بطريقة مختلفة ، إذ تحول اليأس و الهلع في عيونهم إلى عزيمة و إصرار !

تقدم الطفل ناقل الأخبار منه قائلاً : أنت محق ، أدعى جيرالد ! أخبرنا ما علينا فعله.. و سننفذ !

اقترب الباقون كذلك.. فصار يهمس لهم بالخطة كيلا يسمعه السائق...



توقفت الشاحنة أخيرا بعدما بلغت الوجهة المطلوبة !

فتح السائق الباب للأطفال برفقة رجال العصابة ، و نزل الأطفال تباعا في انتظام و صعدوا إلى السفينة ..

و بينما كان نواه يهبط الدرج تعثر و سقط على وجهه . ساعده أصدقاؤه على النهوض و واصلوا مشيهم.. إلى أن وصلوا غرفة خالية تماماً في قعر السفينة ، أدخل الرجال الأطفال إليها ثم أقفلوا عليهم و وضعوا حارسا أمام الباب !

شرعت السفينة في الإبحار.. حتى ابتعدت عن الميناء بما يزيد عن العشرين كيلومترا !

حينها.. صرخ جيرالد !!

فتح الحارس الباب و صاح بانزعاج : ما الأمر لماذا تصرخ أيها الشقي ؟!!

كان جيرالد ممدا على الأرض يمسك بطنه و يعض على شفتيه من الألم !
قال أحد الأطفال بقلق : إن معدته تؤلمه كثيرا !

- يا للازعاج !

ثم خطا نحو جيرالد ليتفحصه.. و ما إن اقترب حتى سمع دوي انفجار اهتزت له السفينة !!
اختل توازن الحارس و كاد يرتطم بالجدار و صاح مذعورا : ما هذا ؟!!

ثم ترك الأطفال وهرع الى الأعلى لير ما يحدث !

عندها نهض نواه قائلاً : الآن ! لنخرج بسرعة !

خرج الأطفال من الغرفة راكضين.. و قال لهم نواه : سأتجه أنا مع جيرالد إلى غرفة المحرك ! أما أنتم فاذهبوا لغرفة القوارب و قوموا بتخريب كل ما فيها من قوارب إلا واحدا ! ثم اختبئوا هناك حتى نلحق بكم !

انقسم الأطفال لمجموعتين و انطلقت كل واحدة في اتجاه..

وبينما نواه يعدو مع جاك إلى غرفة المحرك.. قام بمراجعة الخطة في ذهنه متذكرا لقاءه بالكونت :


● كان في الغرفة التي أدخل إليها.. أربعة أشخاص ! رجل يغطي وجهه بقناع أسود و يجلس خلف مكتب رث تم تنظيفه على عجل ، يقابله شخص آخر على كرسي أمامه ، و رجل ضخم الجثة و فتاة باردة الملامح يقفان بقامة منتصبة على جانبي الرجل المقنع !

التفت المقنع نحو نواه وقال مشيرا إلى الكرسي الثاني أمام مكتبه : اجلس يا فتى !
تقدم نواه ببطء و جلس على طرف الكرسي ثم تطلع إلى المقنع بعينين حائرتين ، فقال له بنبرته الهادئة : ما اسمك ؟!

أجاب نواه بارتباك : ن..نواه .. نواه أوتيير !

ثنا المقنع ذراعيه فوق المكتب و قال : آه ، نواه ! سررت بمعرفتك !
فاستجمع الفتى شجاعته و سأل : من.. أنت ؟!

أجاب المقنع من فوره : أنا صديقك !

حدق نواه فيه باندهاش و كرر متسائلا : صديقي ؟!!

- نعم ! أنت محظوظ جدا يا نواه !

- و لماذا ؟!

-ﻷنك ستنجو !!

سكت نواه لفترة يعتريه الذهول .. ثم عاد يسأل : أنا.. سأنجو ؟!! لكن ماذا عن أصدقائي ؟!

-هذا ما ستحدده أنت بنفسك !

قال نواه حائرا : وكيف ذلك ؟!!

رفع المقنع إصبعيه السبابة و الوسطى : سيكون لديك خياران !اﻷول أن تنجو أنت لوحدك ! والثاني أن تنجو مع أصدقاؤك !
فقال نواه دون لحظة تردد : بالتأكيد سأختار الثاني !

- أنت صديق مخلص ! إذن.. سيكون عليك العودة وانقاذهم !!

صاح نواه : وكيف يمكنني ذلك ؟! أنا مجرد طفل ضعيف !

- لست ضعيفاً ما دمت تملك هذا !<وأشار بسبابته نحو رأسه>

- ولكن.. لم لا تنقذهم أنت ؟!! ألست صديقي ؟!!

- إذن بعد كل ما حدث ما زلت تريد الاعتماد على الآخرين في انقاذك ؟!! اسمع يا نواه.. مهما كان الناس حولك كثر سيأتي يوم تجد فيه نفسك وحيدا بلا سند يعينك ، و إن لم تكن قويا بما يكفي.. سيقضى عليك ! نحن نعيش في عالم الغاب كما تعرف حيث القوي يأكل الضعيف !

أطرق نواه رأسه.. فأردف المقنع بصورة غير متوقعة : مع ذلك.. جهزت خطة لمساعدة أصدقائك ، لكن أنت من يتوجب عليه تنفيذها !!

هتف نواه بعزيمة و شجاعة : سأفعلها !

أبدى المقنع إعجابه قائلاً : فتى شجاع <ثم أردف يشير إلى حقيبة نواه : قل لي.. ماذا يوجد في هذه الحقيبة ؟!

- آه ، الحقيبة ! لقد وضعت فيها مصباحا يدوياً و منظارا و بعض الحلويات .. كان من المفترض أن نقوم باستكشاف ليلي في المقبرة !

- آه فهمت ! إذن .. أول خطوة .. أفرغ حقيبتك !

استغرب نواه لكنه نفذ .. وحين انتهى من عمله ، التفت المقنع إلى الرجل الجالس أمامه فالتقط حقيبة صغيرة كانت مركونة إلى ساق كرسيه .. فتحها و وضعها على الطاولة أمام نواه !

شهق نواه عند رؤيته لمحتوياتها !
فقال له المقنع : ضع هذه القنابل في حقيبتك ! ثم سأخبرك ما عليك فعله بها .

ارتعد نواه.. و مد يديه المرتجفتين إلى الحقيبة و ببطء و تردد .. نقل تلك القنابل إلى حقيبته !

- والآن.. سأخبرك بالخطة ! هذه قنابل قوية و مدمرة ! ستضعها في حقيبتك وتركب السفينة.. ثم أثناء نزولك الدرج تتظاهر بالسقوط لترمي بهذه القنبلة تحته ! <و أخرج كرة معدنية بحجم الكف و سلمها لنواه>إنها قنبلة صوتية !
و حين تتأكد من ابتعاد السفينة عن الميناء.. يقوم أحد الأطفال بالصراخ -يجب ألا يكون أنت او أحد أصدقائك لأنهم سيرتابون في الأمر- مدعيا المرض.. سيدخل الحارس ليتفقده عندئذ ستقوم أنت بتفجير القنبلة الصوتية بجهاز التحكم هذا !
عندئذ سينسى الحارس أمركم و يهرع إلى الأعلى .. فتخرجون من الغرفة و تتجه أنت مع مساعد تختاره إلى غرفة المحرك و تضع هذه القنابل هنا.. و هنا.. و هنا <مشيرا إلى نقاط معينة على مخطط غرفة المحرك> فهذه المناطق حساسة جدا ! ثم تلحق برفاقك في غرفة القوارب و تقومون بتخريب كل القوارب هناك باستثناء واحد لتستخدموه في الفرار من السفينة … هل فهمت ؟!
آه صحيح يجب أن تبدو حزينا و خائفا عند عودتك إلى العصابة ! فمن المفترض أن تكون قد فقدت آخر أمل لك في الحياة ! مثل الدور جيداً ، وتصرف بهدوء و روية ! فحياتك و حياة أصدقائك مرهونة بما تفعل !

سكت لبرهة و استرخي في كرسيه ثم أضاف : هيا ! عد الآن لأصدقائك ! كن حذراً و نفذ تعليماتي بدقة !

قام نواه.. و حين اقترب من الباب.. التفت إلى المقنع و قال متسائلا : هناك شيء أود سؤالك عنه .. لم اخترتني أنا بالذات من بين جميع الأطفال ؟!!

وضع المقنع يده تحت خده : لأنك وحدك من تملك كل المواصفات لإتمام هذه المهمة بنجاح !

قال نواه : اه هكذا إذن.. شيء آخر قبل أن أغادر.. قلت أنك صديقي ، و الثقة عربون الصداقة ! أنا أثق بك و أضع حياتي و حياة أصدقائي بين يديك.. لكنك لا تبادلني هذه الثقة ، و إﻻ لما...

و خطفت المفاجأة صوته ! ففي تلك اللحظة.. و على دهشة من الجميع...خلع الكونت قناعه !!

صاحت الفتاة التي كانت تبدو جامدة كالتمثال : سيدي !
أضاف الرجل الضخم مصعوقا : لماذا.. فعلت ذلك ؟!!
بينما اكتفى الثالث بالتحديق إلىالكونتمذهولا !

تجاهلهمالأخيرو ابتسم بعذوبة قائلاً بصوته الرزين : واﻵن.. أنا أبادلك الثقة ! نحن متعادلان ، صحيح ؟!!

هز نواه رأسه ببطء.. و لم يتفوه بحرف.. كان لا يزال يبحث عن صوته ! ●



عندما وجد الطفلان غرفة المحرك.. أخرج نواه من حقيبته ثلاث قنابل
و ذهب ليثبتها في المواضع التي أشار إليها الكونت، بينما وقف جيرالد عند المدخل يراقب الممر و يتأكد من خلوه..

لحظات فقط و انتهى نواه من عمله.. فانطلق مع رفيقه متجهين نحو غرفة القوارب .

هناك.. كان الأطفال مختبئين -بعد إنجاز مهمتهم- وحينما أبصروا نواه قادما خرجوا إليه..
همس بيير : لقد فعلنا كما قلت لنا بالضبط !
قال نواه باستحسان : جيد ! والآن لنفتح البوابة و ننزل القارب !

فتح جيرالد البوابة.. و تعاون الأطفال على إنزال القارب إلى الماء .. ثم قفزوا إليه جميعهم .. إلا نواه !
ناداه آلفونس مستنكرا : نواه ماذا تفعل ؟! هيا انزل بسرعة !
فرد المعني بلهجة غريبة : انتظر لحظة ! < اتجه إلى القوارب المعطلة و مكث هنيهة هناك.. ثم انضم لأصدقائه !

سأله جيرالد باستغراب : ماذا كنت تفعل هناك ؟!
أجاب نواه وقد ارتسمت على طرف فمه ابتسامة غامضة : شيء صغير.. سيضمن نجاح خطتنا !

وبدأ القارب في المسير.. مبتعدا عن السفينة !

صدف في ذلك الوقت...أن أحد رجال العصابة كان يتجول على سطح السفينة فتمكن من رؤية اﻷطفال و هم يركبون القارب و يقودونه بعيداً !

في المقابل.. لمحه جيرالد ببصره الثاقب و قال لنواه بقلق : لقد رآنا أحدهم.. و أسرع ليبلغ اﻵخرين !

ظل نواه ساكناً.. ثم قال بصوت بارد برود الجليد : فليفعل ! لا جدوى من ذلك اﻵن ، هذه هي نهايتهم !

فتح حقيبته و أخرج منها جهاز تحكم متعدد الأزرار .. حدق فيه لحظات.. ثم حول بصره إلى السفينة... لتنقلب نظراته الجامدة نيرانا مشتغلة من الحقد و الكراهية !

خرج صوته مرتعدا.. ليس من الخوف بل من الغضب ، و نطق كلمات لم تكن يوماً لطفل :هذه نهايتكم ! اليوم.. سيتخلص العالم من حفنة نفايات قذرة ! أمثالكم يجب أن يسحقوا باﻷقدام بلا شفقة كما تسحق الصراصير !

و ضغط إصبعه على زر التفجير !
فمﻷ السماء صوت انفجار يصم الآذان .. تكرر صداه في كل اﻷرجاء و فرت الطيورة مذعورة منه !!

اهتزت السفينة بشدة و فقدت توازنها.. تصاعد منها الدخان و شرع البحر بابتلاعها !
أصاب العصابة الرعب والجزع ! وبدؤوا يصرخون و يتدافعون إلى الأسفل السفينة حيث غرفة القوارب !

وهذا ما كان نواه في انتظاره ! أن يتجمعوا في تلك الغرفة.. حيث زرع القنبلة اﻷخيرة !!

أمسك جهاز التحكم بقوة و قال :بعد هذه اللحظة.. لن يعاني أحد بسببكم ! لم ترحموا لتستحقوا الرحمة ! لتحترقوا في الجحيم أيها الاوغاد !!

وكان الانفجار التالي خاتمة مروعة .. لحياة العصابة !!


على المرفأ... وقفالكونتيراقب المشهد.. و قد لاحت على وجهه ابتسامة خفيفة..


◇◇◇◇◇

في تلك الأثناء..

تهالك المحقق أوتيير فوق مكتبه.. واضعا رأسه بين يديه و كل هموم الدنيا قد سقطت عليه فجأة !
رغم أنه لم يبك.. إلا أن ألمه و حزنه كانا واضحين لمن يراه !
تلك الحلقات السوداء حول عينيه ، وجهه الشاحب ، ربطة عنقه المائلة ، و اﻷوراق المبعثرة على مكتبه هنا وهناك..

كان ينظر إلى الهاتف كل دقيقة و ينتظر أي مكالمة قد تفرج عنه كربته و تساعده في العثور على ابنه المفقود !

و بينما هو كذلك.. فتح باب مكتبه و اندفعت السيدة أوتيير !

قالت بألم عميق و عيناها قد تورمتا من كثرة البكاء : ألم تسمع أي خبر عن نواه ؟!!
هز السيد أوتيير رأسه نافياً.. و أطرق رأسه.. فلم يكن بمقدوره النظر في عينيها.. إذ شعر أنه المسؤول عما حصل !

قال بصوت مرهق : عودي إلى البيت وارتاحي قليلاً.. لقد سهرت الليل كله و أنت تجوبين الشوارع بحثاً عن نواه !

رمقته بنظرة حادة تحمل الكثير من العتاب و قالت غاضبة : أرتاح ؟!! كيف ذلك وابني مفقود و لا أعلم أي محنة يقاسي الآن ؟!!

قال و قد ضاق صدره : وماذا ستفعلين أكثر مما فعلت ؟! لقد أبلغنا أجهزة الشرطة في كل أنحاء فرنسا ! وهم يبحثون عنه و باقي الأطفال منذ يوم أمس ! و إذا وجدوا شيئاً سيبلغوننا من فورهم !

أشاحت السيدة ببصرها عنه لوهلة.. ثم عاودت النظر إليه و قالت تلومه بصوتها الباكي : كل هذا بسببك ! لم يكن عليك العبث مع أؤلئك المجرمين ! < ثم أضافت والدموع تسيل على خديها : إنهم بلا قلب !

- أعلم.. أعلم أنني السبب ! لكني لم أتصور حدوث أمر كهذا !

قال كلماته و الندم يقطع فؤاده..

كانت السيدة تهم بالمغادرة.. لولا حدوث شيء مفاجئ !
إذ رن الهاتف أخيراً ، فزرع رنينه أملاً جديداً في قلب اﻷبوين !

رفع السيد أوتيير السماعة سريعاً و قال : آلو.. نعم أنا المحقق أوتيير .. ماذا ؟!! وجدتم اﻷطفال ؟!!<انتصب واقفا و دموع الفرح تمﻷ عينيه ! ثم أضاف : أين ؟!! الساحل الشمالي ؟! إنني قادم في الحال !
كانت السيدة تتطلع إليه بلهفة ! و عندما أغلق السماعة فتحت فمها لتسأل.. لكن السيد وفر عليها ذلك و هتف و الكون لا يكاد يسعه من فرط سعادته : لقد وجدوا نواه وباقي اﻷطفال و هم على خير ما يرام !

أغلقت السيدة عينيها في ارتياح بالغ و كأن روحها قد عادت إليها بعد فراق طويل.. ثم ارتمت على الكرسي تذرف الدموع.. و همهمت بامتنان : الحمد لله ! الحمد لله !



◇◇◇◇◇


أخذ نواه و رفاقه إلى غرفة واسعة و مريحة داخل مركز الشرطة حيث قدمت لهم الشوكولاتة الساخنة والبسكويت..

قال آلفونس بسعادة وهو يقضم قطعة من البسكويت : يا إلهي ! لقد ظننت أنني لن أكون قادراً على أكل هذا مجدداً !
وافقه بيير مضيفاً : نعم.. لم أتخيل أننا قد ننجو من تلك العصابة !

قالت سيلين و هي تمسك كوب الشوكولاتة بكلتا يديها و الفرحة تغمرها : هذا بفضل السيد مصاص الدماء ! سأصنع كعكة شهية و أرسلها له كهدية شكر ﻹنقاذه لنا !
فتدخل آلفونس مخيبا آمالها : وكيف سترسلينها له ونحن لا نعرف عنوانه و لا حتى من يكون ؟!

تبددت فرحة الطفلة و قالت عابسة : لقد نسيت ذلك..<ثم خطر على بالها أمر فالتفت نحو نواه تسأله : ألم يخبرك أي شيء عن نفسه ؟! كمكان إقامته أو اسمه ؟!

هز نواه رأسه نفيا : لا لم يخبرني بأي شيء كهذا !

تنهدت سيلين خائبة أمل و تمتمت بأسف : كنت أريد أن أشكره على اﻷقل..


في تلك اللحظة.. سمع اﻷطفال جلبة و وقع أقدام في الخارج.. فنهضوا منتظرين بشوق لقاء أهاليهم !

اندفع اﻷهالي إلى الغرفة حيث أطفالهم.. و عند رؤيتهم لبعضهم تعالى الصراخ والبكاء و أخذ اﻵباء أبنائهم في اﻷحضان !
هرعت السيدة أوتيير نحو ابنها و ضمته بقوة إلى صدرها و الدموع تسيل على خديها لتسقط كقطرات الندى على وجه نواه..
قالت باكية : آه يا بني ! كنت أخشى أﻻ أراك مجدداً ! حمدا لله !

بكى نواه بحرقة.. و جثا السيد أوتيير على ركبتيه ليربت على رأس ابنه بحنان..


ثم وقف و استدار نحو الشرطي الذي أبلغه بالأمر و قال مستفسرا : ما الذي حدث أيها الشرطي ؟! وكيف تمكنتم من العثور على اﻷولاد ؟!

قفزت سيلين أمامهما و قالت بعيون تشتعل حماسا : إنه هو ! السيد مصاص الدماء ! هو من أنقذنا !
كرر السيد أوتيير كلامها متعجبا : السيد مصاص الدماء ؟!!
هذه المرة.. تحدث جيرالد قائلاً :الكونت دراكولا ! هكذا كان يدعوه أفراد العصابة !

فغر السيد أوتيير فاه مذهولا ! و فقد صوته لوهلة !
شاركته السيدة الصدمة و سألت نواه بصوت مضطرب : هل .. هذا صحيح يا نواه ؟!

هز الفتى رأسه إيجاباً.. فقال والده باندهاش : ما الذي تقولونه ؟! وكيف أنقذكم ؟! أليس هو من قام باختطافكم ؟!!

بدأ نواه يروي ما حدث لهم قائلاً : لا.. من اختطفنا هم عصابة من تجار اﻷعضاء !! <رفعت السيدة أوتيير يدها إلى فمها المفتوح في خوف.. و أكمل نواه : كانوا ينوون نقلنا إلى خارج فرنسا لقتلنا واستئصال أعضائنا !

عندها قال الشرطي مضيفا : لقد أمسكنا بأحد شركائهم و هو سائق الشاحنة التي نقل فيها اﻷطفال و عرفنا منه أن تلك العصابة دنماركية ! و كانت تخطط لإيصال اﻷطفال إلى مركزهم في كوبنهاغن ثم يقتلونهم هناك ! و.. أخبرنا بشيء آخر.. و هو أنالكونت دراكولا .. طلب من العصابة تسليمه ابنك نواه ! و ذلك قبل صعودهم السفينة !

التفت السيد أوتيير نحو ابنه وقد اصفر وجهه .. فأطرق نواه رأسه : نعم.. أراد رؤيتي ليخبرني بوجود قنابل زرعها أتباعه في السفينة طالبا منا أن نغادرها قبل تفجيرها !

اقترب السيد من ابنه.. وضع يديه فوق كتفيه ثم سأل بصوت خافت مرتعش : هل. هل تقول.. أنك رأيتالكونت دراكولا ؟!!

لم يتكلم نواه...
فهزه والده وكأنه يريد إيقاظه : أجبني ! هل رأيته فعلاً .. وجهالكونت دراكولا ؟!!

نظر نواه إلى أبيه نظرة خاوية المشاعر و قال بصوت هادئ ثابت :لا ! لم أر وجهه.. كان يرتدي قناعا !

نهض السيد أوتيير و هدر و قد احمر وجهه من الغضب : عليه اللعنة ! ذلك الشيطان !

صاحت سيلين باستياء : لماذا تتحدث هكذا عن السيد مصاص الدماء ؟!
أضاف آلفونس : نعم ! لقد أنقذنا من الموت بعد أن يأسنا من الحياة !
و قال جيرالد يؤنبهم : لقد فعل ما عجزتم أنتم الشرطة عن فعله !

تلاشى غضب السيد أوتيير.. و أزاح بصره عنهم.. كان يشعر بالضعف والخذلان !

لكن الصدمة الأكثر قسوة ، و القشة التي قسمت ظهر البعير.. كانت حديث أحد اﻷطفال إلى والدته.. قال بسعادة و حماس : حينما أكبر يا أمي سأصبح بطلا مثلالكونت دراكولا و أقضي على كل المجرمين !


حينها.. انهار السيد أوتيير وسقط مغشيا عليه.










رد مع اقتباس