عرض مشاركة واحدة
  #63  
قديم 04-07-2016, 04:43 PM
 




الفصل الثالث عشر و النصف




استيقظت في العاشرة والنصف متكاسلة و متعبة ، فقد قضيت الليل بكامله في البحث عن نواه مع لونا و ليون ، و لم آوي للفراش حتى قارب الفجر على البزوغ !

نزلت الدرج أتثاءب.. تلفت حولي.. كان المنزل فارغاً ، لابد أن لونا ما زالت تبحث عن نواه !
تنهدت بعمق .. و أثناء توجهي للمطبخ دخلت الجدة البيت قادمة من الحديقة.. تبسمت بلطف حين رأتني : ها قد استيقظت يا عزيزتي ! سأعد لك الفطور في الحال !
فقلت : شكراً لك يا جدتي لكن سأعده بنفسي ، لا أريد أن أتعبك .

لكنها ردت نافية : قطعاً هذا لا يتعبني بل على العكس إني أتسلى بعمل هذه الأشياء البسيطة ، إن عزيزتي لونا تقوم بكل شيء و لا تسمح لي إلا بسقاية أزهار الحديقة فقط ! و ذلك حفاظا على صحتي كما تقول ، لكن المرء يحتاج للقيام ببعض الأعمال بين حين و آخر و إلا قتله الخمول و الاكتئاب ، أليس كذلك ؟!
- بلى ، بالطبع !

هممت بمرافقتها إلى المطبخ.. إﻻ أنني لاحظت شيئا لفت انتباهي !
كان على رف الكتب.. كتاب قديم مهترئ على خلاف البقية و التي كانت جديدة تماما !

سحبته.. و قرأت عنوانه "طريق السعادة" ، لقد تم طبعه في سنة 1946 ! إنه أقدم مما تصورت !
بدأت أقلب صفحاته.. وجدته مفيدا و مسليا ، لكن ليس لدرجة الاحتفاظ به و قد أصابه ما أصابه من قدم !
غير أن ما أثار اهتمامي و فضولي أكثر من قدمه .. هي صورة قديمة بالأبيض و الأسود كانت ملصقة على غلاف الكتاب من الداخل ، تظهر فيها فتاتان ودودتان ، و شاب وسيم أنيق الملبس يبدو عليه الثراء !

- هل لفت انتباهك هذا الكتاب ؟!

سألت الجدة بصوتها الحنون.. فما كان مني إلا أن أعيد الكتاب إلى مكانه ثم أعتذر محرجة : أنا آسفة جدا ! ل..لم أقصد التطفل !
قالت الجدة بلطف : لا عليك عزيزتي ، لست منزعجة إطلاقاً ، تستطيعين قراءة ما شئت من الكتب هنا .. و الآن هيا إلى المطبخ فالفطور جاهز !

- ش..شكرا لك جدتي !


****


في الساعة الحادية عشر و سبع دقائق..

جلست في الصالة أشاهد التلفاز و الجدة بجانبي تمسك صنارتها و تحيك كنزة صوفية زهرية اللون..
ترددت في سؤالها لكن الفضول كان سيقتلني ، كما أنها سيدة لطيفة و مهذبة ، لذلك تجرأت و ابتدرت قائلة : هل تسمحين لي يا جدتي.. أن أسألك عن تلك الصورة.. في الكتاب ؟!!

في اللحظة التي ذكرت فيها "الصورة" لمحت حزنا عميقاً في عينيها.. فشعرت بالكثير من الذنب و اعتذرت على الفور : أنا آسفة على هذا السؤال ! أرجوك انسي ما قلته...
لكنها تبسمت بصعوبة و قالت : لا بأس يا ابنتي ، ناوليني الكتاب من فضلك !

نفذت ما طلبته مني.. و أعطيتها الكتاب ، ففتحته على الصورة.. ثم أشارت لي : تعالي يا عزيزتي ، سأحكي لك.. إنها قصة طويلة !

جلست بجوارها.. فشرعت تروي حكايتها :

كنت أعيش مع أسرتي في قرية ريفية صغيرة على الحدود مع ألمانيا .. كانت حياتنا سعيدة رغم ما نعانيه من فقر .. لكن ذلك لم يستمر طويلا .. فما إن دقت الحرب طبولها حتى كنا أول من يعاني ويلاتها !
تهدم منزلنا و قتل والداي في القصف ، ولم يبق بجاني غير آنتوني.. أخي الصغير !
اضطررنا أنا و أخي وكل من نجا من القصف للنزوح بحثاً عن مكان آمن.. مشينا.. و مشينا.. حتى تفطرت أقدامنا وسال الدم منها .

و بعد لجوئنا إلى إحدى القرى اﻵمنة نسبياً.. بدأ فصل جديد من معاناتنا. فنحن.. لم نعد نملك شيئاً ! لا مال ، لا أهل و لا حتى منزل يؤوينا ! و لم يحب أحد وجودنا ، فلم نكن في نظرهم أكثر من مشردين يثيرون الشفقة و يبعثون على البؤس !

عملت أنا وأخي في عدة أماكن.. نمنا في الحضائر مع الحيوانات.. في اﻹسطبلات.. و في أفضل اﻷوقات في السراديب مع الفئران !
كانت حياة صعبة جدا و ذليلة ، لكن لم يكن من حل آخر أمامنا..
حتى جاء ذلك اليوم..

كنت أكنس اﻷرض في منزل سيدة نعمل عندها.. حينما دخل علي أخي بغتة ،
كان يلهث و وجهه محمر.. قال و عيناه تشتعلان حماسة : هل سمعت اﻷخبار أختي ؟!

هززت رأسي نافية.. فاندفع قائلا : تعلمين أن الجيش قد انقسم بعد استسلام القائد الجبان بيتان وتحالفه مع اﻷلمان !

أومأت برأسي.. فأكمل : القائد شارل ديغول قد انسحب إلى إنكلترا مع ما تبقى من الجنود المخلصين ، و انضم إليه الكثير من المتطوعين من المدنيين ، مشكلين جيشاً صغيراً أسموه جيش اﻷحرار !

واصلت عملي دون اهتمام لما يقول : حقاً ؟!
قطب أخي جبينه و قال مستاءا : ما بك لويز ؟! أﻻ تفهمين ماذا يعني ذلك ؟! يجب أن ننضم نحن أيضاً !

أسقطت المكنسة من يدي.. و حملقت فيه مدهوشة : ما الذي تقوله ؟! لم علينا اﻻنضمام إليهم ؟!

قال بجدية : بالطبع علينا ذلك ! فالجيش صغير و يحتاج إلى كل مساعدة ممكنة ، حتى يتمكن من مواجهة اﻷلمان و حلفائهم الجبناء ، و إﻻ لن نتمكن من إستعادة أرضنا المسلوبة أبداً !

رفعت المكنسة عن اﻷرض و أنا أتحدث ببرود : وما الفائدة ؟! ما الجدوى من العودة لمكان لم يعد لنا فيه إﻻ الذكريات المؤلمة ؟!!

رمقني بحدة.. ثم قال كلمات هزت قلبي : أليس هذا أفضل من العيشة المهينة هنا ؟! انظري إلى حالنا ! إننا كالحيوانات تماماً ! نعمل معها طوال النهار ، و ننام قربها في الليل ! على اﻷقل في أرضنا سنعيش بكرامة دون أن نشعر بأننا عبء على أحد !

سكت لبرهة.. ثم تنهدت بقلة حيلة : لكن ما الذي يمكننا فعله فنحن صغار ؟!
أشرق وجهه بسعادة غامرة : أي شيء ! أي شيء يطلب منا ! نعد الطعام ، ننظف الغرف ، ننقل المعدات ، نداوي الجرحى ، نسلم الرسائل ، أي شيء نفعله مهما كان.. سيشعرنا بالسرور و بأن لوجودنا فائدة !

أدرت وجهي.. ثم عادوت النظر إليه و ابتسمت : حسناً يا أخي !

كانت فرحته لا توصف تلك اللحظة !

وهكذا.. سافرنا إلى إنكلترا بعد أن دفعنا لذلك كل ما جمعنا من مال !
هناك.. تعلمت التمريض.. أما أخي.. فبالرغم من أنه لم يتدرب مع الجنود لصغر سنه ، إلا أنه تعلم الكثير عن الجيش و الأسلحة واستراتيجيات الحرب من تواجده في القواعد العسكرية و اختلاطه بالجنود !
تعرفت كذلك على الكثير من الفتيات اللواتي مررن بنفس محنتي.. و كونت العديد من الصداقات .

وفي يوم من الأيام.. أصيب أحد الجنود بالتواء في الكاحل أثناء التدريب.. فأحضروه إلينا لمعالجته.

كان... هو !!
<قالت ذلك و هي تطالع الشاب في الصورة>
لم أر في حياتي كلها رجلاً بمثل نبله و شهامته !

<ضحكت بخفوت و هي تقول : كنت خجولة و لم أملك الجرأة على الاقتراب.. فاكتفيت بمراقبته من الزاوية..
أظنه لاحظ وجودي.. لكنه تظاهر بعكس ذلك كيلا يسبب لي الإحراج .

رأتني إحدى صديقاتي فاقتربت مني و همست في أذني ضاحكة : أنت أيضًا يا لويز ؟!
تورد وجهي.. فأردفت بإعجاب : إنه رائع أليس كذلك ؟! كل الفتيات هنا معجبات به !
سألتها : هل تعرفين من يكون ؟!

نظرت إلي بدهشة : ألا تعرفينه حقاً ؟! إنه جوزيف آيون ! ابن الجنرال الكبير آلبرت آيون !

- ذاك الذي قتل ؟!!

- نعم لقد غدر به مرؤوسه الرقيب مورفان و قتله ، لأنه كان يريد الالتحاق بجيش الأحرار !

همست بغضب : يا لذلك الوضيع !

في تلك اللحظة لم أشعر إلا و يد تسحبني من ذراعي !
استدرت مرعوبة.. فإذا به أخي آنتوني !
نظرت له موبخة فقال مبتسما بخبث : لم تنظرين إلي هكذا ؟! يجب أن تكوني ممتنة فقد أحضرت لك مريضا.. و هو ليس شخصاً عادياً ! < ثم أضاف و هو يجرني في اتجاه جوزيف : والآن هيا أسرعي ! لا يجب أن تتركي المريض ينتظر أليس كذلك ؟!
قلت بارتباك : ماذا.. ما الذي.. تتحدث عنه ؟!

لم يجبني.. و استمر بسحبي.. حتى جعلني أقف أمام جوزيف آيون !
ابتسم الأخير لي.. فارتفعت حرارة وجهي و احمر حتى صار كحبة بندورة !

كان أخي يضحك علي خفية.. بعدها قال لجوزيف معرفا بي : هذه أختي لويز ! و هي الممرضة التي ستتولى العناية بك ، قد تبدو بلهاء لكنها جيدة ! < ثم قال و هو يستدير مغادرا : و الآن سأذهب فلدي الكثير من المهام لأنجزها !


لم يكن لدي الكثير لأفعله لجوزيف فقد قام الطبيب بمعالجة الالتواء و تضميد الكاحل ، و حسب تعليماته.. علي فقط إعطائه دواء في مواعيد معينة -إذ كان مصابا بالتهاب في الحنجرة أيضاً- و أصنافا محددة من الطعام في الوجبات !

تنهدت ورفعت رأسي.. لأجده يتطلع إلي بابتسامة ساحرة.. قال بلطف : أرجو أنك لا تواجهين أي مشكلة !
قلت أشيح بوجهي في خجل : لا.. أبدا !

لم أتحدث إليه كثيرا .. كنت مرتبكة للغاية .. و حين يسألني عن شيء أجيب على قدر السؤال فقط !
و بعد أن تناول عشاءه ، قدمت له الدواء ثم انصرفت .

و حين عودة أخي.. سألته : هل كنت تعرف ابن الجنرال آيون يا آنتوني ؟!
رد بسرور يشوبه الفخر : بالطبع ! نحن أصدقاء !

- حقاً ؟!

- أجل ! <ثم أضاف بحماس بعد لحظة صمت : إنه مذهل ! أنت لم تشاهديه وهو يقود الطائرة !

- هل هو طيار ؟!!

- نعم ! أفضل طيار في العالم ! لقد دربه أمهر الطيارين الإنكليز حتى أصبح يجاريهم في براعتهم ! كل هذا و هو لا يزال مراهقا !

قلت بإعجاب شديد : هذا مذهل بالفعل !

ثم سكت.. أما آنتوني.. فحدق إلي بنظرة شك قبل أن يقول بابتسامة ماكرة : لا تقولي أنك..
قاطعته و أنا أحس بوجهي يلتهب من شدة الإحراج : لا ، لا شيء من هذا يا أحمق ! كل ما في الأمر أنني لم اكن أعرف.. أن لك صديقاً كهذا !

- آها.. هكذا إذن !

قالها و ابتسامته الخبيثة لم تفارق وجهه ! كان يعلم بأني لا أقول الصدق.


صباح اليوم الثاني..
كنت جالسة بجانب جوزيف أنتظر أن ينتهي من تناول فطوره حتى أقدم له الدواء.. حينما طرق الباب.. ثم فتح.. ليدخل رئيس جوزيف الكولونيل بانفيل مع اثنين من مساعديه.
ألقوا التحية العسكرية و ردها جوزيف ثم بادر الكولونيل بالقول : يجب أن تتعافى بسرعة ! فلديك مهمة بالغة الأهمية !

قال جوزيف مسرورا : حقاً ؟! ما هي ؟!
ابتسم الكولونيل بفخر : لقد تم اختيارك مع نخبة من الطيارين الإنكليز لتشارك في قصف الحلفاء لألمانيا !

عند تلفظه بعبارته الأخيرة.. تهاوت الفرحة من وجه جوزيف.. و تنهد في ضيق !
استنكر الكولونيل رد فعله.. و قال متجهما : ما بك ؟! لا يبدو أن الأمر يروقك ! هل يوجد في رأيك شرف أكبر من هذا ؟!!

اعتلى البرود نظرات جوزيف و رد دون لحظة تردد : أعتذر عن قبول هذه المهمة !
حملقنا فيه جميعنا ببلاهة ! و صاح الكولونيل في وجهه غاضبا : ما الذي تقوله ؟!! هل جننت يا ترى ؟!!
تحدث أحد المساعدين باستهجان مماثل : هل نسيت ما فعله الألمان ببلادنا ؟!! و أنهم السبب الرئيسي في مقتل أبيك ؟!!

سكتوا و هم ينتظرون جوابه .. فأتاهم ثابتاً كالجبل قاطعا كالسيف :
إن كانوا هم وحوشا بلا ضمير فأنا لست كذلك ! عدونا هو هتلر و جيشه و ليس المواطنين العزل ! أنا لن أقصف المدنيين و لتفعلوا ما يحلو لكم !

نهض الكولونيل يستشيط غضبا و غيظا : هل تعصي الأوامر ؟!
قال جوزيف بصوته الهادئ : أنا لا أفعل شيئاً لست مقتنعا به أيها الكولونيل !

فما كان من الآخر إلا أن زمجر و جسده بكامله يرتعد غضبا : طفل ! لست أكثر من طفل جاهل ! و ستتحمل بنفسك عواقب قرارك الأبله هذا !

ثم صفق الباب بقوة و خرج مع مساعديه !
التفت جوزيف إلي و ابتسم قائلاً : آسف على هذا الإزعاج يا آنسة آردوان !
أجبت دون أن أنظر إليه : لا.. لا بأس !

و على بغتة من جوزيف -ومن نفسي كذلك- أضفت :
لقد دمر الألمان قريتي.. و قتلوا والدي.. و كانوا سبب تشردنا أنا و أخي ! هم لم يفكروا فينا ولم يهتموا إطلاقاً لما يحدث لنا.. إنهم أشرار ! وحوش ! و لو كنت مكانك لما ترددت لحظة في قبول المهمة !

اتسعت ابتسامة جوزيف.. و نظر في عيني مباشرة : نعم إنهم أشرار.. لكننا لا نختلف كثيراً عنهم أليس كذلك ؟!!

حدقت فيه مدهوشة !

فأردف : للأسف نحن البشر مخلوقات أنانية ، لا نعترف بالظلم حتى يمارس علينا ! لقد هاجمت بلادنا الكثير من البلدان الأخرى ، دمرتها ، قتلت الآلاف من مواطنيها ، و نهبت خيراتها متذرعة بأتفه الحجج ! لكن أحداً منا لم ينكر عليها أفعالها الوحشية أو يجادلها فيها.. لأنها لم تكن تضر بمصالحنا !
أما الآن فنحن نشعر تماماً.. بالألم و الذل الذي كنا نذيقه غيرنا ، و نقر بأن الاحتلال عمل شرير ظالم ، لأن اليوم.. هو دورنا لتكون أرضنا هي المسلوبة.. و نكون نحن الضحية المغلوبة !

لم أجرؤ على التفوه بحرف واحد ، فقد أصابت كل كلمة قالها.. كبد الحقيقة المرة.

لم يعاقب جوزيف على رفضه المهمة.. فقد أجمع القادة على ضرورة بقائه ، إذ كان طيارا عبقريا و الجيش في حاجة إلى كل جنوده في خوض حربه المصيرية ضد قوات المحور !
لذلك أوكلوا إليه قصف القواعد العسكرية و مخازن الأسلحة فقط !
و قد نفذ جوزيف مهماته ببراعة مدهشة !
لتبدأ هذه الحرب المجنونة.. في دخول مرحلتها الأخيرة و الأكثر دموية و وحشية !
كان الدور الأكبر في هذه الحرب لأمريكا و روسيا و إنكلترا ضد ألمانيا واليابان.
أما نحن فلم نلعب دورا رئيسيا فيها -خلاقا للحرب السابقة- فبعدما خسرنا أرضنا ركزنا كل مساعينا لأجل استعادتها من الألمان و حلفائهم الخونة !

في ذلك الوقت.. سمح لأخي آنتوني بالانضمام إلى الجيش و حقق حلمه أخيرا في أن يصبح جندياً !
كان سعيداً للغاية.. أما أنا فكانت سعادتي لا تزيد عن خوفي و قلقلي.. فهذه الحرب.. لا ترحم !
احتضنت أخي بقوة.. و أنا أبكي.. فقال لي مؤنبا : اوه ما بك ؟! لم يجب أن تكدري فرحتي يا لويز ؟!!
قلت و النشيج يبعثر كلماتي : أنا.. خائفة.. من أن أخسرك.. آنتوني !

- آه ما الذي تقولينه ؟! أنا لن أتركك يا أختي المزعجة ! سنهزم الألمان ثم نعود معا إلى قريتنا !

- هل تعدني بذلك ؟!!

- بالطبع أعدك !

ثم غادر ليلتحق برفاقه.. و ينطلقوا إلى ساحة المعركة.
و تحركنا نحن الفريق الطبي بدورنا و لحقنا بهم.. ثم تمركزنا قريباً من دائرة القتال.

كانت المعارك طاحنة و مدمرة في جميع الجوانب و على كل الصفوف !
و عندما بدت آمارات الهزيمة جلية للنازيين.. أمر هتلر جنوده في باريس أن يدمروا كل معالم المدينة قبل انسحابهم منها !
لكنهم لم يتمكنوا من ذلك لحسن الحظ وزكان أكثر الفضل في ذلك لجوزيف -مع أنه لم يكن القائد إلا أنه كان ذكيا و زملاؤه يثقون به تماماً- فقد توقع هذا التصرف و حدد المواقع المحتملة التي يجب التركيز على حمايتها ، ثم قام بمراوغة الطائرات المعادية و أبعدها عن المدينة ، و هو الذي دمر أهم قواعد الجيش الفاشي ، و التي كان مورفان الخائن قاتل أبيه متواجدا فيها ! فقتل من فوره !

وهكذا.. و بعودة علم بلادنا يرفرف في السماء فوق برج إيفل .. قلبت هذه الحرب صفحتها الأخيرة.. و انتهت.

عندئذ.. خرجت أنا إلى الشوارع.. أبحث عن أخي.

كنت أعرف.. فقلبي يؤنبني بذلك.. لكني أبيت التصديق و أنكرت ذلك الشعور البشع الذي يختلج داخلي !
ركضت في الطرقات المدمرة و أنا أصيح : آنتوني ! آنتوني ! أين أنت يا أخي ؟!!

و في منتصف ذلك الشارع الطويل الذي علاه الدخان و تهاوت أعمدته..وقف جوزيف.. مع عدد من رفاقه..
كان ينظر في اتجاهي.. فركضت إليه.. وحين اقتربت منه.. رأيت وجهه حزيناً و عينيه تدمعان !
أعرف.. أعرف يقيناً.. تلك الكلمات التي غصت في حلقه و لم يقدر على النطق بها أمامي..

و دون أن أشعر.. سالت على خدي دموع غزيرة كسيل المطر..
لم تقو ساقاي على حملي و لا حلقي على الصراخ.. فجثوت على ركبتي و دفنت وجهي بين يدي..
بكيت.. و بكيت.. حتى جفت دموعي و قارب بصري على الزوال..
و كان جوزيف يجلس على الأرض بجانبي.. و يربت على كتفي برفق و حنان.. لم يتفوه بحرف.. فعيناه كانتا أبلغ و أصدق في التعبير عن الحزن العميق في قلبه.

لا أدري ما حدث بعدها.. فقد أغمي علي من البكاء.


و عندما استيقظت.. وجدت نفسي.. مستلقية على سرير وثير في غرفة فاخرة ، و شخص ما.. يجلس إلى جواري.
أدرت رأسي.. و إذا بها فتاة ! فتاة بديعة الجمال ! بيضاء بشعر بني مائل للحمرة وعينين زرقاوين.. كجوزيف !

تبسمت بود حين رأتني أنظر إليها و قال بصوت رقيق : ها قد استيقظت أخيراً ! كيف تشعرين الآن ؟!
رفعت رأسي عن الوسادة و أنا أقول : بخير.. لكن من تكونين ؟!

- أنا ماري.. الأخت التوأم لجوزيف !!

دنت مني و أمسكت يدي بيديها الحانيتين و قالت تواسيني : أنت لن تكوني وحدك يا عزيزتي ! سنكون جميعاً إلى جانبك دوماً !
لقد أحببتك من حديث جوزيف فقط و دون أن أراك حتى.. فهل تقبلين صداقتي ؟!

قلت بجفاء : لا أريد شفقة من أحد !
فأطرقت رأسها و ابتسمت بحزن : لو كنت مشفقة على حالك.. لتصدقت عليك ببعض المال و تركتك تذهبين .. ولكن الأمر ليس هكذا ! فدافعي لم يكن الشفقة أبدا ، و إنما المحبة !
أنا الفتاة الوحيدة لأسرتي.. و ليس لدي الكثير من الصديقات ! لذا أريدك أن تكوني أختي و صديقتي في الوقت نفسه ! و أنا لا أطلب ذلك متفضلة عليك.. فأنا التي أحتاج إليك و إلى صداقتك !

قالت كلماتها وهي تنظر إلي بعينين صافيتين تبعثان الأمل و السرور فيمن ينظر إليهما..
فما استطعت أمام لطفها الفياض غير أن أهز رأسي موافقة .. سرت ماري كثيراً و عانقتني بحرارة.


و كانت هي وجوزيف كما وعدت إلى جانبي في كل الأوقات والأحوال.

وهذه الصورة هي آخر ما تبقى لي منهما..<مشيرة إلى الصورة في الكتاب>

مرت السنين.. و السنين..

و تزوج جوزيف من فتاة جميلة تنتمي لأكثر الأسر رثاء و عراقة و أنجب منها ثلاثة أطفال رائعين.. ولدا و بنتين !

قد يغدو ذلك طعنة خنجر في قلب أي فتاة في مكاني .. لكنه لم يكن كذلك عندي..
فبالرغم من حبي الكبير لجوزيف إلا أني لم أتخيل نفسي و لو لوهلة أهلاً للزواج به.
فهو رجل بالغ الوسامة ، يتمتع بذكاء رائع و ثروة هائلة !
أما أنا.. فلا أملك شيئا من ذلك ، لست سوى فتاة فقيرة مشردة لا أهل لها و لا مال.

واصلت العمل كممرضة في أحد المستشفيات -فقد أحببت هذه المهنة- حتى التقيت أخيراً بشريك حياتي -و كان طبيباً بارعا- فتزوجنا و رزقنا بعدها بولدين.

كنا نتبادل الزيارات مرتين في الأسبوع مع أسرة آيون كما لو كنا عائلة واحدة !
كان أبناء جوزيف يحبونني و يدعونني بالعمة لويز ! و أنا كنت أحبهم حباً جما كأبنائي تماماً !

ننظر إليهم بسعادة غامرة ونحن نراهم يكبرون.. يدخلون المدرسة.. ثم يتخرجون منها.. كانت الأيام تمضي بسرعة..
و لم نشعر إلا و الأولاد قد تزوجوا ، و أصبح لهم أبناء ، و صرنا نحن أجداد !
كانت حياتنا رغم المشاكل سعيدة و هانئة !

و أسرة آيون كانت شهرتها و حب الناس لها يزداد يوماً بعد يوم !
خصوصاً بعد رحلة جوزيف إلى أمريكا الجنوبية و إيقافه حربا أهلية كانت نيرانها مستعرة هناك !
إذ نشأ خلاف بين شعبين من بلد واحد على مناجم الماس . كان كل منهم يريد تقسيم البلاد و ضم تلك المناجم إلى قسمه !
فتخاصموا و اختلفوا ثم قامت الحرب !
فتطوع جوزيف للسفر إليهم و محاولة الإصلاح بينهم لإيقاف الصراع !

رفضوا في البداية استقباله خوفاً من أن يكون هذا مجرد ذريعة للدول الأوروبية للتدخل في شؤون بلادهم !
لكن جوزيف أكد لهم أنه قادم بصفته الشخصية فقط و لا علاقة له بسياسة فرنسا !

فسمحوا له بالدخول..
لم يتحدث مع القادة.. لأنه يدرك أنهم يركضون وراء مصالحهم الشخصية دون الاكتراث بما يحل بشعوبهم !
و بدلا من ذلك نزل إلى الشوارع و وقف يحدث الناس من كلا الشعبين :
"الحرب ! هل هي ما تريدونه فعلاً ؟! هل تظنون أن الحرب ستجلب لكم الأمجاد والبطولات ؟!! أنا عشت في الحرب ! وليست أي حرب ! بل حرب عالمية مجنونة ! لهذا أنا أعرف تماماً ماذا ستكون النتيجة ! خراب و دمار في كل مكان ، أناس يبكون أهلهم وأحبابهم ، دخان أسود خانق يحجب ضوء الشمس ! لن يكون هناك فائز ! بل ستكونون جميعا خاسرين !
إنكم تعيشون حياة واحدة فقط ! فهل تستحق تلك الأحجار التافهة أن تضحوا بحياتكم و تمزقوا وحدة بلادكم من أجلها ؟!!"

بدا الناس مقتنعين بكلامه.. لأن مشاعره صادقة تخرج من أعماق قلبه !

لكن.. بالرغم من ذلك.. استمرت المعارك ! فهناك أطراف من الجانبين لم تقبل بالسلم !
كان جوزيف يشك بوجود يد خفية تحرك هؤلاء الناس و تتحكم بهم كالدمى ، لتحقيق غاياتها الخاصة !

فشكل مجموعة سرية مؤلفة من أعضاء متفانين من كلا الشعبين للتحقيق في هذا الأمر !
و قد نجحت هذه المجموعة في مهمتها ، وكانت شكوك جوزيف في محلها !
إذ اكتشفوا وجود منظمة من تجار الأسلحة يقومون بنشر الفتن والنزاعات بين الناس لتقوم الحرب و يكونون هم المستفيدين الوحيدين منها !
أقام جوزيف ثلاث سنوات هناك !
تمكن خلالها من القضاء على تلك المنظمة و القبض على معظم قادتها و تسليمهم للمحاكمة !

و بعد أن عرف الناس الحقيقة الكاملة اقتنعوا بإيقاف هذه الحرب عديمة الجدوى..
و عاد السلام.. ليسود مجدداً !

و احتفالا بهذه المناسبة العظيمة.. أهدى جوزيف تلك البلاد مجسما ضخما يظهر فيه شخصان -كل منهما يمثل شعباً من الشعبين- وهما يتصافحان في ود ،
و قال لهم : "عندما تفكرون في الحرب مرة أخرى.. انظروا إلى هذا النصب التذكاري و تذكروا أنكم يوماً ما استطعتم بارادتكم و قوة عزيمتكم أن تقهروا كل الرغبات الأنانية و النفوس الطامعة ، و تضعوا أيديكم في أيدي بعضكم لتبنوا هذا البلد معاً !"


هكذا.. كان جوزيف آيون !

◇◇◇◇

تنهدت الجدة و توقفت عن الكلام..
فطرحت سؤالا كان يدور في ذهني : ولكن أين هو الآن ؟!!

أظن أن هذا السؤال.. هو أكثر ما كانت الجدة تخشاه.. و تتجنبه.
فقد رأيت دموعاً غزيرة تعتصر في عينيها تكافح الجدة حتى تمنعها من النزول..

نظرت إلي.. بابتسامة حزينة مغمورة بالألم : لقد مات ! ماتوا جميعاً !!

فتحت عيني على اتساعهما و قلت مصدومة : ماذا ؟! كيف حدث ذلك ؟!!

أجابت الجدة وقد غلبتها دموعها و سلكت طريقها على خدها : لقد احترق قصرهم ، و مات كل أفراد الأسرة.. جوزيف ، زوجته ، ماري ، الأبناء و الأحفاد ، الجميع حتى الخدم !

اقتربت من الجدة و طوقتها بذراعي .. و تمتمت و دمعتان تسيلان من عيني : أنا آسفة جدتي.. لقد جعلتك تتذكرين كل آلامك و أحزانك..

قالت الجدة و هي تضع يدها على رأسي : لا لم تفعلي.. فأنا لم أنسها أبداً ، و كل ما قمت به أنت.. هو أنك جعلتني أخرجها من داخلي.. كما تخرج السكين من الجرح ، مؤلمة في لحظتها.. لكنك سترتاحين بعدها..
إنني أفضل حالاً الآن عزيزتي شكراً لك.. فلم أتحدث مع شخص عن هذا الأمر منذ مدة طويلة جداً..

نظرت مجدداً إلى الصورة في يد الجدة.. ثم تلقائياً رميت سؤالا متحسرا : لماذا.. لماذا.. يموت الصالحون هكذا ؟! إنهم.. يرحلون .. حتى نظن أن العالم لم يعد فيه الا الأشرار السيئون !

أجابتني الجدة و ابتسامة أليمة تشق طريقها بين الدموع : لقد أصبح الموت رحمة يا عزيزتي !
في هذا العالم القاسي.. الموتى هم الأكثر حظا و راحة !
و الناس الصالحون.. لأنهم صالحون لا يستحقون المعاناة فيه !
لهذا.. هم يموتون !














احم.. قد يأتي أحد ما و يقول : و ما فائدة هذه القصة ؟! لماذا هذا التمطيط ؟!

حسنا.. هذه الحكاية التي قد تبدو مملة و بلا أهمية لا يمكن إطلاقا الاستغناء عنها و ستدركون بأنفسكم مدى أهميتها في الفصول القادمة





رد مع اقتباس