عرض مشاركة واحدة
  #73  
قديم 04-11-2016, 05:24 PM
 




الفصل الرابع عشر





"ماذا تقول ؟!!"

هذا كان رد فعلي حين أخبرني كلارك باﻷمر . فقد جاء إلى منزل لونا لإعلامي بما حصل !

كانت أفكاري مشوشة مشتتة و عقلي مضطرب !
حدقت في كلارك قائلة بانفعال : الكونت ! الكونت.. أنقذ نواه و اﻷطفال من الموت ؟!!

تنهد اﻷمريكي و هز رأسه باﻹيجاب.. ثم أضاف بغم : المشكلة الحقيقية ليست هنا.. < مد إلي صحيفة كان يحملها و أردف : بل هنا !

أخذتها منه و طالعت الخبر اﻷول فيها...و كان عنوانه :

"العقارب.. مجرمون أم أبطال ؟!!"

ثم كتب تحته :

"احتجاجات أمام مركز الشرطة في باريس !
و قد رفع المحتجون لافتات تطالب بإقالة رئيس الشرطة و ذلك لفشله في إنقاذ اﻷطفال المختطفين !"

هنا تقدمت وأشعلت التلفاز على إحدى القنوات المحلية التي تبث نقلاً مباشرا لتلك الاحتجاجات !

كان اﻷمر رهيبا !
الناس متجمعون حول مركز الشرطة ، يهتفون بغضب و يرفعون لافتات تهين أجهزة الشرطة و تنعتها بالمتخاذلة و عديمة الكفاءة !

تقدمت مراسلة القناة من أحد المحتجين لتسأله قائلة : أخبرنا سيدي.. ما الذي يدفعكم للتظاهر هنا ؟!
التفت الرجل و بث غيظه في وجه الكاميرا : نريد أن يقدم رئيس الشرطة و معاونوه استقالتهم فهم غير جديرين بهذه المسؤولية ! لقد فشلوا تماماً في إنقاذ اﻷطفال المختطفين ! و لولا الكونت لقتل أولئك الصغار بوحشية ! <ثم أضاف بسخرية حارقة : إنهم يدعونه بالمجرم ، لكن هذا المجرم أنجز بذكاء ما كان يتوجب عليهم "هم" إنجازه ! إنه أجدر منهم بذلك المنصب الذي وولوه !

صحت : يا إلهي !

لم يكن كلام اﻵخرين مختلفاً عن ذلك الرجل..

"الكونت رجل نبيل ، لقد أنقذ اﻷطفال ، فلا يحق ﻷؤلئك الفاشلين نعته بالمجرم !"

"رجال الشرطة عديموا الفائدة ! كيف نتوقع منهم حمايتنا و هم لم يتمكنوا من حماية أبنائهم حتى !"
(قاصدا بكلامه السيد أوتيير)

"لقد أنقذ الكونت ابني من الموت ! فشكراً له ! شكراً له !"

كان الأخير والد أحد الأطفال الذي اختطفوا و قد بكى بسعادة و امتنان عظيم أثناء قوله ذلك..

ارتميت فوق الاريكة و الصدمة لم تفارقني : لا أصدق ما يحدث !

قال كلارك بأسى : وماذا يقول المحقق أوتيير إذن ؟! لقد وقعت هذه المصيبة كلها فوق رأسه ! و هو الآن في المشفى بعد أن أغمي عليه !
صحت و أنا أهم بالنهوض : ماذا ؟! في المشفى ؟! يجب أن أذهب لزيارته إذن !

- أجل ، يجب أن نذهب فالدكتور كروست ينتظرك هناك أيضاً !

سألته الجدة بقلق و نحن نتجه نحو الباب : لكن أين لونا ؟!! فهي لم تعد للمنزل منذ ليلة أمس !
أجاب كلارك قائلا : إنها مع نواه في منزل المحقق ، و قد تعود بعد قليل..


****


بعد وصولنا للمشفى..
اتجهنا إلى الغرفة التي يشغلها السيد أوتيير.. كان يجلس على سريره متكئا إلى وسادتين ، و حين التفت إلينا.. بان على وجهه ذلك البؤس الذي يرهق قلبه.. كان في حالة يرثى لها بحق !

ألقيت التحية ثم جلت ببصري بين الموجودين في الغرفة.. السيدة أوتيير ، المحقق آوتنبورغ ، الدكتور كروست ، بيكارت... و جان !
حملقت في ذاك الأخير بدهشة قابلها هو بعبوس ولا مبالاة.

أخذت كرسيا بجانب الدكتور ، فبدؤوا حديثهم أو بالأحرى استأنفوه ، إذ بدا من تعابير وجوههم المتحفزة أن نقاشا ساخنا كان يجري هنا !
قال الدكتور للسيد أوتيير مبديا اعتراضه : لا يمكنك أن تفعل هذا ! سيعده أؤلئك المجرمون استسلاما و انهزاما من جانبنا !

هز المحقق الألماني رأسه موافقا على كلام الدكتور و أضاف مؤكداً : نعم بالضبط !
كانت إشارات الاستفهام تتطاير فوق رأسي ، فسألت ببلاهة : ما الذي تتحدثون عنه ؟!
أجابني بيكارت دون أن يبدو عليه الكثير من الاهتمام : السيد أوتيير يريد تقديم استقالته !

التفت نحو المحقق الفرنسي معاتبة : لماذا ؟!! ليس عليك أن تأبه بما يقولوه أؤلئك الناس فهم مخدوعون !

تنهد المعني بأسى و كآبة : ليس ذلك السبب ! لقد فشلت فعلاً في أداء واجبي ! كيف سيتوقع الناس الحماية و الكفاءة من شخص لم يستطع حتى إنقاذ ابنه ؟!! < صمت لحظة ثم أضاف بنبرة صارمة و نظرة حادة تلوح في عينيه : لكن هذا لا يعني إطلاقاً استسلامي لذلك المجرم اللعين !

فبدأ الدكتور يتحدث منبهرا : لقد كانت حركة شيطانية لم تخطر على بالنا إطلاقاً ! إن دراكولا بالفعل ذو شخصية فريدة و تفكير مدهش !

أضاف كلارك : هذا أكيد ! فأي مجرم في مكانه كان سيقتل نواه أو يأخذه رهينة لتهديد السيد أوتيير وردعه عن هدفه ! ولكنه كان أذكى من ذلك ، فهو يدرك جيداً أن هذا التصرف سوف يزيد من إصرار المحقق على مواصلة تحقيقه ! كما أنه سيناقض كلامه عن العدالة والشرف ، و يبدو للناس مجرد مجرم مخادع !

كز السيد أوتيير على أسنانه بغضب : لهذا.. أقدم على ما لم يكن متوقعا منه ! أنقذ ابني والأطفال مظهرا في ذلك كل البراءة و الشهامة و ضرب عصفورين بحجر واحد ! السيطرة على عقول الناس و إقناعهم بنبل أهدافه ، ثم استمالة ابني إلى صفه و التحكم به كالدمية لجعله يقف في وجهي !
هذه هي لعبته اللعينة ! لا يهتم بإزهاق الأرواح بل بسلب العقول !

كان من الواضح أن السيد الفرنسي يشتعل غضبا و غيظا.. لذلك آثرنا الصمت حتى يهدأ...

لكزني الدكتور.. و همس قائلاً : بعد ثلاثة أيام سيكون لدينا موعد مهم للغاية !

سألت باهتمام : موعد ؟! من أي نوع ؟! ومع من ؟!
عبس الدكتور مفكراً ثم قال : إنه اجتماع ! إجتماع مهم لمعظم ضحايا العقارب "المحتملين"!

فغرت فمي من الدهشة.. فضحك ثم قال : سيعقد في قصر المليونير باتاي...لكنه سيبدو من الظاهر مجرد حفلة بمناسبة تخرج ابنه من الجامعة ! لذلك عليك أن تجهزي نفسك جيدا ً!

أومأت بحماس : نعم بالطبع سأفعل !

- جيد ! هذا كل ما أردت إخبارك به !

فالتفت نحو السيدة أوتيير و سألتها : كيف هو نواه سيدتي ؟! آمل أنه بخير !

رسمت على وجهها ابتسامة عريضة : إنه بخير عزيزتي ! شكراً لك على وقوفك معنا في تلك المحنة.. < فجأة وضعت يدها على رأسها و تأوهت : أوه لونا لا تزال عندنا ولم تعد لبيتها ! يا إلهي لا شك أن الجدة قلقة عليها الآن ! < حولت بصرها إلى جان و قالت برجاء : جان عزيزي هل يمكنك..

قاطعها قائلاً و هو يترك مكانه : أعرف ، سأذهب إليها.

قمت كذلك و قلت له : أريد الذهاب معك أيضاً لأرى نواه !

حدق في لبعض الوقت.. لكنه لم يقل شيئاً ، أو يبدي اعتراضاً.. فغادرنا المشفى معا.

كنت متلهفة إلى أقصى حد ، لأرى الطفل الذي قابل شادو وجهاً لوجه ، و أنظر في العينين اللتين أبصرتاه كما لو كان وجه الأخير ما زال منعكسا على بؤبؤيه.

مشيت مع جان بصمت.. حتى وصلنا إلى منزل المحقق.

هناك.. وجدنا لونا واقفة في الرواق المؤدي للمطبق تحادث امراة ذات شعر بني مموج قصير لم أرها من قبل !

و حين انتبهت لونا لوجودنا ابتسمت قائلة : أوه لقد أتيت آنسة ماكستر ! كيف كانت ليلتك الأولى في منزلنا ؟! آمل أنك مرتاحة !
قلت ممتنة : أجل أنا كذلك شكراً جزيلاً لك على استضافتي ! و..<أضفت و أنا أشعر بالحرج مما قلته سابقًا : نادني ويندي فقط !

اتسعت ابتسامتها الساحرة أكثر و قالت تعرفني على المرأة بجانبها : حسناً ويندي ، أعرفك على ميليسا صديقتي و والدة لوكا أيضا ! <ثم التفت نحو ميليسا و أكملت : ميليسا ، هذه ويندي ماكستر ! صديقتي البريطانية الجديدة !

صافحتني ميليسا بحرارة و ابتسمت بود : سررت بمعرفتك ويندي ! أنا صديقتك كذلك ! فكل أصدقاء لونا هم أصدقائي !

- سررت كذلك بمعرفتك ميليسا و تشرفني صداقتك !


في حين كان جان يستند على الحائط و ينظر إلينا ببروده المعتاد ، و عند انتهائنا من التعارف قال بملل ساخر : هل انتهيتن أخيراً ؟!! لونا ، السيدة أوتيير تطلب منك العودة إلى بيتك فهي تعتقد أن جدتك قلقة عليك !

ردت لونا قائلة : لا بأس لقد اتصلت بها قبل دقائق وأخبرتها أنني سأعود بعد ربع ساعة !

سألت رفيقتي وأنا أطوف بناظري في كل الأرجاء بحثا عن الصبي : أين نواه ؟!

- إنه يشاهد التلفاز في غرفة المعيشة ! تريدين رؤيته صحيح ؟!

- نعم !

اتجهنا نحن الاثنتان إلى الغرفة المطلوبة ، بينما ظل جان و ميليسا في الصالة.. فتحت لونا الباب بهدوء..
كان نواه يجلس على الأريكة بجانب أخيه ، و يشاهد التلفاز أثناء تناوله بعض المعجنات ، و حين سمع صوت الباب التفت ليرانا..

هل هذا هو الطفل الذي قابل شادو حقاً ؟!! لا شيء.. لا شيء من تعابيره و تصرفاته يدل على ذلك ! إنه كما رأيته آخر مرة ، هادئ مغرور و حاد الطباع !

تحدثت لونا إليه و نحن نخطو للداخل : هذه ويندي جاءت تطمئن عليك نواه ! لقد ظلت تبحث عنك طوال الليل معنا !

هنا...ابتسمت له قائلة : الحمد لله على عودتك سالماً يا نواه !

- آه..شكراً لك !

قالها بلا اكتراث حقيقي و كأنه لا يعنيها حقاً.

كنت أود بشدة سؤاله عن كل تفاصيل لقائه بشادو !
لكن.. لم يبد عليه أي استعداد أو اهتمام للإجابة على أسئلتي أو حتى الإنصات لما أقوله..
لذلك.. أكرهت على الانصراف ، و أنا أحس بخيبة كبيرة..

إنه ليس طفلاً عادياً أبدا ! فالأطفال في مثل سنه يحبون الثرثرة والتباهي بما يفعلونه ! و لو كان أي طفل أخر مكانه لما انفك عن الحديث حول الموضوع و تكراره عشرات المرات ! ألهذا السبب اختاره شادو من بين جميع الأطفال ؟!!


عندما عدنا إلى الصالة.. اندفعت ميليسا نحونا و قالت باحراج مخاطبة لونا : لونا عزيزتي ، أعتذر بشدة على إزعاجي الدائم لك .. لكن هل يمكنك إبقاء لوكا معك غدا أيضاً ؟! فزوجي اتصل بي قبل لحظات و أخبرني أنه لن يعود للمنزل إلا بعد يومين ، و أنا كما تعلمين لدي برنامج مهم لذلك لا يمكنني..

ردت لونا بابتسامة لطيفة : بالطبع عزيزتي ، لكن ألم يتأخر زوجك في سفره هذا ؟!

- يقول أن الفيلم الذي يعمل على إخراجه سيستغرق أكثر مما كان متوقعا ، و ذلك بسبب غياب بعض الممثلين الرئيسيين !

فتدخل جان قائلاً بتهكم و هو يسند ظهره إلى الكرسي ويضع يديه تحت رأسه : الفيلم ؟! آه.. سمعت أن العمل عليه متوقف منذ أسبوعين !

قطبت ميليسا حاجبيها و قالت بحدة : ما الذي تقصده ؟!!

أجاب جان ساخراً بوقاحة : أقصد أنك بلهاء ! رغم أن زوجك مخرج سينمائي جيد إلا أنه لم يفلح في ابتكار كذبة مقنعة ، و أنت تصدقين ما يقول لك بكل سذاجة !
فارت الدماء في وجه ميليسا و بدا أنها تحاول جاهدة المحافظة على هدوئها : ما الذي تريد قوله ؟!!

فأدار جان وجهه : أظنك تعرفين جيداً ما أرمي إليه..

احتقن وجهها .. فتحت فمها لتتكلم لكنها أحجمت عن ذلك بسرعة ، ثم التقطت حقيبتها و رحلت بعدما صفقت الباب وراءها بعنف !
التفت أنا نحو جان بنظرة قارعة : لماذا قلت لها ذلك ؟!!

- ليس من شأنك !

فاستدرت نحو لونا أنتظر التأييد منها.. لكنها فاجأتني بسكوتها التام !


*****

في المساء.. و نحن نرفع الصحون بعد العشاء.. رن جرس الباب .
فأعادت لونا الأطباق التي تحملها للمائدة مرة أخرى و أسرعت تجيب الطارق .
كان باستطاعتي و أنا في المطبخ سماع صوت الزائر -الذي عرفته من فوري-.. كان ميليسا !

رميت الصحون في الحوض ، و خرجت من المطبخ للقائها..
كانت الدموع رطبة على وجنتيها.. و صوتها لا زال مقطعا من البكاء..

ناولتها كأساً من عصير الليمون.. جلست تتجرعه على مهل.

و قلت لها بأسف : إذن.. فشكوك جان كانت في محلها ؟!

لم ترد.. و ظلت تحدق في الفراغ بعينيها الدامعتين..
و بعد فترة من الصمت..نطقت أخيراً كلماتها المليئة بالحسرة و الألم : لم أتوقع ذلك منه.. لقد أحببته و وثقت به.. لكنه كان يخدعني طوال الوقت ! أوهمني بحبه فقبلت الزواج منه ، غير أنه كان كاذباً ! و بينما كنت أنتظر عودته بشوق كان هو يخونني دون أن يشعر بأي ذنب أو ندم ! و فوق ذلك و بكل وقاحة يريد الطلاق -بعدما كشفت أمره- ليتزوج من تلك المرأة !

فقالت لونا بجدية : وهل ستقبلين ؟!

نظرت إليها متعجبة و هتفت نائحة : وهل تريدينني أن أستمر بالعيش معه بعد كل هذا ؟! بالطبع سأقبل فأنا لم أعد أطيق حتى سماع اسمه !

في تلك اللحظة..
أجفلتنا لونا ، إذ -و لأول مرة منذ التقيتها- صرخت بغضب هائل في وجه ميليسا : لا تبكي يا حمقاء !

فغرت الأخيرة فاها و هي عاجزة عن استيعاب هذا الانقلاب المباغت في طباع صديقتها الرقيقة ! بينما كنت أراقب بذهول و أضحك في سري !

أكملت لونا و لشدة غضبها بدا شعرها الأحمر كألسنة لهب حارقة : إن بكيتي مجدداً سأقتلع عينيك !!

إنها مرعبة ! لم أتوقع إطلاقًا وجود جانب كهذا عند فتاة رقيقة مثلها !

أومأت ميليسا بإذعان و الخوف باد عليها.. كدت أختنق من الضحك وقتها !
رمقتني لونا بحدة.. فصمت و وضعت يدي على ركبتي.. كطفلة صغيرة مشاكسة تلقت توبيخا من والدتها الغاضبة !

قالت ميليسا مرتجفة : وما .. الذي سأفعله إذن ؟! أنا لم أعد أريد .. البقاء معه !
استرخت لونا في جلستها و قد استعادت هدوئها و وقارها : و من قال أنني أطلب إليك الاستمرار معه ؟!!

سألت المسكينة حائرة : ماذا إذن ؟!! أقتله ؟!!

ابتسمت لونا ابتسامة ماكرة و هي تضع ساقها فوق الأخرى : لا ، هذا تصرف همجي أحمق لا يناسب مذيعة مشهورة باللباقة والتحضر مثلك ! ما أريد قوله هو أن.. عليك أن تنتزعي منه كل شيء أولاً ثم تعطيه الطلاق !

اتسعت عينا ميليسا في دهشة : و كيف ذلك ؟!!

- هذا سهل جداً ! فكما تعلمين الطلاق لا يمكن أن يتم إلا بموافقة كلا الطرفين ! وأنت لن تمنحيه إياه الا بعد أن تستحوذي على كل ما يملك من مال !

اعترضت ميليسا قائلة : ولكنني لا آبه بالمال !

فقالت لونا بحنق : و لكنه يهتم له يا بلهاء ! فكري جيداً ما الذي يدفع امرأة للزواج من رجل فاسد بدين و دميم غير الطمع في ثروته ؟!! هو لن يهتم لمشاعرك المجروحة فهو لم يكن صادقاً يوماً في حبه لك ، لذلك إن أردت الانتقام منه فيجب أن تذهبي غداً للمحكمة و تقومي برفع قضية عليه بسبب الخيانة ، و حينما يطلب الطلاق لن توافقي إلا بعد أن يدفع لك مبلغا ضخما من المال !

ظهر التوتر قويا على سحنة ميليسا : لكني لم أدخل محكمة من قبل ، و لا أعرف كيف أتصرف !

- لا تقلقي سأخبرك بكل ما يتوجب عليك قوله و فعله ، و كيف تستغلين القانون لصالحك !

- آه بالطبع نسيت أنك تدرسين القانون ! سأعتمد عليك إذن !


إن هذه الفتاة كارثة ! لا يسعني إلا الشعور بالشفقة على الرجل الذي سيتزوجها ! هي الأصغر بيننا لكننا نبدو مقارنة بها مجرد طفلتين جاهلتين !!


****


بعد يومين في الساعة التاسعة صباحا خرجت أنا ، لونا ، ميليسا ، و أصل المشاكل جان متجهين إلى قاعة المحكمة !

أعلن بدء الجلسة بعد حضور زوج ميليسا.. عندئذ وقفت الأخيرة بثبات أمام القاضي.. و نفذت بثقة و دقة تعليمات لونا الذكية !
كان زوجها يقف متسمرا في مكانه ويحدق فيها ببلاهة ! يبدو أنه لم يتوقع هذا القدر من الدهاء منها !
كانت تعابير ميليسا الهادئة الصلبة و حججها القانونية المتينة.. هي السبب في اقتناع القاضي و المحلفين بكلامها ، و صدور الحكم لصالحها ! و اضطر الزوج المغلوب على أمره إلى الرضوخ لمطالبها و دفع مبلغ كبير من المال لها ، و كانت ميليسا لطيبتها قد طلبت فقط نصف المبلغ الذي اقترحته لونا !

استقبلها الصحفيون خارج القاعة بوابل من الأسئلة اكتفت بالرد عليها بابتسامة انتصار ، ثم تخطتهم.. و هبطت المدرج قاصدة سيارتها !
تبعناها نحن الثلاثة.. و قبل أن تغادر.. تقدمت من لونا و قالت بسعادة و امتنان : شكراً لك عزيزتي ! لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك ! إنني أشعر بقوة وثقة لم أعهدها من قبل ! <ثم التفت نحو جان وأضافت : شكراً لك أنت أيضًا جان ! فلولاك ما كنت لأدرك الوهم الذي عشت فيه !

آه.. و أنا ؟!! تبا.. لم تشكرني على عصير الليمون !

و بينما هي تعبر عن امتنانها .. لمحت شخصاً ما يقترب منا.. كان شاباً قد تجاوز العشرين ، طويل ، حنطي البشرة ، عينياه صفراوان بلون الذهب ، و شعره البني اللامع مسرح إلى الخلف.. وسيم و جذاب للغاية !

لوحت له ميليسا بابتسامة عريضة.. ثم قالت لنا : أعرفكم على أفضل أصدقائي في العمل.. آدم ريغال !

تبسم آدم بدوره ابتسامة فاتنة و أخذ يصافحنا بود و هو يقول : أنتم أصدقاء ميليسا إذن ! تشرفت كثيرا بمعرفتكم .. خصوصاً أنت !

كان حينها يخاطب لونا ، أكمل معللا : لقد حدثتني ميليسا كثيرا عنك !

فما كان من صديقتي إلا أن توردت و جنتاها و خفضت رأسها بحياء.. ثم التفت نحو ميليسا تزم شفتيها معاتبة .. غير أن الأخيرة قد ركبت سيارتها و لاذت بالفرار !

عندها.. و بشكل مفاجئ سحب جان لونا من ذراعها.. ليفصل يدها عن يد آدم -التي كانت لا تزال تمسكها- و هو يقول ببرود : لقد تأخرت أيتها المهملة ! يجب عليك العودة للمنزل لإعداد الغداء لجدتك أم تريدينها أن تعده بنفسها ؟!!

قالت لونا محتجة : لكني أعددته لها قبل مغادرتي !

- نظفي منزلك إذن !

-منزلي نظيف.. أيها الأحمق !

نظر إلى المحلات على جانبي الطريق.. ثم قال بمكر : هناك تخفيضات كبيرة في الأسواق و هي لمدة محدودة !

قطبت لونا حاجبيها مفكرة : حقاً ؟!! يجب علي استغلال هذه الفرصة !

ذاك الخبيث يعرف جيداً نقطة ضعف النساء !


كنت أنا ما أزال واقفة أنظر إليهما بجانب آدم الذي ظل هادئاً.. و لم يبد عليه الغضب أو الإنزعاج من تصرف جان الوقح ، بل كان الاندهاش هو الأقرب لوصف حاله !

كنت مترددة.. هل علي قول شيء له ؟!!

و حالما فتحت فمي لأتحدث تبعثرت كلماتي و ضاعت عباراتي في الهواء : أنا.. جان.. أعني.. آسفة.. وداعاً !

و ركضت خلف لونا و جان و أنا أصيح : انتظراني !

تبا للباقتي الفذة ! لقد تصرفت بشكل أسوأ ! كنت مرتبكة فعلاً و لم أعرف ماذا أقول له !


عندما أدركتهما أخيراً.. سألت : إلى أين تذهبان ؟!!

أجابت لونا مبتسمة و قد تحررت من قبضة جان : سنذهب للتسوق ، هناك تخفيضات !

قلت بسرور : رائع ! فأنا أريد شراء فستان للسهرة !

- حقاً ؟! سآخذك إذن إلى متجر رائع لفساتين .. بأسعار جيدة !

غمزت لي و هي تضيف عبارتها الأخيرة .. فضحكت.. إنها تدرك جيدا بأني مفلسة !


كان المتجر الذي قصدته لونا صغيرا لكنه في الوقت نفسه جميل و مرتب و في الواقع لا أرى فرقا بين معروضاته و معروضات ما تسمى بالمتاجر الراقية !

ظل جان واقفاً قرب المدخل.. بينما دخلت مع لونا و انتقينا ثلاثة فساتين لأقوم بتجربتها .. جربت الأول.. فقال جان ببروده المستفز : ليس جميلاً !

و قالت لونا ممعنة النظر فيه : إنه ضيق جدا ! جربي واحدا آخر !

ارتديت الثاني.. و قال جان مرة أخرى : ليس جميلاً !

- أظنه لا يتناسب مع لون بشرتك ! جربي الثالث !

كان الثالث جيداً جداً.. من كل النواحي ، فقالت لونا باعجاب : إنه رائع !

أما جان.. فللمرة الثالثة : ليس جميلاً !
هنا.. صحت فيه نافذة الصبر : ألا يعجبك أي فستان ؟!!

نظر إلي ببرود قاتل ثم قال متهكما : ليست الفساتين من لا تعجبني.. بل أنت !

- ماذا ؟! لا أعجبك لأن ذوقك سيء ! <ثم أضفت بغرور مصطنع : الجميع يحبون الشقراوات الطويلات النحيلات.. و هن الأجمل !

- آه حقاً ؟!! لكني لم أسمع أحداً يقول أن "الزرافات" جميلات !

لم تستطع لباقة لونا الصمود أكثر فانفجرت ضاحكة.. أما أنا فكنت أمسك بصعوبة يدي التي تريد خنقه !


اشتريت الفستان الأخير و خرجنا من المتجر.. ثم تجولنا في بعض المحلات القريبة.
كنا أنا و لونا نحمل الأكياس كلها.. و لم يكلف ذلك المتبجح نفسه عناء تقديم المساعدة لنا !

كان قد تقدمنا..
فخطر لي سؤال لم أتريث في طرحه على لونا و نحن نصعد على الرصيف : هل يمكنني ان أسألك سؤالاً خاصاً ؟!!

التفت إلي ثم ضحكت قائلة : نعم بالطبع يمكنك !

- حسناً.. أعرف أن الأمر لا يخصني.. لكنني أشعر بالفضول.. هل أنت مرتبطة ؟!!

توقفت عن السير و رمقتني بنظرة غريبة .. لا أدري هل تخيلت أم أني فعلا لمحت فيها نوعا من الأسى ؟!
قالت : لا..

- غريب !

- لماذا ؟!

- حسناً.. لأنك فتاة جميلة للغاية ذكية و حنونة و أي رجل يتمناك !

فابتسمت ابتسامة خفيفة لم أجد فيها سرورا : شكراً لك على هذا المديح ، لكني.. لم أجد من يناسبني !

- آه هكذا إذن..

- ماذا عنك أنت ؟!

قلت ببعض الحسرة الساخرة : أنا ؟! ليس هناك من يحبني ، فأنا فتاة عادية تماماً و لا أملك أية جاذبية ، كما أن الناس لا يحبون تصرفاتي و ينعتونني بالطفلة أو غريبة الأطوار !

لم يكن لدي وقتها ما يكفي من الجرأة لأخبرها أن الرجل الذي أعجبت به يحبها هي و لا يهتم لأمري..

فقالت لونا و نظراتها الحانية تبدد حزني : لا تكوني غبية ! أنت في غاية الروعة ! الحب للجمال وحده لا يعدو مجرد إعجاب و لا يمكنه أن يدوم ! كونك لم تجدي من يحبك لا يعني أنك ناقصة ! فأغلب الناس يسحرون بالمظاهر و لا يقدرون قيمة الأشياء حتى يفقدوها ! لا تحزني إن لم يقدر أحد قيمتك فالماس يبقى ماسا مهما قال الجهلاء أنه حجر !

شقت ابتسامة واسعة طريقها إلى وجهي .. كم أبهجتني كلماتها الرقيقة ! إنها رائعة بحق ! لا أصدق أني كنت من الغباء بحيث كرهتها !

قلت لها مداعبة : أتدرين ؟! أحياناً تقولين كلاماً حكيماً على طريقة جان النزقة !

و ضحكت ملء فمي بينما صاحت هي باستياء : أنا أشبه جان ؟!!

فالتفت المعني نحونا مقطبا حاجبيه و الشرر يتطاير من عينيه كما لو كان يبغي قتلنا !
لكن.. حدث شيء غريب ! فقد تحولت تعابيره الباردة الساخرة فجأة إلى الجدية التامة والتوتر الشديد !

استدرنا أنا و لونا للخلف لنر ما شاهد .. لكن لم نجد أي شيء خارج عن المألوف !

سألته لونا بقلق : ما بك ؟!

اقترب منا و هو يتمتم : لا شيء.. لنعد للمنزل !
هزت لونا كتفيها : حسناً.. لم يعد لدينا ما نرغب بشراءه على أية حال !

إنه بالفعل يتصرف بغرابة !
كان في البداية يتقدمنا بلا مبالاة و كأنه يسير وحيداً ! أما الآن.. فهو يمشي معنا خطوة بخطوة ! و لم يتركنا حتى رآنا ندخل المنزل و نغلق الباب خلفنا !

بحق الله !! ما الذي شاهده حتى ينقلب حاله هكذا ؟!!



*****


كان الليل قد أرخى سدوله عندما دخلت المطبخ على لونا و هي تعد السلطة.. فتحت فمي لأتكلم.. لكنها منعتني بإشارة من يدها و قالت : لا أحتاج مساعدتك عزيزتي !
ضحكت بصوت عال.. لقد اتعظت من المرة السابقة و لم تعد تسمح لي بتخريب أعني مساعدتها في الطبخ !

قلت : كنت سأقول أنني أريد عصيراً فقط !
ضحكت هي كذلك و ردت بمكر : أوه حقاً ؟!< ثم قالت : هل يمكنك أن تناوليني الملح ؟!
اتجهت نحو رف التوابل و أخذت علبة الملح.. ثم التفت إليها عابسة : إنها فارغة !

- ألم نشتري بعض الملح في طريقنا ؟!!

- لا أذكر ذلك..

فتركت السكين و الملعقة الخشبية على الطاول قائلة : سأذهب لشراءه إذن !

- هل أرافقك ؟!!

- لا داعي لذلك فالمحل قريب !


ارتدت معطفها و غادرت.
و ريثما تعود.. قمت بتجهيز الأطباق و توزيعها على المائدة.. ثم جلست مع الجدة في غرفة المعيشة.
سألتني عن لونا فأخبرتها أنها ذهبت لشراء الملح.

مضت نصف ساعة على ذهابها !
فبدأ القلق يسيطر علينا و الوساوس تخيفنا !

انتصبت واقفة و قلت : سألحق بها !

و بينما أخطو نحو الباب.. رن الجرس !
فأسرعت لفتح الباب.. و كان من يقف خلفه شرطيا !

قال بطريقة رسمية : مساء الخير ! هل هذا هو بيت أسرة آردوان ؟!!

هززت رأسي.. فسأل أيضاً : ومن تكونين يا آنسة ؟!

أجبت بارتباك : أنا.. أنا ويندي ماكستر ، صديقة لحفيدة الأسرة !

عندها.. تنهد عميقاً... ثم قال كلماته بصعوبة : أنا آسف حقاً آنسة ماكستر.. لكن.. صديقتك... ماتت !!!











رد مع اقتباس