عرض مشاركة واحدة
  #77  
قديم 04-14-2016, 06:25 PM
 




الفصل الخامس عشر
ج1





حدقت فيه ببلاهة.. و عيناي المشحونتان بالرعب و الصدمة تجحظان..
ثم رددت ما قاله بكل ما أمكنني من استنكار : ماتت ؟!! ما الذي تقوله ؟!! لقد .. لقد ذهبت لشراء الملح من متجر قريب فقط !

أطرق الشرطي رأسه بتعاطف مؤلم و تنهد عميقا : أنا آسف حقاً آنستي.. لكن.. لقد عثر على صديقتك مقتولة بالرصاص في الرواق المؤدي لذلك المتجر !! وصاحبه هو من تعرف عليها !!

تجمدت في مكاني من هول الفاجعة.. و دون أن أبعد نظري عنه.. انسابت الدموع بغزارة على وجنتي.. صحت : أنا لا أصدق ما تقوله !! أنت تكذب !! ما الذي يدفع أي شخص لقتل فتاة طيبة مثلها ؟!!

و قال الشرطي بأسى : و منذ متى يقع القتل على مستحقيه ؟!! أغلب ضحايا الجرائم التي تحدث هذه الأيام أبرياء لم يقترفوا أي ذنب ! <ثم أدار بصره بعيداً عني و أردف : لابد أن القاتل مريض نفسي ! فلا أرى دافعا آخر لتلك الجريمة !

هويت إلى الأرض.. باسطة كفي على سطحها .. عساها باتساعها تبدد ذلك الألم الرهيب الذي انغرس كالسكين في قلبي.. و ببرودتها تطفئ النار التي اضطرمت داخل صدري..
هذة المرة الأولى التي أجرب فيها إحساسا كهذا ! فأنا لم يسبق لي من قبل أن فقدت شخصاً عزيزاً ..


مهلا !
الجدة !! الجدة المسكينة !! كيف.. كيف سأخبرها ؟!! مستحيل ! ليس في استطاعتي ذلك .. لا يمكنني أبداً !
كنت تائهة في أفكاري.. أتخبط بين ظلماتها .. و لم أسمع حديث الشرطي معي حتى أعاده ثلاث مرات !

- يا آنسة ! أين السيدة لويز آردوان ؟!! سأبلغها بنفسي فيبدو أن لا قدرة لديك لفعل ذلك..

لكن.. لا.. لا حاجة لذلك ! فالجدة كانت واقفة طوال الوقت أمام باب الغرفة.. و سمعت كل شيء !!

كافحت لأرفع نفسي عن الأرض.. ثم خطوت نحوها..
كانت دموعها الحارة تتدفق كالسيل عبر تجاعيد وجهها .. بسكون دون أنين أو صراخ !
قالت للشرطي و صوتها يرتعش ألماً : أين .. هي ؟!! أريد ... رؤيتها !


تقدم الشرطي و أمسك ذراعها اليمنى برفق فيما أخذت أنا الأخرى.. و ساعدناها على المشي إلى السيارة..


هذا مروع و قاس للغاية ! من عساه قد يفكر في قتل لونا ؟!! هل كان حقاً مجرد مريض نفسي كما خمن الشرطي ؟!!
لا.. حدسي يخبرني أنه شخص يعي تماماً ما يفعل !!
هل هم العقارب يا ترى ؟!! لا ، لا يمكن ! فهم ليسوا همجيين ليفعلوا ذلك حتى لو كانوا يستهدفونني ، فما علاقة لونا بالأمر ؟!
من هو القاتل إذن ؟!!


وصل إلى مسامعنا و نحن نجر أقدامنا عبر الحديقة صوت مألوف يقول : ما الذي حدث ؟!!

كان السائل هو.. جان !!
هرع إلينا فيما يعيد سؤاله بقلق مضاعف : أخبروني.. ما الذي حدث ؟!!

لم يملك أي منا الشجاعة لإطلاعه بما وقع.. و بدلا من الرد أخفضنا رؤوسنا.. و الدموع في عيوننا تتلألأ تحت ضوء القمر الخافت...

تلفت حوله .. ثم سأل و وجه قد غدا شاحبا شحوب الموت السؤال الأكثر قسوة : أين لونا ؟!! <و تطلع إلي و صاح : ألم تعودا للمنزل معا ؟!! لقد أوصلتكما بنفسي !!

إنه يدرك الوضع جيدا .. و يعرف الجواب من البداية ! لكنه يأبى التصديق.. و يرفض تقبل الحقيقة الموجعة !

اقترب الشرطي منه.. و طبطب على كتفه مواسيا.. ثم قال : هل تريد.. رؤيتها ؟!!

كنت أستطيع من مكاني ذاك أن أستشعر مدى تأثير هذه العبارة على جان .. إنها بلا شك أفظع و أشد وجعا مما سواها على قلبه..


*****

قادنا الشرطي إلى غرفة.. بيضاء مخيفة تبعث على القشعريرة.. كانت صديقتي.. مستلقية على سرير وسطها ، و غطاء أبيض كريه يحجب وجهها الجميل كما تحجب الغيوم النكدة نور البدر و جماله ..

تسمرت قدماي عند الباب .. و لم أجرؤ على الاقتراب خطوة واحدة.. كانت روحي تتألم و قلبي يرتجف..
لكن.. ما أقوى تلك الجدة و ما أصلب فؤادها ! فبعد كل ما عانته و تعانيه الآن.. لا تزال قادرة على الصمود !

تحرك جان.. و بخطوات خائفة مترددة.. اقترب رويدا رويدا.. و مد يده المرتجفة و كشف وجهها..
لم يسلب الموت نضارته و نعموته.. بل لم يبد عليه أصلا أنه وجه لبشر فارقته الحياة ! كان أقرب لوجه نائم نوماً عميقاً بعد تعب و إرهاق !

و هو يتطلع إلى وجهها الساكن .. لم يتمالك نفسه و سقط عنه قناع البرود .. لتأخذ دموعه مسراها على خديه..
جلس على حافة السرير.. تلمس خدها بلطف.. ثم ألصق جبينه بجبينها.. و تساقطت عبراته كقطرات المطر على وجنتيها الباردتين..

و بعد مدة من البكاء الاخرس .. استقام جالسا و رفع الغطاء و أحاط به وجهها مجددا.. ثم جفف دموعه و التفت نحو الشرطي سائلاً : كيف قتلت ؟!!

أجاب الشرطي : لقد اخترقت رصاصتان ظهرها ، و ماتت بعد دقائق من وصولها للمشفى.

كز جان على أسنانه و عصر قبضتيه و قد اشتعل لهيب الغضب في عينيه .. لقد استحال حزنه لحقد هائل !

ثم نهض.. و اندفع مغادرا الغرفة !

أما الجدة.. فأخذت يد لونا الراكدة بين يديها الحانيتين .. و بكت بحرقة.. و هي تتمتم بألم : أنا آسفة.. آسفة.. حبيبتي الصغيرة.. لم أتمكن من حمايتك !

و لم نكد نبرح مكاننا حتى سمعنا جلبة و وقع أقدام تركض في الطابق الذي نحن فيه !
و بدأت الأصوات تعلو و تقترب شيئاً فشيئاً.. حتى دلف رجلان إلى داخل الغرفة.. أحدهما كان شخصاً لم أتوقع ظهوره إطلاقاً ، و هو السيد كريستيان ميلارد ! و كان برفقة ابنه ليون !

بوجه مبهوت هجرته الدماء و ساقين مترعشتين تقدم السيد ميلارد نحو الجدة الواقفة بجوار السرير..
و ما إن وقع بصرها عليه حتى زادت دموعها انهمارا و عيناها احمرارا !
خاطبته بصوتها المتحشرج المشبع بالحسرة و الألم : لقد قتلوها !! قتلها أولئك الوحوش دون أن أتمكن من حمايتها !! ماذا.. ماذا.. سأقول لجوزيف حين آراه ؟!!

ما الذي يحصل هنا ؟!! جوزيف ؟!! لا يمكن أن يكون..


في هذه اللحظة بالضبط جذبني ليون من ذراعي و قادني خارج الغرفة ..
ثم طلب إلي الجلوس على أحد المقاعد المصفوفة على طول الجدار ، بينما أحضر لي كوب شاي ساخن.

جلس إلى جواري.. و البؤس يظلل وجهه..

فقلت : هل لونا كانت..

هز رأسه حزيناً.. و نطق بصوت يملؤه الغم و الكدر : نعم.. لونا كانت حفيدة جوزيف آيون و الناجية الوحيدة من تلك المذبحة !!!

شخصت عيناي.. و همست مرعوبة : مذبحة ؟!! ألم يكن مجرد حريق ؟!!

نفث أنفاسه الثقيلة خارج صدره و أجاب : لا.. كان انفجارا مدبراً أودى بحياة جميع من في القصر !!

- كيف نجت لونا إذن ؟!!

- كان والدها هو السبب ! السيد إيدمون آيون ضحى بحياته لينقذها ! فنجت ! لكنها فقدت ذاكرتها إثر إصابة في رأسها !

- ولم تستعد ذاكرتها بعد ذلك ؟!!

- لا.. و لم يكن أحد يريد لهذا أن يحصل !

عقدت حاجبي و قلت باستهجان : ولماذا ؟!! < ثم أردفت راجية : هل يمكنك إخباري بالقصة كاملة ؟! <ضغطت على يدي و حبست دموعي الثائرة بصعوبة : فأنا.. أريد أن أعرف.. كيف عاشت لونا..

نظر إلي مطولا.. لكنه أذعن لطلبي في النهاية و بدأ يحكي : حسناً..
أسرة آيون -كما أظنك تعرفين- كانت من أنبل الأسر في فرنسا و أكثرها ثراء و شهرة ، و كانت أسرتنا -آل ميلارد- على علاقة وثيقة بهم !
و بقدر ما كان لهم محبون كان لهم أعداء ! خصوم وضيعون منعدمو الضمير !
في ذلك اليوم.. قبل ثلاثة عشر سنة تقريباً.. كان يقام في قصر آيون حفل كبير بمناسبة فوز سارة الابنة الصغرى لجوزيف بالمسابقة الوطنية للعزف على البيانو - لم تحضره أسرتي فقد كنا آنذاك في إيطاليا ، و الجدة كذلك لم تفعل إذ داهمتها الانفلونزا على نحو مفاجئ فلم تبرح بيتها -
وقد استغل أؤلئك الأوغاد هذا التجمع .. و زرعوا قنابل في الأماكن الأكثر ازدحاما في القصر كالغرف و الصالات !
و هكذا.. حين انفجرت.. قتل الجميع ، باستثناء لونا التي نجت بفضل تضحية أبيها ..
وحين أعلمنا الطبيب بفقدانها للذاكرة.. طلبت الجدة كتمان الحقيقة عنها.. و الادعاء أنها ليست إلا يتيمة توفيت والدتها بالتبني في حادث مروري و أصيبت هي على إثره !
كانت الجدة تريد لها أن تحيا حياة طبيعية بعيدا عن هذا المكان المليء بالمعاناة ! و لم تنو إخبارها بالحقيقة حتى تبلغ الواحد و العشرين من العمر ! فهذا ما اتفق عليه الاوصياء -من بينهم أبي- الذين عينتهم المحكمة لإدارة مؤسسة لوميير التي ورثتها لونا عن أسرتها.. فحين تبلغ ذلك السن ستعد -قانونا- فتاة ناضجة و تكون قادرة على التحكم في ثروتها و التصرف فيها كيفما تشاء !
فأخذت الجدة لونا التي لم تكن قد أتمت الثامنة بعد و سافرت إلى بريطانيا..
أقامت لونا مع الجدة هناك عدة سنين.. و لم تعد إلى فرنسا إلا قبل أربع سنوات من الآن.
لم ترغب الجدة بذلك.. لكنها لم تستطع أن تعدل لونا عن رأيها فقد أصرت جداً على العودة ، بحجة أنها تريد دراسة القانون هنا في موطنها الأصلي !
لكن ذلك لم يكن السبب فعلاً وراء عنادها بل..

تردد في إكمال كلامه.. فقلت أحثه على المواصلة : بل.. ماذا ؟!!

تنهد بهم لكنه عاد يكمل : بسبب موت صديقتها ! <فتحت عيني من الدهشة فاستأنف : كانت أفضل صديقة لها -و الوحيدة كذلك- و قد ماتت بعدما دهستها سيارة مسرعة !
أصيبت لونا بصدمة كبيرة ! و قطع الحزن فؤادها.. لقد بكت بشدة يوم جنازتها..
لهذا السبب أرادت العودة.. كي تهرب من ذلك الكابوس و تنسى تلك الأحزان !

أكمل مغتما بزيادة : و يا ليتها لم تأتي ! هربت من كابوس لتقع في آخر أفظع ! كل من حولها كانوا يطمعون في ثروتها ، و يستغلون كونها فاقدة للذاكرة ليخدعوها بأكاذيبهم و يوهموها بمشاعرهم الزائفة !
لكن لسوء حظهم لونا لم تكن فتاة غرة سهلة الانقياد لتخدع بألاعيبهم ! كانت تتجنبهم و تبعدهم عنها بذكاء .. لكنهم كانوا كثر ! كثر لدرجة أنها لم تعد تستطيع الوثوق بأحد على الإطلاق !
في النهاية.. و رغم كل محاولات والدي و الجدة لإسعادها.. لم نرها تضحك من أعماق قلبها .. أبداً !!

التفت إلي وأضاف متبسما بألم : حتى أتيتي أنت ! مع أنها لم تدم فترة طويلة ، إلا أن لونا كانت سعيدة حقاً معك !
لذا.. شكراً جزيلاً لك.. لأنك جعلتها تبتسم في آخر أيامها..


كادت الدموع تودي ببصري عند قوله جملته الأخيرة.. مسحتها بظهر كفي
و قلت بنفس متقطع : لم تشكرني ؟!! أنا لم أفعل أي شيء !! أي شيء إطلاقاً !! هي من كانت تساعدني و تعاملني بلطف.. بينما كانت الحقيرة أنا تقابل طيبتها بالجفاء و الجحود و تكتفي بالتحديق فيها و الغيرة تأكلها !! كنت أحسدها على ما تملكه هي و أفقده أنا .. و لم ألتفت لحظة إلى الأشياء الثمينة في حوزتي و التي حرمت هي منها !! لا تثني علي من فضلك فإنني الأسوأ !!


فشقت ابتسامته طريقها بين كربات الأسى و هو يقول : و لهذا.. كانت لونا ترتاح لوجودك و تبتسم في وجهك بصدق !

رفت عيناي و أنا أرمقه بذهول.. فتابع : لأنك تمتلكين شيئاً قيما أصبح في عالمنا هذا مهددا بالانقراض.. الضمير !!

ثم ربت على كتفي برفق.. و نهض : سأذهب أنا الآن.. يجب علي التحضير.. ل.. للجنازة <نطق هذه الكلمة بصعوبة بالغة> فلا أظن أن أبي سيكون قادراً على ذلك . أما أنت فعودي مع الجدة للمنزل.. لم يعد هناك ما تفعلونه في هذا المكان..


نعود للمنزل ؟!! وماذا سنفعل هناك ؟!! هل يظن أننا سنرتاح ؟!! أو نستلق ببساطة و ننام ؟!!


أصبح الوضع مؤلم أكثر.. بعد عودتنا..
فالبيت الآن كأنه مهجور لا حياة تسكنه.. كيف لا يكون كذلك و قد فقد بهجته و أنسه..

لم أجرؤ على الصعود لغرفة لونا فتمددت على الاريكة في غرفة المعيشة .. و مكثت مستيقظة دون أدنى رغبة في النوم.. هكذا حتى أشرقت الشمس..


*****


أقيمت الجنازة في الساعة الثالثة ظهراً
حضرها الكثير من الأشخاص.. ميليسا ، السيد و السيدة أوتيير ، نواه و شقيقه ، ليون و والده ، بيكارت و السيد آوتنبورغ و الدكتور كروست ، و آخرون لم أتعرف عليهم..
كان الحزن باديا على الجميع مغرقا عيونهم بالدموع .. خاصة نواه و ميليسا.. فقد افترش الطفل الأرض قريباً من النعش و قد أجهشه البكاء !
أما ميليسا فقد وقفت بجواره تنتحب و تلوم نفسها بشراسة : كل هذا حدث بسببي ! لابد أن ذلك الحقير الجبان قتلها لأنها وقفت إلى جانبي ضده !

فقال لها ليون نافيا : لا يا ميليسا ! زوجك لا علاقة له بما حدث ! قد يكون فاسدا و خائنا لكنه ليس غبياً ليقترف جريمة لهذا السبب الضعيف ! كما أنه قضى ليلته في فندق يبعد عن مسرح الجريمة 30 كم و شهد الموظفون هناك أنه لم يخرج منه أبداً وقت إطلاق النار على لونا !

فقلت حائرة : إذن من ؟!!

تنهد و أطرق بأسى : ليتني أعرف ! المشكلة أن لا مصلحة لأحد في فعل ذلك !

و ما كاد ينهي كلامه.. حتى جاءه صوت خشن يحمل بين طياته كل أنواع الاستهزاء : لا بل يوجد !

التفت ليون بحدة إلى محدثه.. كان رجلاً بدينا متوسط القامة يبدو من ملابسه الفخمة و طريقة كلامه المتعالية أنه رجل أعمال كبير !

ضحك الرجل الغريب باستخفاف و أضاف : ما بك ؟! لم تنظر إلي هكذا ؟!! أليس واضحاً.. أن أسرتك هي المستفيدة الوحيدة من موت تلك الصغيرة ؟!!

فتقدم ليون منه و قد اجتاحه الغضب... و هدر : اصمت أيها اللعين أوربان ! نحن لسنا بمثل دناءتك حتى نفكر بهذه الطريقة الشنيعة !

عاد أوربان يضحك مرة أخرى و قال فيما يستدير مغادرا : أوه حقاً ؟!! أشك في ذلك !

فدنوت من ليون و قلت مستفهمة : ما الذي يقصده بقول أن "أسرتك هي المستفيدة الوحيدة" ؟!!

أجابني والده و قد قام من مكانه : حسب وصية جوزيف آيون فأنا لي نصيب من أملاكه ! ليس بالنصيب الضخم كمؤوسة لوميير ! لكن بموت السليل الوحيد للأسرة .. ستؤول تلك المؤوسة و كل ثروة آيون و شركاتهم إلي أنا !!

قال ذلك بصوت يملؤه الكرب و كأنه يقول " أنا لا آبه أصلاً بكل تلك الأموال ! وما أهميتها لأقتل إنساناً بريئاً من أجلها ؟!!"


لكن هناك شيء غريب ! شغلت بالجنازة و لم أنتبه له إلا الآن !
أين جان ؟!!
و كلارك أيضاً ؟!!
لم لم يحضرا الجنازة ؟!!!


اتجهت نحو بيكارت الذي جلس بصمت في مقاعد الصف الثاني و سألته : أين كلارك ؟!! لم لم يحضر ؟!!
أجاب عابسا : إنه مريض ! لقد مررت عليه قبل قدومي و كان متعبا للغاية ! حتى أنه بالكاد نهض من السرير ليفتح لي الباب !

فانتابني قلق شديد : ماذا ؟!! مريض ؟!!

- لا داعي للخوف ، لقد جلبت له دواء جيداً و سيكون بخير عند المساء ! <هدأ هذا من روعي إلى حد ما.. فأردف بيكارت بشكل مفاجئ : لكن.. لم أتصور أنك و لونا قد تصبحان صديقتين في مثل هذا الوقت القصير ! كنت تكرهينها قبل بضعة أيام.. هذا عجيب حقاً !!

تنهدت و الغم يعود ليكتسح جوارحي : كنت مخطئة ، فأنا لم أعرفها حقا ،
و حين اقتربت منها و تعرفت إليها عن قرب .. أحببتها كثيرا ! كما لو كنا صديقتين منذ زمن بعيد ! لقد تعرفت في حياتي على الكثير من الناس و عشت معهم فترة طويلة ، لكنني لم أشعر أبداً بهذا الألم عند فراقهم !
لا أدري حقاً.. لكنها كانت مختلفة عن الجميع !

و بينما أقول كلماتي الأخيرة.....لمحت رجلاً في نهاية العقد الثالث يقف بجانب الجدة و يتأبط ذراعها !
نظرت إلى ليون متسائلة فقال : إنه ألبرت ! الابن الثاني للجدة لويز ! و قد قدم هذا الصباح من نيس بعد سماعه بالخبر !


ما هذا ؟!!!
فجأة و دون سابق إنذار.. شعرت كما لو أن قبضة عملاقة تقبض على قلبي و تعصره !!!
و لسبب لا أعلمه استبد بي إحساس مرعب إلى أقصى الحدود !!
حتى أن جسدي من قمة رأسي إلى أخمص قدمي أخذ يرتجف !!
شيء ما.. ملء هذه الكنيسة المعتمة.. ظلام كاسح يتشح برداء الموت تسلل إلى داخلي و غمر روحي بخوف لا سابق له !!

لقد.. شعرت بشيء مماثل .. في وقت ما ..
و كان هذا في...


و بالسرعة التي اجتاحني فيها هذا الشعور تلاشى و تبدد في ضوء النهار حين أمسكت ميليسا يدي بيدها الدافئة ! اختفى ذلك الإحساس الرهيب.. و كأنه لم يكن أكثر من وهم !
لكنني أعرف عن يقين.. أنه لم يكن ذلك !


خرجنا في عدة مواكب من الكنيسة..
ركبنا السيارات.. و تبعنا التي تحمل النعش إلى المقبرة.. مثوى لونا الأخير.. و مكان التقائها بعائلتها !

هناك.. و بعد الانتهاء من مراسيم الدفن.. أقبلت علي الجدة تبتسم رغم الدموع التي تغرق عينيها و قالت : هل ستعودين إلى بلادك يا ابنتي ؟!!

قلت : لا.. يا جدتي.. فعملي هنا لم ينتهي..

عندها وضعت يدها المرتعشة على كتفي و أردفت : أنا سأترك هذا المكان.. و أسافر مع ابني آلبرت إلى سويسرا حيث يقيم ابني الأكبر سامويل ! يمكنك عزيزتي البقاء في المنزل قدر ما تشائين..

تبسمت بغير بهجة و قلت : شكراً لك جدتي.. لكني لم أعد أستطيع الإقامة فيه أكثر من ذلك !

- حسناً عزيزتي.. لا ألومك <و مسحت بطرف منديلها دمعة تأرجت على رمشها و أضافت : سأودعك الآن إذن.

عانقتني بقوة و هي تقول : اعتني بنفسك جيداً..

ثم أخذها ابنها و رحلت.. و بدأ الناس يغادرون تباعا..
و أنا واقفة قرب شاهد القبر أراقب الناس ينصرفون عني.. تسلل إلي شعور عميق مرير بالوحدة..

قطعه على حين غرة صوت الدكتور كروست وهو يقول : مع كل ما حدث.. لا يجب أن تنسي مهمتك ! غداً سيكون لدينا موعد مهم !

قلت بجلادة و عزيمة و أنا أحكم إغلاق قبضتي بقوة : بالطبع لن أنسى ! بل إنني الآن أكثر ثباتا و إصرارا على الاستمرار في مهمتي !


و بعد دقائق نثرت خلالها تويجات الورود فوق تربة القبر خرجت من المقبرة.. متجهة لمكان آخر ! منزل جان !!

أريد الاطمئنان عليه ، إذ ينتابني إحساس سيء بخصوصه !

لكني وجدت المنزل فارغ ! و لا أثر لجان في أي مكان !! أين اختفى يا ترى ؟!!
سألت الجيران و اتصلت بليون و السيد أوتيير.. و كلهم أجمعوا على أنهم لم يروه منذ ليلة أمس !!













رد مع اقتباس