عرض مشاركة واحدة
  #81  
قديم 04-18-2016, 04:37 PM
 





الفصل الخامس عشر
ج2





تعبت كثيرا من البحث عن جان دون جدوى !
كنت مرهقة جسدياً و معنويا و ذهنيا.. و انتابتني حاجة ملحة للراحة في مكان هادئ بعيداً عن الضجيج..
فعمدت إلى مكتبة قريبة..

أخذت كرسيا و جلست في زواية منعزلة و بعد فترة لم أحسب طولها من التحديق إلى الفراغ بوعي شبه غائب.. نهضت من مقعدي و تجولت قليلاً بين رفوف الكتب....بحثا عن واحد يؤنس وحدتي و يريح تفكيري.. فشد انتباهي مجلد ثقيل يشتمل على قصص قديمة من الريف الإنكليزي !

حملته و عدت لمنضدة القراءة .. ثم بدأت أطالع الفهرس لأختار بعض القصص لقراءتها فلم يكن في نيتي قراءته كله .
و ما إن قلبت الصفحة الثانية منه.. حتى وجدت اسم قريتي.. سانت ماري !
و بسرعة لاهفة فتحت الصفحة المطلوبة و شرعت بقراءة القصة التي حدثت قبل مئتي سنة !


أطبقت الكتاب.. و تيار الصدمة يسري في أوصالي !!
لا أصدق كم كنت عمياء.. وبلهاء أيضاً !!


وقفت.. و أعدت الكتاب لمكانه.. و انطلقت خارجة !
دلفت إلى محل قريب للملابس.. اخترت ثلاث أثواب بسيطة ثم اتجهت إلى غرفة التبديل لأجربها و بعد مضي دقائق خرجت ، و اشتريت أحدها و طلبت من صاحب المتجر أن يغلفه لي كهدية !
ثم اتجهت نحو مكتب البريد و أرسلته إلى عنوان صديقتي فلورا !


و عندما نزلت إلى الشارع..
رأيت ليون يقف بجانب سيارة حمراء حديثة و يلوح لي بيده.. فسرت إليه.. و حين اقتربت أشار لي بالركوب معه.. ففعلت دون استفسار .

و بعدما أغلقت الباب سألته : إلى أين سنذهب ؟!
قال و هو يشغل محرك السيارة : إلى الفندق الذي حجزت لك فيه !

- حجزت لي فيه ؟! و لم تفعل ذلك ؟!

التفت إلي بابتسامة باهتة : وهل يزعجك ذلك ؟! نحن أصدقاء صحيح ؟! لذا يجب علي مساعدتك ، فأنا أعلم أنك تمرين حالياً بأزمة مالية..

عقدت ذراعي أمام صدري و مططت شفتي باستياء طفولي.. يبدو أن فرنسا بأسرها تعلم بشأن إفلاسي.. ربما يفتحون عما قريب صندوقا للتبرعات من أجلي ، و قد ينظمون مظاهرات لانتشالي من مستنقع الإفلاس "تبرعوا لويندي البائسة !" "أنقذوها من حياة التشرد !" "مخبولة انكليزية مفلسة ترجو عونكم !"
من يدري ؟!


شقت السيارة طريقها إلى الفندق.. و صمت عميق يخيم على الجو..
حتى توقفنا أخيراً و ليون يقول : هذا هو الفندق ! أريهم بطاقتك و سيأخذونك إلى غرفتك فوراً !

قلت دون أن أجد القدرة على الابتسام : حسناً.. شكراً لك !

و نزلت من السيارة..
ثم خطر على بالي سؤال محير و أنا أتطلع لواجهة الفندق البراقة .. لماذا لم يحجز لي في ذات الفندق الذي أقمت فيه سابقاً مع الدكتور ؟!!

ثم هززت منكبي و أكملت المسير.. ربما فقط لم يعلم بأني مساعدته ، فأنا لا أعمل بشكل رسمي.

نفذت بعجالة إلى الداخل و بينما أعبر صالة الاستقبال نحو منضدة الموظفين فاجئني صوت قادم من خلفي يقول : ماذا تفعلين هنا يا ماكستر ؟!!

عرفته دون أن ألتفت.. إنه بيكارت !

استدرت نحوه و أنا أقول : لقد حجزت في هذا الفندق !

فبان الاستغراب قويا على وجهه : حقاً ؟! و لماذا لم تحجزي في الفندق الذي يقيم فيه الدكتور ؟! ألست مساعدته ؟! <ثم أضاف بابتسامة خبيثة : أم أنك جئت من أجل ستيفن ؟!!

لم يحمر خدي مطلقا و لم أصب بأي إحراج فذلك الأمر لم يخطر على بالي لحظة.. قلت باستياء : أحمق ! أنا لم أكن أعلم أصلاً أنه يقيم هنا ! لقد جئت إلى هنا.. فقط.. لأن هذا الفندق مريح أكثر و خدمته أفضل ! لكن.. كيف حاله الآن.. أعني كلارك ؟!!

أجاب و هو يشير إلى مطعم الفندق : إنه هناك.. يتناول العشاء !

أسرعت للذهاب إليه من فوري !
أردت الاطمئنان عليه فما وصلني من بيكارت عن مرضه لم يكن مطمئناً !
و في الواقع هذا.. ليس السبب الوحيد ! فأنا.. بعدما حدث لصديقتي.. بت في أمس الحاجة للحديث مع شخص لطيف و متفهم مثله.


لم أجده بسرعة.. إذ كان يجلس على طاولة بعيدة في زاوية المطعم رغم أن معظم الطاولات القريبة من المدخل فارغة !
يقعد وحيداً .. و يعبث بطعامه الذي لم يبدو أنه ذاق لقمة منه !

لم يلحظني و أنا أسير في اتجاهه.. كان يبدو شاردا.. حتى وصلت إليه و وضعت يدي على الطاولة.. فرفع رأسه..

و أدهشني ما رأيت عليه ! لم يكن على طبيعته أبداً ! وجهه شاحب للغاية ، عيناه متورمتان ، و نظراته تبدي أقسى درجات التعب ! لكن ما أثار استغرابي حقاً.. هو ردة فعله حين رآني !
كان في العادة يزين وجهه بابتسامة واسعة .. لكنه الآن لم يبتسم و لو قليلاً.. بل إنه لا يبدو مكترثا لوجودي من أصله !
هل هذا بسبب مرضه يا ترى ؟!!


أقنعت نفسي بذلك.. و أخذت كرسي قبالته.. ثم سألته : كيف حالك الآن ؟! أخبرني بيكارت أنك كنت مريضاً !

و بدون أن يرفع نظره عن صحنه قال ببرود : لا بأس.. أنا بخير..

آلمني تصرفه اللامبالي و أحسست أن وجودي غير مرغوب فيه .. فنهضت و أنا أعتذر بابتسامة مزيفة : آسفة على إزعاجك.. إلى اللقاء..

حينها رفع رأسه و قال : أنا آسف.. لكني لا أرغب في رؤية أحد الآن.. اعذريني !

قلت متمسكة بابتسامتي المزيفة : لا بأس..

و فيما أنا أستدير .. قال فجأة بجدية و صرامة : لا تذهبي غداً للحفل !!

التفت إليه متعجبة.. و سألت : و لماذا ؟!!

عبس و هو يدير وجهه : لا تذهبي فقط !

فما كان مني غير أن أقول بحزم : أنا آسفة.. لكني سأذهب !

رمقني بنظرة حادة لم آلفها منه ، و قال : ألا تدركين حقاً الموقف الخطير الذي أقحمت نفسك فيه ؟! كفي عن التصرف بأنانية و طيش و تذكري أن أهلك و أصدقاءك ما زالوا ينتظرون رجوعك ! و يجب أن تعودي إليهم بأسرع ما يمكن !

- لن أعود ما لم أعرف الحقيقة ! لقد قتلت صديقتي أمس و أنت تريدني أن أتجاهل الأمر ببساطة وأعود و كأن شيئاً لم يحدث ! سأذهب غداً للحفل ! و ليحصل ما يحصل !

و انصرفت مسرعة تاركة إياه خلفي حائراً !

خيار العودة غير مطروح عندي .. خصوصاً أني.. اقتربت كثيرا من معرفة الحقيقة !


*****


جاء اليوم التالي..
اليوم.. الذي لن يكون عادياً على الإطلاق !

أخذت حماما منعشا و ارتديت الثوب الأبيض الذي اخترته مع لونا.. كنت أشعر بوخز أليم و أنا أنظر إليه.. لكني جعلت من هذا الألم دافعا للاستمرار !
صففت شعري على عجل و زينته بدبوس فضي على شكل زهرة .. ثم
نزلت إلى الصالة.
كان بيكارت و المحقق آوتنبورغ في انتظاري هناك ! تمعنا في مظهري لبرهة لكن أي منهما لم يصدر تعليقا.. ربما لأنهم لم يجدو فيه ما يعيب.


سألتهما : أين هو كلارك ؟!

أجاب المحقق آوتنبورغ و هو يتقدمنا إلى باب الفندق : لن يأت ! فصديقه المسافر على وشك الوصول و قد ذهب للمطار لاستقباله !

كانت تنتظرنا أمام الفندق سيارة جلبها الدكتور كروست .. ركبناها و بدأت مسيرها نحو قصر السيد باتاي !


****


ذلك القصر الفخم ذكرني بقصر ريستارك في لندن..
بغض النظر عن الاختلافات في تنسيق الحدائق و ديكور القصر الداخلي إلا أنه يعطي الشعور ذاته عند دخوله..
قادنا الخادم إلى صالة ضخمة جدا ، شديدة الإنارة لدرجة أني غطيت عيني لبعض الوقت حتى تعتادا هذا الضوء الساطع ، ثم رفعت رأسي لأرى ثريات عملاقة لم أر في حياتي كلها ثريات بحجمها ! لا عجب إذن أن تكون الإنارة بهذه القوة !

كان الحضور كثر.. و من الواضح أنهم جميعا ينتمون للطبقة الراقية.. كما يسمونها .
جلسنا نحن على طاولة مستديرة و قدموا لنا أصنافا عديدة من المأكولات و المشروبات .. لكني لم أكترث لهذا كله ، أردت أن أعرف ما يفيدني فقط .. فقلت للدكتور مستفسرة : متى سيعقد ذلك الاجتماع يا دكتور ؟!

- في آخر الحفل ، و بعد أن يغادر معظم الضيوف.

من الممل حقاً الجلوس هكذا و التحديق بأؤلئك الأثرياء و هم يتابهون بما يملكون .. كانوا يتقدمون على شكل مجموعات لتهنئة ابن السيد باتاي الذي ظل واقفاً بجانب والده يلقي ابتسامته المتكلفة على كل من يمر به..

وضعت رأسي على الطاولة.. و قد أخذ النعاس يتسلل إلى جفوني .. لا بأس بأخذ قيلولة قصيرة ريثما ينتهي هذا الحفل المضجر.

مر بعض الوقت ، ربما نصف ساعة أو أكثر بقليل و أنا شبه نائمة فوق الطاولة .. حتى جاء أحد الخدم.. و انحنى لي بإحترام و هو يقول : الآنسة ماكستر ؟!

استقمت و أومأت برأسي.. فأضاف : هناك مكالمة من أجلك يا آنسة.

فتحت عيني و قد طار عنهما كل نعاس و ملل و سألت باهتمام : ألم يخبرك المتصل عن هويته ؟!

- لا آنستي ، جل ما قاله هو أنه يريد الحديث معك بأسرع ما يمكن !

قمت من مكاني و تبعت الخادم و الفضول يكاد يقتلني..
من يكون هذا المتصل ؟!! و لم لم يتصل على هاتفي المحمول بدل هاتف القصر ؟!!

صعد الخادم الدرج الكبير المفروش بالسجاد الفاخر الذي يتوسط الصالة ، و بينما كنت أرتقي الدرجات خلفه .. مرت بجانبي فتاة تنزل إلى القاعة.. توقفت و حدقت إليها و هي تهبط و تدير لي ظهرها..
كانت بيضاء جميلة .. تلمع عيناها الزرقاوان ببريق أخاذ و يضفي شعرها الأسود القصير على مظهرها قدرا وافرا من الهيبة و الاعتداد.
لكن أكثر ما لفت انتباهي إليها هي الهالة العجيبة التي تحيط بها ، قوية ، متفردة ، و كأنها تمتلك عالماً خاصاً بها ولا تنتمي إلى عالم هؤلاء الأثرياء ، و لا إلى عالم البسطاء من أمثالي !

كنت قد نسيت و أنا أحملق فيها أمر ذلك الإتصال ، و حين تذكرت أخيراً كان الخادم قد اختفى ! لابد أنه حسبني أمشي خلفه طوال الوقت ، يا لي من بلهاء ! تنهدت بعمق و لم أبرح مكاني عند قمة الدرج .. فقد يعود في أية لحظة !


و رحت من ذلك العلو أراقب الخدم تحتي و هم يجهزون شاشة كبيرة جداً و يثبتونها على الحائط بارتفاع مترين تقريباً.. يبدو أنهم يحضرون لتشغيل فلم ما !

هززت كتفي في عدم اهتمام و أخرجت مرآتي و أخذت أتثبت من أن دبوس شعري في مكانه..
غير أنني لم أبصر شيئاً.. فقد انطفئت الأنوار فجأة ، و اشتغلت الشاشة الكبيرة ! تبا هل يجب أن يطفئوا الأنوار لتشغيلها ؟!!

لكن ما الذي يحصل ؟!! هذا لا يبدو كشيء من المفترض حدوثه !!
تعالت الصيحات ، و ملأ الرعب الصالة المظلمة .. و ذلك حين ظهر شخص مقنع على الشاشة !!!

ابتدر حديثه بهدوء ساخر قائلا : "مرحباً ! يا لها من حفلة جميلة ! يبدو أنكم تقضون وقتا ممتعا !"


انزلقت المرآة من بين أصابعي و تكسرت قطعا عند قدمي و أنا أبحلق في الشاشة بمزيج من الذهول و الصدمة و الإثارة ! لست في حاجة لأحد يخبرني ! لا شك .. لا شك أنه الكونت دراكولا !!

صرخ أحد الرجال قائلاً : أطفئوا الشاشة !

فضحك الكونت باستهزاء قاتل : "يا لكم من بائسين ! هل تظنون أن الأمر سينتهي بمجرد إطفاء الشاشة ؟!! أريد قول شيء واحد لكم !
أنتم لم تروا شيئاً بعد !
لقد أردتموني أن أكون خليفة هتلر ! و ها أنا ذا كما أردتم !
لن أكون خليفته فحسب.. بل سأتجاوزه !!
من هنا.. من هذا المكان.. و من هذه اللحظة..
<عادت الأنوار هنا ، و أكمل الكونت كلامه بصوت متوعد مرعب يجمد الدم في العروق :
ستبدأ.. المحرقة !!!"


وما إن نطق الحرف الأخير.. حتى وقعت الكارثة !!
ففي طرفة عين و دون سابق توقع هوت الثريات بأحجامها الهائلة على رؤوس المضيفين و ضيوفهم !!!
و اندفعت موجة من الريح المحملة بشظايا الزجاج لتصيب من نجا من ذلك السقوط الشرس !!

نزلت الدرج بلا وعي .. و مشيت كالنائمة .. كانت الجثث متناثرة تحت حطام الثريات.. و الدماء متطايرة في كل مكان.. لم أعرف عدد القتلى.. و الناجون صاروا يتراكضون في كل اتجاه و هم يصرخون و يولولون كالمجانين !!

وجدت السيد باتاي الذي كان أكثر من ثلاثة أرباع جسمه المدمى مدفون تحت الثريا يلفظ أنفاسه الأخيرة.. و يهذي بشيء ما !

جثوت على ركبتي.. و دنوت منه لألتقط كلماته.. كان يردد و صوته يختفي شيئاً فشيئاً :
"س.. تراسبورغ.. مهد الشيطان !"


ماذا يمكن أن يعني هذا ؟!! ستراسبورغ ؟!! ما علاقة هذه المدينة ؟!! و من يقصد.. بالشيطان ؟!!!


قطع حبل أفكاري.. صوت طرطقة بملعقة معدنية..
كان هناك شخص.. يقف مستندا إلى الجدار ، و في يده صحن من الكعك !!

و شهقت حين وقع بصري عليه.. كان ذلك الشاب الغريب في محل الحلويات !!
يأكل الكعكة بنهم و يتفرج على الجثث و الدماء المسالة.. كما لو كان يشاهد فلما مسليا !!

وقفت على قدمي.. و اقتربت منه.. ببطء..
فنظر إلي بتلك العينين الغريبتين نظرة غامضة لم أفهم مغزاها..
صحت في وجهه : كيف يمكنك الوقوف و الأكل هكذا بكل بساطة و هذه الجثث مرمية على الأرض أمامك ؟!!

أشار بيده كي أتنحى.. لكنني لم أتحرك من مكاني قيد أنملة !

فقال بانزعاج طفولي : ابتعدي يا هذه ! أنت تحجبين الرؤية عني !

اتسعت عيناي من الدهشة ! و همست بصوت مرتعد : هل تستمتع.. بهذا المنظر البشع ؟!! لا تقل لي.. أنك...

حينها شرع يتكلم بطريقة آلية سريعة دون أن تفارقه ابتسامته الطفولية : أنا آليكسي آبراموف ! روسي ! عمري 19 سنة وأعيش في المنزل رقم 62 قرب المركز التجاري الكبير ! لم أتشرف بمعرفتك !

تراجعت خطوة للخلف.. و الصدمة تطوق حنجرتي.. ما هذه الجرأة ؟!! و ما هذه الثقة ؟!!

و تلعثم لساني فيما أقول غير مصدقة : ما .. أنت بالضبط ؟!!

للمرة الأولى .. رأيت ابتسامته الطفولية تختفي و تحل محلها أخرى مظلمة لا يقوى على إظهارها إلا قاتل متعطش للدماء !!

أجاب بصوت هادئ يشل نبض القلب :
أنا عقرب !! حذاري من الاقتراب أيتها الصغيرة !!


و بينما أتسمر في مكاني مأخوذة .. ضحك ضحكة خفيفة و أضاف و هو يرمق صحنه بنظرة خيبة : أوه لقد انتهت الكعكة بسرعة ! لن أستمتع بالمشهد هكذا.. لذا... وداعاً !

قال كلمته الأخيرة وهو يلوح لي.. و يرحل !


لا أدري كم من الوقت بقيت واقفة.. فقد شلت مداركي ، و عجز عقلي عن استيعاب كل تلك الصدمات المتتابعة !


"ويندي ! ويندي أيتها البلهاء ! ماذا أصابك ؟!"

كان هذا بيكارت !
تشبثت بذراعه بصورة أثارت عجبه و رجوته قائلة : لنغادر هذا المكان أرجوك ! إنني متعبة للغاية !

فقال : حسناً.. هذا ما جئت من أجله ، فالدكتور يخشى أن الخطر لا يزال قائما.


****


لحسن الحظ لم يصب أي من رفاقي بأذى يذكر فقد غادروا أماكنهم حالما إنطفأت الأنوار ليبحثوا عن سبب المشكلة و يساعدوا الخدم في إعادة التيار الكهربائي للقاعة ..

عدنا للفندق نجر وراءنا ذيول الخيبة .. كنت أنا طوال الوقت غير واعية تقريباً لما حولي.. يقودني بيكارت كالدمية !
وجدنا كلارك ينتظرنا في صالة الاستقبال .. و حالما أبصرنا نعبر بوابة الدخول أسرع إلينا و سأل بقلق : ما الذي حدث ؟!!

قص عليه المحقق آوتنبورغ ما حدث بالتفصيل .. و عند انتهائه التفت كلارك إلي و قال معنفا : ألم أطلب إليك عدم الذهاب ؟!!

أطرقت رأسي ولم أنطق بشيء .. فتنهد .. ثم أمسك يدي و قال : تعالي ! يجب أن تشربي شيئاً ساخنا ! <ثم أضاف محدثا الآخرين : و أنتم كذلك.

و هكذا مضينا جميعا إلى المطعم..
طلب لي كلارك كوبا من الشوكولاتة الساخنة كان له فضل كبير في إعادة حيويتي و تخفيف الصداع الذي كاد يشطر رأسي نصفين .

سألني بنبرة باردة تخفي بين طياتها اهتماما لطيفا : هل أنت بخير الآن ؟!

أومأت برأسي : نعم.. شكراً لك !

- هل ترغبين في أكل أي شيء ؟!!

كنت أتضور جوعا .. لكني خجلت من الاعتراف بذلك ، فقلت كاذبة : لا !

عندها.. تدخل بيكارت قائلا بخبث و استهزاء : حقاً ؟! أنت لم تأكلي شيئاً منذ الصباح ! و يجب أن تستغلي الفرصة و تقبلي دعوته بما أنك مفلسة !

ضحك المحقق آوتنبورغ و الدكتور ، و حدجت أنا بيكارت بنظرة غيظ ساخطة .. بينما لم تبرح تعابير كلارك الباردة مكانها .
نادى النادل.. فاقترح الدكتور مبتسما : اطلب لها فطيرة تفاح فهي المفضلة عندها.

فعل كلارك.. في حين كنت أشعر بإحراج كبير .. و كل هذا بسبب بيكارت المزعج !
عدت أنظر إليه بغضب.. لكنه كان ينظر في اتجاه آخر !
التفتنا جميعاً إلى حيث ينظر.. كانت هناك سيدة فارعة الطول تحيط جسمها بمعطف من الفرو الأسود الثمين تسير نحونا !

تعجب الدكتور و هو ينهض : السيدة باتاي ؟!!


السيدة باتاي ؟!! زوجة ذاك المليونير ؟!! إذن فقد نجت من تلك المذبحة ؟!! هذا ليس مستغربا في الحقيقة فأنا لم أرها في الحفل !


وقفت أمام طاولتنا و قالت بصوت مرتجف و عينين قلقتين : مساء الخير .. آسفة على مجيئي في وقت كهذا.. لكني أريد التحدث إليكم في أمر ملح.. و خاص !

قام المحقق آوتنبورغ قائلاً : لا عليك سيدتي.. لنذهب إلى غرفتي !



هناك.. جلست السيدة على كرسي عالي الظهر قبالتنا و أخذت تفرك يديها بتوتر بالغ.. و حين تكلمت بان صوتها مضطربا : أنتم تعلمون.. بلا شك .. أن زوجي و ابني الأكبر قد قتلا في الحفل المشؤوم ، و لم يبق لدي .. غير ابني الصغير مارسيل ! و أنا لا أريد أن أفقده مهما كلف الأمر ! لذلك.. سأخبركم بكل شيء !

كانت تساؤلاتنا كثيرة .. لكننا لم نشأ مقاطعتها و تركناها تتحدث على مهل ..

أكملت و يداها تزدادان ارتجافا : سأخبركم.. بكل ما أعرفه... عن الكونت دراكولا !!

ألجمتنا المفاجأة فترة من الزمن و تبادلنا النظرات في اندهاش !
و استأنفت السيدة المرعوبة حديثها : نحن.. أو بالأحرى زوجي و شركاؤه .. هم من ربوا الكونت دراكولا !!!

فانطلقت صحيتنا الجماعية في وقت واحد : ماذا ؟!!

أجفلها هتافنا .. فاعتذر كلارك نيابة عن الجميع : اعذرينا سيدتي ! أكملي كلامك إذا سمحت !

ازدردت السيدة رمقها و تابعت : حسناً.. بدأ كل هذا في ستراسبورغ !
حين اشترك زوجي و عدد من رجال الأعمال الكبار في إنشاء مدرسة للعباقرة.. أطلقوا عليها اسم "النجوم المضيئة"! كان معظم طلابها أيتام أو مشردون من جنسيات مختلفة لكنهم يتمتعون بذكاء مميز و مواهب نادرة !
و الكونت دراكولا كان واحدا منهم !
لا أعرف اسمه الكامل ، و لا أدري حتى إن كان اسمه الأول حقيقي أم لا.. لكنهم كانوا ينادونه .. "آلويس" !!
و قد جاؤوا به -كما سمعت من زوجي- من هولندا ! كان فتى عبقريا حاذقا ، لكن طريقة تفكيره كانت مرعبة ! حتى أن المسؤولين عن المدرسة أنفسهم كانوا يخشونه و لا يعاملونه كبقية الأطفال ! فلم يكن طفلاً إلا في حجمه ! أما عقله فكان ناضجا تماماً !
في البداية.. حاولوا تجاهل ما يقوله أو يفعله ، فمهما حدث يبقى طفلاً !
لكنهم عدلوا عن تفكيرهم هذا .. حين قام آلويس الصغير بقتل كل الطلاب و إحراق المدرسة !!
و اختفى دون أثر !!
بحثوا عنه في كل مكان.. و استمروا على ذلك عدة أشهر ! و عند عثورهم عليه أخيراً.. ارتكبوا أكبر غلطة !!
إذ أرسلوا مجموعة من القتلة المأجورين لقتله ! و مع أنه كان صغيرا إلا أنه نجح في قتل ثلاثة منهم قبل أن يتمكنوا منه في النهاية و يقتلوه بالرصاص !!
أو بالأحرى هذا ما اعتقدوه.. فيبدو أنه نجا .. و عاد لينتقم منا جميعاً !!

كانت ترتعش بأكملها و هي تتكلم.. نهضت أنا على فجأة من الجميع و صحت أسألها : أين كان ذلك ؟!! أين أطلقوا عليه الرصاص ؟!!

كانت دهشتها من طريقة إلقائي السؤال أكبر من السؤال نفسه .. و سرعان ما أجابت باضطراب : في .. في .. "نيس" !!
تهاوى جسدي على الأريكة.. و أنا أتمتم مقطبة الجبين : في نيس ؟!!


أحسست ببعض نظرات الاستغراب تصوب نحوي لكن أحدا لم يستفسر..
سأل الدكتور السيدة باتاي مبديا شيئا من التعجب : ولكن لماذا تخبريننا نحن ؟!! أليس الأفضل أن تتجهي للشرطة ؟!!

فصاحت السيدة نائحة : الشرطة عديمو الفائدة تماماً ! <ثم جلست على الأرض و هي تثني ركبتيها تحتها و تضع يديها على فخذيها في وضعية توسل و قالت و دموعها تسيل على وجنتيها : أنا مستعدة لفعل أي شيء.. أي شيء.. حتى يصفح الكونت عني و ابني الصغير !

قال لها كلارك بحدة و جفاء : و لماذا التزمت الصمت كل هذا الوقت و تأتين الآن لتطلبي العفو و الصفح ؟!!

و شرعت السيدة تبكي : لقد أخطأت و ارتكبت ذنباً عظيماً ! أعلم هذا ! لكن عساي بإقراري بذنبي أن يغفر الكونت لي ! و حتى إن لم يقبل العفو عني ، فعلى الأقل يترك ابني و شأنه فهو لا علاقة له بكل ما حدث و لم يقترف أي إثم ليستحق العقاب عليه !

مكثت السيدة على حالها هذا.. لدقائق.. ثم نهضت و نفضت دموعها و قالت : علي الذهاب الآن.. فأنا أخشى على ابني و لا أستطيع إئتمانه عند أي أحد..



و بعد أن خرجت و أغلقت الباب وراءها.. تنهد المحقق آوتنبورغ عميقا : ما هذا الذي حدث ؟!!

أضاف الدكتور متجهما : إن التفسير الوحيد لاختيارها لنا نحن بالذات كي تفصح لنا عن كل تلك الأسرار..

أكمل كلارك بجدية مقلقة : هو أنها تشك أن واحداً منا.. يعمل لصالح الكونت !!


أجل.. هذا ما كنت أفكر فيه أيضاً ! لكن لا زال هناك شيء لم تتحدث عنه ، و هو ما قاله الكونت في الحفل "أردتم لي أن أصبح خليفة هتلر" ماذا يمكن أن يعني هذا ؟!!


انتفضت جوارحي جراء رنة فجائية من هاتفي .. كانت رسالة من فلورا !
انتصبت واقفة و أنا أقول : عن إذنكم.. سأذهب لآخذ قسطا من الراحة ..


و انطلقت أعدو إلى غرفتي !
وجدت هناك طردا صغيرا .. لم أتريث في فتحه.. كان يحتوي على سترة بنية مهداة من فلورا ، و بين ثناياها شيء أكثر أهمية و هو ما كنت أتلهف إليه.. رسالة !!
فضضتها .. و قرأت ما كتب فيها باهتمام و تمعن شديدين.. و بعدما انتهيت .. لم أعرف هل أضحك أم أبكي !
ذلك أن توقعاتي كانت مصيبة ، لكنها مؤلمة إلى أقصى حد !
أخذت الرسالة و أضرمت فيها النار حتى غدت فتاتا ! ثم طالعت التقويم المعلق على الجدار و خرجت من الغرفة.. و بعدها من الفندق كله !

أنا الآن لم أعد جاهلة !
أعرف ماذا أفعل و إلى أين أذهب ! لأنني.. وأخيراً.. وجدت... ظلي الضائع !!

من كان يتصور أن أعثر على الحلقة المفقودة عن طريق قراءة قصة قديمة جرت أحداثها قبل مئتي عام !!

ها أنا ذا... في طريقي إليك... شادو !!!
أعلم تماماً أين أنت الآن !!


كنت أمشي على مهل في البداية ... لكن سرعتي بدأت في الازدياد دون أن أنتبه.. حتى صرت أركض عبر الطرقات و أجتاز الشوارع خلال لحظات !!

لكن صوتاً ما.. و شيء ما.. أوقفني عن المضي !
كانت رصاصة !!
رصاصة.. جرحت ذراعي دون أن تستقر فيها !!
كنت قد اقتربت كثيرا من وجهتي و لم يتبق غير مسافة قصيرة.. لكن.. يبدو أنني لن أتعدى المكان الذي أنا فيه..

فقد ظهر أمامي من الظلام أربعة رجال.. مسلحين ! كان أحدهم يرفع مسدسه نحوي..
فعرفت أن النهاية حانت !!
قال بقسوة قبل أن يضغط على الزناد للمرة الثانية : هذا هو مصيرك و مصير كل من يحاول العبث معنا !

لا بأس.. لست نادمة ، فهذا كان قراري !
على الأقل لن أموت و أنا أشعر بالفضول !
لكن.. هناك شيء أردت بشدة.. قوله لشادو .. و لن أستطيع لسوء الحظ.. هذا هو الشيء الوحيد الذي سأحزن عليه !

لحظة.. لحظة... هناك شيء غريب.. غريب جداً جداً ! لاحظته و أنا جاثية على ركبتي أحدق إلى الأرض !
إنه.. إنه... ظلي !! لقد أصبح أطول !!

لست أنا وحدي من تفاجأ بهذا.. بل حتى أؤلئك الرجال ! كانوا يتراجعون و يرتعشون خوفا مما يرون !!


"ماذا أرى ؟! أوقعت نفسك في المشاكل مجددا ً؟!"


كان ظلي من نطق !!!

صاح أحد الرجال بهستيرية : ما أنت ؟!! أي مخلوق تكون ؟!! أنت لست بشراً بل شيطان !!

قال بصوت هادئ خال من العواطف :
"أنا من يمنح شيئاً لم يملكه يوماً.. لمن لا يستطيع الاستغناء عنه ! أعطيه للجميع.. و أنا أكثر من يحتاجه !"

هتف أحدهم دون أن يفهم : ما.. الذي.. تهذي به ؟!!


أنا وحدي من فهم كلامه .. و عرف مقصده !!
كيف لا .. و هو ظلي ؟!!

و أخيراً بعدما استعدت السيطرة على جسدي المشلول.. التفت خلفي.. لأراه واقفاً !!
هذه المرة.. كان البدر مكتملا ظاهرا يضيء كل شيء.. حتى وجهه !!
و رأيت لأول مرة .. عيناه !
لم أعرف طيلة حياتي .. نظرة كمثل نظراته !!

الحقد ، الكره ، الغضب ، الذكاء ، الهدوء ، القسوة و الموت كلها احتشدت في نظرة واحدة !!

عندئذ...
و أنا أنظر إلى وجهه المكشوف.. قلت بصوت متقطع و الدموع تبلل وجهي :

شا .. دو !













رد مع اقتباس