عرض مشاركة واحدة
  #93  
قديم 05-02-2016, 05:12 PM
 




الفصل السابع عشر





كان الذي أطلق النار على جان أحد أتباع شقيقه الذي التف من وراء المبنى في غفلة من الشاب الغاضب !

رفع جان رأسه ببطء و صعوبة.. لينظر بكره عميق لمن من المفترض أن يكون أخاه الوحيد !
و بابتسامة وحشية و قلب متحجر رفع الشقيق الأكبر قدمه ، و داس بها على ذراع أخيه المصابة !
كتم جان بكل ما لديه من قوة صرخة ألم مدوية بينما واصل شقيقه الضغط بقوة على جرحه النازف !

قال و هو يضحك بجنون : هل هذا مؤلم ؟! ما بك ؟! لم لا أسمع صوتك ؟! <علت ضحكته أكثر وهو يقول : أتدري ؟! هذا ما أردت فعله بصديقتك الغالية ، لكن مع الأسف و سوء الحظ كنت في مهمة أخرى ، لذلك تولى مهمة قتلها التوأم آغويلارد بدلا عني ! ومع ذلك فقد طلبت منهما تصوير لحظة موتها كي أشهدها بعيني ! آه لا تتخيل كم كان ممتعا و مبهجا لي رؤيتها و هي تهوي إلى الأرض ميتة ! تمنيت لو رأيت ذلك أنت أيضاً ! لكن لا تقلق ! سأعيد ذلك المشهد أمام عينيك مرة أخرى !

فقال جان بصوت متحشرج من الألم و عيناه تقدحان شررا لاهبا : أيها الوضيع اللعين !

ضحك شقيقه و أردف : ما أسوأ حظك يا أخي الصغير المسكين ! تفكر في أناس لا تعرفهم ، تهتم لهم ، تضحي لأجلهم ، و في النهاية تموت وحيداً بائساً دون أن يكترث أحد لأمرك أو يتذكر حتى من تكون ! <ازدادت ضحكاته أكثر وقال بنبرة ممعنة في الشر و الشماتة : دع انسانيتك و قلبك الطاهر ينقذانك الآن ! الطيبون البؤساء أمثالك لا يحصدون في النهاية إلا النكران و الجحود !

و صرخ جان بصوت انبعث صادقا عميقا عبر شغاف قلبه : اخرس أيها البغيض ! كلب وضيع مثلك لن يفهم شيئاً كهذا ! أنا لم أفعل ما فعلته مترقبا شكراً أو امتنانا من أحد ! إنه فقط لأنني إنسان ! لو تجاهلت معاناة أقراني من البشر بحجة أن الأمر لا يعنيني ، و واصلت بكل أنانية حياتي ، حينئذ لن أستحق أن أكون إنساناً ! بل سأنحدر مثلك و مثل أسرتك إلى ما هو أدنى من مستوى الحيوان !

حدق شقيقه فيه بنظرات سخرية : أوه إنسان ؟!! <ثم ضغط بقوة أكبر على إصابة أخيه و قال باستحقار و حقد أسود : إذن فلتعاني و لتتألم حتى تموت تحت قدمي.. أيها الإنسان !

و بذل جان كل جهده و ما تبقى من قوته كي يحبس صرخاته المتوجعة ، لكن أنينا متألما أفلت من بين أسنانه المرتعشة !
ثم لأول مرة و رغم كل آلامه أطلق ضحكة خافتة الصوت عالية الاستخفاف : أحمق كعادتك يا إيفان ! تهددني بأكبر مخاوفك أنت و التي لا تساوي شيئا عندي ! أنا لا أكترث للموت ! و لا أملك ما أخشى فقدانه ! على عكسك أنت !

فتحدث إيفان و قد بدأ الغضب يشوب سخريته المعتادة : أوه حقاً ؟! ماذا عن تلك البريطانية ؟! أليست من أصدقائك ؟!!

و ضحك جان باستهزاء بالغ جعل شفتي أخيه ترتعشان حنقا و أضاف : ألم ترسلوا فعلاً أربعة رجال منكم لقتلها و قد اختفوا تماماً كأنهم تبخروا في الهواء ؟!!

و ما كان من إيفان إلا أن يحدق إليه في خليط لاذع من الدهشة و الغيظ و المهانة ثم يقول في حدة مفرطة : كيف عرفت ذلك أيها اللعين ؟!!

أجاب جان و قد لاحت على وجهه ابتسامة استخفاف بأخيه و ذاك الألم الذي يذيقه إياه : و ماذا كنت تظنني أفعل في فترة غيابي عن منزلي ؟!! قضيت كل وقتي في البحث عنك و عصابتك الحقيرة ! و علمت أيضاً بأنكم تمكنتم من التسلل إلى أجهزة الشرطة ! لذلك توقعت هذه الحيلة الجبانة منكم !

و في غضب عارم لم يستطع كبح جماحه رفع إيفان قدمه ثم ضرب بها بعنف و قسوة جراح جان الدامية !
قال و غضبه يتضاعف : أنا إيفان أوران ! قائد "الخنجر المعقوف"! و وريث أسرة أوران أسياد القتلة ! و إذا نجت تلك المزعجة مرة.. فالمرة القادمة ستكون نهايتها المحتمة !
سنقتلها.. كما قتلنا "آيون" قبلها !!!

فحدجه جان بنظرات احتقار و قال بازدراء شديد : حقاً ؟! لو لم تستخدموا في ذلك أخس و أرذل الطرق ، لما استطعتم مس شعرة منهم.. يا عصابة الجرذان القذرة !

و انحنى إيفان و رفع جان شادا إياه من شعره الفاحم في قسوة و قال : هذه الجرذان.. هي أمك ، أبوك ، و شقيقك أسرتك بكاملها !!

- و هذا أكثر ما أمقته في نفسي أنني ولدت من أسرة حثالة !

- هكذا إذن ! بعد كل هذا أنت لا تشعر بالندم على ما فعلته ؟! و حياة أناس لا تعرفهم أهم بالنسبة لك من عائلتك ؟! لقد قتل أبي بسببك ، و ماتت أمي و هي تلعنك ، و أنا أعيش لأعذبك انتقاماً على خيانتك !

- لا يهمني كل ذلك ! مهما حصل فلست نادما !

- حقاً ؟! حتى بعد موت عزيزيتك ابنة آيون ؟!!

و ما كاد يكشر عن أنيابه حتى باغته جان بلكمة جمع فيها كل بقي في جسده من طاقة و سددها على وجهه بيده السليمة ، ليسقط على الأرض فاقدا أحد أضراسه !!

كان جان يلهث و قد احمر بياض عينيه غضباً و كراهية ، في حين نهض إيفان و تحسس وجهه.. قبل أن يقول ببرود قاس : حقاً.. أنا لا أرغب بقتلك ! أريدك أن تعيش كي أستمر بتعذيبك ! و إن كان الشخص الذي تحبه قد مات.. فهذا لا يعني شيئاً بالنسبة لي... ما دامت جثته موجودة !!

و ثار جان عندها كذئب ضار و هدر بأقوى و أشرس صوت استطاعه : سأقطعك إربا قبل أن تقترب من فعل ذلك أيها الخسيس !

فضحك إيفان بهستيرية : حقاً ؟! لم تفلح في حمايتها و هي حية ، فهل ستستطيع ذلك بعد موتها ؟!!


كان الرجل الذي أطلق النار على جان ما زال واقفا خلفه كي يحبط أي محاولة منه للفرار ، فقال له إيفان مشيرا إلى شقيقه : موريس ! قيد هذا البائس لنأخذه معنا ، يجب أن يشهد ما سيحصل بنفسه !

لكن موريس لم يتحرك خطوة واحدة ! فكرر إيفان بحنق : قلت لك قيده ! ما بك ألا تسمع أيها الغبي ؟!!

فتحدث التابع بعينين شاخصتين و صوت يرتجف خوفاً : سيدي... إنه...

و صرخ إيفان بصبر نافذ : ما بك ؟!!

و بإجابة خرساء رفع موريس يده و أشار بإصبعه المرتعش إلى ما وراء إيفان !


فالتفت الأخير -و كذلك جان- إلى الخلف... ليشهد واحدة من أعظم الصدمات التي مرت في حياته !!
رجاله الثلاثة الذي كانوا خلفه.. هم الآن جثث هامدة تسيل منها جداول من الدماء !!

و من بين هذه الأجساد الميتة شرع ذاك الشخص يشق طريقه و يصفر و يقول : أوه يبدو أن الغربان آكلة الجيف تلهو في عش الصقر بعد أن أمنت غيابه ، و نسيت أنه سيعود إليه مجدداً و يغرز مخالبه في أجسادها و يقطع أجنحتها !!


فتراجع إيفان عدة خطوات و قد عصفت الصدمة بذهنه و فكره و كامل عقله .. هذه هي المرة الأولى التي يخاف فيها بهذا الشكل !
فتلك الكلمات الرهيبة التي بلغت مسامعه الآن .. قد قالها شخص آخر قبل أكثر من أربعين سنة !!
و قد كررها هذا الشخص بذات الصوت و النبرة ! حتى أن إيفان قد توهم للحظات أنهما الشخص نفسه !!


أما جان فقد أجفله الذهول من غير خوف أو هلع !
كان صوت ذلك الشخص يبدو مختلفاً كلياً حين يتلفظ الفرنسية بشكل صحيح ! لقد اعتاد الجميع سماعه يتكلم هذا اللغة بلكنة أجنبية !
و قد عرف جان الآن السبب لفعله ذلك ! فهو عندما يتكلم الفرنسية بهذه الطريقة يصبح صوته مطابقا تماماً لصوت جده !!
و الذي هو بلا ريب ... جوزيف آيون !!!


و صاح كل من جان و إيفان في وقت واحد بصوت يصم الآذان : ستيفن كلارك !!!

و تقدم كلارك بخطوات مرحة بدت متناقضة مع ما أظهر قبل لحظات من وعيد غاضب : أوه يا لقلة لباقتي ! يبدو أني قاطعت نقاشاتكم العائلية !

تراجع إيفان أيضاً بخطوات متثاقلة بطيئة و تلعثم بصوت مضطرب : من.. تكون ؟!!

و حدق فيه كلارك بنظرة سوداء مرعبة شلت ساقيه و صوته ، ثم قال بصوت هادئ أكثر إرهابا : أنا.. أنا الشاهين الأخير !!
وليام آيون !! الأخ الأكبر للفتاة التي قتلتها أيها الكلب الدنيء !!!


فغر إيفان فاه من هول المفاجأة ، و ازدادت سرعة خطواته و اضطرابها و هو ينسحب كفأر مذعور من أمام نمر غاضب !!

و تمتم جان مشدوها : مستحيل !!

و تعثر إيفان و وقع على الأرض.. ليخرج صوته المتحشرج أخيراً : مس..تحيل !! هذا لا يمكن أن يحدث ! لقد قتل كل أفراد الأسرة في ذلك الانفجار ، و تفحمت أشلاؤهم !!

فقال وليام و هو يكاد يفترسه بنظراته : أجل ! لقد مات الجميع ذلك اليوم.. ما عداي أنا و أختي التي أنقذها والدي !!

- أنت كاذب ! لقد قتل وليام أيضاً ! كان موجودا في الحفل !!

و ابتسم وليام بسخرية تحترق بنار الغضب : أجل ، هذا ما أخبركم به كبير الخدم المسكين إدوارد ! لقد أجبرتموه بعد أن اختطفتم حفيده الوحيد على زرع تلك القنابل في القصر ثم تفجيره أثناء الحفل ، أليس كذلك ؟!!

طمست تلك الصدمات صوت إيفان و أكمل وليام :
لقد خدعكم و أخرجني من القصر قبيل الانفجار !

و أدخل يده داخل سترته ثم أخرجها تحمل قلادة ذهبية !
فشهق إيفان حينما وقع بصره عليها و تشربت ابتسامة وليام مزيدا من الثقة و هو يقول : لا يبدو أنك نسيت هذه القلادة المشهورة ، فهي رمز أسرتنا و هدية من شعب البلاد التي أنقذها جدي من دمار الحروب !


تلك القلادة الذهبية المستديرة قد نقش عليها رمز غريب !
ففي الجهة اليمنى منها تظهر حمامة مسالمة تحمل في منقارها الصغير غصن زيتون ! أما الجهة الأخرى فهي النقيض التام ! إذ يفرد صائد الحمام و عدوها الأكبر جناحيه ، محلقا في السماء ، و بين مخالبه الحادة قضت حمامة صغيرة نحبها.. إنه الشاهين !!

و قال وليام ملوحا بالقلادة : هل تعرف لماذا اختير هذا الرمز الغريب بالذات ليكون رمز أسرتنا ؟! الجواب بسيط ، لأنه يجسد على أدق صورة طبيعية الآيون ! تلك الطبيعية العجيبة هي ما ترعب أعداءنا منا ، و تجعلهم يرتعدون لسماع اسمنا حتى و نحن ميتون !
أن نكون البطل و الوحش معاً ! الحمل الوديع و الذئب الشرس في ذات الوقت !!


وبدأ يخطو نحو إيفان كفهد أسود يحوم حول فريسته و هو يردد : أنتم نفاية بني البشر ! و النفاية يجب أن يمحى وجودها ، لتبقى الأرض طاهرة !

و استولى الهلع على عقل إيفان و قلبه ، و صار يزحف و هو يصرخ : ابتعد .. ابتعد ! ابتعد عني !

كان وليام يراقبه بابتسامة عريضة ، متمهلا في مشيه نحوه.. حتى تمكن إيفان و تابعه المتبقي أخيراً من الوصول إلى السيارة ، و ركوبها !

توقف وليام عندها فصاح جان به : هل ستتركه يهرب ؟!!
لم يرد المعني ، و ظل ساكنا ينظر إلى السيارة السوداء و هي تنطلق مبتعدة !

قام جان و هو يمسك ذراعه النازفة ، و وقف مواجها لوليام ليصيح في وجهه ناقما : لم سمحت له بالهرب ؟!!

فتبسم الآخر قائلا : يا صديقي لو أبصر حيوان ما خطرا يقترب من قطيعه ، فما أول ما سيفعل ؟!!

حدق جان فيه متعجبا ، فأردف : سيسرع لإنذار باقي القطيع ! و هذا ما أريده بالضبط ! فالقادة الحقيقيون لذلك الجبان متخفون في الظلام منذ زمن بعيد ! و خبر كعودتي غير المتوقعة سيجعلهم يخرجون مذعورين من جحورهم !

ثم أضاف مشيرا إلى جراح جان : ما يهم الآن هو أن نسرع بأخذك للمشفى حتى لا تتأزم إصابتك !

أطرق جان رأسه بحزن.. ثم قال فجأة : أنا آسف.. <و حملق فيه وليام مستنكرا فأضاف : لقد قتلت لونا بسببي.. لو أنني ابتعدت عنها ما كان...

فقاطعه وليام مستاءا : أنت لا علاقة لك بما حدث ! ذلك الوغد لم يكن في مقدوره قتل أختي وقتما يريد ! فهي مهمة جداً للمنظمة - التي يعمل هو كلب حراسة عندها - و موتها يعني انتقال ثورة أسرتي بكاملها - و التي كانت تحت إدارتهم - إلى أسرة ميلارد ، و هذا ليس في صالحهم إذ سيخسرون مصدر تمويل في غاية الأهمية !
لذا.. لابد أن مهمة اغتيال أختي كانت بأمر من القادة أنفسهم !!

و كز جان على أسنانه و الدموع تتجمع في مقلتيه : أؤلئك الأوغاد !

حدق إليه وليام بنظرة جانبية و قال على غير توقع : من المهين حقا أن ينتمي إنسان مثلك إلى أسرة من الضباع الدنيئة كأسرة أوران !

و أخفض جان بصره بيأس : في النهاية لم أفعل شيئاً مفيداً و لم أستطع إنقاذ أحد !

- لقد فعلت كل ما في استطاعتك ، فلا تلق اللوم على نفسك ! أن تخون أسرتك و أهلك لتنقذ طفلاً بريئاً.. ذلك ليس بالشيء اليسير !


وبينما يتكلم وليام.. يعود جان بذكرياته إلى الماضي أكثر من إثنا عشر سنة :

● وقتها كان لا يزال طفلا يعيش مع أسرته.. أوران ! و على خلاف جميع من حوله كان هو يملك قلباً نقياً و ضميرا حيا ! في البداية لم يكن يدرك حقيقة العمل الذي تمارسه عائلته ، و رغم ذلك تراوده الوساوس و يحرمه القلق المتزايد من الشعور بالأمان.. خصوصا في الفترة التي بدأ فيها رجال كريهون يتطاير الشر من عيونهم بزيارة منزله كل عدة أيام ! و حالما يدخلون المنزل.. ينزلون مباشرة إلى القبو و يقضون معظم وقتهم هناك..ثم يخرجون ضاحكين !
و لسبب ما.. ينقبض قلب جان أكثر فأكثر ، و يحس بألم عميق لم يعرف مصدراً له.
في ذلك القبو.. توجد غرفة مغلقة ، جدرانها عازلة للصوت ، ليس فيها نوافذ و لا يوجد مدخل إليها غير باب حديدي ثقيل بالكاد يسمح لذرات الهواء من التسلل لداخل الغرفة المعتمة !
لذلك لم يكن في مقدور جان سماع ما يحدث فيها.. حتى ذلك اليوم ! حينما كان واقفا قرب الباب المؤدي للقبو ، و أؤلئك الرجال برفقة والديه في تلك الغرفة -ويبدو أنهم قد تركوا الباب مفتوحاً- سمع صرخة ! كانت قصيرة مبحوحة ما لبثت أن تلاشت ! لكنها كادت توقف قلبه !
و تبع تلك الصيحة ضحكات بغيضة ثم خطوات تصعد الدرج مقتربة من جان..
فترك الفتى مكانه.. إذ في تلك اللحظة أدرك جيداً ما عليه فعله ! صعد إلى الطابق الثاني حيث غرفة نوم والديه ، و فتح أحد الأدراج ، ليأخذ زجاجة مملوءة بالحبوب المنومة ! أخذ بضع حبات ثم أغلقها و أعادها لمكانها ، و خرج إلى المطبخ ، و تحديداً إلى الطاولة المستديرة التي وضعت فوقا زجاجات النبيذ المفضلة عند والديه و التي غالباً ما يتم تقديمها لأؤلئك الرجال حين يأتون ! أمسكها واحدة واحدة و أفرغ في كل منها حبتين ، ثم أغلقها بإحكام و غادر المطبخ !
سارت الخطة كما أراد جان لها.. و ها هم الجميع يغطون في نوم عميق !
تقدم بحذر.. و مد يده إلى الجيب الداخلي لسترة والده النائم .. و أخرج منه المفتاح !
لم يهدر وقتا ، و اتجه من فوره إلى القبو.. أدخل المفتاح الكبير في القفل الحديدي ، و فتح الباب الثقيل مصدرا صريراً حادا !

على الأرض الرطبة الباردة وسط الظلام المريع.. انكمش طفل يصغر جان بعام واحد فقط !
اقترب الأخير منه بخطوات خائفة و قلبه يدق بعنف.. ثم ركع قربه.. كان جسد الطفل الضئيل من رأسه إلى أخمص قدميه مملوءا بالكدمات و الجروح التي ظلت تنزف حتى جفت دماؤها !
فتح الصغير نصف عينيه.. فكلمه جان بقلق و اضطراب : هل.. أنت بخير ؟! هل.. تستطيع الكلام ؟!!

فرج شفتيه البيضاوين الجافتين ليتكلم لكن صوته لم يخرج.. فأسرع جان و ذهب إلى المطبخ ، ثم عاد و قد جلب معه قنينة ماء و كسرة خبز ، سحب الطفل و أسنده إلى الجدار ثم وضع قنينة الماء على فمه و ظل ممسكاً بها حتى شربها كلها.. بعدها تمكن بصعوبة من تحريك يديه و تناول بمساعدة جان بعضا من الخبز..

و سأله الأخير : ما اسمك ؟! ولم أنت هنا ؟!

تحدث الطفل بصوت مرهق متقطع : ماتيو .. اسمي ! و أنا هنا .. اختطفتني .. العصابة ... لتهديد جدي !

- إذن يجب أن أعيدك إلى جدك بسرعة قبل أن يفيقوا !

فقال ماتيو حزيناً يائسا و قطرات من الدموع تسيل على خده المجروح : لا فائدة.. لقد قتلوه !

ارتمى جان على الأرض..
و طأطأ رأسه.. من الوقع الثقيل للصدمة القاسية !
و تمتم بصوت خافت و وجه مبهوت : لا يمكن .. لا أصدق .. أن أسرتي تفعل شيئا فظيعا كهذا ! لماذا ؟!! لماذا ؟!!

و لم تمض دقيقة.. حتى نهض و قد انقلبت تعابيره.. و أحاسيسه كذلك !
دنا من الطفل ، ثم حمله على ظهره ، و خرج من تلك الغرفة و
بعدها من البيت كله !

كان الوقت قبيل منتصف الليل حينذاك..
وبدأ جان في الظلام طريقه بعزم و ثبات نحو مركز الشرطة !
هناك.. أمام المدخل رآه أحد رجال الشرطة ، فهرع إليه قلقاً.. و عندما وقف قبالته قال له جان بصوت محتد قوي و عينين محمرتين تعكسان النار الحمراء التي تلتهم صدره : خذني إلى رئيسك ! أريد الإبلاغ عن
مجرمين يجب القبض عليهم !!


في ذلك الوقت كان إيفان ، قد عاد للمنزل فصدم بأن الجميع مخدرون في غرفة الاستقبال !
و بعد محاولات كثيرة و عنيفة لإيقاظهم ، نجح في ذلك أخيراً ، لكن آثار التخدير لم تزل بعد.. فكانوا يتحركون بصعوبة و هم بالكاد يفتحون نصف أعينهم !

كان هجوم الشرطة مباغتا ، مع أن أفراد العصابة قد وصلهم تحذير بشأن ذلك ، إلا أن معظمهم لم يتمكنوا من الهرب في الوقت المناسب ! قبض الشرطة على خمسة رجال من العصابة من بينهم والدة جان ، أما أبوه فقد قاوم و حاول إطلاق النار على الشرطة ، لكنهم أردوه قتيلاً قبل أن يضغط على زناد مسدسه !
فقط إيفان و رجلان آخران تمكنوا من الفرار و غادروا المنزل في اللحظة المناسبة !
و قد أدرك الأخ الأكبر الأمر كله و عرف أن ذلك قد حدث جراء خيانة أخيه الصغير !

كان السيد أوتيير هو قائد ذلك الهجوم ، و قد أمر بإبقاء هوية جان الحقيقية سرا عن العامة حتى يكمل حياته كسائر الناس دون أن ينظر إليه باحتقار و دونية لأنه ابن أسرة من المجرمين ! و تم الادعاء بأنه كان مختطفا كذلك مع ماتيو !
أما ماتيو الصغير ، فقد مات في المشفى رغم كل الجهود التي بذلت لإنقاذه ! و قد اكتشف جان لاحقاً أن أحد الأطباء كان يعمل لحساب تلك العصابة ، فقام بقتل الطفل باحتراف و دون إثارة للريبة !

و أما عن والدة جان و الأربعة الآخرين.. فقد قتلتهم العصابة و هم في السجن بتسميم طعامهم ، قبل أن يتمكن المحقق من استجوابهم !

عاش جان بعد ذلك في منزل المحقق أوتيير ، الذي كان معجبا جدا بشجاعته و إنسانيته النادرة !
و في تلك الفترة تلقى جان رسالة من أخيه إيفان.. كانت تقول :
"من إيفان إلى الخائن !
سأتركك تعيش ، حتى أستمتع بتعذيبك وتحقيق انتقامي منك !
و أقسم لك أنني سأقتل كل من تحبهم ، و أجعل حياتك جحيماً !
انتظر ذلك فقط !"

و منذ ذلك الوقت و جان يتحاشى الاختلاط بالناس بل يعاملهم بقسوة و فظاظة حتى يكرهوه و يبقوا بعيدين عنه !
فبالنسبة له أن يعيش وحيداً حزيناً أفضل ألف مرة من أن يتأذى إنسان بسببه !
لكن كان هناك شخص واحد فقط لم يتمكن من إبعاده عنه و هي لونا !
فقد أدركت رغم وقاحته و لذاعة ألفاظه المتعمدة.. أنه يمثل فقط و هو في أعماقه مختلف كلياً عن الصورة التي يظهرها للناس !



تنهد وليام لينتشل صوته المفاجئ جان من بحر ذكرياته ، و قال باتسامة باهتة لا تظهر إلا القليل من الألم المتغلغل في أعماق قلبه : إن كان هناك شخص يجب أن يلام فهو أنا ! إنها أختي الوحيدة و أنا من يفترض به حمايتها و الاعتناء بها.. لكني فشلت تماماً ! لقد نأيت بنفسي عنها و سافرت بعيداً بغية حمايتها من شرور الأوغاد ، فهم إن علموا بنجاتي سيستغلون أختي الصغيرة للإمساك بي و قتلي ، ثم قتلها هي كذلك ، كما فعلوا مع المسكين إدوارد و حفيده !

كاد جان يتكلم.. لكنه امتنع .. إذ في تلك اللحظة ظهر من أحد الأزرقة شاب أشقر ودود الملامح .. يرتدي نظارة و يحمل في يده آلة تصوير !

قال له وليام مرحباً : أهلا رون ! إذن هل سار كل شيء كما يجب ؟!!

هز رون رأسه مبتسما : نعم ، لقد صورت كل شيء !

و التفت جان نحو وليام بنظرة تساؤل فقال الأخير معرفا : هذا هو أفضل أصدقائي ! الصحفي الأمريكي رونالد كارتر !

تبسم رون لجان و قال بمحبة : سررت بمعرفتك !

لكن المعني تجاهل الرد عليه بالمثل ، و عاد يسأل وليام : إذن فأنت تريد أن تفضح أمرهم بهذا الفديو ؟!!

- نعم.. لكن ليس الآن ! سأدخره لوقت لاحق ! فنشره في وقت كهذا سيفقد الناس ثقتهم بالشرطة كلها ، و تلك العصابة اخترقت بعض أقسامها فقط ! لذلك يجب أن نستخدمه بحكمة !

- إذن.. ماذا ستفعل الآن ؟!

و ضحك ويليام ملء فمه ثم قال بنبرة يعتريها بعض الجنون المرح : إلى أن يحين ذلك الوقت سنغدو نحن.. إرهابيين أوغاد خارجين عن العدالة !!

أطلق رون ضحكة خفيضة مؤيدة .. و سأل وليام : و أنت ؟! هل ستنضم إلينا ؟!!

قال جان بابتسامة تهكمية ساخرة : إذا كانت الشرطة الشريفة مثل هؤلاء <و أشار نحو جثث المجرمين الثلاثة> فيشرفني أن أكون المجرم الوضيع !

و قال ويليام مداعبا : رائع ! أظنك ستلعب الدور جيداً ! فالإجرام مختوم على وجهك !

ثم ضحك هو و رفيقه.. أما جان فنظر إليها ببرود من طرف عينه !

و استدرك فجأة و قد تذكر : أوه ! يجب علينا العثور على ويندي بسرعة قبل أن يجدها أؤلئك المجرمون !

فرد ويليام بابتسامة غريبة : آه تلك الفتاة ! لا تقلق عليها ستتدبر أمرها !

حدجه جان بنظرة حادة و قال معنفا : ما الذي تقوله ؟! كيف ستتدبر أمرها ؟! إنها طفلة بلهاء ساذجة لا تعرف يمينها من يسارها !

فضحك ويليام : لا أظنها ستسعد بسماع مديحك هذا !

ثم أضاف بشكل مفاجئ : بعد أن نأخذك للمشفى ونتأكد من سلامتك.. سنذهب أنا و رفاقي للبحث عن ويندي ماكستر !!

شدد على اسمها بطريقة غريبة غير مبررة .. فقال جان مدهوشا : مستحيل !! لا تقل أن..

لم يرد وليام و اكتفى بتكشيرة ماكرة !



⭐⭐⭐



في تلك الأثناء و في مكان لا يبعد كثيراً..
كانت ويندي في رواق ضيق.. تستند على الجدار و تلهث في تعب و إعياء ، فقد ركضت مسافة طويلة دون توقف !
و ما إن انتظم تنفسها حتى أخرجت هاتفها ، و اتصلت بذلك الشخص الذي كانت تسميه في سجل الاتصال "العفريت"!

مرت ثوان قليلة قبل أن يفتح الخط و يرد بقوله ساخراً : "مرحبا ً! هل تزالين حية ؟!"
صاحت محتدة : لقد كدت أموت بسببك !

ضحك ذلك الشخص باستهزاء ثم قال : "حقاً ؟! ألست أنت من قالت "لا يوجد شيء يستعصي علي القيام به !" كما أنني حذرتك مراراً من خطورة هذه المهمة لكنك قبلتها بغرور و دون اكتراث !"

فقالت مرتبكة و وجهها يحمر من الإحراج : أجل.. لكن..

قاطعها قائلاً :"ليس هناك لكن ! لقد فشلت و انتهى الأمر ! أنا مشغول الآن لذا لا تتصلي مجدداً ! وداعاً !"

ثم أغلق الخط ! حملقت في هاتفها بغضب و هي تعصره بيديها ثم قالت و كأنها تحادثه : عليك اللعنة ! كيف تجرؤ على التحدث معي هكذا ؟!

و بينما هي كذلك.. توقف سيارة حمراء في آخر الزقاق.. و نزلت منها فتاة بشعر كستنائي قصير ، و وجه جامد جمودا ساخراً ، خطت نحو الشقراء المستاءة وهي تقول : مرحباً ، تبدين في حالة سيئة !

و قالت ويندي بإرهاق بالغ : آه يا جولين ! كان يوماً فظيعا ! و فوق كل هذا ذلك العفريت الأحمق يهزأ بي !
يهزأ بي أنا ! "مدام لوبين" !!

ثم قبضت على قمة شعرها.. و خلعت الشعر المستعار و القناع المثبت به !!
ليظهر وجهها الأسمر ، و شعرها الذهبي القصير ذو الأطراف الداكنة !!

زمت شفتيها و هي تتذمر قائلة : ما زلت لا أصدق أني فشلت ! أنا اللصة الشهيرة و الممثلة المحترفة ! نجحت في انتحال عشرات الشخصيات من المشاهير دون أن يشك أحد في أمري !
و الآن عند تمثيل دور هذه الغبية أفشل ؟!!
آه كم هذا مهين يا جولين !!
خصوصاً.. عندما كشفني ذاك السافل الوسيم ! لا يمكنك أن تتخيلي مقدار السخرية في نظراته ، و هو يطلب إلي العودة للفندق بعد أن تظاهرت بالحزن و الهلع على موت الدكتور ! لا بد أنه أدرك الأمر منذ أن أتى لإيقاظي في الصباح ! و أنا البلهاء صدقت تلك الشهامة منه و عدت للفندق ! كان في الحقيقة يريد أن يستخدمني كطعم لاجتذاب أؤلئك المجرمين ! و حينما كنت أجري هاربة بعد أن أنقذني الرجل الغامض ، لمحته من بعيد يلوح لي و يكشر بمكر و تهكم !! إنه رجل حقير ! و رائع جداً في الوقت نفسه !!


كانت جولين و كما هي عادتها دائماً تستمع دون مقاطعة و كأنها آلة تسجيل أكثر من كونها إنسان ! وحالما انتهت مدام لوبين من حديثها الغريب المتناقض ، نطقت جولين قائلة : والآن هل يمكن أن نذهب ؟!!

و انقلب مزاج المدام في لحظة و قالت من فورها : أوه نعم لنذهب فأنا متعبة !


⭐⭐⭐



بعد ذلك بساعتين و في فيلا عصرية جميلة في أفخر شوارع باريس !
اعتدل ساندرو آليغرا ، مصمم الديكور الإيطالي الشهير في جلسته.. و أمامه على المكتب قد تبعثرت الأوراق هنا و هناك !
تنهد ثم شرع يجمع الأوراق و يرتبها في انتظام داخل ملف واحد ، و بعد أن انتهى.. التفت إلى الشاب الأشقر إيطالي المظهر و قال و هو يمد نحوه يده بالملف : خذ هذه التصاميم يا روميو وسلمها إلى المدير فوراً.. فقد تأخر موعد تسليمها المحدد !

و أخذها روميو بصمت ، و غادر منفذا أوامر السيد آليغرا !

نهض المصمم الإيطالي من كرسيه يمسك كوبا من القهوة المرة و اجتاز الغرفة متجهاً نحو الشرفة الواسعة !
وقف هناك.. يراقب الشارع الهادئ و الناس المارة بابتسامة غريبة مفعمة بالثقة !

ارتشف من كوبه ثم همهم : يا لهدوء هذه المدينة ! وكأن لا شيء يحدث فيها ! تلك هي بالضبط ما تسمى بالحرب الصامتة ! دمر برفق ! اقتل بهدوء ! مت بسكوت !
إنها بلا شك الحرب الأكثر رعباً و شراسة !
وأنا وحدي من يعرف مفتاحها ، و بحوزته الورقة الرابحة للنجاة منها !!











رد مع اقتباس