[
حين اندثر الجسد.. بقيت ذكراه خالدة، تجسد نكران وخيانة الأقربين
عاش في جحيم احتوى متضاربات من الأسى حتى غدى لا يفرق بين البهتان والحقيقة
لم يرغب في اقترافهم لتلك الخطيئة.. لكن وساوس الشيطان كانت أقوى
وساوس زلوا على اثرها إلى الحضيض الأسفل، لا يدري هل ستغفر السماء خطاياهم
لكن همه الوحيد هو ان يغفر حاكمه ما اقترفت يداه.. تمنى الخروج من القوقعة الجليدية
التي كانت سجنه ل18 عقدا مضى، وها هو مراده يتحقق أخيرا.. تساءل كثير هل تضرعاته
وصلواته كانت مقبولة؟ هل هي مستجابة؟.. أم أنّ القدر قد كتب الحاصل على سجيته منذ ألاف القرون
الغابرة.. لم يعلم، ولم يهتم فكل رغبته لقيا حاكمه المبجل والسؤال عن أحوال رفاقه القدامى
كان صوت تشقق الجليد كترانيم عيد بالنسبة له، لفحات الهواء الحارة التي التفت تغطي
سائر جسده المتجمد، ضوء المرجان المشع المتعلق على جدران الكهف
أثقل جفونه المغمضة. بتشنج ممزوج ببعض الوهن
فتح عيناه الجليديتين.. لم يستطع التعرف على الواقفين أمامه.. ولم يهتم لأمرهما، كان في
شبه غيبوبة، بين الحياة والممات وكل ما استطاع القيام به هو تحريك فكيه
وذكر اسم -إيثر-
لم تغفل عنه الابتسامة التي علت وجه أحدهما، بالرغم من رؤيته الضبابية إلا أنه
لم يرتح لها أبدا.. بادر بتحريك اطرافه بهدوء، مخدرة كانت خصوصا بعد مضي
هذه المدة الطويلة على احتجازه..
سيبيريوس الواقف على مقربة من ألفيوس الذي يشاهد النور من جديد بعد مضي مدة
طويلة قد أحس بالغرابة، بالرغم من أنهما لم يلتقيا أبدا في الماضي إلا أنّ هذه
اللحظات الآن قد جعلته يهتم لأمره ولو قليلا.. تنهد بانزعاج
ثم استدار إلى أبولو بلاتيني الشعر ذي العيون البنفسجية، من كان السبب في خروجه من
الفقاعة المائية التي احتجزته منذ حين
لم يكن أبدا يرتاح له، فهو من النوع غير المقروء، لا أحد فهمه غير إيثر
لكن ذاك الوحيد قد اندثر الآن ولهذا فالوسواس الذي يخالج سيبيريوس دائما قد ازداد.
أحس أبولو بالجو المتوتر الذي بدأ يطغى على المكان، وفي محاولة منه لكسره قرر
أن يجعل ألفيوس الشبه حي لعبته الصغيرة لمدة
تقدم بخفة لتتحرك عباءته الخضراء المطرزة بالذهب من خلفه كأن الحياة دبت فيها فجأة
ثم قال بصوت احتوى على رنة تجذب الانتباه وتسلب الألباب
-سعيد لعودتك من عالم النسيان ألفيوس.. أنا أدعى أبولو وأنا أحد السدم الاشعاعية
المسؤولة عن حماية إيثر
باستمتاع راقب تشنجات ألفيوس التي صاحبت قوله هذا، أكمل كلامه وابتسامة ودودة
معتليه ثغره
-حسنا بما أنّ قرنا مضى على حجزك سأعطيك ملخص لكل ما حصل، بالرغم
من أنّ احتجازك هنا كان لغرض التطهير لا العقاب.. إلا أن الباقين قد محقوا من الوجود وهذا
ليس بالأمر المفاجئ، فمن يرتكب خطيئة الخيانة عليه بتلقي العقاب، صحيح
أن إيثر لم يكن ليقتلهم إلا أن سيان قديسة العالم قد كانت معه على خلاف..
في النهاية، وبعد انتهاء تلك الحرب قرر إيثر ان يقوم بصنعنا نحن، سدم باندورا
كما تعلم نحن ربما، هم بدائلكم المحسنين؟ لقد صنع أربعة عشر حارس
كل واحد منا احتضن جزء من مشاعر وتصرفات إيثر
صمت بعدها يتلذذ بالمعالم المنزعجة التي ارتسمت على وجه ألفيوس، لم تغب
الخباثة المبطنة التي يستعملها غالبا عن سيبيريوس الذي قال متململا بانزعاج
-أبولو كفاك لعبا، ما دمنا حققنا مرادنا فلا طائل من بقائنا هنا
-أنتظر قليلا سيبي.. على ألفيوس أن يعلم كل شيء لا نريد منه ان يحمل أمالا كاذبة
في لقيا إيثر، ألا توافقني؟
ازداد انزعاج سيبيريوس لكنه التزم الصمت، فهو أدرى بنهاية النقاشات مع أبولو
لكن ما لم يدركاه هو العاصفة القادمة، مشاعر من الحزن وعدم الاقتناع، غضب شديد
وخوف من الحقيقة التي سيسمعها. كان ألفيوس في وضع يرثى له، لكنه فضل الصمت
والاستماع بخشوع، فهو يريد أن يعرف كل الحاصل خلال العقود الماضية.
أستطرد أبولو حديثه بعد أن ضرب كفيه ببعضهما
حسنا سأكمل إذن.. بعد هلاك أودن ورفاقه قرر إيثر التخلي عن كماله وهكذا صنعنا نحن
حماة أغارثا الجدد.. لكن بعد كل هذه السنوات العديدة وللأسف فقط تعرض إيثر للخيانة
للمرة الثانية وقد مات على اثرها هذه المرة.. ففي النهاية الجرة لا تسلم مرتين
~مات~ ترددت هذه الكلمة التي يخشاها مطولا في ذهنه، عيناه ارتجفتا، تماما كسائر
جسده، لم يعد قادرا على إدراك أي من الأحاديث التي يتبادلها الأخرَيْن
وحده في عالم منعزل ضج بكلمات كالموت، الهلاك، الزوال والاضمحلال
لم يتخيل قط أن يموت إيثر، حتى قبل 180 عام بعد أن خانه البقية كان يعلم في قرارة نفسه
أنه ورفاقه سيهلكون بينما الأخير سينجُو، أن يسمع هذا الكلام الآن كان كالكابوس بالنسبة له
فخوفه كان يتمركز حول عدم مسامحة إيثر له بسبب ضعفه، لم يفكر قط أن السنوات الضائعة
ستضيع عليه أخر رغبة له.. لم يعلم متى تحرر أو كيف سار.. لم يعلم ماذا قال أو ماذا
أخبروه، عيناه الجليديتين قد ازدادتا برودة، عينان أغشتهما عاصفة جليدية تزيل الحياة.
ابتسم أبولو باقتناع لما حققه ثم حرك يده التي احتوت على خاتم ذهبي في الهواء فتشكل
قرص سرعان ما ملأته كتابات ذهبية توهجت بقوة، وفي ثوان معدودة كانوا هناك
أمام قفص دايدالوس الذي احتوى على أجيس ورفاقه
وبنظرات سببت الرعشة لهم تاملهم ألفيوس، الذي تقدم بهدوء وهو يردد اسم
~زيوس~ التي كان من المفترض عليها حماية إيثر، لكن لم تقم بأي شيء مفيد.
لم يوجد غيرها هي فقط واقفة أمامه على بعد خطوات قليلة من أجيس وفانس.
كانت مشدوهة إلى حد بعيد، فها هي الحياة تلطمها مجددا بمفاجئة ثقيلة الوزن
لم تكن حال أجيس بأحسن منها، فها هو بصيص أمله الصغير قد اتضح
أكثر وأكثر.. لم ينبس أحد بأي كلمة، صمت مدقع اكتنف المكان وما قطعه إلا حديث
فانس ذي النبرة النعسة
-ألديك تلخيص لما اقترفته أبولو.. مالي أراك سعيدا لهذه الدرجة؟
-لم أرك منذ مدة فانس، كما ترى لقد جلبت ألفيوس لكن.. ألا تظن أن
عقاب الخونة هو الأهم الآن، لنترك شرح الأمور لما بعد المعركة
-معركة؟
غمغم فانس بكلمته مستفسرا، لم يطل انتظاره حيث شقت صيحة أبولو الجو السائد،
استطرد وهو يفرد يديه بطريقة درامية معلنا عن بدأ ملحمته الختامية
-أجل المعركة التي ستجمع زيوس وألفيوس، معركة حتى الموت.. في النهاية
على الخونة أن يلاقوا نهايتهم على أيدي بعضهم.. ألا توافقني؟
لم تكن صدمة واحدة.. بل هي عدة ضربات على أوتار حساسة لكل من في القاعة
لم يفهموا أبدا مغزى كلامه وهذا لم يكن بجديد على الأغلبية.. لكن من الواضح
أن مراده بعيد كل البعد عن الانتقام لمقتل إيثر كما يزعم، فما الذي يرمي إليه هذا الرجل بحق الاله؟
-ما قصدك أبولو؟ أو تتخذ مثل هذا القرار لوحدك؟
لم يعر أي اهتمام للكنتها الغاضبة، فقط منحها احدى ابتساماته الساحرة، المستفزة، الدائمة
وبحركة خفيفة كانوا قد انتقلوا إلى حلبة قتال في وسط أغارثا.
تأمل ألفيوس المكان الذي وصلوه بدهشة عارمة أكدتها كلماته
-إنها جميلة بطريقة غير متوقعة
-أجل في النهاية لقد صممها دايدالوس بنفسه، وكما ترى فهو عشق الطيور على نحو
مثير للشفقة لهذا تبدوا كقفص طير كبير، أما المدرجات فهي بمثابة القضبان
-أهي قفص طيور حقا؟ تبدو كآنية فخارية بالنسبة لي
برعب درامي صرخ أبولو وهو يحتضن نفسه في حين سُمِع هزيم الرعد من خلفه
فأي شبه بين القفص والأواني بحق صانع الكون؟
كم يشعر بالحزن على دايدالوس، فمنذ عقود لم يقل أحد غير هذا الغبي كلمة مسيئة عن ابداعاته
انزعج أجيس من حديثهما غير المهم، لا بل انزعاجه انصب على أبولو الذي قرر ذاك
النزال المفاجئ وها هو الآن يخوض نقاشا غير مهم البتة
وبحركة مباغتة من الأخير تناثرت بتلات ورود حمراء قانية، تبعتها كلماته التي لا معنى لها
-والآن كفانا مزاحا ولتبدأ المعركة المصيرية، كل شيء جائز لكن لا تلكم وجهها
ستكون مشكلة ان تشوهت.. أتتخيل رفاتها وهي بذاك الشكل؟ وانتِ زيوس لا تشويه
برعدك، اتركي جثة من أجل الدفن
لم يعلق أحد على كلامه، فأي عاقل سيجادل مختلا مثله، أجيس لم يستطع
الحديث على خلاف عادته، فأبولو تماما كفانس يسبب له رعبا غير مبرر، أما
سيبيريوس فهو مجبر على طاعته بأمر من نيكس.. لم يفهم بتاتا لما أمرته بتنفيذ
أوامر أبولو، خصوصا أن زيوس هي المقربة منها
-أرغبتك السلطة أم السلطة؟
-ما كنت يوما لأطمع بأقل من ذلك، لكن رغبي بتاتا ليست السلطة وتأكيدا ليست السلطة
-ما كنت يوما أحب المقامرة أبولو، واعدك بأني سأعذبنك ان كانت غايتك من الحماقة
تحمل الكثير
بالرغم من أنه خائف إلا أنه قرر المغامرة، ربما لا يعلم نهاية الأمور لكنه يثق بحدسه
الذي لم يخنه قبلا
-فانس هل حقا سنترك تلك الشيء عديم الأخلاق تقاتل ذاك الشيء
انتبه كلا من أبولو وسيبيريوس على أجيس الذي احمر بسبب التوتر
في حين أجاب فانس بطريقته المعتادة وبنفس معالم الوجه النعسة، غير المهتمة
-أجيس ذاك الشيء بشري لهذا لا تشمله معنا، أما عن قتالهما فهو أمر لا طائل منه
لا تحاول إيقافه، بل اترك القدر يسير حسب ما هو مخطط له
-تماما!
-أنت لتصمت، فقدرك ليس بذاك المزين بالورود
-تبا، أيجب أن أكون ضحية زيوس كالعادة
وكالعادة كلما يكون أبولو مشاركا في حوار يتغير منحاه بدرجة كبيرة، وهذا ما ادخل الرعب
إلى قلب أجيس الذي قال ووجهه يوشك على الانفجار
-أتتغير المواضيع بصفة دائمة كلما شارك أبولو فيها، لا الأهم هل تلك الشيء قليل
الحياء مخيفة؟
~اجل~ هكذا جاوباه من دون التفكير مرتين، كان يتساءل عن حقيقتها فهي بالرغم
من كل ما سمعه عنها بدت مختلفة عما تخيلها، لهذا قرر المراقبة.. من يدري ربما يبصر
شيئا لا يحدث إلا تارة
انسل ألفيوس إلى الأمام بخطوات صامتة، وهو يحمل في يديه سيفا فريدا لم يرى
أجيس مثله من قبل، سيف نبض بضوء الشمس، لا بل بدى أنه صنع منه في أول وهلة
كان كسرة من البلور الرقيقة، بدى كسيف شبحي بسبب الوهج الأزرق عند الحواف
وبحكم دراساته السابقة أدرك أن هذا السيف أقوى من أي شيء رآه قبلا
لمحت زيوس عينيه، كانتا تسببان حرقا أشد من حرق الجليد، أعين أشد زرقة من أي
أعين بشرية قد رأتها من قبل، أعين قد خلت من الحياة، لا بل خلت من الإنسانية
كانت أعين وحش مفترس يرغب في إراقة الدماء
شعرت زيوس بالتوتر وهذا ما أحسه أجيس، لم يعلم السبب لكنه متيقن أن سباتها
الطويل قد سبب لها عطل في أحد الأعضاء الحيوية أو شيء من هذا القبيل
كان الوقت غسقا، الحمرة التي انعكست على سيف ألفيوس جعلته يبدو مغطى
بالدماء، دماء ألاف من الضحايا، حتى بدى لزيوس أنها تسمع صرخاتهم المعذبة
ومع كل دقيقة تمر كان ثقل الجو يزيد وتغير لون الأفق للبنفسجي، دقائق من الصمت وكل
واحد يترقب حركة الأخر، من يخطئ في خطوة واحدة سيفقد حياته أو ربما أسوء من ذلك
ومع أول خيط للظلام انطلق ألفيوس نحو زيوس التي حملت سيفا فولاذيا كان
مرميا وسط الحلبة.. طنين مدوي كنواح الشخص الجريح، هذا ما انطلق بعد التقاء
نصلا السيفين.. صدت زيوس الضربة الأولى ثم تراجعت إلى الخلف وهي تتألم
على خلاف ألفيوس الذي كان في أحسن حال، جسديا على الأقل
نفسيته كانت في حال يرثى لها، فمن استسلم للغضب حانت نهايته وهذا أمر بديهي..
تقدم مجددا ومرة أخرى اصطدم السيفان مصدران ذلك الدوي المزعج
أحس أجيس بألم في رأسه، ورغب في أن يغطي أذنيه.. لكنه امتنع، فهو بعيد
عن المتقاتلان وما يسمعه الآن لا يعد شيئا مقارنة بهما.
كانت زيوس تعبة وقد تفنن الإرهاق في رسم معالمها، بالرغم من أن حالتها كانت أحسن من ألفيوس
فعقدين لا يقارنان بقرابة القرنين.. لكن الغضب الذي اجتاح الأخير كان دافعا يزيد
من قوته.. وبأنفاس متقطعة سألت وهي تطمح في إجابة تشفي غليلها
-أخبرني ألفيوس، ما سبب قتالك هنا؟
طال صمته حتى ظنت أنه لن يجيبها، لكنها كانت مخطئة فقد قال بصوت أشبه بالهمس
-أنا فقط أرغب بأخذ ثأر ملكي
-أنى لشخص جاهل مثلك أن يفكر حتى في هذا؟
كانت منزعجة، متعبة وغير قادرة على ترتيب أفكارها.. أرادت الدخول في حديث
سلمي معه، لكنها فقدت أعصابها.. لم تستطع احتمال النبرة اللاذعة التي
تصفها بالخيانة، خصوصا من شخص مثله فشل قبلا في إتمام واجبه.
ازدادت برودة الجو، غدى لهاث زيوس يظهر على شاكلة بخار ساخن في نور القمر
أما سيف ألفيوس فقد اكتسى بصقيع أبيض.. أحكم قبضة يده على السيف ثم وجه
ضربة أخرى إلى زيوس والتي تأخرت حركتها، فأصاب نصل السيف ذراعها
تدفقت دماءها الحمراء، وازداد ارتعاش يدها فأسقطت السيف، وبكل ضعف
حاولت امساكه لمرات لكنها لم تستطع
راقبت البلورة الرقيقة تقترب منها، وكم أشفقت على حالها.. أهذه نهايتها؟
في الحقيقة.. هي كانت تفضل الموت في ميدان المعركة، لكن ليس بهذه الطريقة
الهزيلة، المثيرة للشفقة.. كم لعنت نفسها بسبب الضعف الذي غدت فيه..
[B]لكن ما النفع من ذلك الآن؟
***