الموضوع: Xll | إِثنا عَشرْ
عرض مشاركة واحدة
  #65  
قديم 08-09-2017, 04:18 PM
 



.







من أين استوحت جمال حروفك ؟؟
هل من ضياء اللجين أم لمعان النجوم

قلمك راقي
كريستال





الفصل السابع: سليل فرانكشتاين.
~تابع~

سكن في خضوع.. يستمع إلى صدى ترنيمة العزاء التي عمت الحيز المضجر، هنا حيث يقبع
في النسيان حيث اللامكان.. فتح عينيه الفريدتين ليصطدم نظره بالكريساكولا الوهاج في السطح.. رفع يده
بفضول يستكشف ذاك التموج الغريب الذي يلمع كخلب شبحي وسط أزرق حيوي.
هو لم يعي موضع القدم منذ دخوله ذاك النفق الاهليجي، وكونه محتجزا كبيدق عاجي في هلام لازردي
هنا ليس بالغريب أو الفريد في شيء.. تشقلب بفوضوية ثلاث مرات فالرابعة، والتي توقف في منتصفها حين
لمح تلك الكلمات.. تتوهج بفجور وتبختر مجددا ومجددا. كانت تتشمت به بطريقة فريدة من نوعها حقا.
ظل ينظر وان لم يكن بمهتم.. هو مسجون هنا، من دون شاغل يشغله. لن يخسر شيئا ان علم القليل عن وضعه.
تأمل بملل، ينتظر ما سيتشكل بعد نهاية الرقصة المسترجلة للكلمات الخادعة التي نقشت قبلا على بابه السخيف
في ذلك الديجور البهيمي الغادر، تمتم بخفوت وهو يمط قطعة سمك مقدد في فمه
-يال سخافة الحياة.. ما هو الغموض الموجود في جملة ~سمك مقدد مجاني~؟
أسفر ثغره عن ابتسامة شامتة وهو يقرأ ما حيك بخط عجيب مغمس في البياض
~أمقدس؟ كَمَدٌكَ المجنِيْ~ وهناك على السطح حيث نقشت هذه الكلمات تجلت أول لطخة
كهرمانية لا يتخللها السواد.. بدأت بالتوسع شيئا فشيئا ومع كل جزء تشغله تُدَنِسها مناظر
ضبابية.. كان واعيا لكن وعيه عجز عن تتبع تطورات المكان التي تفوق الطبيعة -حتى بالنسبة له هو-
كانت مدة.. دقائق، ساعات لا يدري فهذا المكان يختلف عن عالمهم، له قوانينه الخاصة التي لن يمكنه أن يخرقها
.. فتح عينيه ليعي مجفلا مصدر المعزوفة البيتهوفنية الخاصة به.. ذلك الصوت الكئيب الهادر لم يكن إلا
هزيز لهيب الشموس الثلاثة العملاقة. ظهر الاستياء جليا عليه.. فأي نحس تملكه جليسته بحق الاله؟
تذكر حين أتت وعاصفة غضبها.. تخسف بباب منزله أين انعزل عن الحياة ونشاط المدن في شقته
التي اعتلت قمة العمارة الخامسة، هو لا يشعر حقا بالندم لقبوله ما ظهر على لعبة الفيديو خاصته
هو فقط يحس بالملل لأنه هنا.. من دون شيء يسليه في وقته الثابت. تنهد بتبرم ثم
عدل من جلسته وأكمح رأسه فحفلت الأيونات الشقراء بالترمالين الأصفر المخضر المتبلور في
عينه اليسرى، وتمازجت مع اللون الزيتوني الذي استحوذ على الأخرى ثم غاصت في شق البؤبؤ الطولي
.. أكثر تميزا، هكذا أردتهما أشعة الشموس التوائم الثلاثة التي شمخت وتبخترت فأحرقت الحياة وسبلها
وأعادته إلى ذكرى عفى عليها الزمن.. ذكرى ضبابية من دون ألوان،لا يتذكر منها إلا اللهيب الذي
التف يعانقه، فارتعش وانتصبت أذناه تتفحصان المكان بكل حذر.. تحرك الخرق الأفقي الأدجن الذي
أوضح شفافية العيون الذهبية يتتبع المتشحين بالسواد.. غرباء يتهافتون إلى المحرقة، يتكلمون مع
سيده ثم يحيون السيدة التي تنوح من دون توقف.. تلك من كانت شقيقة الزوجة المتوفاة. سار و قفز بخفة بين أقدامهم
حتى وصل إلى حذاء سيده الأسود اللامع، التف حول قدميه ثم رفع عيونه الكبيرة.. ماذا كان ينتظر؟ عطف السيد
أم شرحا لما يحصل هنا.. هو لا يفهم، لكنه موقن أنّ مالكه ليس في مزاج للعب معه اليوم، وربما
لا يوم بعد هذا اليوم المشؤوم.. من توارى خلف حرارة أحد أيام يوليو الذي ألهب مشاعر الفقد والحنين.
حك رأسه بتكاسل بعد أن أعرب جوفه عن تنهيدة طويلة، ثم جال بنظره في المكان المقفر الذي رمي فيه.
لم يكن سيء في النهاية فالأميبيا المتطرفة اضمحلت والرمال المشتعلة لن تقتله.. ربما؟
وإن فعلت ألم يكن يطمح للموت منذ زمن؟ تمايل وهو يقف ليعي جفاف حلقه الذي غفله آنفا.. أشعة الشمس الجبارة
سترديه مفحما في لحظات قلال.. أغمض عينيه وأطال السمع، يبحث عن أدنى مصدر للضوضاء
إشارة عن وجود حياة يتسلى معها قبل أن يتم قليه هنا. لكن. لا شيء يصل مسمعه غير الهواء الذي يحترق.
سار في هذه الأرض البور يسلم في كل خطوة على هياكل عظمية، حيوانات مسكينة
وبشر منقرضون. تخيل شكل هيكله العظمي وبدأ ينتقي موقعا مناسبا يليق بعظمته
ووقفة تظهر جبروته وعنجهيته اللامحدودة، متجاهلا كل ما يحيط به للحظة فقط
والتي كانت كفيلة ليتجمهر ذلك الجمع الغفير من الكائنات المشوهة حوله.
أقمر التفاجئ واضحا على وجهه، ثم لاحت ابتسامة مستغربة سرعان ما بهتت عندما
صرخ بكدر وهو يركل أقربهم له، ذاك الذي امتدت أذرعه اللزجة تبتغي الظفر بجسده
- بحق الرب الأوحد، أي جنون رُمِيتُ فيه؟
قرابة الخمسة كانوا، ماهم ببشر ولا حيوانات.. أجسام كفنها السواد ليدرز الليلك
فنه المتفرد عليها، بخيوط توازت بنفس المسافات من أقدامهم الهلامية الذائبة على الأرض
إلى أوجههم، تحدد معالم العيون والفم ذي الأنياب الفاحمة التي لطخها لعاب أخضر بلازمي..
ضرباته لم تكن ذات تأثير عليها، بيولوجيتها فريدة عجيبة، هذه الكائنات الهجينة. أهي نِتاج فشل ذريع؟
هكذا تساءل في كسل، كما اعتاد. هذرت أصواتهم وامتزجت مع جلجلة لهيب
ثالوث الشموس المتجبر، ومن اللاشيء انبلج المخلص.. حين صرخت الدراجة النارية الكحلية
تجاري الرياح وتتحدى ذاك المشيج القاتل في السماء، كاسرة سنفونية عذاب نقلت العديد من الأرواح أسفل التراب.
قفز لوانسي بخفة وأمسك بتلك اليد الذي امتدت نحوه تنجده مما هو فيه.. وبسرعة لم يعهدها من قبل
انطلق الدراج بخفة يتخطى الكائنات الهلامية التي امتدت متنامية من كل مكان أسفل التربة الحارة.
تشبث لوانسي بقوة وهو يميل مع كل حركة يقوم بها منقذه لتجاوز مطب أو ذراع امتدت تحاصرهما.
صرخ في محاولة بائسة لايصال صوته عبر الزمجرة البدائية للدراجة
-يا كائنا من كنت أخبرني بالحاصل هنا.. وما هذه التشوهات البيولوجية؟
أتاه الرد سريعا.. بنبرة لم تعتد اذناه الحساستان على سماعها من بني البشر
-محصلة منتهى هذه المهجة يا سيدي.. أولازلت غير مدرك لما نحياه؟
تمتم لوانسي بخفوت وهو يخرج السمك المقدد من جيب سرواله الرياضي الأسود: أنا أرعن معتوه يجهل ما يعيشه.
فلما الدهشة؟ الجهل نعمة لمن هم مثلي.. خاصة لكم انتم.
-أخبرني كيف خرجت؟ لا بل لما لم تصب بالطفرة.

أبعد لوانسي خصلات جبهته الفحمية عن وجهه، ثم أمال رأسه قليلا.. وقال بابتسامة شامتة
ونبرة قطعها مرات عدة نتيجة مضغه لقطعة السمك: بل يجب أن تسأل كيف دخلت.. فأنا
أريد الخروج يا فتى، إذن أخبرني المزيد عن الطفرات التي حلت بهؤلاء البشر.. ان الوضع مثير
للاهتمام مهما نظرت له.
لمع أزرق شبحي من تحت الخوذة السوداء حين التفت الدراج نحوه، ثم اختفى كشيء لا حقيقة
له، سراب خادع اوجدته الحرارة. أعاد الغريب نظره إلى الأمام ثم زاد من سرعته حين لمح
الجرف الصخري الأجوري المتهالك أمامهم.. تجانست الأصوات وخفقت الرياح تحييهم بقسوة لتسبيبهم
الفوضى على مسرحها، التفت لوانسي إلى الكائنات الغريبة التي لازالت تطاردهم
بسرعة، تكاد تلحقهما.. وكم كان متشوقا ليرى طريقتها الفريدة في المحق، هل تقطع الأوصال
أم تلتهم الجسد دفعة واحدة، ام أنها كالوباء، تخترق الجسد ثم تسري فيه محل الدم
فيصبح الشخص بلا عقل، متحولا جينيا يهوى نيران جهنم. أفاق من مستقره الهادئ الباطني حين
طارت الدراجة فوق الجرف وقفزا هما معها، تاركين الزوار الهمجيين خلفهم، يتقاذفون
أنفسهم بغية الوصول، إلا أن قوانين الطبيعة تسري أولا هنا، فلا شي أقوى من الجاذبية. وهذا
ما أثار انزعاجه وراحته في الآن ذاته. بشزر. رآهم يتساقطون في الهوة الواحد تلو الأخر، عيناته الفريدة
التي أراد معرفة المزيد عنها.
توقفت الدراجة على الضفة الأخرى، بعد أن رجتهما رجا قويا. انقلب فيه الكبد قلبا والعقل خلا
إلى الفم.. سقط لوانسي عن الدراجة بسخط وهو يحس بالدوار بينما ترجل الدراج بكل وقار
من دون أدنى أثر لضرر الارتداد القوي.
همهم لوانسي، ثم وقف يتمايل بتعب. نظر بكل تمعن إلى الشخص الواقف أمامه. وفجأة. طلب بنبرة
عادية تفتقد للباقة: أعطني يدك.
مد الدراج من دون تردد يده إلى لوانسي الذي أمسكها بسرعة، ضغط عليها بقوة ثم لواها حتى أصدرت
صوت صرير تلى قعقعة تحطم.. لم يبد الألم على الدراج، وان كانت ذراعه قد اهتزت بسبب
قوة لوانسي المطبقة عليها.
أفلتها الآسيوي الغريب، فسقطت هامدة، تالفة الأوصال.ثم أردف بعدم اهتمام وهو يشمر سرواله من الجهة اليمنى
إلى الركبة: أنت لست بشري، أليس كذلك؟
-أجل. لكن لديك طريقة غريبة في اضحاد الجهل، سيدي.
رفع لوانسي كتفيه من غير اهتمام. أكمح رأسه إلى الشموس التي بدأت بالتقارب ثم سأل
-إذن ما هي هذه الطفرة؟
ازاح الدراج الخوذة السوداء بيده التي غطاها قفاز أزرق. فتساقطت خصلات فوشيا غزيرة ملامسة كتفه.
حدق أزرق مضيء تلاعبت فيه ألكترونات كهربائية في لوانسي الذي كان يلعق يده بهدوء..
لم تبد عليه أي ملامح، فقط جمود في المعالم مع نبرة ترددت في اذني الأخير بغرابة، فاقشعر بدنه بسببها
-أنا لا املك معلومات مفصلة عنها.. كل ما اعرفه أنّ خلايا الجسد أصبحت شديدة
التأثر بفوتونات الشمس، التي تعيق انقسامها وتجددها، بل تصل إلى حد تخريبها
وتغيير تركيب البروتينات التي ينتجها الجسد.
-أوي أوي أنا اعلم الكثير عن الجسد البشري.. لكن من المستحيل أن تكون الطفرات
بهذا الشكل.. خاصة إذا كان السبب هو الأشعة فوق البنفسجية
-أجل من المستحيل أن تأثر خمسة وعشرون من هذه الأشعة هذا التأثير الكبير
لكن بميلاد الشموس الثلاثة، فقد الغلاف فعاليته وبهذا ازدادت النسبة لتتخطى الستين.
همهم لوانسي.. ثم جلس على مقعد الدراجة، أعاد ربط شعره الأسود كذيل حصان بإحكام
ثم سأل بفتور وهو يعبث بالأزرار الموجودة على جانبي المقود: إذن من تكون أنت؟
عدل الأسمر من وقفته وأجاب بليونة ولباقة: روبي يا سيدي، أنا آلي طوره
مختبر الأبحاث للحصول على عينات والإلمام بما يحدث هنا.. في الخارج.
حرك لوانسي رأسه ثم ضغط على زر أحمر.فجأة. انطلق من الدراجة زفير قوي آذى أذنيه.قفز
عنها وقد سدهما باحكام، جالسا القرفصاء وواضعا رأسه بين فخذيه. خالجه ذلك الشعور القديم
هذا الصوت أعاده إلى ذكرى ليست ببعيدة، في اليوم الذي تحدى فيه أبناءً كنفتهم السماء ودفء شمسها
الألم الذي يحسه الآن في رأسه لا يقارن بضجيج الشاحنات التي هاجت ذلك اليوم.. ترهات راكبيها
التي تلاقفوها هنا وهناك إلى جانب سواد وجدانهم، أثبت تفاهة ذاك الأبيض الذي ارتدوه فوق بزات كلاسيكية ثمينة.
لاتزال رائحتهم عالقة بأنفه.. عطر الخزامى الغريب الذي فاح فداعب أنفه بقوة، ورائحة المركبات الكيميائية التي
اعتاد عليها طويلا. توقف الصوت فأخفض يديه المتشنجتين، حركهما، فبدتا صلبتين، كأنهما عادتا ولمستا خشب
الجذع المتشقق لشجرة الصنوبر الكبيرة تلك. ابتسم ببلاهة وأخرج لسانه حين قابله وجه روبي المستغرب.. وقف
ثم نفض عنه التراب الأصفر.
عاد وصعد إلى الدراجة. حرك رجليه بطفولية، ثم أشار إلى الأمام باصبعه السباب وصرخ
-إلى مختبر الأبحاث وحقيقة هذا المكان.. لنذهب ونرى ما يمكن أن يسليني في هذه الحياة الشائنة.
أعاد روبي الخوذة إلى مكانها.. فوق رأسه، تغطي وجهه الوسيم، ثم امتطى الدراجة من جديد
حرك المقود نصف الدائري الثخين، فهدر المحرك وأخرج رياحا حارة دفعت الرمال للخلف
في حين تقدمت الدراجة بسرعة جنونية إلى الأمام.. لم يكن لوانسي يرى الكثير بسبب شعره الذي نزل
يغطي وجهه الشاحب، وما وصل أذنيه لم يكن إلا صوت الاحتراق.
تمتم بصمت نغمات أغنية.. لا يدري أين سمعها، هو فقط يريد تضييع الوقت.. لقد فكر حتى
في البحث عن براغي روبي وفكها، لكن رغبته في الوصول إلى مختبر الأبحاث ذاك قد منعته.
***
توقف الهدير مع تزايد الألم، ذكريات كثيرة لا يدري فحواها قد تجمعت أمام عينيه يعجز
عن كبح فيضانها الغاشم، ترجل كما فعل روبي. ثم جلس على الأرض يفترش ظهره
هيكل الدراجة الحديدي.. التمعت عينه اليمنى، وبدأت آثار الجراحة القديمة بالالتهاب
لم يصرخ وان كان ينال الكثير والكثير من العذاب.. تنفسه قد خف والرؤية أصبحت ضبابية
تجلب الغثيان، ضربات قلبه قد بهتت وجسده قد دخل في سبات.
أكمح رأسه إلى الأعلى في محاولات يائسة لاستنشاق أكبر قدر من الهواء.. كم من السخافة سيصل به الأمر؟
أولم يكن يبحث عن الخلاص؟ أم أنّه يخشى ألم الموت لا غير؟ هو لا يعلم ولا يمكنه حتى السخرية من غبائه
في وضع كهذا.. هه بئس المصير هو ما ناله على الدوام فأي جديد سيثمر أمامه في هذا البعد
الغريب الذي يقرب من الهلاك. صدره أصبح يصدر زفيرا غريبا وصوت تنفسه الصاخب قد لفت انتباه
روبي الذي لم يعي الحاصل إلا الآن.. تقدم بسرعة ثم جلس القرفصاء أما لوانسي الذي
خلت عيناه من الحياة، بل غاصتا في ذكريات التهبت مع نيران الجنازة الصورية التي لم ولن تتم متجاوزة الميعاد..
تعلق على اكتاف مالكه الذي لم يعد له من شكل غير ظل من الأديم.. لعق وجنته ثم أبصر
بتعجب جسد الفتى الذي اعتاد على اللعب معه.. نائما في سكون وقد بدأ أزرق باهت بالتفطر
على أجزاء من جسده.. أسفل عينيه وعلى مفاصله، قفز بخفة فوق الكفن الأبيض الذي التف يعانق
الجثة الخالية من الحياة.. أصدر صوت مواء خفيف، في محاولة لإيقاظه. فوقت اللعب حان
وانتهى موعد النوم والراحة، تلمس بلطف وجنة الفتى الشاب الذي أبى الاستيقاظ.. أتاه من الحديث تمتمة..
لم يفقه كلام العجوز الذي بهت سواد شعره وشحب فغدى أبيضا أثقل بأعباء الدنيا، حمله ثم قربه من صدره وحضنه
بقوة جعلته يحاول الابتعاد بكل استطاعته. سقط إلى الأسفل. كانت لتكون وقعة مؤلمة، إلا أنه استطاع التوازن
بكل خفة والوقوف على اطرافه الأربعة من دون إصابة. أكمح رأسه، لكن الرعب قد تملكه.. نظرات مالكه بدت خالية
من الحياة، عيونه قد جحظت واستفحل سواد خفيف على حوافها.. بشرته قد شحبت أكثر من العادة
ولحيته قد طالت بشكل مرعب، أثار ريبته.. لكن الحرارة كانت أكثر ارعابا، الجثث
التي ترمى في الفرن، صوت القعقعة الذي نتج عن تفحمها، نواح النساء، وحصار المتشحين
بالسواد.. طبعا هما لم يكونا وسط الجموع، هما أسفل كل هذا.. في سرداب أسود طويل
تحرسه الشياطين.
عاد المالك وحمله مرة أخرى، ثم تابع جره للعربة الحديدية التي حشرت
فيها الجثة المكفنة، وسط قاعدة الأفران التي تأججت نيرانها. نظر إلى نفسه. يدي مالكه وثيابه
كلهم قد صبغوا بالأسود بسبب الفحم الذي خزن هنا، وقود الهلاك.. وكأن حرارة يوليو لم تكن بكافية للتذكير
بنهاية الآثمين. أخفض أذناه برعب ثم حشر نفسه في البزة السوداء التي فاحت برائحة الموت والقذارة
غاص في الظلام لوهلة، ثم ما فتئ أن استفاق بسبب الضجة التي أحدثوها.
فتح عينيه الفريدتين، ثم جال نظره في المكان بانزعاج.. لم يحلم هكذا حلم منذ أمد لم يعد بمذكور. تنهد
و رفع يديه. وغطى وجهه في صمت متجاهلا الأعين التي تحدق به.. بقي هكذا لمدة ثم باعد
بين أصابعه، تأمل الثلاثة الغرباء وروبي رابعهم.. ملابسهم غريبة، لكنهم قطعا مجرد بشر.
زفر بصوت مسموع ثم سأل وهو يعدل من جلسته على الفراش الأبيض: كم من الوقت مضى
على غيبوبتي.. روبي؟
-أربع ساعات.. سيدي.
لو كان في كامل صحته لضحك على هذا الإنجاز.. أكبر مدة قضاها داخل أحلامه سابقا كانت دقائق لا تتخطى
الثلاثين. تأمل أثار الخياطة العشوائية التي زينت يسار صدره على شكل حرف { في} بالمقلوب
ثم تلمس من غير شعور الذنب الذي ترك أسفل عينه المزروعة.. قذف بنفسه إلى الخلف.
يريد النوم، يريد ألعاب الفيديو، يريد فقط أن ينسى ما تذكره الآن.. حتى السمك المقدد لم يعد
يثير اهتمامه الآن.
-أأنت بخير؟
كان سؤالا بدافع اللباقة والمجاملة، ومع هذا فقد كلف الرجل الأربعيني نفسه بالقلق على
الفتى الغريب الذي فقد بشريته.
لم يكن يريد الإجابة، لهذا اكتفى بالنظر إلى الجدار الأرزق المصفح، آلات طبية تمازجت بين المعتادة
والحديثة الذي لم يفقه طريقة عملها. تأمل أنابيب الدواء الأخضر الذي يضخ في جسده باشمئزاز
قبض عليها بقوة ثم جذبها من مكانها. ركل العمود الذي علقت عليه، ثم وقف وهو يبحث
في المكان الذي تنافى ومفاهيم الراحة عن قميصه الأبيض، وحين فقد أمل إيجاده سأل بفتور
-أين هو قميصي؟
تقدمت شقراء ماثلت العالم الأربيعيني شكلا وخالفته في لون العينين، فهي ملكت اخضرار
الطبيعة التي اضمحلت في هذا المكان الميت، أما هو فقد احتكر زرقة المحيطات وأسرارها.
حركت كرسيها المتحرك بصعوبة، ثم مدت القميص الأبيض بيد مرتعشة.
أطال لوانسي النظر إليها، لا بل كان نظره مرتكزا على قدميها اللتان تلونتا بسواد الليل.
اسفر ثغره عن ابتسامة سخرية ظهرت جلية من تحت القميص الذي ارتداه.. تقهقرت الفتاة
بخوف إلى الخلف حتى اوقفتها صهباء، والدتها ربما.. لهما نفس العيون الفريدة.
أبعدت خصلاتها الطويلة إلى الخلف ثم تكلمت بصخب وهي تحدق فيه بريبة
-من تكون يا هذا؟ وتوقف عن النظر إلى إبنة أختي بهذه الطريقة.
كح ببلاهة، ثم قال وهو يتقدم نحوها: وكيف يفترض بي أن أنظر.. أوليست احدى المخلوقات
الهمجية التي طاردتني، من يصر على أنها لن تخون؟
احمر وجه الصهباء. امتلأت عينا الفتاة بالدموع، واكفهر وجه والدها بانزعاج
لم يبق غير روبي، جامد المعالم، همهم لوانسي باهتمام ثم قال وهو ينظر إلى أعلى، إلى
أعين المتبجحة الطويلة: إذن لا دليل ملموس، لهذا حاسبي نفسك قبل محاسبتي.. يا آنسة.
شدد على جملته الأخير، مستفزا إياها. عقدت حاجباها على شاكلة الرقم {11} واحد مقابل الأخر
لم يكن شكلها ظريفا، إلا أن الأول قد انفجر ضاحكا.. بجنون يرتكز على ذراعي الكرسي القريب.
صمت بعد مدة. فمن الممل الضحك وحده، ورفاقه الأربعة هنا لا يتمتعون بحس الفكاهة
بل أن فتاة السابعة قد بدأت بالبكاء.. دفعته الصهباء إلى الخلف بقوة، فتراجع على اثرها
إلى أن اصطدم ظهره بحافة السرير الحديدي، أشارت نحوه وفي نبرتها تهديد شديد
-المس صغيرتي مرة أخرى، وسأريك الويل.
اطلق لوانسي صوتا مغيضا دالا على الاستمتاع، ثم نفش شعره بشماتة وهو يمسك
بذراع روبي، البقاء هنا لن يفيده على كل حال.. فهذه مجرد غرفة طبية تتنافى وفضوله اللعين.
سار في ممر طويل بلا نوافذ، فقط جدران حديدية عليها خطوط زرقاء لامعة، دارات كهربائية
تماما كالتي صنع منها روبي.. تحرك لوانسي بغرابة أمام الأخير الذي لم تتغير معالمه.
تنهد بقلة حيلة ثم سأل بنبرة مكتئبة: هل تبقى جامدا هكذا دوما؟ ألم يزودوك بشريحة أحاسيس
أو ما شابه ذلك؟
توقف روبي وراء لوانسي، بدى كالمارد أمام الفتى الذي لم يتخطى المتر والخمسة والستون سنتيمتر.
صمت.. لثوان معدودات ككل مرة، ثم أجاب بلا نبرة محددة: لا لم يزودوني بشيء كهذا سيدي..
إنّه ممنوع أن تمتلك الآلات أحاسيس.
-أه تلك القوانين الثلاثة.. حتى وهي نهاية العالم هنا، لا يزالون يخشون الغرباء عن جنسهم.
-أجل سيدي.. إنهم يخشون ما يصنعونه، فما نحن إلا مردة، مجرد شياطين في نظرهم.
همهم لوانسي بتفاجئ، لم تكن عيناه بالضيقتين كثيرا، وليستا واسعتان أيضا
لكن استغرابه قد زاد من حجمهما فبدتا كقطع الياقوت الأسود، واسعتين تسببان السبات.
ضحك فجأة. من دون سابق انذار ثم تابع كلامه وهو يعود إلى السير: مردة؟ شياطين؟
لا تكن متبجحا.. نحن فقط كيانات تم استهلاكها، يخافون انتقامنا، لهذا يرفضوننا.
-أوليس الرفض بمولد للانتقام؟
-من يهتم.. أنا لم أفكر فيها يوما، ما الانتقام؟ ماهي البشرية؟ ما أنت وما هو أنا؟
لو فكرت فيها فلن تنتهي التعرجات.. في النهاية ما نحن ولما نحن؟ لا أحد يعرف إجابة شافية
لهذا استسلم فقط، ودع الحياة تُسَيِرك.. فالزمن لن يتوقف أبدا على أي حال.
عم صمت ثقيل بعدها.. لم يقطعه إلا سؤال لوانسي الذي كان يتثائب بملل: أتعرف مكان تجمهر بقية البشر؟
هل بقي بشر خلاف للثلاثة الأخرين على كل حال؟
أجاب روبي وهو يسير خطوة إلى الأمام: أجل سيدي.. إنه في الجهة المعاكسة لهذه، ونعم يبلغ عددهم قرابة المئة
صرخ لوانسي وهو يجذب ملابس روبي: في الجهة الأخرى؟ لما لم تقل هذا من قبل.
-أنت لم تسأل سيدي.
-صمتا.
مد يديه بعدها ثم أردف: احملني إلى هناك أنا لن أسير مرة أخرى.
حرك روبي رأسه بالموافقة ثم تقدم من لوانسي وحمله، أعادت له هذه الحركة ذكرى
أخرى. فانتفض من مكانه بسرعة، رأى التساؤل لأول مرة على معالم روبي التي ما اعتادت غير الجمود
تنهد ثم قال وهو يشيح برأسه بعيدا في فتور: كل شيء بسبب الحرارة. فالتذهب هذه المزحة إلى الجحيم
أريد الخروج من هنا.
سبقه روبي، وتبعه هو.. يسير من غير ادراك، يتذكر ما حدث في ماضيه
المحادثة السابقة بدت له مألوفة نوعا.. تماما كطفل ضائع لا يدري ما ينتظره، لكن
هذه المرة عندما فتح عيناه كان في مكان نظيف وليس مختبرا مهجورا في أقاصي
روسيا.. وبالرغم من أنهم كانوا هنا إلا أن الحرارة في ذاك المختبر كانت شديدة، لا يمكن
تحملها.. رأى انعكاسه على الحافظة الزجاجية، والتي احتوت في داخلها على مخ مغمس في مادة
كيميائية حفظت نشاطه.. قفز إلى حجر مالكه الذي ناداه، نظر إلى الجوهرة التي بين يديه، صفراء
عليها لطخات من الأخضر.. وضعها داخل محلول احتوى على رقاقات الكترونية ثم رجها بقوة
مرارا وتكرارا.. حتى حجبت الرؤية، راقب ذهبي العينين ما يحصل بخشوع، يخشى السؤال
أكثر من الجواب، مد مالكه يده التي انكمشت وطالت أظافرها في الهواء ثم افرغ الزجاجة
الصغيرة فوقها، رأى المياه تقطر بغزارة ثم توقفت مع سقوط الجوهرة في يد العجوز.
وقف وبره العسلي برعب حين لمح الابتسامة الشائنة التي ارتسمت على ثغر السيد
قفز بخفة واختبئ تحت الخزانة الحديدية الصدأة يحاول باستماتة أن يحجب تردد الضحكة
المخيفة التي عمت الغرفة المغلقة.. راقب سيده يقترب بسرعة من الجثة الموضوعة
داخل محلول هلامي أسود، محلول حماها من التلف حتى بعد مرور عام كامل من موت الفتى.
ادخل يده في المحلول ثم أمسك بكف ولده بكل خشية ورقة، تأمل المراهق الذي بدى نائما في سلام
يجهل جنون والده والخطيئة التي يوشك على اقترافها.. أخرج يده ثم مسح كفه الملطخ في البزة السوداء
التي لم يخلعها منذ جنازة ابنيه وزوجه.
اتجه بتثاقل نحو الطاولة التي ملأتها عبوات الكيماويات، سكاكين إلى جانب حافظات للأعضاء
نظر بتمعن إلى المخطط الذي افترش لوحة علقت أمام الطاولة. أمسك بسكين رقيقة ثم أحظر
الجوهرة التي نتجت عن حرق جسد كل من زوجته وابنته، تركهما فوق الطاولة ثم ارتدى نظارة
مكبرة، حملهما من جديد ورسم خطا أفقيا عليها.. تماما كبؤبؤ لوانسي الفريد الذي هام فيه دوما.
وضع يده على عينه اليمنى التي بدأت بإيلامه.. تنهد بخفوت ثم نفش شعره.
نظر إلى الأعلى حيث تربع قمران توأمان أحدهما شبح للأخر، مهيبان حجبا معظم السماء السوداء
التي تم إيضاؤها.. سأل كمن انتبه للتو: هل هذا المكان في خفية عن أعين الفناء؟
انتبه روبي لسؤاله متأخرا، فكانت الإجابة غير مقنعة، لا تشفي غليل لوانسي معكر المزاج: هناك غلاف يحيط
بهذا المكان.. لهذا لا تأثر الشمس بهم.
من المزعج أن يكون روبي آلي بطيء الحس، فلو مات لوانسي لما انتبه
عليه إلا حين تنهش الديدان جسده. ابتسم لهذه الفكرة، فهي ليست سيئة في النهاية
كل ما عليه هو إيجاد ضريح جيد.. حيث لن يتم العبث بجثته، يكفيه العيش مرتان لا رغبة
له في الثالثة أو الرابعة.. هو ليس سليل ماكوردي تعيس الحظ الذي عاش كأسوء
قاطع طريق ثم كأفضل مومياء لجني المال، هو خليفة فرانكشتاين وتماما مثله ستكون نهايته
بشعة..راقب الجليد الذي انبسط فوق الرمال.. ثالوث الشموس وصحراء النهاية صباحا
ثم توأم قمران وعصر الجليد ليلا، أيوجد تناسب فيما يحصل هنا أصلا؟
سأل وهو يضرب بقدمه قارورة شراب فارغة: لما هناك ثلاثة شموس؟ وقمران فقط؟
-إنّ الشموس هي سبب ميلاد القمرين التوأمين.. فحين تتقارب عند الغروب وتختلط ببعضها
ينتج الشفق والذي يكون أكثر وقت لعمل المشوهين وراثيا، وللإصابة بالطفرة. القمران يسببان
خفوت عمل الأعضاء المشوهة. يمكنك القوم أنها عدالة الحياة القاسية.
-أه.. ثلاث شموس للعديد من الضحايا، وقمران للقليل من الحرية.
-أجل.. سيدي
همهم من دون أن يضيف أي كلمة.. هذا ممل، غير مسل بتاتا، لكنه لا يدري أين الخلاص..
كيف السبيل للخروج من هنا؟ أثار انتباهه حركة قريبة، بجانب عمارة متهالكة كانت هناك مجموعة
من الأشخاص، عشرة أو قرابة ذلك.. ملابسهم ليست بالثخينة لتقيهم برد الليل، فحتى لوانسي الذي بقي هنا
لربع ساعة لا غير قد بدأ يتجمد. راقب عجوزا قصيرة تتجه نحوه، بخطوات وئيدة
تترنح مجيئة وذهابا.. أمسكته من سترته بقوة، ثم أكمحت رأسها تنظر في عينيه المشمئزتين.
بكت وهي تتضرع: أرجوك يا بني.. أعطني شيئا أتدفئ به.. فالبرد يكاد يفتك بنا
بكت بحرقة وهي تتوسل. زاد تشبثها بثيابه مع تصاعد صوت بكائها. نظر بفتور إلى الجمع الذي
بدأ يتجمهر حولهما.. هذا غير مسل، إنه ممل ومثير للاشمئزاز. هكذا فكر لكنه
لم يقل شيئا. أمسك يديها بين يديه وأبعدهما عنه بخفة، لكنها عادت للتشبث بقوة وقد زاد صوت
نحيبها.. أثار تصرفها هذا حنقه فدفعها بقوة حتى سقطت أرضا، ثم ركل التراب
بجانبها.. نظر إليها باشمئزاز وهو ينزع سترته السوداء الرياضية، تنهد بانزعاج
ثم قال بصراخ بعد أن رماها على الأرض وخطى عليها بقدمه: أيتها القذرة، لقد أتلفت سترتي
المفضلة.. فلتذهبي إلى الجحيم ولتموتي هناك.
نظر إلى روبي بغضب. ثم عاد أدراجه متجاهلا النظرات المستنكرة التي تتربص به.
لم تكن الشتائم أو الهمهمة تثير انزعاجه بقدر أن يتم لمسه من قبل ثمل إضافة لكونه قذر
-أأنت بخير سيدي؟
التفت. فتح ذراعيه على وسعهما ثم قال بسخرية: أأبدو بخير؟ في النهاية لما لا يموتون فقط
هم لا يملكون شيئا من الأساس.
-للأسف.. الشيوخ واليتامى هم الفئة التي تنال القليل، فالمياه والطعام نادر.
انطلقت -هه- ساخرة من بين شفتي لوانسي.. حتى في مثل هذا الوضع لا يزال قانون
الغابة هو المسيطر هنا، يا لى تفاهة البشر
***
علك قطعة السمك المقدد الأخيرة بين أسنانه.. ببطئ يريد الاستمتاع بكل لقمة منها.
كان مغمض العينين، يتكئ على باب المختبر الذي أغلق في وجهه قبل نصف ساعة، فكر بشرود
هو لم يعد يخير مذ دخل إلى هنا.. كيف يخرج؟ أين باب الرجوع إلى الواقع الممل؟ لا يعلم
في النهاية ما الذي يعلمه هو حقا؟ هو فقط فنان متفرد يحفظ مكونات الأجساد البشرية،
وكونه يجيد التلاعب بالأشخاص لم يساعد، على الأقل ليس الآن، وهو يجهل موقعه من الاعراب.
سيرة التلاعب هذه ذكرته بشخص التقاه صدفة.. شخص كسب مكانة وشهرة بسبب استعماله هو
لم يكن يمانع حقا. فهو كان يحصل على السمك المقدد كلما طلبه، والمواد الكيميائية والإشعاعات
النووية لا تأثر على جسده.. في النهاية خلاياه تنقسم بجنون لتحافظ عليه سالما من دون تلف.
أحس بالمكان يتداعى، تشوه زمكاني ربما.. لكن لم يحصل شيء، ربما تخيلات فقط.
سمع صوت فتح الباب، فأمال رأسه حتى غطت خصلاته عينه اليسرى.. رأى الوجوم يحوم
على الوجوه.. مانيا الصهباء كانت غاضبة، روبرت الأب الحنون بدى فاقد الأمل كيف لا و هو
لم يجد للآن الحل لإنقاذ ابنته من براثن هذا المرض الذي يفتك بالعقل قبل الجسد.
وقف. ولج إلى الداخل واتجه نحو الفتاة التي كانت نائمة فوق طاولة حديدية تحوم
حولها أنصاف دوائر ألية ينبعث منها إشعاع أزرق.. جلس إلى جانبها فظهر هيكل جسمها
على شاشة عرض كبيرة.. لم يكن مختلفا عن هيكلها، جمجمة، نخاع شوكي، عظام، مفاصل
لكنه مختلف.. هو لا يتأذى، سلاح بشري لا يمكن أن يضحد بسهولة
بلع أخيرا السمك المقدد الذي صار عجينة.. ثم قال وهو يضرب صدره بعد أن سعل
-أرى أن الوالد الحنون لم يتمكن من مساعدتك.. إنه لمن المزعج أن يفشل في انقاذك
-هو يحاول، لكن نحن لا نملك بيانات كافية.
-بالطبع.. أنتم لا تملكون، لكن أنتم تملكون عينة تجارب مثالية. من المؤسف ألا تستعملوها
كان يتحدث.. من دون تجميل في الأحاديث، يحرك قدميه جيئة وذهابا. هو لم يكذب
ولما يفعل فمن النادر أن يلقى تشوهات متفردة لا تظهر إلا عند اقتراب الساعة.
بسرعة تقدمت مانيا منه، جذبته من ياقة قميصه الذي علق عليه بعض الغبار.. بقيت تحدق
في عينيه، ثوان قليلة ثم سألت بتهكم وهي تخضه بقوة: أين هي هذه العينة.. اخبرني أيها اللعين
نظر لها ببراءة.. أتتعمد الغباء أم أنّ مشاعرها قد غطت دماغها بحاجز سميك
نظر إلى العالم فوجده ينظر بترقب هو الأخر.. يا لى الغباء، أيوجد حقا من هو بمثل سذاجتهم.
حتى اللطف قد تبرأ منهما. تنهد، ثم قال وهو يبعدها عنه: أأنتم عميان لهذه الدرجة..
لقد كانت لديكم عينة تجارب فريدة، مثير للاهتمام، لكنكم لن تستغلوها قط بفرض أنها جزء من عائلتكم.
انفرجت الأعين. وبهتت الكلمات لعجر ألسنة عن نطق الكلام.. بقوا صامتين، مجفلين
وان بدت معالمهم تفصح عن العاصفة التي سيرمونها عليه. وقف و سار ثم توقف عندما
وصل إلى الباب، نظر إلى الأعين الخضراء المرتعبة وأردف بنبرة مبطنة: أنت ذكية أيتها
الصغيرة.. فالتختاري بحكمة.
خرج وأغلق الباب خلفه.. كان صوت اغلاقه رهيبا، يسبب الصداع والألم.
بدأ الرواق يتداعى ويتهشم. ولم يعي لوانسي إلا وهو يسقط إلى الجانب بسرعة عجز عن
خفضها.
رمش بعينيه مرارا، يفكر وقد قابله سقف أبيض. هو قطعا ليس في نفس المكان
لقد سقط مرات عدة و في كل مرة كان السقف الأزرق الالكتروني هو ما يسلم عليه عند استيقاظه.
حرك يديه بتعب، فأعاقتهما الأنابيب الكثيرة التي اتصلت بهما. جلس بانزعاج على السرير ثم بدأ
يفكها بلا مبالاة، وقد أثارت آلة الاشعاعات قشعريرة خفيفة سرت في كل أنحاء جسده.
تنهد بانزعاج، وفور أن أحس بحركة قريبة منه حتى رفع رأسه.
وجدها هناك تراقبه باندهاش وتضارب في المشاعر لم تختلف عما يحسه هو.. وتماما كما
نطق، خرجت كلماتها متناسقة مع حروفه لكنهم تعاكسوا في التشكيل لا غير
-أنتِ كيف أصبحتِ هكذا؟
-أنتَ كيف أصبحتَ هكذا؟
شعر بالتقزز فور أن خلق ذلك النسق، وكأن قدرهما قد ربط تماما كما ربطت هذه الكلمات القليلة.
كثيرا ما كانت مماثلات التوائم تجلب له المرض. فكيف وهو ضمن زخم الاحداث يجول.
مشغول بترجمة العجب العجاب هذا، وفي خضب كل الهمهمة التي أحاط بها نفسه.. رآه.
يحمل هراوة حديدية، لم تكن بتلك الصلبة أو اللينة، لكنها حقا ستردي معشوقة الدماء هذه قتيلة.
دفع مركز جسده بقدميه، قفزة طويلة ثارت الرياح على اثرها.
أمسك الهراوة بيديه، بقوة شديدة. كيف لا وقمحي الشعر هذا على وشك القضاء على شبكة معلوماته.
ابتسم بمشاكسة وهو يرى المعالم التي افتقدها منذ سنتان. من كان يدري أن القدر سيجمعه تارة أخرى مع الشخص
الوحيد الذي جعل حياته سهلة ومسلية. كبح ضحكته. ثم رفع قدمه وضرب بطن العالم بلا رحمة
بكل ما في جسده من قوة.
نظر إلى الهراوة التي تركت يده آثارا عميقة عليها ثم رماها على الأرض فأصدرت صوتا مزعجا
أقلق راحة سكوت الذي سقط مغشيا عليه على مقربة منهما.
أدخل يده في جيب بنطاله ثم أخرج بسعادة قطعة أخيرة من السمك المقدد. جائزة لم يتوقع الحصول عليها.
-بحق خالق السماء تكاد تجعلني أجن و بكل وقاحة تقف بهدوء و تأكل سمكا مقددا ؟
صرخت. أهي محبة لافساد النعم هذه النقمة القرمزية التي سقطت عليه؟ ابتسم
ثم جال بنظره في أرجاء المختبر، مكان كان يوما فردوسه، وان لم يكن الا فأر تجارب فيه.
ظل يمط السمك تماما كالعلكة. حركات مثير للاشمئزاز جعلتها غاضبة.. أكثر مما كانت عليه على أي حال.
هتفت فيه بنوع من الفضول: هل كنت في ذلك البعد أيضا؟
ابتلع أخر ما في فمه، ثم أجاب بالإيجاب.. ليصرخ باستمتاع وقد تذكر، طريقتها الفريدة في الدخول
ظلت عالقة في عقله. هي تلك الفريدة.. من أشهرت المسدس من دون تردد في وجه أول من وقعت أمامه.
-ياه، الفنانة التي دخلت دخولا متفردا.. بالطبع لقد كنت هناك، على المقاعد الخلفية.
لم تعلق. بل بقيت تحدق في وجهه ببرود. زفر. ثم استطرد قائلا بنوع من التساؤل البريء: أين اختفت
الدماء؟ مالي أراك بهذه النظافة وأنت للآن فقط بدوت كمن خرج من الجحيم.
نظرت سكارليت ناحيته في سخط و قالت: بل كيف أصبحت أنت بهذه الشاكلة و قد كنت في أشنع مظهر لك قبل قليل
خائر القوى ، ضعيفا ، ثم لم أكن مضرجة بالدماء سيد لوانسي..
همهم بفرح وهو يقترب منها: السيدة الشابة تعرف اسمي.. كم هذا مشفي للجروح.
أجابته سكارليت بنبرة أقل وطأة: بالطبع لقد كنت فأر تجارب سكوت و مشروعه الجديد و سبب ترقيته ….
و غروره أيضا ، ثم أيها الأحمق لابد أن محاليل سكوت جعلتك تهلوس، أنت لم تصب بجروح لأشفيك منها.
لم يكن يهتم حقا بمجادلتها. هو جاراها فقط ليستمتع لا غير، وقد نفذ وقت المتعة، الآن عليه أن يعرف
أين سقط هذه المرة. سأل وهو يلتفت بفضول يتأمل كل قطعة: ما هذا البعد؟ هو مختلف كل الاختلاف
عن المكان الذي نفيت فيه.
قلب ناظريه ثم وبسخرية تمتم: يعيد الذكريات أليس كذلك؟ إذن ما اسمك؟
-سكارليت
أجابته المعنية في اقتضاب لكن فضوله لم يروى بعد.. سأل: لما لم تقتليه بعد ؟ كنت لتبدي بشكل أجمل.استدارت سكارليت اليه بكامل جسدها و أجابته: شكرا لك يا سيد لوانسي على ظهورك البطولي و الآن لقد فقدت
فرصتي للإنتهاء من مغامرتي اللعينة هذه و الموت في سلام ثم مغادرة هذا الجحيم و علي الآن أن أنتظر الأحمق
سكوت حتى يستيقظ ليقتلتي.
زفر. لديها وجهة نظر غريبة، كقاتلة لا بد أن مفهوم الراحة الأبدية قد انحرف عنها.. لكنه لم
يرد أن يترك شكرها حرا في الهواء لهذا أجاب وقد انحنى بنبل: لا شكر على واجب.
ثم سألها و هو يقلب ناظريه بينها و بين سكوت المرمي أرضا: هل يفترض بك أن تموتي بدلا عنه في هذا المكان؟ ـ هذا ما تقتضيه شروط بعدي حتى أعود إلى عالميـ و ما الذي يجعلك واثقة جدا من هذا؟ـ لأنني علي دفع ثمن جرائمي كما فهمت من أحدهمصرخت به فأجابها ببساطة: تقبل الأفعال الشنيعة التي اقترفتها يداك و الإعتراف بخطئك يعتبر أيضا تكفيرا عن الجرائم
، لما لا تعتقدين أن ذلك الأحد قصد هذا؟كادت سكارليت أن تجادله ، أن تصرخ به أن أصمت فهو لا يعلم شيئا عن ما عانته و قد دخل فقط منذ قليل عنوة
لبعدها لكنها توقفت فجأة ، هي لم تفكر في الأمر بهذه الناحية ، ربما لوانسي على حق ، ربما هي لم تُختر
لتكون الفائزة في اللعبة و لا الخاسرة أيضا. أحس أنها تجادل في الفراغ. ربما وبنسبة قليلة قبلت كلامه.
لكن هذا الغباء عينه، همس بسخرية. لم تسمعه. لكنه مقتنع أنّ قبولها لكلامه بسهولة لهو ضرب
من الجنون. فهو ما كان يوما إلا هادي للفناء.
عادت لتكلمه ، أن تحاول استشفاء إجابتها منه لكنه فاجئها بحركته. إذ جذبها بسرعة وقوة. نظرت
ناحيته بشزر و عزمت على شتمه لكنها توقفت عندما رأته يتخذ حركة دفاعيةـ لا أذكر أن هذا حدث سابقا تكلم بلا اهتمام فدفعها للنظر أمامها و اندهشت و هي ترى ما كان يحلو لها مناداتهم بالممثلين المساعدين
يتجمهرون حولهما ، صححت لنفسها حول لوانسي!جال في فكرها خاطر فصاحت:أيها الأحمق !
أمسكته من ذراعه و جرته بما سمحت لها قوتها كأنثى و ركضت و ركض هو مجاريا لها بكل ضجر العالمـ لماذا نركض ؟سألها فأجابته:لقد تدخلت في التحدي الخاص بي ، كان يفترض بي حل مشكلتي بنفسي لكنك تدخلت
و يبدو أن لديهم نظاما عمليا لا يرضى بالمتطفلينالكثير من المفردات العلمية خرجت تتسابق من فمها.. أثارت طريقته كلامها استغرابه
فسألها فجأة: لديك عقل علمي جدا أليس كذلك ؟ـ أنا عالمة كيمياء ، ما الذي تتوقعه مني ؟هتفت فيه بغضب و كادت تضيف لكن كرسي اندفع باتجاههما ألجمها ، قهقه لوانسي: لا ينوون على
خير المساعدون في مسرحيتك أيتها العقل العلمي!

بلغ الغضب من سكارليت مبلغه إذ أصبحت عروقها متشبعة بأدريالينه ، هل يسخر في وقت ستموت فيه ؟ المسدس!

تذكرت سكارليت فبحثت في جيوبها و وجدته في مئزرها ، استدارت بسرعة و صوبت تجاه العلماء فأصابت 3 ضمن طلقات متتاليةزفر لوانسي و قال بهدوء: ماهرة أنت أيتها القرمزيةجاراها في قتالها فتقدم بخفة و وثب على أحدهم بخفة قط و كانت ضربة من قبضته كافية لطرحه أيضا
شاكسها بابتسامة متعالية ثم انطلق مندفعا بين العلماء و اعتبرته هي تحديا فتبعته لم يدم الأمر طويلا ، فقاتلة محترفة مجنونة و مخلوق خارق كفيلان بدحر كتيبة نظر لوانسي نصف نظرة لسكارليت التي نال منها التعب اذ لم تقاتل قتالا قريب المدى منذ أمد ثم قال: لقد أخبرتك
بأنك تبدين أجمل و أنت تكتسين الدماء أليس كذلك ؟تنهدت هي بقلة حيلة و كادت تشتمه لكنها تخشبت و هي ترى صورته تضمحلـما الذي يحدث لك ؟ـ من يدري أجابها لوانسي بدون اهتمام حقيقي ثم أردف: أنا حتى لا أعلم كيف أتيت إلى هنا أو كيف ظهرت أمامي
و قد كنت مجرد.. ذكرى عابرة.
***
استيقظ.. فقابله السقف الذي اعتاد عليه مذ مجيئه هنا إلى جانب وجه روبي المحتار
عدل جلسته، ثم نظر إلى الغرفة البيضاء التي كانت نوافذها تتلون بالفضي والوردي مع
تناقص حجم القمران في الخارج. لم تحتوي إلا على السرير وطاولة صغيرة بجانبه وضعت عليها
عبوة ماء. امسكها ثم ارتشفها من دون أن يترك قطرة واحدة، كانت زيارة مثيرة للاهتمام
لم يتوقع أن يلتقيها مرة أخرى، في النهاية لقد تذكر حقا الكثير من الأشياء خلال رحلته القصيرة
كما أنه علم الكثير والكثير من الأمور.. ابتسم باستمتاع. نظر إلى روبي المتفاجئ ثم سأل مكلما نفسه
-إذَا كانت هذه لعبة.. تحدي؟ أين اللغز هنا؟
-لغر؟
حرك رأسه بالإيجاب، وقف ثم سار ناحية الباب يريد العودة للمختبر مرة أخرى
أجفل وهو يستمع إلى صوت غمغمة.. غريب يتزايد مع كل ثانية. توقف غير مقتنع بما يراه
فهاهي ذي بوابة إهليجية تفتح من جديد.. أنهاية تحديه حانت، لم يقترب. بقي فقط ينتظر
توضح معالم الشخص الذي يعبر من خلالها.
ألجمته الواقعة فسقط للخلف بهوان، بقي متصنما في مكانه لا يدري الحقيقة من الخيال..
حك عينيه باستماتة إلا أنّ القرمزية المكفهرة لم تزل.. ولن تزول على ما يبدو. تمالك نفسه.
ووقف ثم وبسخرية مبطنة سأل: ما أنت فاعلة هنا يا ذئبة القمر القرمزي؟
لم تجبه وان نظرت بشموخ إليه، لتختفي سخريته تماما كما خف وهج التعالي من عينيها حين التفتت تتفحص
هذا الممر الخالي.. الجدار الحديدي والزجاج الغريب اللذان التمعت فيهما كل فترة كلمات لم تفقهها
أطلت برأسها تستكشف ما خلف النافذة فلم تبصر غير الجليد وحطام المباني الذي انعكس عليه ضوء القمرين
التوأمين شفقا في السماء الليلكية التي فاضت بالنجوم، نظرت بشزر إلى لوانسي الذي ابتسم بمشاكسة
كطفل قد فهم ما يجول في فكرها، وباستمتاع تنافى مع صدى كلماته صرح: نهاية العالم.. هذا فحوى التحدي
اللعين خاصتي.
امتعضت من إجابته.. فسألت بحذر منتظرة جنون ما سينطقه بعد هذا: وما هو الغريب في الزوال؟
الأغرب لما أنا هنا؟
ابتسم بمرح.. ضحكة حقيقية لم يزيفها حقا، عدل إجابته خمس مرات. فهو يرى الغضب الذي
بدأ يجتاحها، وما رآه في بعدها أفهمه مجملا مع من سيتعامل من الآن فصاعدا.
تنهد، وضع يديه خلف رأسه ثم سار ناحية المختبر تتبعه هي.. لم يعجبها صمته ومع هذا
فقد قررت مجاراته. يكفي أنها عالقة هنا، لا تستطيع العودة إلا بانتهاء لعبته.. كل شيء بسببه هو
لو لم يتدخل.. فكرت في انهاء كل شيء، بطلقة مسدس واحدة. لكن هل سينتهي حقا؟ أم أنها
ستعلق في لعبة أخرى غريبة.. وسط معمعة أفكارها أتاها جوابه خافتا لا يروي الكثير
-من يدري.. أنا للآن لم أعرف مبدأ الأحداث، فكيف لي أن اعرف نهاية مطافك هنا.
تنهدت بانزعاج، وقلدها هو.. ضغط على زر بجانب الباب ففتح المختبر. دلف هو أولا
ثم دخلت هي وعلى وجهها الاندهاش والفضول، هي عالمة كيمياء نووية لكن هذه الألات قد أثارت
اندهاشها حقا. انتبه روبرت للتو لسكار فسأل لوانسي، الذي أجاب بكل لباقة واحترام
-روبرت هذه سكارليت قاتلة مأجورة وفاقدة لجزء من عقلها.. سكار هذا روبرت
مجرد عالم لم يفلح في شيء.
بامتعاض نظرت له، في حين عاد الأشقر إلى عمله متجاهلا تواجدهما هنا، بالرغم من
رغبته في فهم كلامهما إلا أنه أحجم.. يكفيه ما يسببونه من توتر هنا.
تكلم لوانسي بشقاوة طفل وهو يسألها: إذن ألديكِ فكرة؟
-وما أدراني أنا.. أليس هذا تحديك أنا لن أتدخل.
-إذن لنمت جميعا هنا، فأنا لا أنوي التعاون عكس مبادئي على أي حال.
انتبهت للتو لسطور حديثه فتكلمت متسائلة: عكس مبادئك؟ ألديك فكرة إذن؟
-ربما.. تحديك كان واضحا، فقط تقبل الحقيقة. لو أعدت تجميع ما علمته هنا ربما علي
مساعدة هؤلاء الحمقى للنجاة.
دفعته فجأة. من دون سابق انذار.. ترنح متراجعا إلى الخلف ثم سقط. رفع رأسه إليها
متسائلا، فوجد أن قدمها التي تضغط بطنه هي التي ستتولى الحوار..
فرد يديه كجناحين، أغمض عينيه ثم قال بسخرية: من كان يعلم أن نهايتي ستكون هكذا..
للأسف هذا العالم لم يكن بالعادل أبدا.
كانت على وشك قول شيء ما.. لكن دخول مانيا الهادر قد ألجمها.
تقدمت الأخيرة بسخط نحو لوانسي الذي يفترش الأرض، دفعت قدم سكارليت ثم انهالت
عليه باللكمات.. ضربات لم تكن تؤثر فيه، لا جسدا ولا نفسيا، لهذا اكتفى فقط بالمشاهدة
وابتسامة لعوب مستفزة تعتلي ثغره.
لم تكن ستتوقف كما بدى للواقفين، لهذا تقدم روبرت بسرعة يفك الخناق الذي نشب بين شقيقة
زوجته المرحومة وبين ضيفهم الغريب.
لم تكن ستبتعد، والوقت ليس من الأمور التي تتمتع سكارليت بتضييعها.. قبضت قبضتها
ثم لكمت وجه مانيا الذي احتقن بسبب الغضب. نظروا إليها بتفاجئ فأشاحت نظرها ثم
حركت يدها في الهواء تبردها من حرارة الضربة.
سأل روبرت بخفوت وهو يخرج منديله الأبيض ويبدأ بمسح الدم الذي نزف من شفتي الصهباء
-لما كل هذا الغضب؟ أهناك جديد لا أعلمه مانيا؟
تشبثت بانهيار في معطفه.. صرخت، بلا أي سبب أو مقدمة، ثم بدأت بالنواح من دون أن تفسر
له أي من الأمر الماضي.. حاول تهدأتها بشتى الطرق وسط استفهام عم ذهنا المتطفلين على هذا الزمن
سألها.. مرارا وتكرارا، مأكدا على ضرورة هدوئها ليتمكنا من الفهم.
كانت ضائعة، أطرافها متشنجة، والأسى قد غلف وجهها.. أدخلت حالتها رعب الفقدان إلى قلبه
فألتف في مختبره ينادي، نادى على روبي وأشخاص أخرين لم يكن لوانسي بعالم بهم
لكن لا أحد.. لم يجب ندائه ولا واحد منهم..
ترك مانيا ترتكز على الجدار بعد أن هدأت حالتها ثم ركض بسرعة، إلى شاشة عملاقة.
ضغط عدة أزرار، وأدخل ثلاثة رموز.. مسح لشفرة الحدقة، وأخر لنبرة الصوت ثم وأخيرا
ظهر.. تصوير ألات التصوير.. هناك حيث ظهرت محبوبته وفلذة كبده.. على أعلى قمة للبرج
الذي حرس حدود مدينتهم الباقية. راقبت القرمزية بانذهال انصهار القمرين، ثم ولادة ثالوث الشموس
كانت صغيرة، لم تصل حجمها الذي اعتاد عليه لوانسي.. ثم و من اشعاعاتها ظهر شفق الفجر
يزين السماء، مصاحبا لصياح الكائنات السوداء التي كانت تخدش الحاجز.. بكل استماتة راغبة في
الولوج إلى الداخل، حيث يقبع أصحاب الدماء الحارة.
كبر روبرت الصورة، متجاهلا كل ما في المحيط.. فكل اهتمامه منصب على فتاته المقعدة التي سترمي
نفسها للتهلكة، أو رمت ان صح القول، فهذا التسجيل قد التقط قبل ربع ساعة.. ما يعني أنها...
تأملوا مانيا التي تصرخ.. تتضرع لها أن تعود إلى الداخل، لكن وبعناد رفضت الشقراء الصغيرة
حركت كرسيها بخفوت، وقد نطقت شفتاها كلمات لم تصل مسمع أحد غير لوانسي الذي انفرجت
عيناه في اندهاش.. تفاجئ لأول مرة ثم بدأ بالقهقهة بهيستيريا.
وسط سخط روبرت الذي رأى الألم ينعكس على حدقتي ابنته فور تجاوزها الحاجز، بانت ظهرات مقعرة على كل
أنحاء جسدها الهش الصغير.. تزايد حجمه مع كل انقسام غير متجانس لخلاياها التي مالت للسواد
ثم وككل متحول جيني سقطت وسط الموجة العملاقة الهلامية التي تجمعت في الأسفل لتختلط معهم
وتزول كما لو لم تكن.
راقبت سكارليت بعيون فارغة ما رميت فيه، ثم حولت عينيها ناحية روبرت الذي خار على
الأرض من هول ما حدث.. ثم إلى لوانسي الذي وقف يجفف دموع التماسيح.
ركلت الكرسي الذي كان بجانبها ثم سألت بسخط: فلتفسر ما حدث يا هذا؟
-أشعة فوق بنفسجية تخطت المسموح.. أجساد بشرية سريعة التأثر.
-أتقول أن الشموس الثلاثة هي السبب.
أمال رأسه، يسألها عن رأيها بطريقة مستفزة.. تنهدت ثم قالت بجدية وسط الصمت الذي يعم الغرفة
-لما لا نفجرها فحسب؟ تلك الشموس اللعينة.
انطلقت –آه- متفاجئة من فم لوانسي، في حين جمد كلا من مانيا وروبرت.
فأي جنون تفتريه هذه المخبولة؟
تنهد لوانسي ثم خرج.. وسط اتهامات اعين لاقت الفقدان مرا.. كيف لا وكلماته هي
التي جعلتها تقفز، بغباء ضيعت عليهم عينة تجارب لا يمكن الحصول عليها بسهولة
بحث عن روبي في كل الأماكن التي يعرفها لكنه لم يجد شيئا.. فكر في الخروج لكن الألات
هنا تعمل بالحمض النووي وإيجاد شيء يتناسب وحمضه الهجين سيأخذ الكثير من الوقت..
نوعا ما هو حاقد، يشعر بغضب، حتى أنه فكر وبسخط لأول مرة في انقاذهم والتخلص من كل مشاكلهم
عاد أدراجه مسايرا القدر والأيدي الخفية التي تتلاعب به، تذكر سكار وسكوت الذي التقاه صدفة
عندما خرج من المختبر الذي أوجد فيه في أقاصي روسيا.. المادة الخام الفريدة التي لا تجرح ولا تتأثر
بالأشعة، لقد اتفق مع الأشقر على أن يساعده في نيل المكانة وتخطي منافسته على أن يحصل على ما يريد
لكن كانت النهاية مثيرة للاندهاش، فأن تخرجه تلك القرمزية من الغرفة. وتجره خلفها بعد أن تلطخت
يداها بدماء المتعاقد معه.. لم يكن يريد الخروج لكنه تبعها، بفضول إلى أن وجد نفسه وحيدا أمام
اللهب الذي ابتلع مختبر الأبحاث. يتذكر كيف هام على وجهه، كيف التقطته جين العمياء
ثم كيف أعادته إلى مسقط رأس سيده في سيؤول وبقيت معه هناك مذ ذلك اليوم.. أحس بشعور غريب وهو
يتذكرها، كيف تقدمت في العمر منذ ذلك اليوم، هي سنتان لا غير لكن التجاعيد قد بانت واضحة على وجهها
المكور، وكم يحمد الله أنها لا تراه، فكيف يبرر لها عدم تقدمه في العمر.. هو الأن في الثلاثين؟
الأربعين، أو ربما الستين لقد توقف عن العد منذ أن قتل سيده.. حين اكتشف الروسيون خطر ما أوجده
حين اكتشفوه هو.. موجد الهلاك، صدحت كلمات سيده الأخيرة كالصريف فجأة تثقل رأسه
خافتة تتكرر على الدوام.. كلمات نساها منذ أن تم استبداله، من جسد القط إلى جسد الفتى الميت
ليكون قد عاش بذلك مرتين، ربما حياته أفضل من فرانكشتاين، فهو لازال قطعة واحدة
وليست مجموعة جثث متعفنة.
بشروده هذا اصطدم بجسد روبي الحديدي، اكمح رأسه وهو يدلك أنفه بألم.. ابتسم بخفة ثم
سأل وهو يحيط كتفي الألي بذراعه: روبي.. أيوجد حوض سباحة أو شيء يبرد نيران يوليو الحارة؟
أمال الأسمر رأسه ثم أخذه إلى الحمام، حيث توسطه حوض دائري رصاصي.
ضحك بسعادة ثم طرد روبي خارجا، ملأ الحوض بمياه متجمدة. نزع ملابسه ثم ارتمى بكل أريحية
يستشعر البرودة التي بدأت تنخر عظامه المحترقة.
أغمض عينه وأراح رأسه على المسند الجلدي المريح. أحس بها هناك، لكن ما أحسه
من سكينة جعلت جسده يثمل، روحه قد سلسلت وتحركاته قد سيطر عليها الكسل.
همهمت القرمزية بسخرية، ففتح عيناه بصدمة. تحرك بسرعة يغطي جسده العاري. ابتسمت
سكارليت بسخرية، ثم قالت مستفزة: ما الذي تغطي؟ أنت لا تمتلك شيئا مثيرا للاهتمام أيها الصبي.
صرخ فيها وهو لا يزال يحتضن نفسه وقد احمرت وجنتاه من الخجل: أيتها المنحرفة اللعينة.. ما الذي
جاء بك هنا؟
اجابت ببساطة: لقد أخبرني الذكاء الصناعي بهذا.
هي وكلماتها العلمية، أيصعب عليها قول الألي الأسمر؟ تنهد بانزعاج بينما
تأملت هي الجراحة الموجودة على صدره، وأثار الحروق التي انتشرت هنا وهناك تزين جسده.. ثم نظرت
إلى عينيه الفريدتين. ابتسم هو بسخرية ثم أغمض عينه. دلك شعره بيديه ثم غاص أسفل الماء.
-أيها المزعج، أخبرني ماذا تكون؟
سألت بجمود، اخرج رأسه من الماء ثم أجابها ببساطة وهو يلعب بالماء البارد: أنا سليل فرانكشتاين
المعظم
-ماذا تعني؟
رفع خصلات جبهته المبتلة ثم أجاب باستفسار: أتريدين معرفة الكل؟
ابتسمت بفضول عالمة ثم اجابت: أجل، حتى قبل التقائك بسكوت.
همهم ثم خاطبها بفتور: كنت مجرد حيوان اليف، قط أسيوي بوبر عسلي وعيون ذهبية
عشت في منزل محب مع عالم فذ و ربة بيت محبة وتوأمين مشاكسين.. لكن سعادة سيدي لم
تدم طويلا، وفي يوم حار من يوليو فقد كل شيء.. في ذلك اليوم كانت نهاية حياتنا الطبيعية.
صمت، فرآها تحثه على تتمة قصته.. لم يكن يحب التكلم عنها، لكن ولسبب ما هو يحس بالراحة
الآن للبوح بها لشخص أخر.. حتى وان كان بشريا همجيا مجنونا مثلها.
-لاختصار كل شيء، الحروق الموجودة في جسدي هي بسبب كذبة وتمثيلية المحرقة التي لم تحدث
أما الجراحة التي على صدري وأسفل عيني اليمنى فهي بسبب عمليات زرع الأعضاء التالفة بسبب
توقف الأعضاء الحيوية عن العمل.. باختصار وحتى لا تزعجيني أكثر: إنّ عقلي وذكرياتي هي ذكريات القط
الذي كنته، أما جسدي فهو جسد ابنه. صمت وتلمس عينه المزروعة ثم أردف بحزن مبطن: أما عيني
هذه فهي رماد السيدة والابنة. أفهمتي؟
حركت رأسها بتفهم.. غريبة أطوار أزعجته أكثر مما كان يتوقع. أطبق فمه محجما عن الكلام فسألته
عن تتمة ما كان إلا أنه لم يجب وبقي ساكتا لا غير. تنهدت هي بانزعاج ثم وقفت وسارت خارجة
إلا أنها تمتمت قبل خروجها بنفس الكلام الذي فهمته من كلامه: ليس من المرجح أن نكون الفائزين
أو الخاسرين هنا.. فقد جد الحل الوسط أيها الأحمق، إلى جانب ذلك أنت لست مسخ.. إن كان من
وجود لمسخ ما فسأكون أنا هي تجسيده البشري.
تذكر، حين تركته وذهبت بعد أن انقذته من المختبر، لقد أحس بالوحدة، لقد كانت تشبهه
هي شبيهة سيده الراحل، لهذا وبغرابة هو يحس بالراحة بجانبها.
أراحه هذا الخاطر.. وقف بسرعة ثم ارتدى ملابسة فكم من الوقت قضاه هنا مذ خرجت؟ لقد كان أكثر من الساعتان
وهذا واضح، خرج ثم سار في الممر يفكر في ما قالته، منصفاة الأمور؟
في العادة الحقيقة تكون واضحة إلا أن العقل البشري يعمل على حجب المعلوم. لمع هذا الخاطر في ذهنه
فركض بسرعة ناحية المختبر، أين وجد روبي هناك، يتربع على الكرسي
الوحيد يراقب بمعالم غريبة كل من مانيا، روبرت وسكارليت الذين قيدوا إلى بعضهم البعض.
أمال رأسه.. بمتعة ظهرت جلية، لم يحاول اخفاءها. سأل وهو يجلس على حافة لوحة مفاتيح
عملاقة جاورت الباب: أتشرح أم أقوم أنا بهذا العمل؟
ضحك. لأول مرة مذ التقاه عمت ضحكات روبي الغريبة الغرفة، وقف ثم فرد يديه
أشار إلى الثلاثة المحتجزين ثم أسهب في الحديث: سيكون من قلة الأدب أن أترك السيد
يتحدث. أنت أفضل من هؤلاء البشر الحمقى.. ولابد أنك فهمت فحوى أحاديثي
فهل ستكون معنا أم معهم؟
تمتم الأول بسخرية: بالطبع، فألي يفتقر إلى الأحاسيس.. لم يكن عليه اظهار جانبه الشامت آنفا
ولا أنسى، ما نطقت به تلك الصغيرة.. هي لم تفهم كلماتي عبثا، بل أنت من أقنعتها بالانتحار.
التخلص من كل بشري.. ثم حكم الآليين لهذا العالم، أولست محقا؟
صفق روبي بجلاء.. ثم ركع على قدم واحدة وأعاد السؤال، منتظرا جواب لوانسي
الذي كان واضحا في كل أفعاله ومشاعره منذ الأزل.
تقدم، بهدوء وهو ينظر بشماتة إلى الثلاثة الذين تمازجت نظراتهم ما بين الخوف
القلق، الانزعاج وعدم التصديق.. إلى جانب غضب مكبوت ظهر على وجه سكار الذي
بدأ يتدرج بالبنفسجي كالاثنين الباقين بسبب ما تعرضوا له من لكمات، في النهاية من الغباء أن تهاجم
آلي له قوة مهولة وهم مجرد فتيات وعالم لم يقم بالرياضة أبدا.
وقف أمام روبي.. بكل وقار قدر على اظهاره في وجهه المراهق. ابتسم ثم وفجأة.
قام ركل رأس روبي الذي ارتد عائدا إلى الخلف.. تمايل قليلا، ثم عدل وقفته وهو يرمي
غطاء الوجه الذي انزاح عن مكانه، فكشف عن دارات حديدية لمع في محجربها كريات بلازمية.
تساءل وقد اختفت اللهجة البشرية نهائيا من حديثه: -أهذه إجابتك؟
بالطبع.. في النهاية إذا أردت الخروج علي القضاء عليك.
أكمل وهو يسدد ضربته ناحية صدر الأخير بنوع من الغضب: وأيضا لا تتجرأ على اتهامي.. أنا الوحيد الذي يتلاعب بهؤلاء الحمقى هنا.
أمسك لوانسي الذراع التي امتدت نحو قلبه في أخر لحظة، ثم امال جسده بزاوية قائمة ورمى
الألي بقوة إلى السقف.. حيث اصطدم بالخيوط الكهربائية، فانطلقت الشرارات متساقطة
على كل الموجودين في الغرفة.، التهبت النيران تحيط بهم.. نيران أشد حرارة من لهيب يوليو
أو ألسنة الجنازات التي تلتهم الجثث. ركض بسرعة، قافزا إلى الأعلى يحاول ابعاد جسد روبي
الذي علق بسبب التصادم عن رشاشات المياه.. كان بعيدا، وبقليل من الحظ تمكن الأسيوي من ابعاده
فتساقطت المياه تغسل النار وتزيل خوف سنوات عن قلبه الذي تحرر من سلاسل الخشية.
لم يكن الضرر بالكبير، لكن دارة روبي قد توقفت مبدئيا، ربما صدمة كانت كفيلة بإعادة التشغيل.
نظرت له سكار، كمن يتساءل عن معرفة الأخر المكبوتة.
ضحك بظرافة لأول مرة، ثم قال بهدوء وهو يسير نحوهم: مجرد حظ.. فأنا لا أفقه الكثير في الآلات.
بدأ المختبر يتداعى.. تماما كما اختفت كل تهيئات خلقتها اللعبة.. ووسط جمود الفكر الذي بقيا فيه
ظهرت امامهما بوابة اهليجية، فقفزا فيها بسرعة هاربين من الانهيار الذي سيطر على المكان..
كانت غريبة هذه المرة، بوابة احتوت على بوابتان في داخلها.. لم يحملا أي جمل
لا دلالات أو توجيهات لكن وبغرابة كل منهماانجذب إلى احداها وكأن القدر قرر أن ينهي درسه أخيرا.
تذكر شيئا. فجأة حين كان على وشك الارتماء داخلها.. فالتفت مسرعا ناحية القرمزية
يخبرها بما علمه.. بندمه الذي احتفظ به منذ ازل، لكنها قد زالت واضمحلت داخل النفق
المانع الذي قادها نحو نقطة البداية التي كانت فيها.. تنهد بأسى، لكن. إحساس
في داخله أخبره أنهما سيلتقيان من جديد، بطريقة عجيبة كما اعتادا أن يفعلا.
***
نظر إلى السقف الخشبي.. خامس مرة هذا اليوم. ولقب معشوق الأسقف لن يكون ببعيد
المنال منه.. سمع صدى صراخها، ضرباتها على باب منزل، لقد عاد أخيرا.. ركض بسرعة
راميا المشروبات الغازية ورقائق البطاطا على الأرض.. فتح الستار فدخل نور الشمس غاصبا
يعمي الأبصار.
أنصت لها.. وهي تنادي اسمه للمرة الألف.. ثم و بسرعة اتجه إلى جون التي لا زالت تطرق الباب
فتحه وارتمى يحتضن من ملكت نفس معالمه وفيزيولوجيته ولم تكن يوما فردا من عائلته.
أحاط جسدها الناعم بقوة، حتى غُمِس وجهه في ملابسها الخفيفة.. وبقي صامت.
تفاجأت. لكنها سرعان ما تداركت الأمر وعانقته هي الأخرى، لا تدري السبب لكن
يبدو أن طفلها الصغير قد كبر وتحرر من قوقعته الصلبة التي كانت تسلبه لذة الحياة.
***
تأملت الثخين النائم في فراشه بكل أريحية.. ظهر اشمئزاز خفيف على معالمها إلا
أنّ سكارليت تعلمت درسها. أغمضت عينيها ثم أرجعت المسدس إلى حاملته على خاصرتها
وخرجت بخفة كما دخلت
***
~بعد شهر~
تلاعب بخصلاته السوداء القصيرة بانزعاج، مذ أرغمته جون على قص شعره الطويل
وهو يحن إلى تسريحة ذيل الحصان الفريدة، إلا أنه وعلى حسب قول الحلاقة يبدو أكثر جاذبية من قبل
بمرات.. ضحك بسخرية ثم جلس على أحد المقاعد الخشبية المنتشرة في الحديقة.
أخرج هاتفه الذكي الأسود من جيب البنطال القصير الرمادي ثم ابتسم بطريقة لعوبة لمجموعة
فتيات كانوا يتمتمون بتراهات عن وسامته وما شابه ذلك.
أخرج ورقة بيضاء مطوية بعناية ثم فتحها، وضغط على أزرار هاتفه يرسم الأرقام التي
حفظتها الورقة.. انتظر وانتظر، بالرغم من انزعاجه إلا أنّه ولسبب ما متشوق لسماع صوتها مرة أخرى
كل الشكر لصديق جون.. بالرغم من أنه يكره المخبرين إلا أنّه كان خير عون له في إيجاد ذئبته القرمزية
التي لم ينهي قصتهما بعد.
-مرحبا؟
نبرتها المتسائلة جعلت ابتسامته تتسع، فأجاب بنبرة هادئة بطنها نوع من الترفع و بلغتها الأم التي تعلمها على مضض
-لم أرك منذ زمن.. يا معشوقة الدماء.
***
دفعت للبائعة أثمان الفساتين التي اشترتها ثم خرجت من المحل الفخم.. وضعت النظارة الشمسية السوداء
الكبيرة التي كانت تتعلق كتاج فوق شعرها القرمزي الحر.
كعارضة أزياء مشهورة بدت داخل الفستان الأزرق النيلي القصير الذي أوضح صغر خصرها ثم
انساب متسعا إلى ركبتها.
تجاهلت النظرات التي تتبعها، وسارت مرفوعة الرأس تتبختر في مشيتها، رن هاتفها
فأخرجته من الحقيبة الكحلية الغالية التي تجانس و حذاء الكعب الذي ترتديه.
راقبت بتفاجئ الرقم الغريب الذي ظهر على شاشتها وبخفة ضغطت الزر الأخضر وسألت بصوت
متعالي: مرحبا؟ من معي؟
أتاها صوته الهادئ، الذي أعاد الحنين إلى قلبها.. كم مضى على سماعها لذلك الاسم، لقد كان شهرا
طويلا، عزمت فيه على تغيير حياتها، بالرغم من أنها كانت نادمة لعدم اكمال سرد ماضيها مع لوانسي.
ابتسمت بسعادة ثم خاطبته: أرى أنك لم تفقد عادة التكبر.. يا سليل فرانكشتاين
رنت ضحكته عبر الهاتف، فزادت ابتسامتها. تساءلت باستغراب بعد ان خفت ضحكته
-كيف عثرت علي؟ ولماذا؟
همهم بتعالي، ثم أجاب بملل: من يدري، أنا فقط شعرت أنني يجب أن أجدك.. في النهاية
الطبيعيون يرعبونني، لكن المجانين يجعلوني أحس كأني عاقل.
همهمت هي فأردف هو: ولا تنسي، سكارليت.. قصة ماضينا لم تنتهي، إنه فقط جزء جديد لنا
ألا تظنين؟
ضحكت هي ثم وافقت برجة خفيفة من رأسها.. ودعته بعد أن تكلما مطولا. أغلقت الخط ثم حفظت
رقمه في هاتفها.. واتصلت بعدها بالمطار تحجز اول رحلة إلى كوريا الجنوبية، إلى سيؤول حيث
ستجد إجابات تعيد جزءا من عقلها الذي فقد و لم يرجع لها بعد ...
~تمت~

أكان مستقبله وأماله في الغبار؟ أم أنّ الكيان الهش لم يُجِد الاختيار؟

كان ضالا في هذه الحياة.. لكن وبمعجزة من الاله وجدت الروح الهائمة الأمان.

مسخ والمسوخ في ازدياد، لكنه الأقرب للإنسانية من كل انسان..



.




__________________




وَ تزهو بنا الحَيآه ، حينما نشرقُ دائماً بـإبتسآمة شُكر لله ..
أحبُك يالله






التعديل الأخير تم بواسطة Crystãl ; 12-07-2017 الساعة 04:56 PM
رد مع اقتباس