11-04-2017, 10:57 PM
|
|
الفصل الخامس : لا بأسَ أن تَبكي.
حلّ الصباحُ مشرقًا على نافذةِ أبيض الشعرِ ذو الإثنا عشرَ ربيعًا و لا يشوبُ هدوءهُ سوى زقزقة العصافيرِ كصخبٍ هادئٍ مُسالم... و هُتافاتُ ليديا اللطيفةِ باسمِ آرثر علهُ يستفيق.
عقدَ حاجباهُ منزعجًا فبدأت ليديا بهزهِ يمينًا و شمالًا علهُ يستيقظ، لكنَ الآخرَ أبى التخلي عن عنادهِ و نومهِ الهادئ فلفَ جسدهُ ناحيةَ الشباكِ ليزعجهُ ضوءُ الشمسِ هذهِ المرة بالإضافة إلى إصرارِ ليديا.
و للمرة الثانية، تنتصرُ ليديا بعنادها على عنادِ آرثر فنهضَ الأخيرُ جالسًا على سريرهِ بشعرٍ مبعثرٍ تمامًا خصلاتهُ شيءٌ إلى الأعلى و شيءٌ إلى الأسفل يحدقُ بالفراغِ بعيونهِ الناعسة و نظراتهِ الواهنة
ابتسمت ليديا بفخرٍ كونها جعلتهُ يستيقظ بعدَ ثلاثينَ دقيقةٍ منَ المحاولةِ فهتفت " صباحُ الخيرِ آرثر !، أنمتَ جيدًا ليلةَ أمس ؟."
أومأ لها إيجابًا كَمَن أبحرَ وعيهُ إلى عالمٍ آخرَ تمامًا " لقد كانَ لذيذًا..."
قالها متمتمًا مما دفعَ ليديا للضحكِ بشدة " و لكن ما الذي تتحدث عنه ؟."
أمسكت بيدهِ تسحبهُ مِن على السرير " جيد !، و الآن انزل لتناول الفطور !."
أمالَ رأسهُ بطفوليةٍ متسائلًا " الفطور ؟."
أومأت بالإيجابِ ثم قالت " والدايَ سيسعدانِ بذلكَ بكُلّ تأكيد !."
استمرت بسحبهِ خارجَ السريرِ فتشبثَ بملابسِها منَ الخلفِ يحتمي بها مستمدًا منها الشجاعة
نزلا إلى الأسفلِ لتستقبلهما والدتها بابتسامةٍ بشوشة " صباحُ الخيرِ ليديا !، كيـ--"
استوقفتها الدهشةُ عَن إكمالِ سطرِها و تلاشت بسمتها إلى تعابيرَ مندهشة حينَ رأت آرثر المتشبثِ بملابسِ إبنتها فعاودت الابتسامَ مجددًا بسعادةٍ أكبر
" الحمدُ لله... لقد قررتَ النزولَ أخيرًا !، لقد كُنتُ قلقةً بشأنِ هذا... كيفَ تشعرُ الآنَ ؟، ألا تزالُ خائفًا ؟."
أما آرثر فنظراتهُ لَم تفارق الأرضَ توترًا و خوفًا فاكتفى بالإيماءِ إيجابًا
قلبَ الأبُ جريدتهُ يقرأ كلماتها فقالَ " لا تستعجليهِ جَسيكا... دعيهِ يأخذُ وقتهُ في الاعتياد على المكان..."
وافقتهُ جيسيكا بطفوليةٍ فهتفت " هذا صحيح !، لا تضغط على نفسكَ عزيزي !، ماهوَ اسمكَ ؟."
إزدادَ تشبثُ آرثر بملابسِ ليديا فأجابَ مرتبكًا " آرثر..."
ربتت على شعرهِ بلطفٍ و جلست القرفصاءَ لتصبحَ في مستواهُ فقالت بحنان " إذًا فهوَ آرثر... يا لهُ مِن اسمٍ جميل... ما معناهُ ؟."
شتتَ نظراتهُ أرجاءَ الأرضِ مجيبًا بارتباكٍ أكبر " امم.. آرتوريوس.. كـ.. كلمة لاتينية تعني نبيل.."
همهمت قائلة " هيـ~ـه ~ ، و اسمكَ مشتقٌ من هذهِ الكلمة هاه... نَعم !، اسمٌ جميلٌ فعلًا !... حسنًا !، اغسلا وجهيكما و رتبا شعريكما و تعاليا لتناولِ الفطور !، ليديا، آرثر !."
أومأت ليديا إيجابًا لتسحبَ آرثر خلفها إلى الحمامِ، هُناكَ حيثُ حدقَ الأخيرُ بكُلِ شيءٍ بتعجبٍ و ارتباكٍ فسألَ بطفولية " ماذا عليّ أن أفعل ؟."
جَرت ليديا كرسيانِ منَ الخشبِ أمامَ المغسلة لتصعدَ على واحدٍ " تعالَ اصعد هُنا !."
ساعدتهُ على الصعودِ ثُمّ فتحت صنبورَ المياهِ تقولُ ما تفعل " أولًا تفتحُ صنبورَ المياهِ هكذا ثُمّ تغسلُ وجهكَ بالمياهِ و تجففهُ بالمنشفةِ هكذا !."
فعلَ ما قالتهُ لهُ بتشتتٍ خوفًا مِن حركةٍ خاطئةٍ قَد يقومُ بها فلفَت وجههُ نحوَ المرآة بكفيها لتبتسمَ بإشراق " أرأيتَ !، نظيفٌ تمامًا !."
لكنَ آرثر تجاهلَ تلكَ الجملةً كأنما لَم تدخل مسامعهُ منَ الأساسِ شاردًا في صدمتهِ بصورةِ إنعكاسهِ على المرآة...
هوَ يحدقُ الآنَ بانعكاسِ طفلٍ بشعر أبيضَ صافٍ و عينانِ زهريتانِ مالتا إلى الحمرةِ لحدٍ كبيرٍ، بشرةٌ شاحبةٌ تمامًا بالكادِ فيها لونًا يميزها عَن خصلاتِ شعرهِ
فأينَ تلكَ الخصلات كسُلافاتِ الذهبِ تنسدلُ على وجههِ و رقبته، و عيناهُ اللتان شابهتا الزمردَ في لونهنَ كيفَ أصبحتا كالياقوتِ لونًا ؟، و تلكَ البشرة السمراء الغريبة التي لطالما ميزتهُ عَن مَن حولهِ ؟
ماذا حدثَ لهُ في طرفةِ عينٍ كخيالٍ عابر، حلمٌ قصير، و برقٌ خاطف، مَن ذا الذي يقفُ أمامهُ.
اتكأ على المرآة بكلا كفيهِ محدقًا بنفسهِ بحدقتانِ متسعتانِ و ياقوتيتاهُ ترتجفانِ بشدةّ، همسَ بنبرةٍ كما لَو كانَ صاحبها خارجًا عَن نطاقِ واقعهِ
" ليديا... كَم مِنَ الوقتِ مَرّ عَلى أول لقاءٍ لنا ؟، كَم منَ الوقتِ بحقِ خالقِ السماءِ نمتُ ؟."
استغربت ليديا سؤالهُ لتعتلي ملامحها دهشةٌ طفولية فأجابات على أي حالٍ " أسبوع... لا، إنها ستةُ أيام."
ازدردَ آرثر ريقهُ فتخلى عَن لملمةِ مشاعرهِ المبعثرة قبلَ أن يحاولَ حتى فتلمسَ وجههُ بأناملهِ و قَد انبثقت مِن فاهُ نبرةٌ مهتزةٌ مرتجفة تعكسُ ما يعصفُ داخلهُ في هذهِ اللحظة
" إذًا بحقِ الجحيمِ مَن ذا الذي أراهُ أمامي..."
تراجعَ إلى الخلفِ خطوة و قَد غابَ عَن بالهِ كونهُ واقفًا على كرسي فيكفيهِ التفكيرُ بالمعضلة التي حلت بشكلهِ ليسقطَ إلى الأرضِ محدثًا ضجيجًا قويًا استدعى والدا ليديا إلى الإسراع نحوهُ.
حدقا بهِ مرتجفًا كَمن رأى قاتلًا يطعنُ ضحيتهُ حتى الموتِ و قد زادتهما جملتهُ إستغرابًا فقالها بينما يتكورُ معانقًا جسده " لَم أعُد أعلمُ مَن أنا بالضبط."
همسَ بها بينما تعصفُ ذكرياتُ ذلكَ اليومِ و حديثُ الأطباء في عقلهِ دونَ توقف
اقتربت منهُ ليديا بترددٍ ليسَ خوفًا منهُ بَل قلقًا عليهِ والدموعُ في عينيها " آرثر ؟."
همسَ لها بنبرةٍ مرتجفةٍ فيها منَ العمقِ ما لا يمكنُ تفسيره " آسفٌ ليديا... أريدُ أن أبقى وحدي لبعضِ الوقت."
مَرّ الوقتُ و آرثر مايزالُ يحبسُ نفسهُ في الغرفةِ حيثُ وجدَ نفسهُ حينَ أفاقَ فحلّ الليلُ دونَ أن يشعرَ بساعاتهِ تجري، لم يكن غارقًا في أفكارهِ أبدًا ، إنما استحوذ الفراغُ على فكرهِ مانعًا إياهُ مِن استجماعِ فكرةٍ واحدة و لَو كانت صغيرة
عقلهُ فارغٌ بالكاملِ كنظراتهِ الموجهةِ إلى الجدارِ فلا هوَ سارحٌ في عالمهِ الخاص و لا هوَ يصبُ تركيزهُ على الواقع، كما لَو كانَ شفافًا بلا لونٍ أو جوف.
فصلت ليديا البابَ عَن عتبتهِ تحملُ بينَ يديها طعامَ العشاءِ لكن يا للمفاجأة هوَ لَم يمسَ غداءهُ بعد و لَم يشعر بها تدخل.
غمامةٌ منَ الحزنِ حَلت على قلبها و عقلها لتنعكسَ على وجهها بوضوحٍ فوضعت الطعامَ أرضًا لتجلسَ قربَ آرثر المتكور على سريرهِ و بنبرةٍ تغلغلها الحزن قالت " لِمَ آرثر حزين ؟."
تلكَ النبرة أعادت آرثر إلى واقعهِ و رغمَ ذلكَ لَم يكلف نفسهُ عناء الإجابة، لا، هوَ لَم يستطع إيجادَ واحدة.
أردفت ليديا " هَل فعلتُ لكَ شيئًا خاطئًا ؟."
خيمَ الصمتُ وجومًا على المكانِ و بعدَ وقتٍ ضئيلٍ سألَ بنبرتهِ العميقة ذاتها " أخبريني ليديا.. ماذا لَو كُنتِ لا تثقينَ بأحدٍ سوى نفسكِ ؟، و فجأة استيقظتِ صباحًا لتجدي أنّ نفسكِ التي اعتدتِ عليها كشخصٍ مختلفٍ تمامًا... كيفَ لكِ أن تثقي بتلكَ النفسِ مجددًا ؟."
أجابت بسؤالٍ آخر " هذا ما كنتَ تعنيهِ حينَ قُلتَ أنكَ لَم تعد تعلمُ مَن أنتَ صباحًا ؟."
آثرَ آرثر الصمتَ على الكلامِ فابتسمت ليديا بإشراقٍ تهتف " إذًا فلنكتشف مَن أنت !."
عادَ شيءٌ منَ البريقِ إلى عينيهِ فحدقَ بليديا بذهولٍ و قَد اجتاحَت قلبهُ دوامةٌ منَ السعادة.
سألت ليديا " ما هوَ إسمكَ."
فأجابها " آرثر..."
" كَم هوَ عمركَ ؟."
" إثنا عشرَ عامًا."
" كَم أخًا لديكَ ؟."
" لا أملك .. عـ على الأرجح ."
" ما هوَ طعامكَ المفضل ؟."
ارتبكَ مشتتًا نظراته " حساء الخضار الذي تُحَضِرهُ والدتكِ لذيذ.."
اتسعت ابتسامتها " شرابكَ المفضل ؟."
" أ- الحليب الساخن..."
" الأشياء التي تستمتعُ بفعلها ؟."
" لا أعلم..."
" حَيوانكَ المفضل ؟."
" لا أعلم..."
" ماذا تريدُ أن تصبحَ مستقبلًا ؟."
" و هذا أيضًا..."
تشابكت أصابعها بأصابعهِ تقولُ بابتسامةٍ مشرقةٍ دافئة " أنتَ آرثر... تملكُ إثنا عشرَ عامًا.. لديكَ شقيقةٌ صغرى تدعى ليديا.. تحبُ حساء الخضار الذي تعدهُ والدتنا و الحليب الساخن.. لا تعلمُ بما تستمتعُ أو ماهوَ حيوانكَ المفضل و حتى ما تريدُ أن تكونهُ مستقبلًا.. لكنناَ سنكتشفُ تلكَ الأشياءَ منَ الآنَ فصاعدًا."
حدقَ بها بعينانِ متسعتانِ تلتمعانِ دمعًا و قَد رفرفَ قلبهُ منَ السعادةِ فشددَ قبضتهُ على يدها يهمسُ بصوتٍ مرتجف " ليديا.."
" ما الأمر ؟."
نزلت دموعهُ بعدَ أن باتَ غيرَ قادرٍ على كبحها ليبتسمَ قائلًا " شكرًا لكِ !."
قهقهت ليديا بلطفٍ قائلة " أنتَ تشكرني كثيرًا حقًا !."
فركَ عيناهُ بساعدهِ يمسحُ دموعهُ فأردفت ليديا " و الآن تناول طعامكَ !، و حصةُ الغداءِ كذلك !، إن استمريتَ تأكلُ وجبةً واحدةً في اليوم ستمرض !."
أومأ لها إيجابًا فبدأ تناولَ طعامهِ ثُم يشربُ معَ ليديا الحليبَ الساخن ليناما في الغرفةِ ذاتها كما حدثَ ليلةَ أمس.
أما صباحُ اليومِ الذي يليهِ نزلَ آرثر مجددًا يحضى بإفطارٍ معَ أسرةِ ليديا و هذهِ المرة هو قد حضيَ بهِ بالفعل فلاحظَ الرائحةَ المميزة للشاي الذي تشربهٌ جيسيكا فنظرَ نحو ليديا " ما رأيكِ أن أريكِ شيئًا مثيرًا للإهتمامِ ؟."
التمعت عينا ليديا لتجيبَ بسعادة " رجاءً !."
نظرَ حولَ نظراتهِ نحوَ والدتها " ألي بفنجانٍ منَ الشايِ رجاءً ؟، وأيضًا شريحةُ ليمون !."
أومأت له جيسيكا مبتسمةً لتقدمَ له ما طلبهُ فوضعَ الليمونةَ في الشايِ ليتحولَ إلى لونٍ أزرقَ سماويٍ مميزٍ فدهشَ الثلاثة لتبدأ ليديا بالتصفيقِ و هتفت " آرثر كالساحر !."
قالَ " مازالَ بإمكاننا شربهُ أيضًا !."
تذوقتهُ جيسيكا تتحققُ مِن طعمهِ فدهشت قائلة " أنتَ محق !، هو حامضٌ قليلًا فقط !."
هتفت ليديا مجددًا " آرثر كالساحر !."
خطرت في بالها فكرةٌ فجأة فابتسمت تسحبُ آرثر مِن يدهِ مجددًا " لنخرج آرثر !، الجوُ صحوٌ اليومَ على غيرِ العادة !."
قالَ بإستغرابٍ يقاومُ بترددٍ طفيف " مهلًا، إلى أينَ ليديا ؟." هو في أعماقه استسلمَ تمامًا لليديا، فَلو أخذتهُ إلى الجحيمِ لسارَ خلفها كالأحمق، لكن يبقى خوفهُ مِن مواجهةِ الواقعِ بقدرِ رغبتهِ فيها.
أما ليديا فقد أجابت " إلى الغابة !."
ما إن أنهت سطرها حتى فتحت البابَ ليقابلَ آرثر عالم لَم يرى مثلهُ في حياتهِ قبلًا..
أخضرُ العشبِ ملأ المشهدَ المنعكسَ على عينيهِ المحدقتانِ بالأرض أجبرهُ على رفعهما نحوَ السماءِ حيثُ انقلبَ اللونُ أزرقًا تخللتهُ غيومٌ ناصعة و الشمسُ تسطعُ ممطرةً بأشعتها عليهِ لأول مرة
توقفَ آرثر مصدومًا إذ أنّ قدماهُ توقفتا تلقائيًا تأبيانِ تحريكَ ساكنٍ تتعمقانِ باستشعارِ رطوبةُ العشبِ متخللًا أصابعهما الصغيرة
همسَ صاحبُ تلكَ الأقدامِ بشرودٍ تامٍ كما لَو أنّ نسيمَ الهواءِ أخذَ معهُ فِكرَهُ " إنها زرقاءُ حقًا..."
استغربت ليديا جملتهُ " ماذا ؟."
قدمَ آرثر إلى الأمامِ مجبرًا قدميهِ على مفارقةِ العشبِ لكن سرعانَ ما التقيتاهُ مجددًا ليفردَ يداهُ في الهواءِ سامحًا للرياح بمداعبةِ ليسَ خصلات شعرهِ فقط بَل كُلُ إنشٍ في جسدهِ يستشعرُ دفئ الشمس.
Arthur's P O V
آه.. أهذا حلمٌ ياترى ؟.
أنا الآنَ أرى السماءَ زرقاءَ تشعُ ضياءً و الشمس ساطعةً تتألقُ لمعانًا...
الشمسُ ؟، هذا صحيح... إنها ساطعةٌ للغاية... و تملكُ منَ الدفئِ ما يقدرُ على قمعِ بردِ الشتاء... تمامًا مثلَ ليديا...
الشيءُ الوحيدُ الذي يمكنُ أن يشكلَ وصفًا دقيقًا يصفُ ليديا هو الشمس... ليديا هي.. الشمسُ بحدِ ذاتها.. إنها الشمسُ خاصتي..
END P O V
هَمسَ لنفسهِ " لا عجبَ أنّ قدرتها الشمعية تمثلُ 30 أُس 25 تقريبًا...
سألت ليديا بفضول " ماهي القدرة الشمعية ؟."
نظرَ لها بإستغرابٍ لوهلةٍ فكيفَ لها أن لا تعلمَ ما المقصودُ بشيءٍ كهذا ثُم استوعبَ كونهما كبرا في بيئةٍ مختفة فأجابَ " يعني أنها تنيرُ أكثرَ مِن اممم.. ثلاثةٌ و أمامها تسعةٌ و عشرونَ صفرًا منَ الشموعِ..."
صفقت ليديا بحماس " مذهل !، آرثر أنتَ مذهل !، ماذا أيضًا ؟!، ماذا أيضًا ؟!!."
جلسَ آرثر على العشبِ ففكرَ لوهلةٍ ثُم قالَ " هممم.. هي تبعثُ منَ الحرارةِ ما يقاربُ 10 أُس 25 منَ الحرارةِ... و هي السببُ كونَ السماء زرقاء... كما أنّ قطرها أكبر مِن قُطرِ كوكبنا مائة و ثلاث مرات و حجمها قدر حجمهِ حوالي مليونِ مرة.."
سألت ليديا مستغربة " و كيفَ لها أن تكونَ زرقاءَ بسببِ الشمس ؟."
أجابَ مشيرًا نحوَ الشمسِ و قد تملكهُ بعضُ الحماس " الشمسُ ترسلُ الضوءَ بسبعةِ ألوانٍ نراها حينَ يظهرُ قوسُ المطرِ، و أطولُ أشعة هذا الضوء هي الأحمر بينما أقصرُها هو الأزرق .. فحينَ يدخل الشعاعُ الأزرق جوَ الأرض المليء بالذرات و يصطدمُ في إحداها يتفرقُ في إتجاهاتٍ مختلفة مكونًا أشعةً أخرى تصطدمُ بذراتٍ أخرى بدورها بينما الشعاع الأحمر يدخلُ أعيننا مباشرة فتكتسبُ السماءُ لونها... أما عندَ المغيبِ فلكثرةِ الذراتِ و الغبيراتِ جهةَ الغروبِ تكتسبُ السماءَ لونها الأحمر لكونِ غمامة الذراتِ كثيرة لدرجةِ يتعذرُ على الضوء الأزرق إكمالَ مسارهُ بينها..."
" و ما هوَ القطر ؟."
" المسافة بينَ مركز الدائرة و حافتها... فهمتِ ؟."
ابتسمت ليديا بإتساعٍ لتجيبَ هاتفة " أبدًا !."
ابتسامةٌ صغيرة رسمها آرثر حملت القليلَ منَ الخيبة " كما توقعت..."
تذمرت ليديا بطفولية " هذا لأنّ آرثر يعلمُ الكثيرَ منَ الأشياء الغريبة بينما لا يعلمُ أبسطَ تلكَ العادية !."
أجابَ " معكِ حق.. أعتمدُ عليكِ في تعليمي !."
أومأت إيجابًا " نَعم !، اعتمد عليّ !."
نادى بهدوء " ليديا..."
أجابت " ماذا ؟."
قالَ بلطف " شكرًا لكِ على كل شيء.. حقًا شكرًا لكِ..."
ابتسمت لهُ بلطفٍ هيَ الأخرى " أنتَ حقًا تشكرني كثيرًا لدرجة ميؤوس منها !."
نورٌ أبيض اجتاحَ ناظريهِ فجأة ليفتحَ عينيهِ على مهلٍ فيستقبلهُ مشهدٌ مشوشٌ اتضحَ رويدًا ليمسيَ سقفًا خشبيًا ليسَ ذاك المهترئ الذي اعتادَ إبصارهُ إنما آخرُ يعطي إنطباعًا فاخرًا و لو كانَ صغيرًا.
نهضَ أشيبُ الشعرِ ذا السبعةَ عشرةَ عامًا جالسًا على سريرهِ فتسلسلَ شعورٌ بالألم إلى ظهرهِ و رقبتهِ حتى فكهِ مستدعيًا إياهُ إغلاقَ إحدى عينيهِ معَ تقطيبةٍ بينَ حاجبيهِ كردِ فعلٍ لما يشعرُ بهِ.
جالَ بعيناه المكانِ ليقعَ نظرهُ على ليديا النائمةِ على كرسيٍ خشبيٍ قربهُ فابتسم لها مربتًا على شعرها بهدوء " أحسنتِ صنعًا في إنقاذِ كلينا.. ليديا..."
فتحت عيناها على مهلٍ على تلكَ الجملةِ لتهمسَ بنبرةٍ ناعسة " آرثر ؟."
أجابها بلطفٍ " أجل ؟."
قالت بينَما تفركُ عينيها الناعستين " حلمتُ حلمًا عن الوقتِ حينَ كُنا أطفالًا..."
آرثر " أجل.. و أنا كذلكَ.."
قهقهت بخفةٍ " يا لها مِن صدفة غريبة !."
أجاب " معكِ حق.. غريبة للغاية.."
سألها بحذر " إذًا ؟، أينَ نحنُ الآن ؟."
ابتسمت ليديا تضغطُ على ملابسها بقوة " لقد ساعدنا ثلاثةُ أشخاصٍ طيبون، جعلوا طبيبًا يراكَ و دبروا لنا شقةً صغيرةً في العاصمة... لقد حدثَ كُلّ شيءٍ فجأة مما أصابني بالإرهاق لكنني بخيرِ الآن !."
اختفت ابتسامةُ آرثر فاستبدلها بتعابيرَ جادةٍ تمامًا و بنبرةٍ عميقةٍ قالَ " ليديا..."
أجفلت مرتجفةً حينَ نطقَ اسمها بتلكَ النبرة، فهو حينَ يستعملها يكونُ إما تحطمَ حتى أمسى يتعذرُ عليهِ التفكير أو جادًا حازمًا و هذا نادرًا ما يحدثُ معهُ حتى أنها ربما مراتٌ تعدّ على الأصابع .
أردفَ " لا بأسَ إن بكيتِ..."
أدمعت عينا ليديا أوتوماتيكيًا حينَ سمعت جملةَ آرثر و قد احترقَ قلبها لهيبًا لافحَ الحرارةِ كدموعها التي انسابت شلالاتٍ ملتهبةٍ على وجنتيها لتصدرَ شهقةً مكتومةً كمشاعرِها المكتومة مِن شوقٍ و وحدةٍ و ألم.
ربتَ آرثر على شعرها بلطفٍ " لا بأسَ أن تحرري شهقاتكِ أيضًا... أفرغي ما في قلبكِ..."
تشبثت بملابسهِ بقوةٍ شديدةٍ تدفنُ رأسها في صدرهِ فأفلتت شهقاتها تاركةً إياها تتحررُ دونَ أدنى محاولةٍ لكبحها " آرثر.. نحنُ لَن نرى أبوينا مجددًا... لَن نسمعَ صوتهما مجددًا.. لَقد تركانا بلا عودة.. أريدُ رؤيتهما.. اشتقتُ إليهما كثيرًا !!."
عَضّ آرثر على شفتهِ السفليةِ و اكتفى بالصمتِ مربتًا على شعرها دونَ توقفٍ و قَد اغرقت عيناهُ بالدموعِ بدورها و بعدَ حربٍ طويلةٍ معَ الغصةِ في حلقهِ همسَ بصوتٍ اتضحَ فيهِ الإرتجافُ جليًا " أجل .. و أنا كذلكَ..."
استمرت ليديا نحيبًا و أكملَ آرثر بكاءهُ الصامت.. كزهرةِ أقحوانٍ بيضاءَ لوثها رمادٌ تطايرَ في ليلةٍ صيفيةٍ خَلت مِن كُلّ صوتٍ سوى تفؤود النيران المتفاقم. |