عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-28-2018, 01:08 PM
 
Talking

الجزء الثالث
-هل صحيح انك أبن قيادي لحركة يسارية تم تصفية جميع أفرادها بعملية أشبة بالمجزرة؟
-هل تريدين ان أساعدك ؟
-طبعاً .
-اذن أبقي فمك مغلقاً .
فجأة نهض من مقعدة دون ان يكمل أكل طعامه، حذرها من محاولة الهروب أو التصرف معه بخبث لأن ذلك سيؤدي بها الى التهلكة.
شغل جهاز التلفاز ونصحها بمتابعة برامجه، أنسحب الى الغرفة يجري سلسلة مكالمات هاتفية، نظراته لم تكف عن ملاحقتها، صوت التلفاز المفتوح على أتساع صورته منعها من استراق السمع على أحاديثه الهاتفية.
فكرت انه ربما يخدعها وهي بغبائها تصدقه، حانت منها التفاته نحوه فرأته يستلقي فوق السرير بتعب.
مع مرور الوقت أخذت تفكر بالمستقبل المجهول، متأملة شريط حياتها الدامي، ما كان أمامها طريقاً أخر الا عالم الإجرام الذي فضلته على عالم البغاء.
طافت بالشقة بعملية استطلاع لمقتنياتها، صورة في أطار خشبي لصبية لم تتجاوز العشرين من عمرها لفتت انتباهها، العينان بركتان من العسل الصافي، الشعر متموج طويل تداعبه نسمات الهواء فبعثرته حول وجهها الضاحك ببراءة.
تسألت عمن تكون هذه الشابة التي يحتفظ بصورتها كجزء من محتويات شقته.
تناهى لها صوته خافتاً من الغرفة، مشت بأطراف أصابعها تختلس النظر إليه، لاحظت انه نائم، همهم بكلمات لم تفهمها، أدركت انه يعاني من كابوس ما، اقتربت من السرير منصته بتركيز، حاولت تركيب الحروف والكلمات التي ينطقها، اكتشفت انه يناجي احد لا يسمعه.
امتدت يدها الى جيب سترته باحثه عن سلسلة المفاتيح، بغتة فتح عينيه بسرعة منتفضا عن السرير، تراجعت بفزع خطوه للوراء، قالت تخفي ارتباكها كتبرير لوجودها بقربة:
-يبدو انك رأيت كابوساً في منامك.
كان جسده يرتعش كما لو مسه تيار كهربائي، والعرق يتصبب من جبينه، همس بألم.
-ماذا فعلت لهم؟.. عذبوها بوحشية... ما الذنب الذي استحقت الموت لأجله؟

بدا كأنه يتحدث الى نفسه، وضع رأسه بين راحتيه لكنها لمحت الدموع في مقلتيه.
-أنا تعيس... تعيس ولستُ شريراً... كان يجب ان يقتلوني أنا لا هي.
شعر بالراحة وهو يبوح بكل ما يخفيه أمامها كاشفاً عن مكامن ضعفه، انفتحت صدفته وانطلق ينشر أسراره الخاصة ويأتمنها عليها بعدما ألحت عليه حاجته للاعتراف.
روى لها عن ذويه والمجزرة التي راح ضحيتها كل أعضاء التنظيم، حدثها عن أخته التي تم اختطافها من قبل المليشيات للضغط على والده ليتراجع بشأن قراراته المعارضة.
-قتلوها في بربرية.
راح يهتز مجهشاً بالبكاء وهو يخبرها عن مشهد جثتها المشوهة بشكل لا يتخيله عقل، ذلك المنظر الذي اخذ يطارده في نومه وصحوة.
-لكني انتقمت منهم جميعاً... قتلتهم واحداً تلو الأخر... أصبحت قاتلاً محترفاً... تركت الجامعة حيث كنت ادرس الطب في الخارج لأعود وانتقم بذات الطريقة التي يتبعونها هم.. أنا قاتل بالفعل إلا إني لم أقتل يوماً نفساً بريئة.. صدقي أو لا تصدقي لكن انا أيضا لي قلب... لي قلب مثل كل الكائنات.. أملك عواطف وأستطيع أن أحب.. هل تظنين أنني لست قادرا على الحب؟
سؤاله المباغت جاء كفرصة لها حتى تقترب منه، جلست بجواره على السرير، نظراتها لم تفارق المسدس الفاصل بينهما.
عاد يسألها بإلحاح:
-هل تظنين أنني لستُ بقادر على الحب؟
-ربما ... لا أعرف.
تسللت أصابعها بخفة تلمس المعدن البارد للمسدس، فوجئت بقبضته فوق يدها تمنعها بحزم، سحب مسدسه من مكانه.
-تريدين قتلي؟
لم تملك الوقت لاختراع كذبة والعينان الحادتان تسبران أغوارها.
-لستُ غبية للحد الذي أصدق فيه أنك تريد مساعدتي كمبادرة حسن نية.
أظلم وجهه في وجوم، تجمد واقفاً فوق رأسها بدون أي حركة.
-لا أفهم!... لماذا؟... لماذا تهتم بسلامتي؟... لماذا لم تقتلني؟.. ولماذا أخبرتني أنك سوف تقتلني؟
-قد أقتلك الان.
-لن تفعل...لو انك أردت قتلي لفعلت ذلك من البداية... سنحت لك أكثر من فرصة ولم تستغلها... أنت لن تقتلني.
قشعريرة حادة هزت جسده كله، حدق بالمسدس في يده قبل ان يرمي به إليها قائلاً:
-هذا صحيح ... لا أستطيع قتلك ومن لا قدره له على القتل لا يستحق حمل السلاح.

لم تحاول رفع المسدس الذي بين يديها باتجاهه.
-لماذا؟... ما الذي يمنعك من قتلي؟
-ربما لأنني متورط عاطفياً.
-أنت!
-قد أكون قاتل لكني لستُ مخلوقاً من حجر.
سلسلة مفاتيح ودفتر ملاحظات صغير أخرجهما من جيب سترته الجلدية، وضعهما فوق منضده قريبة قائلاً يزيد ذهولها.
-تلك مفاتيح الشقة والسيارة اما هذه المفكرة تحتوي على عناوين وأرقام لجهات يمكنها مساعدتك في الهرب الى خارج البلاد... والان نفذي الأوامر وأطلقي النار عليّ... اذا كان من المفروض ان يموت احدنا فليكن انا.
اعترتها رجفة عندما تلمست برودة المسدس، انحنت أكتافها من هول الذهول، همست بصوت خافت من وقع المفاجئة.
-لقد .. لقد كذبتُ عليك.
-بماذا كذبتِ بالضبط؟
-الجهة التي أرادت التخلص منك ليس لها وجود... لم أقبض اي أموال لقتلك... أنا مخادعة بارعة.. مهارتي في التمثيل تليق بأحد المناصب السياسية.
تعالت من بين شفتيها ضحكة رنانة انقلبت الى نشيج وبكاء مرير معلنة توقفها عن مكابرة جرحها.
- ما الذي تهذين به؟
- أنا أقول الحقيقة ...أردت التلاعب بأعصابك لتشعر بالعذاب الذي انتابني وتحيا بجحيم في كل لحظة بعدما تقتلني لكنك... لكنك حاولت حمايتي... وفكرت بإنقاذي!.. لا أصدق.. لا أصدق.
- الأفضل ان تنهي فوراً دورك في هذه التراجيديا لأنها مهزلة لن أقتنع بها.
- انا أقول الحقيقة لا أحد يريد قتلك.. انا من تستحق القتل.. خذ المسدس واقتلني برصاصة الرحمة ماذا تنتظر؟.. أرحمني من هذا العالم الخانق الذي أحيا فيه بشقاء... لقد تعبتُ من تشردي وبؤسي... الخيوط التي تربطني بهذه الحياة مقطوعة... لماذا تنظر لي هكذا؟ هل تظن أنني جننت؟... لا لم أفقد عقلي بعد... أتريد أن أتوسل إليك لتقتلني؟ ما بك؟... لما تحدق بي بهذه الطريقة؟... أنا لا أحتاج الى شفقتك بل أريدك ان تطلق الرصاص على هذا القلب الذي أمتلكه... قلب ممتلئ بالأحقاد والضغائن على كل الكائنات دون استثناء... ولدت من رحم المعاناة عشت في دار الأيتام قبل ان يلتقطني الشارع... البرد يقرصني والجوع يعضني فأخوض معركتي مع الكلاب... أجول بين الأزقة باحثة عن مأوى يحميني فلا أعثر ألا على ذئاب بهيئة بشر هم الشر بعينه لهذا عندما استطعت إتقان رمي الرصاص قتلتهم بدمٍ بارد... أنقذت الأرض من شرورهم... هل تعرف لماذا لم أتمكن من قتلك عندما حانت لي الفرصة الآن؟
- ....
- لأنك لست مثلهم... انت الوحيد الذي يعاملني بنبل وأخلاق.. انت فقط اهتممت بمصيري وحياتي.. كنت دائماً اشعر بأن لك قلب طيب مهما بدوت قاسياً اما انا فقلبي أسود ولهذا أستحق الموت... أرجوك أقتلني.

بحرقة انتحبت وقد انفجرت أحزانها بلوعة من الألم.
التقط مسدسه عن الأرض، أمعن النظر إليه يتفحصه قبل ان يفتح خزّانة مخرجاً الرصاصة الوحيدة التي بداخلة قائلاً:
-لن أقتلك أنتِ لا تستحقين القتل هذه قناعتي من اللحظة الأولى التي صدر فيه قرار تصفيتك... كما لن أقتل إي مخلوق.. أعلن اعتزالي هذه القذارة... عرضي ما زال قائماً بمساعدتك اذا ما توقفت عن احتراف القتل.
رفعت وجهها المبلل بالدموع هامسة.
-لا مكان لي بهذه الحياة... أرغب بالموت.
-لندفن ماضينا الدموي معاً ونحيا الآن فلقد كنا أموات.
-انا مهددة بالقتل أموت الآن أفضل من انتظار رصاصة غدر.
-لن يجرؤ مخلوق على أطلاق رصاصة واحدة عليك أنتِ في حمايتي... سنوات ونحن غارقان في قهرنا... نسينا ان في الحياة أشياء كثيرة يمكن ان تسعدنا.. لكنا سنعوضها.
تعلقت نظراتهما...
سرى بينهما تيار ما غريب...
حنيناً ما شق شرايينه وتسرب...
شعر بأنفاسه تتلاحق قال بصوت مبحوح:
-رغم ان علاقتنا ظلت ملتبسة على الدوام...لكني عندما وضعت إمام مواجهة فقدانك... اكتشفت ان الحياة ستفقد رونقها وسأكون أكثر تعاسة... الدنيا مظلمة بدونك...
أمعنت التحديق به غير قادرة على تصديق ما سمعت بللت شفتيها قائلة:
-هل تعي ما تقول؟
-كل الوعي ... لما لا نتشارك معاً مصيرنا الذي أختاره لنا القدر؟
حضرت نفسها لسماع أي شيء ألا تلك الكلمات التي ما ان استوعبتها حتى أنتفض قلبها.
-ماذا تقصد بقولك ان نتشارك مصيرنا؟
بصوت مفعم بالإثارة همس.
-لا أقصد شيئاً سيئاً.. أريد ان نكون معاً.. نتزوج؟
-انا... تريد الزواج مني انا!!
-لطالما أدهشتني وأبهرتني بتمردك.. بمشاكساتك وانفعالاتك حتى لسانك السليط لا يخلو من الفكاهة.
انهمرت دموعها الحارة، أحس بلهيبها في صدره عندما ضمها إلية برفق، همست بنشيج:
-لطالما أحسست معك بالأمان ... أستمد منك القوة بالصمود في عالمنا الوحشي.
براحة يده داعب شعرها القصير مهدئاً من روعها بحنانة، كانا يجربان لأول مره مشاعر الفرح.
-هل أبوح لك بسر.
-أكثر من كل ما قيل.
-سر لطالما أردت قوله... أنتي أجمل أنثى رأيتها.
-هل تحبني حقاً؟
-أحب كل ما فيك من تفاصيل....
-توليت مهمة قتلي؟
-للحصول على وقت حتى أتمكن من تهريبك وإنقاذك...لو أردت قتلك ما كنت أخبرتك بذلك...
-هل تسامحني لأنني كذبت عليك...اعذري إنني عشت حياة صعبة لوحدي.
-لن أدعك وحيدة في الحياة...لن أتركك أبداً.
هما قررا ان ينفصلا عن الأشياء التي فرضت عليهما، محطمان القيود التي كبّلتهما بالعقد، سيكونان يداً بيد.
تمت
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر

التعديل الأخير تم بواسطة lazary ; 01-28-2018 الساعة 08:52 PM سبب آخر: الفصل الاخير