عرض مشاركة واحدة
  #82  
قديم 06-28-2018, 03:28 PM
 

العنوان : لم أكن

-" لستُ حيّة ! و ماذا في الأمر ؟ "
صرخت بكل قوتها في منتصف الطريق ، غير آبهةٍ بضجيج السيارات ولا موجات المارّة و لا بتلك الأكتاف التي تضربها يميناً و يساراً !
لم يكلّمها أحد ! كأنهم لا يطرِفونها بأعينهم أو يتلمسّونها بأيديهم
كأنها ليست هُنا ، أو أنها شبحٌ من البلازما ؟
عاودت صياحها :" نعم لستُ حيّة ! لكنكم ترونني ، فقط أثبتوا لي ذلك ! أو فليدهسني أحدهم بسيارته على الأقل !! "
و هاهم بدأوا بالتهامس ، دون النظر إليها ، باتت أصواتهم المتصاعدة مجرّد وشوشات بِـ نوتاتٍ منخفضة ، العربات تتجنبها و الناسُ لا يكترثون بها .
تظاهرهم بعدم وجودها ، هو أكبرُ دليلٍ على أنها هنا !
يحاولون أن يضحضوا كيانها ، لكنهم بذلك يثبتوه .
هوَت على الأرض و تقوقعت كسلحفاة شاردة ، الهمساتُ تتواصل ، أصواتٌ مُزعجة ... مُزعجة للغايّة ، همست بدورها :" بحقكم ! بحق الوجود ذاته ، ألا يوجد كائن واحد في مدينة كاملة ، يعترف بي ! "
في مدينة كاملة ، ضخمة ، محشوة بالبشر ، وفي منتصف الطريق ، إنسانةٌ شعرتْ بالوحدة .
ردّدت :" لم أكُن .. لم أكُن ... لم أكُن ... "
ندّت بلعناتٍ على العالم البائس ، و نهضتْ وقد عزمتْ الإنتحار أخيراً ، كانت تؤمن بأن الإنتحار جريمة بحق نفسها ، لكنها مُتيقنة ، الآن أن هذا أفضل لمن حولها .
ما لبثت حتى انتبهت أنها كنت تعرقل سبيل سيّارة واحدة ، سيّارة سوداء النوافذ ، سيّارة لم تعدّل طريقها لتمرّ بجانبها ، بل إنتظرت بصمتٍ طويل .
رُميَ عُقب سيجارة من نافذة السائق ، ثم أخرج الرجل وجهه الساخط و لفظ :" معتوهة ! ابتعدي عن الطريق ! "
ضاقت حدّقتاها لوهلة ، و انقبضَ صدرها ، :" ألا تسمعينني !! ياللعتُه ! "
ضرب باب سيّارته و خرج قاذِفاً الباب بصرامة ، لم ترَ سوى بنطاله الجلديّ الضيق بالبداية ، صعوداً نحو الحزام المبهرج ثم القميص الغامق ، مفتوح الأزرار ، لتنتهي عند الربطة الجانبية في عنقه .. ورديّة اللون .
همست ببرود :" مجنون "
انطبقت اسنانه و صرّتْ بعنف ، ثم أمسك بيديه الكبيرتين كتفيها النحيلين و انتزعها من مكانها ليُثبّتها على الرصيف
قرّب وجهه الجامح منها ، فتبيّنت تلك الشعيرات على ذقنه ، انتبهتْ لدقّة أنفه و أطالت النظر في عينيه العسليتين .
ببطئ همس :" لا تقفي في وجه سيّارتي أبداً ! "
لوهلة لم تشعر هي سوى بالسعادة ، و عجيبٌ كيف تدفّقت دموع عينيها الفاتحتين ، ليست حزينة أبداً ! لكنها تبكي .
ناظرها قليلاً وهي تكفكف عبَراتها ، ثم همّ راحلاً و قبل أن ينطلق ، سألها من النافذة :" من أنتِ ؟ "
رسمتْ إبتسامةً تنافت مع حقيقة أنها تبكي و أجابتْ بثقة :" لستُ أحداً ! لكنني أكون . "

العنوان للي بعدي :" خديعة مِن واقع "

__________________
رد مع اقتباس