الموضوع: نوافذ فينوس
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 07-09-2018, 06:46 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:900px;background-image:url('https://www.up4.cc/image97405.html');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]

[
الفصل الأول : دُنو الصيف.

لم تحب نارومي هذا القصر قط.
كانت قد ولدت في بيت أصغر حجماً, هناك في الاحياء المتواضعة التي تقع في قلب المدينة, وتجاورها المنازل الخشبية المشابهة لها, هناك كانت أسرتها تجتمع ثلاث مرات في اليوم لتناول الوجبات, كان يمكن لأمها أن ترى أولادها أكثر قرباً, وأن تجلي مع بناتها الصحون, و تسمع صوت بكاء طفلها المدلل, وتكتفي بمناداة اسم أحدهم مرة واحدة ليهب لها نازلاً من أعلى السلالم, وأن ينتشر في المساء رائحة الكعك أرجاء المنزل.
أما هذا القصر الكبير فكان واسعاً إلى درجة الضياع فيه, ولا يمكنها أن تفعل مثلما كانت تفعله والدتها من قبل, لو نادت أحد أولادها فلن يسمع صوتها إن لم يكن ماراً بالصدفة بالقرب منها, وبالرغم من طهو خادمات المنزل أغلب الأوقات إلا أنه من الصعب أن تشتم رائحة الطعام خارج نطاق المطبخ أو غرفة الطعام, كان هذا القصر مكاناً للصمت مصمماً لمن اعتادوا الترف منذ نعومة اظفارهم كزوجها الراحل.
لكنها كانت تتمشى في حديقة المنزل, كانت تعرف أنها ستجده هنا في هذا المساء, فمتى ما ينتهي ابنها من سماع الكتب الصوتية وتلقي الدروس الخاصة في غرفته كان يرتاح في الحديقة بعدها.
شعرت بنسمة هواء باردة إلا أنها لاذعة, لذا فوق فستانها السكري الطويل, لفت حولها غطاءها الصوفي الذي يحمل لون الخوخ, كان لا يزال مظهرها باقياً على نظارته ونقائه كما في ريعان شبابها, وكذلك هي حال عيناها الزرقاوان, بينما شعرها البني ينساب بنعومة على كتفيها, جميع هذه التفاصيل لم تفضح عمرها الذي شارف على نهاية الأربعين.
تأملت حديقتها البهيجة الناضرة, وسمعت أصوات الطيور تغني في أعشاشها المتوارية عن الأعين, واستنشقت الهواء المفعم بشذى الزهور, لكن نارومي كانت لتقايض كل هذا في غمضة عين بمنزل يحتويها قرب أولادها.
من أجلها زرع زوجها شجرة برتقال تستطيع الجلوس تحت ظله أيام الصيف أو تناول كعك البرتقال مع ما تبقى لها من عائلتها في أحيانٍ أخر.
في منتصف الحديقة كانت هناك نافورة مياه تطوقها تماثيل رائعة, بيضاء كالعظام, لخمسة أشخاص, إحداها يحمل طفلاً رضيعاً بين يديه, كانت التماثيل تتفاوت في الأطوال والأشكال, حُفرت على وجوه التماثيل ملامح مختلفة لكنها بدت بعيني نارومي محتفظة بحقيقتها, جميعها تجسد أطفالها, كان قد نحتها صديق لزوجها في زيارة له قبل سنين, إحداها – الذي يحمل الطفل بين ذراعيه – تميز عن غيرها بتزينها بتاج من الورود الحمراء الذابلة على رأسه, و كم بدا المنظر قاسياً لها.
وجدت نارومي ابنها تحت شجرة البرتقال جالساً باسترخاء مغمض عينيه, وشعره الأسود تحركه هفهفات الرياح, ملابسه الخفيفة أثارت قلقها عليه من البرد, وقد وضع عصاه في حجره, و لاح عيني إحدى التماثيل تتابعنها وهي تبتعد, وبصوت هامس قالت: " تاكويا ".
فتح تاكويا عينيه ببطء وقال بشرود : " أمي! .. كنت أنتظر مجيئك! "
دائماً ما كانت عيني تاكويا الجميلتين تذكرانها بعيني أبيها.
لم تكن المرة الأولى التي تمنت فيها من كل قلبها أن يعود لتاكويا بصره ليرى كم بدا أجمل من أي وقت مضى, خاصة عينيه العشبيتين, قالت وهي تجلس بجواره : " كيف كانت دروسك؟ هل تبلي حسناً؟ ".
أومأ مبتسماً بهدوء, قال : " نعم, اعتدت القراءة بيدي, إلا أني لازلت أفضل سماعها, هذا يوفر الكثير من الوقت ".
قالت والدته وهي تضم يده بحنان بكفيها مبتسمة: " كان يجب أن أراك وأنت تقرأ, كنت لأفخر بك يا صغيري, عليك الاستمرار في القراءة بيدك, ستكون سريعاً مع الوقت والممارسة ".
غمغم تاكويا بهدوء : " حاضر ".
تاكويا من أصغر أولادها لكنه ليس الأخير, إن تميز عن إخوته في شيء فهو هدوءه ورزانته التي تفوق عمره, كما أن طريقة تفكيره لا تشابه أحداً من عائلتها, فهو متأنٍ جداً, حذر وإن لم يبدو عليه ذلك.
أرادت نارومي أن تخبره برغبة أخيه الأكبر في أخذه معه إلى لندن و هناك سيرسله إلى إحدى المدارس الخاصة بالكفيفين, لكنها لم تعرف بعد رأيه بذلك, ما تعلمه الآن هو أنها لن تقوى على تحمل مغادرته هو الآخر, ليس هو, ليس تاكويا.
قال تاكويا وكأنه شعر بما يدور في رأسها : " هيروشي.."
أرعت والدته سمعها, أكمل ونظراته تهيم في الفراغ : " عرض علي الذهاب معه إلى لندن ".
لم توفر نارومي وقتاً حتى تسأله بعيون متوجسة شعر بها تاكويا : " وما رأيك أنت؟ "
ازدرد ريقه قبل أن يجيب بتردد: " لكن إخوتي, قد يعودون خلال هذا الشهر أو الذي يليه إلى المنزل, أريد بشدة _ "
صمت بمرارة إذ أن الكلمة التي ستتم الجملة كانت " رؤيتهما ", و تاكويا لم يعد يستطيع الرؤية بعد الآن.
قالت أمه وقد لمحت طرف الخيط الذي سيجعل تاكويا يحسم قرارة بالبقاء بقربها ولم تلمح إلى ما أراد نطقه: " متأكدة بأنهم متشوقين جداً للقدوم, خاصة رين الصغير سيحب سرد مشاكساته معك, و آري ستصنع لك كل ما ترغب بتناوله! "
أكملت وقد برز الحنين في وجهها: " أما ريو_"
أكمل عنها ساخراً من حاله : " أما ريوجي فسوف يريني لوحاته التي يرسمها ".
بردت نظرة نارومي لوهلة, شاعرة بالحزن عليه يتجدد ويفيض, لكنها ابتسمت وقالت مُلاطفة له ما استطاعت وهي تنفش شعره الأسود : " هل فعل؟ ريوجي لا يُري لوحاته المملة لأحد ".
أجاب ضاحكاً هو الآخر : " هذا صحيح, أنه يعتبرها أسرار عالمه التي لا يمكنه مشاركتها مع أحد "
بدأت تشعر بالوحدة الآن بالفعل, و بأن اشتياقها لهم متحلقين حولها يكبر يوماً فيوم, كانت تأمل قدومهم ليساعدوها على جعل تاكويا أقوى.
كان الأولاد قد ذهبوا برفقة أبيهم إلى ألمانيا منذ نعومة أظفارهم لأجل الدراسة وتعلم أساليب الحياة هناك في قصره الذي يُنافس خواء هذا البيت, كونه يُخطط لجعل أحد أولاده يتولى إدارة أملاكه المُقسمة في ألمانيا واليابان
أكبر أولادها " هيروشي " نشأ مدركاً ذلك, ولذا درس الإدارة و أصبح ساعد أبيه الأيمن, وبعد ذلك بسنوات توسعت شركات والده حتى امتدت إلى عدة دول كبريطانيا وأمريكا والصين إضافة إلى إيطاليا وكوريا الجنوبية.
من المفترض أن تعتاد على بُعدهم منذ البداية إلا أنها لم تستطع, ولا تعلم السبب الذي يجبرها على التفكير كل ليلة بأن يوماً ما سترحل دون أن تراهم متجمعين حولها, صغارها اللطيفين.
كانت عينا تاكويا الخضراء لازالت شاردة, ومسحة من البرودة قد بدأت تنمو في مقلتيه مما أقلقها على نحو بث الخوف في قلبها لذا سارعت في ضمه علها تطمئن روحها.
همس تاكويا قائلاً وهو يلف ذراعيه حول والدته ينتشي الدفء مع برودة الجو :" قد لا أذهب أماه! ".
لكن ما كان في خاطر والدته شيء بعيد كل البعد عن ذهابه, شيء غامض ساورها, شيء ما فشلت في ترويضه قد ولد هذه اللحظة, أرادت حينئذٍ أن تبكي, عوضاً عن ذلك رددت قسماً في نفسها - كقسم أم غاضبة - أنها لن تدع " تاكويا " يغيب عن ناظريها مهما حصل.
ومن بين صوت الأشجار التي تحركها الرياح, جاء صوت أنثوي من بعيد يقترب قائلاً : " أكره أن أعكر عليكم صفو الجو العائلي في هذه الساعة, مساء الخير خالتي".
وحقاً لم ترغب نارومي بتواجدها, وجاءها شيء من الضيق كونها لم تنتبه لقدومها منذ البداية, لكنها رحبت بها بابتسامة مقتضبة وهي تحل ذراعيها عن تاكويا : " أهلاً كارلا, أسعدتِ مساءاً ".
تقدمت كارلا مسرعة الخطى لتجلس بالقرب منهم وتضع أمامهم صحن من البسكويت الشهي وابتسامتها الرقيقة تعلو محياها الجميل : " لقد أردت زيارتكم اليوم, لم أرَ أحد في الردهة, أخبرتني الخادمة أنني سأجدكم هُنا, صنعت البسكويت وأردت مشاركتها معكم, سيكون من الممل أن ألتهمها كلها لوحدي " .
سيكون من الرائع لو أنك شاركتها مع والدتك هذا ما فكرت به نارومي لكنها قالت شاكرة : " هذا لُطف منك عزيزتي, أعتقد أنه جاء في وقته بالنسبة لتاكويا ".
التفتت نحوه و استكملت : " للتو أنتهى من دروسه, البسكويت سيكون مثالي بعد وقت عصيب".
تقوست عينا تاكويا العشبيتين ضاحكاً وموافقاً كلامها.
كارلا ابنة صديقة زوجها التي تبغضها منذ أن تزوجت وحتى الآن, كانت أشبه بظل يحول بينها وبين زوجها - بالرغم من أنه كان وفياً لها إلى أبعد درجة – لكن ذلك ليس السبب الرئيسي لبغضها, فقد كانت امرأة قاسية, متسلطة, لُطفها لم يكن يشمل أكثر من أربع أشخاص حولها, كانت من النوع الذي لا يُعطي الحُب لأحد, كذلك لم تكن تتلقى سوى المشاعر المُزيفة ممن حولها.
كانت كارلا نحيلة حادة الملامح, لكن في عيونها الفضية كانت هناك دائماً لمحة من المكر, و شعرها الأشقر يكاد يكون أبيضاً, كانت ترتدي بنطال أبيض وكنزة بنية نوعاَ ما ثقيلة, وإن كان الجو ليس بتلك البرودة بعد.
كانت نارومي لتستثنيها من خضم كل هذه الجلبة, فكارلاً نشأت قُرب أولادها, وتحركاتها كانت واضحة لعيني نارومي المُترقبة, حتى أن لها مهارة تستطيع من خلالها التنبؤ بما يخفيه الناس خلف نظراتهم.
وفي فترة ما شكت بأن هنالك مشاعر بينها وبين ريوجي ابنها " الصعب المنال " , صحيح أنها لم تحب ذلك ولم ترحب بالأمر حينما تأكدت منه, و لم تعرب عن استياءها حول ذلك أيضاً, فنارومي تُفضل الصمت ورؤية كيف تجري الأمور, وعلى أي مسارٍ تتجه, ثم بعدها تتخذ الخطوة الأولى لفعل ما يتوجب عليها فعله.
قال تاكويا باستمتاع شديد كاسراً الصمت البارد الذي ساد الجو فجأة بعد أن أخذ قضمة في فمه : " اممم .. لذيذة! ".
تبسمت حينها كارلاً سعادة, ثم انتبهت إلى نظرات نارومي الباردة فسألتها بغرابة : " ألن تتذوقي؟ ".
وقفت نارومي على مهل قائلة بنبرة محايدة وابتسامة شاحبة : " كلا, لا رغبة لي بذلك الآن, استمتعي به مع تاكويا "
أمسكت بطرفي غطاءها مبتعدة عنهم وهي ترمق التماثيل الصغيرة, وتسمع صوت كارلا وهي تخاطب تاكويا في أمر ما.

رفع أخوها اللوحة أمامها كي تتفحصها قائلاً : " ما رأي أختي بآخر أعمال الفنان العظيم يوري؟ "
مدت أكيمي يدها ومست اللوحة بانبهار, وجدت أن اللوحة أكثر عظمة مما تخيلته, تفاصيل السيدة السمِحة تُعطي شعوراً بالألفة, ابتسامتها الرائعة, عيناها البنيتان اللامعتان بحنان فائض, شعرها الكستنائي الأملس المسدول فوق ثوبها القرمزي المطرز بالخيوط الذهبية, كل هذا ينتمي لشخص واحد لا غير, بدت وكأنها ستناديها لأول مرة, أثار الخاطر خوفها, فأزاحت يدها متسائلة بابتسامة شاحبة: " أمي؟ ".
أجاب يوري بابتسامة أفصحت عن سعادته : " عظيم! لقد غيرتها عن الصور لتبدو أقرب للواقع أكثر!"
قالت بعد أن أخذ اللوحة بعيداً عنها في المرسم : " ولكأنها تعيش بسعادة داخل اللوحة, تبدو مستعدة لبدء حديث شيق معك, لقد سكنت روحك تفاصيلها "
استدار بمرح قائلاً بعد أن ركن اللوحة فوق المنضدة الكامنة تحت الشباك : " لهذا السبب أحب أن تكوني أول من يرى أعمالي, لديك عيون فنية ".
عيون فنية... لم تكن المرة الأولى التي يخبرها بذلك, لكن سمحت أكيمي لنفسها بالتفكير مرة أخرى وتساءلت وهي تلتقط فرشاة رسم ملقية على أرضية المرسم المليئة بالفوضى : " و ماذا يعني هذا؟ ".
انحنى هو الآخر ليلتقط العديد من الفرش الملطخة بجميع الألوان : " الفرشاة؟! "
هزت رأسها نافية بهدوء وقالت : " بل العيون الفنية؟ والفن؟ "
صمت لبرهة, ثم استقام ومعه حزمة من الفرش الملطخة بالألوان, ناولته التي معها وقال بعد أن ألقى عليها نظرة عالِم : " الفن في الرسم هو تجسيد لأي شيء في الوجود حتى يكون مرئي للعين, لعلها ترجمة لأحاسيس لا يقدر على الشعور بها سوى الفنان"
وضع الفرش على المنضدة وجلس مرة أخرى يحاول البحث عن شيء ما لم تعرفه أكيمي, سألته وهي تفكر في كلامه بجدية : " مثل القصائد التي ينسجها الشاعر ؟ "
رفع رأسه مقطباً حاجبيه : " هذا قريب, لكني أرى الرسم أعمق من الشعر "
سألت مجدداً وهي تجثو قربه : " لماذا؟ وعم تبحث؟ "
أجاب بعد أن عاد للبحث: " قلادتي"
أردف وعيناه تبحثان, كان باسطاً يده اليسرى فوق ركبته بينما يحرك الأخرى لتتكلم معه بطريقتها : " إن كنتِ تريدين وصف شعوراً ما غير مألوف ولكنك لم تجدِ كلمة واحدة تصف ذلك الشعور المجهول, و كل الكلمات تبدو ضائعة, حينها سيكون الرسم الوسيلة الأبلغ لوصفه ".
كان طرح الأسئلة الوسيلة الأقصر للوصول إلى الإجابات التي تتوق لمعرفتها, بالرغم من أن أخاها جين يكره الأسئلة, ولم تعلم بعد كيف يتوجب أن تحصل على الإجابات المرجوة دون طرح الأسئلة, لكن الذي أمامها كان يوري وليس جين.
" أتقول أن العيون الفنية تستطيع أن تعثر الكلمات التي أضاعها الرسام؟ "
" هذا وصف صحيح قليلاً لكنه نوعاً ما غير دقيق "
نفذ صبر أكيمي إزاء هذا الموضوع فقالت طارقة الأرض بقدمها : " إذاً ما الإجابة الدقيقة؟ "
أجاب ببساطة : " هذا العالم لا يحوي أي إجابة دقيقة في حوزته, عليك معرفة ذلك "
تجاهلته, إجابته نجحت في جعلها تفكر ملياً للحظات, لكنها لم تنجح في إثارة المزيد من الأسئلة.
الحديث مع يوري عن عالمه يعطيها انطباعاً بأن أحداً لن يفهمه سِواه, بالرغم من أنها غير واثقة بكونه يدرك ذلك حتى, ثم إن حوارها مع جين, يجعلها لا تسأم ولو أنه يُقيدها مزاجه وقوانينه الغريبة من عدم السؤال إلى جعلها في نهاية الحوار تحزر إن كان يكذب أم يصدق.
تنهدت وجثت لتبحث معه عن قلادته, سألته حينها : " هل أنت واثق من أنك أضعتها هُنا؟ ".
توقف برهة, صمته طال قليلاً وكأنه يحاول التذكر, لكنه في النهاية قال بابتسامة متوترة : " لا أعلم ".
كان الفرق بين يوري وجين هو أن الأول له وجه ودود بالرغم من ابتسامته تجعله يبدو كالأبله, يسهل إغضابه, بينما الآخر له فم خُلق للعبوس فم بارع بإلقاء أكثر المهرجين طرافة في هُوة اليأس.
كان يوري ذو 26 عاماً بينما جين يصغره فقط بسنة واحدة, أما أكيمي فهي لا تزال في الخامسة عشرة.
بدا يوري يائساً وهو يبحث, ثم توقف وكأنه يأمل أن تُمطر السماء قلادته, وله ما تمنى حيث سقطت قلادته على وجهه لينهض مفزوعاً
الفتت أكيمي إلى الجهة الأخرى و وجدت جين يتكأ على دفة الباب, شعره الأسود المبعثر, قميصه الذي ينافس سواد شعره يعلوه مِئزر الطهو, عيناه الباردتين وحاجبيه الدقيقين تجعل من ملامحه قضية حرب شائكة بين الفتيات.
صرخ يوري متألماً بغضب : " لماذا رميتها هكذا؟ أين وجدتها؟ لم ألحظ فقدانها مبكراً ".
اقترب جين وملامحه بدت مظلمة واضعاً يده على خصره يستعد لأن يغرقه بالسباب, مما جعل أكيمي تنزل رأسها احباطاً لما سيتفوه به من كلام لاذع, وقد يُوبخها أيضاً لكونها أكيمي فقط.
وضع اصبعيه السبابة والوسطى يدفع جبين يوري من خلاله :" ماذا تفعل طوال الليل هنا؟ لم لا أراك تبحث عن عمل ما في الأرجاء؟ ليكن لك فائدة على الأقل و واضب على إطعام الكلبة أيها المعتوه, أو جُز شعرك الذي تبدو فيه كالقردة الإناث, صدقني إن رأيت قلادتك ملقية في أرضية المنزل سأحرق مرسمك هذا وأنت تشخر فيه كالأبله ".
كان يتكلم ولا يحرك فكه, لأنه يجز أسنانه بغضب أثناء الحديث, يوري بنفسه لا يقدر على الرد عليه لأنه يخشَ لكماته المبرحة, كونه شرطي محقق.
التفت نحو أكيمي بنظرة حادة جعلتها تجفل : " وأنتِ, ساعديني على تحضير الطعام سيأتي أبي بعد قليل ".
استدار مبتعداً, كان وقع حضوره قوياً, وبالنسبة ليوري كان صوت جين الناعم الغاضب مجرد إزعاج طفل في إذنه, لذا ألقى بشتيمة في الهواء لكن جين استدار وكأنه سمع ما قاله, ثم توقف بصدمة وعاد إلى داخل المرسم, استعد يوري لبدء مشاجرة, بينما رفعت أكيمي يديها بتوتر قائلة : " يا إخوة الأمر لا يستحق كل هذا! "
إلا أن جين تخطى يوري لكي يرى اللوحة التي تحمل وجه أمه, حملها بشرود وذهول, وأكثر ما شد أكيمي له هي إمارات الغضب التي مُحت عن وجهه وتمتم :" أمي ".
ارتخت ملامح يوري وابتسم سائلاً إياه: " ما رأيك بها؟ كما في الصور؟".
هز جين رأسه وقال ناسياً نفسه : " بل أقرب ".
كان مكان جين في صغره وراء ثوب أمه من شدة تعلقه بها, لذا لم تنشأ علاقة أخوية قوية فور أن رأى أكيمي لأول مرة
وضع اللوحة جانباً ثم سأل بشك وأحد حاجبيه قد ارتفع : " لا تقل أنك ستبيعها؟ "
أجاب نافياً : " مُحال! إنها هدية لأبي ".
أومأ مُذكراً إياه بحذر : " ميلاده في نهاية هذا الشهر, لا تنسَ أخي".
تحديق عيناه القويتان بعينيَ يوري الناعستين يُعطي النتيجة سلفاً لأي صراع قد ينشب بينهما.
قالت أكيمي لهما وهي تغادر المرسم : " سأكون في المطبخ, أعتقد أن أبي قد وصل "
عندما عبرت أكيمي الحديقة متجهة إلى البيت, كان والدها بالفعل يترجل من سيارته التي في المرآب, عندما رآها لوح لها سعيداً, اقتربت منه ليحتضنها سريعاً ويطبع قبلة في شعرها الأسود, سألها : " كيف كان يومك صغيرتي؟ ". أومأت أكيمي برأسها وقالت بعبوس :" في غاية الملل!!" .
لم يتفاجأ كون ابنته المدللة تمل بسرعة, سمعوا فجأة صوت صراخ يوري المتألم, الذي لا بد وأنه استفز جين بكلامه, ابتسم والدها السيد " تيتسويا" سعيداً بمشاجرتهم, كان دوماً ما يرى أن الشجار بين الأخوة على الأقل بشكل يومي نتيجة رائعة لأخوة صادقة..
كان والدها يعمل رئيس قسم المحاسبة في إحدى الشركات, يملك ملامح أب عطوف لكنه جاد بعض الأحيان, كان رشيق القوام كونه يعتني بصحته جيداً, وهذا ما حفز أولاده على أن يمشوا حذوه.
بينما تنهدت أكيمي بخيبة وهي تتمتم : " هذان الطفلان ".

[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

__________________

here we go





التعديل الأخير تم بواسطة Miss Juhana ; 07-09-2018 الساعة 06:59 PM
رد مع اقتباس