مُحَاوَلَةُ إصْلَـاَحٍ .. فتاتي الجميلة مزدلفة أبدعتِ.. استمرّي وأنا دوماً معكِ ۿـﺎلـﮧَ توقفَ عن ركضه قرب مقعدٍ في الحديقةِ العامة مُلتقطاً أنفاسه الهاربة بصعوبةٍ ، ثمّ اعتدلَ بقامته الرشيقة ذات العشرين عاماً مُتلفّتاً حوّله بحذرٍ ، أرخى أعصابَه التالفةَ حيّن أيّقنَ أنّه الوحيّد هُنا فارتمى بتعبٍ على المقعدٍ الخشبي خلّفه يجففُ العرقَ عن وجهه بكم قميّصه داكن الزرقة مُهترئ الأطراف ليّهمسَ بتذمرٍ بعد أنْ حملّقتْ سماويّتاه بشبيهتهما واسعة المدى فوقه فانعكسَ وهجُ الشمس الحارق عليّهما :
" السادسُ مِن يونيّو لا أصدقُ أنّني ولدتُ في يومٍ سيءٍ كهذا ! "
طرقَ سمعَه صوتُ رقيقُ بلكنةٍ لعوبةٍ :
" وما السيء في هذا اليّوم ؟! "
فزعَ وانتفضَ مُسرعاً لتلتقطَ عيّناه ذاتَ الشعرِ الذهبي الطويل ثلجيةَ البشرةِ زُجاجيّة العيّنيّن اللامعتيّن ، إتخذتْ مِن مكانه في المقعدٍ مجلساً لها بقالبها الذي لا يتعدى حجم وردة فاتنة الجمال ! ، بلغه الاستيّاء لرؤيتها فصرّحَ بانزعاجٍ :
" ألاتزاليّنْ تلحقين بي ؟ ، مالذي تُريدنه مِني بالضبط ؟! "
أجابتْ بابتسامةٍ مرحةٍ كتعابيّرها الطفوليّة :
" أخبرتُكَ عن هذا صباحاً أم أنكَ نسيّت ؟! "
أزاغَ بصرَه بسخطٍ مُتجنباً رؤيتها ليهتفَ له في مخيّلته ما حدث صباحاً ، بعد تأكده أنْ المسنَ أغرقّه النومُ أمامَ متجره الصغيّر على كرسيّه الهزّاز ، تسللَ بخفةٍ ليّنشلَ هذا وذاك من أدوات كهربائيّة وغيّرها، ثمّ عزمَ المُغادرةَ قبل أن يُدركه أحدُ لولا صوت الحشرجّة المُنبعث مِن آلة الموسيقى المُدندة بأغنيّة قديمة جدّاً لفتَ انتباهه ! ، لسببٍ ما لم يتمكنْ مِن منع فضوله الزائد لكشف المجهول لتٌصدمَ نفسه حيّن أخرجَ الشريطَ وأبصرَ ما يحتويه في جوفه ، بالكاد همسَ بعدمِ تصديقٍ وعيّناه المدهوشتان تتفحصان المُتقوسة بجسدها الضئيل داخل الشريط مُرفقة بقصاصةٍ صغيرةٍ كُتِبَ عليّها 11-12-1989
"فتاة !! "
وما لم يفهمه أن الشريطَ أضاءَ بشدةٍ للدرجة التي أفزّعته وتضاعفَ فزّعه عِندما أحسَ بناعمة الملمّس على باطنٍ يُمناه ، حطّ نظره عليّها يترقبها بخيفة ويّده ترتجفُ خوفاً ، كانتْ أشبّه بالحورِ بتقوسها الذي ظلتْ عليّه و تناثر خُصلاتِها الطويّلة بلونِ ذائب الذهب منحتها جمال الحور بالفعل.
أجفلَ عندما حركتْ جفنيّها كثيفيّ الأهدّاب لتفتحهما ملتقطةً أولَ شكل ترآه أمامها والذي بدى مصدوماً ، همستْ بفرحةٍ وقد نهضتْ تقفُ بسرعةٍ :
" أنتَ هو "
تمتمَ بصوبةٍ ولا زال غيّر مصدقٍ لنفسه :
" أنا ماذا ؟! "
طفتْ بالهواءٍ مُقتربة مِنه ليتراجعَ تلقائياً للخلف حذراً ، ابتسمتْ بسرورٍ ثمّ انبستْ حروفها السعيّدة حيّن سألها بترددٍ خائفٍ :
" مَنْ أنتِ ومٌن أيّن أتيّتِ ؟!"
" رينا هذا اسمي ، أنا جنيّة أخفقتْ في امتحان القدراتٍ فعوقِبتُ بالسجنٍ هُنا وانتظارك "
صُعق بِما صرّحت به ليّهمسَ كالمجنونٍ :
" انتظاري ! ، وما علاقتي بك ؟! "
تابعتْ بثقةٍ والبسمةَ لم تزلْ عنها :
" حتّى أعود لعالمي يتوجبُ عليّ اصلاحك وإنْ نجحتُ في ذلك فإنّي سأتجاوز الامتحان الذي فشِلتُ فيّه قبلاً "
أنهتْ كلماتها لتدنو مِنه أكثر بابتسامتها التي بقيت ترتسم عليها ، أجفلَ عندما أعاقَ الجدارُ تراجعه الخائف وزادتْ خيفته لإبصارها قريبة منه وهمستْ بثقةٍ :
" أخبرني الآن هل نبدأ عمليّة الإصلاح ؟! "
فقدَ عقله فولى هارباً كالمجنونٍ مُخلفاً ورائه ما كانَ ينوي سرقته .
لم ينتهِ الأمرُ هُنا وحسب ؛ بل تحوُلَ للعبةِ مُطاردةٍ طالتْ حتّى سئم مِنها ومن إصرارها العنيّد ، ومايزيدُ الطينَ بِلة قولها أنّها ستصلحه كلما عثرتْ عليّه ليُبادرَ بالهروبٍ. مُجدداً دون أنْ يفهمَ حتى ما عنته ! .
قطعتْ تذكره بما عناه بسببها بقولها الهادئ :
" أخبرني الآن ماهو الأمر السيء فيك حتى نُصلحه ؟! "
ثارَ بسخطٍ وتضاعفَ عندما أبصرها تتربعُ على كتفه الأيّمن ليتمتمَ بضجرٍ :
" كُفي عن الالتصاقٍ بي ، لستُ منْ تبحثيّنْ عنه "
أجابتْ بلا مُبالة وهي تعبثُ بخصلٍ شعرها :
" بل أنتَ المطلوب وإنْ لم تكنْ هو لما رأيتني أساساً "
دُهشَ بذلك بيّنما أتمّتْ هيّ :
" أنا سجينة الشريط مُنذ عقد الثمانيّنيات ولم يلحظْ أحدُ وجودي عداك "
صمتتْ تحدقُ به لتكملَ بجديّةٍ :
" الصوتُ الذي سمعته كان ندائي ولم يسمعه غيّرك وهذا يثبتُ كلامي "
صرفتْ نظرها للسماء لتُتابعَ ببهجةٍ :
" وأخيّراً سأعودُ للملكتي "
وسرعان ما ذبلتْ البسمةُ عنها والتفتْ لأسود الشعر مُتكلمةً ببعضِ الخيبةٍ :
" ولكن ينبغي إصلاحك أولاً وأنتَ عنيّد ترفض إخباري بالسوءٍ فيّك "
أشاحَ بوجهه جانباً مُتلفظاً بسأم :
" بربُكِ كم مرة كررتي هذه التراهات ؟! ، أتظنينني مُختلاً لأصدقكِ ؟! "
انزعجتْ منه ومع ذلك تابعتْ سردَ نفس العبارات في محاولة إقناعه ، بيّنما هو فسحَ المجالَ لقدميّه بالخطو غيّر ملقٍ بالاً لثرثرتها المزعجة وفجأة توقف عندما وصل الطريّقَ العامَ للمدينة ، تفحصتْ سماويّتاه الشارعَ قليّل الحركة ثمّ حطّتا على رجلٍ ثلاثيني يقبلُ نحوه ، تبسّمَ هامساً بجدٍ :
" حان وقت العمل "
فنفضَ بيسراه تلك الثرثارة التي لم تكفْ بعد كأنّه ينفضُ الغُبارَ عن ثوبه فطارتْ بعيّداً وكادتْ ترتضمُ أرضاً لولا الجناحان المُضيئان الذان نبتا من العدمٍ على ظهرها ، فسلمتْ بفضلهما فراحتْ تشتمُ الشابَ بكل ما جال ببالها ولم تكنْ لتتوقفَ إلا بما لمحته ؛ قد مرّ بجانب الرجل واصطدمَ به مُتعمداً ثم اعتذرَ و ولى مُسرعاً بعد نشله لما كان بجيّبه بكل خفةٍ ، تفاجأتْ هي و الرجل بني الشعر لم يحسب بالأمر شيئاً وطرقَ طريقه مُتابعاً غافلاً أنّه سُرق و ببساطة! .
فكرتْ قليّلاً ثمّ أعلنتْ بابتسامةٍ منتصرةٍ :
" يّبدو أنّني عثرتُ فيّه على خِصلة بالغة السوءٍ يجبُ محيُها "
توجهتْ حيّث يختبئ عند منعطفٍ ما وهو يعدُ النقودَ التي سحبها ببراعةٍ ، راقبته بصمتٍ لتتعجبَ لأخذه بعضَ الوريّقات وأعادَ البقيّة في المحفظةٍ هامساً :
" هذه تكفي لليوم "
وزادَ عجبها عندما انطلقَ مُسرعاً صوُب الرجل مُسقطاً المحفظةَ أمامه دونَ التوقف ليُدركَ المسروق الموقفَ ويهمُ بالصراخ :
" لِصّ ! "
أخذتْ تتبعه فسئم بالفعلٍ منها ، منذ الصبح وهو ملاحق من قِبلها وقد حلّ الغروبُ الآن مُكسيّاً سماءَ المديّنة بحمرةٍ قانيةٍ لتُظلمَ بعضُ الأماكن وتتبجلُ بالسكون ، سألها وهو يتابعُ مشيّه برزانةٍ رغم ثِقل الأكيّاس البلاستكيّة التي يحملها بيديّه :
" بالمناسبة من أيّن نبتَ لكِ هذان الجناحان ؟ ! "
ردتْ بمللٍ وهيّ تحلقُ فوقه :
" مُنذ أمد ، أنا فقد أُخفيهما ولا أستعملهما إلا عندَ الحاجة "
صمتتْ للحظةٍ لتتقمص دور السائل بحماسة اعترتها :
" لِما تسأل ؟ هل هُما جميّلان أو ماذا بالضبط ؟! "
تجاهلها ببرودٍ شاتماً حظّه في داخله كما راحتْ هيّ تشتمه علناً لتجاهلها .
أخذّتها دهشةُ رهيّبةُ لم تستطعْ إزالتها بسهولة ؛ لم تتوقعْ أنّ بيّته بهذا الفقر الشديّد ، حتى جدرانه بدتْ صدئةَ مُهترئةَ وربما ستنهارُ في أيّة لحظة ، لم يكنْ به أثاث وإنّما بعض الأفرشة البسيطة المتمزقة فُرِشّت على أرضيّته داكنة اللون ، دهشتها لم تتوقف هنا بل تصاعدتْ بالأطفال الذيّن تجاوزوا السبعة ، تراوحتْ أعمارهم ما بيّن السبعة والعشرة و مظهرهم ليّس بأفضل من البيّت الأشد من فقير .
جميعهم التفوا حوله بفرحٍ لتتعالى عباراتهم المسرورة متداخلة ببعضها :
" عاد أخي يونو "
" لماذا تأخرتَ ياأخي ؟ .."
" أنا جائع و .."
بادلهم بالابتسام ليعطيهم الأكياس بعدها مُطمئنهم بأنّ العشاء وافر هذه الليّلة ، وفي حالة ضجتهم هذه دخلتْ سيّدة شائبة الشعر تبدو في الأربعين من الباب مخاطبةَ يونو بطيبة :
" كيّف كان عملك اليوم بني ؟"
ارتبك قليّلاً ليتلفتَ صوّبها ناطقاً بترددٍ :
" جيّد يا خالتي "
بعدها أخذتْ تعدُ العشاءَ لهم بيّنما هم يتبادلون الحديّث والأخرى المُحلقة غدتْ مُحتارةً ! ، تذكرتْ عندما أعادَ باقي المال لعدم حاجته إليّه والآن تراه مُحاطاً بجمع أطفال تلمعُ الطيّبةُ في عيّونهم الصغيّرة لتتذكرَ صوتاًَ غليّظاً باغتها :
" إصلاح ُشخصٍ هو ليّس بالسيء "
فتمتمتْ بهدوءٍ :
"أظننّي فهمتُ الآن "
أرسلتْ نظراتها ليونو المندمج مع الأطفالٍ وهمستْ :
" هو ليّس بالسيء أبّداً ومع ذالك يحتاجُ للإصلاح ! ، السرقةُ هيّ إثمه "
ثم خرجتْ مٌن سكونها وأقبلتْ ليونو تطفو أمامه فخاطبته بمرحٍ :
" هي يونو عرفتُ اسمكَ أخيّراً ولكن أخبرنّي أكل هؤلاء إخوتكَ حقاً ؟! " انتّفضَ مِن مطرحه بفزعٍ هامساً بارتباك :
" هي كيّف تظهريّنْ هكذا ؟ ،أخبرتكِ أنْ تبقيّ بعيّداً "
ردتّ بمللٍ وقد علتْ بمستواه :
" وأنا أخبرتكَ أنّه لا أحد يّراني سواك "
ألّجمه الصمتُ بردها ثم انتبه لنظراتِ الصغار المُرتابة فنطقَ بترددٍ :
" مابكم تُحملقون بي هكذا ؟! "
ردّ أحدهم باستغرابٍ :
" أخي أنتَ تتكلمُ وحدك هل جننت ؟! "
ارتبك قليّلاً وراحَ يبحثُ عن عذرٍ لموقفه وهيّ تبسّمتْ بنصرٍ وأرسلتْ قولها :
" الآن صِرت مُختلاً حقاً "
حدجّها بغضبٍ وكادَ يردُ بحمقٍ :
" أيّتـُ.. "
لكن سُرعان ما ابتلعَ صوته مُنجداً كرامته أمام الأطفال الذيّن ظلوا ينظرونَ له بغرابة.
اليوم التالي ظلّ الحالُ كما هو ؛ تلزمه حيّث ذهب بل و صرعتْ عقله بالنصحٍ فضاقَ بِها زرعاً ليُفصحَ عن غضبه بصراخه :
" كُفي عن مضايّقتي ، مَنْ أنتِ وما الذي تعلميّنه عنّي ؟! "
صمتَ للحظةٍ ليُتمَ بكل استيّاء :
" السرقةُ التي تتكلميّن عنها هيّ كل شيء بالنسبة لي ولأخوتي "
ردتْ بجديّة :
" يُكمنكَ أن تقتاد بالعمل لا بالسرقة إنْ لم تكنْ تعرف ذلك "
أجابَ بسخطٍ :
" العمل ! ، وهل هناك من قَبل أنْ أعمل لديّه ورفضتُ أنا ذلك ؟! "
ثمّ أردف بجديّة :
" أنتِ لا تعرفيّنْ شيئاً لذا أنصحكِ بالعودةٍ مِن حيّث أتيّتي "
وصرفَ نفسه بعدها مُتابعاً سيّره على الطرقات فخارتْ هي ورستْ أرضاً بوهنٍ اجتاحها ، بدتْ كأنّها ستبكي لبرقة الدمع التي لمعتْ في عيّنيّها ، حتّى جناحاها انخمضَ ضوئهما واختفيّا تدريجيّاً لتهمسَ بيّأسٍ :
" يبدو أنّي سأفشلُ في إصلاحه "
في طريقه إلى بيّته التقى بأربعة شبان تقاربتْ أعمارهم لعمره ، كما تماثلَ مظهرهم الذي يدلُ على فقرهم عدا أنّ ملامحهم كستها الصرامةُ والمكرُ خِلافه ، عبسَ مُستائاً مجرد أنْ أبصرهم أمامه لينطقَ بجدٍ خالطه السخط :
" أظننّي أخبرتكم عن رأيّي قبلاً ولن أغيّره "
خاطبه أحدهم بثقةٍ بدتْ كالمكر :
" إلى متى تنوى الاكتفاء بقوتٍ يومك فقط ؟! ، تدركُ جيّداً إنْ تعاونتَ معنا فإنّك ستهجرُ الفقرَ ما حيّيت "
أجابَ بثقة بلغتْ سماويّتيّه :
" أنا مُرتاحُ هكذا ولا دخل لكَ بي "
استهترَ منه آخر غيّر الأول :
" مُرتاح ! ، كم هذا مُضحك انظرْ لحالك البئيس ، هذا إنْ لم تكن أعمى "
انزعجَ مِنه بشدة وقبل الرد عليّه زجرَ كبيّرهم مُخاطبه ثمّ وجه نظره إليّه مُتكلماً بثقةٍ :
" المساءُ موعدنا لاقتحام ذلك القصر إنْ تراجعت عن قرارك فمُرحب بكَ بيّننا "
ألقى كلماته واستدارَ مُنصرفاً دون أن يسمعَ ردّه فتبعه البقيّة بصمتٍ ليثورَ يونو في أعماقه و بشدة ، هو بالأساس لا يحبئذ السرقة وإنّما يقربها إضطراراً فكيّف له أنْ يسطو بجشعٍ على أحد قصور المديّنة المرموقة ..
تابع خطوه بعدها غيّر منتبه لرينا التي إتخذتْ زواية بعيّدة و راقبتْ ما جرى بصمتٍ .
صفعَ البابَ خلفه بقسوةٍ حتى خُيّل لمَنْ في الداخل أنّه سيُقتلع مِن محله ، وهو لم يبالِ ليتقدمَ بخطاه إلى أنْ استوقفه صوتُ أحد الأطفال وقد بدى كئيباً :
" الخالة مِيستوني مرضتْ مُجدداً "
جزعَ بما سمعه وأسرعَ حيّث توجد ليُبصرها طريّحة الفراش على الأرض بأنفاسٍ مضطربة ، جثى قُربها يتحسسُ حراراتها ليعلوه القلقُ ففتحت هي عيّنيّها لاحساسها به ، خاطبها بأرقٍ مِن فوره :
" أعادَ إليّك المرضُ مجدداً "
أزاغتْ بصرها عنه مصرحةَ بهدوءٍ تعبٍ مُتقطعٍ كأنفاسها :
" أنا أثقلُ عليّك ليّس إلا ، لاتهتمْ لأمري يونو "
تأثرَ وصاح فيّها بوجلٍ :
" لِما تكرريّنْ قولَ ذلك كُلما عاودك المرض ؟! ، أنتِ لستِ ثقل أبّداً ياخالتي ستكونيّنْ بخيّر ولاتهتمي لشيء آخر "
أحضرَ الطبيّبَ الذي اعتادَ إحضاره كلما مرضت ولم تكنْ تعابيّره تبشرُ بالخير أبداً ككل مرة ، بل لم يُخفِ عنه سوء وضعها ومع ذلك زرع فيّه أمل بالدواءِ المقترحِ لحالتها لعلّها ستتحسنُ به ، ولكن أي خيْبة اعترته وأي يأس جرّه لقاعه ! بالكادٍ حملَ خطاه وغادرَ المحلَ بوجه متيّبسٍ ليّهمس بألمٍ وقد أرخى يّده المُمسكة بالورقة :
" مستحيّل ، من أيّن لي بهذا الثمن الباهظ جدّاً ! "
نشلَ مِن بعض الناس والمبلغ لازال غيّر مكتمل ! ، فضاعفَ جهده ليّفشلَ عدة مرات لتوتره واضطراب مشاعره المتنازعة داخله وما كانَ مِنه سوى الهروب ويجدُ البيّت مستقره! .
غدا جليّساً أمامها كطائرٍ كُسرت أجنحته ، حدقَ بضعفٍ بالتي تقبع في غيّاهيب اللاوعي وأثار المرض فرضتْ نفسها على محيّاها ، بدّلَ لها الكمادات بهدوءٍ ثمّ لتباغته لمحاتُ مِن ماضيّه ،
اختلاف والديه ، تركاه وحيداً منذ الصغر، كلاهما هجراه لتصبح الشوراع مأوآه ً ، الخالة ميتسوني وحدها من آوته في ليلة ماطرة باردة ، عهدته بترببته من حينها ، ثمّ أتمت عرفانها مع الأطفال الثمانية الذين لا يختلفون عنه
الآن هيّ لا حوّل لها ولا قوة ، رقيّدةُ بوهنٍ أمامه وربما سترحلُ قريباً كما أخبره الطبيب ، فترقرقت عيّناه بالدمعٍ وكادَ ينهمرُ مِنه لولا أنّه مسحه سريعاً وهبّ ناهضاً يجمعُ شتات نفسه ، نظرَ من خلالِ النافذةٍ الصغيرةٍ ليّجدَ الليّلَ هبطّ بصمتٍ كعادته ، فخرج من المنزل بعد أنْ عهد للأولادٍ الاعتناء بها.
مافيّه أنساه الصغيّرة التي بقيّت تلزمه كظله و ما ساعده على النسيّان صمتها المُريّب ! ، بدتْ متأثرةً وهيّ تحلقُ خلفه ببطءٍ هذا غيّر الضعفٍ الواضح فيّها ، طرأتْ مخيّلتها حاله ودموعه التي حبسها رغماً عنها لتتزعزعَ مشاعرها ، تدركُ تماماً إلى أيّن ينوي الذهابَ وما خاب ظنها إذ التقى بأؤلائك الفتية ، كشرَ كبيّرهم بنشوةِ انتصارٍ لرؤيّته يونو ونطقَ بخبث :
" يبدو أنك أدركتَ أيّن تكمنُ مصلحتك أخيّراً "
لم يجبه بشيء سوى المضي معهم بصمت توشحه لترتبكَ رينا مِن خلفه ، جهِلتْ ما بها وما يتضارب داخلها ! ، هي لا تريّده أنْ يسرقَ وتريده أنْ يفعلَ من أجل الخالة فتاهتْ بيّن أمرّيّن أحلاهما مُر ، فجأةً سقطتْ أرضاً لبهوتٍ ضوء جناحيها الصغيرين لتتحير منهما وبل من أنفاسها المتوترة أيّضاً ، فهمستْ بريبة :
" مالذي يحدثُ لي ؟! "
ماإنْ أنهت نبس حروفها حتى انتبهت لتحجر أسفل قدميها ومازال يزحف لساقيها ، فزعتْ وبشدة لتذكرها أمراً لتنطقَ بخوفٍ :
" يا إلهي كيّف نسيّتُ أمراً خطيّراً كهذا ؟! "
فشرعتْ بالتحليّق رغم صعوبته و جناحاها ما بيّن البهوتٍ والاضاء وأتمتْ بداخلها بتوترٍ :
" عليّ أنْ أسرعَ ليّس أمامي وقت ، سوف انتهي هُنا إنْ لم أنجحُ في مهمتي الآن "
أنهتْ حديثها ليُخال إليّها أنّها تحجرتْ بكاملها وتفتتْ كالثرى فتفاقمت صدمتها وهمتْ تلحقَ بيونو قدر ما استطاعتْ .
لمحته يقفُ مع البقيّة عند سور بناء ضخم فنادته بجزعٍ :
" لا تفعلْ ذلك ..توقفْ أرجوك "
سمعها بيّنما غيّره لا ومع ذلك لم يُعرها بالاً وباتَ ينتظرُ دوره في تسلق الجدار الضخم ، فخاطبته مجدداً وهي تجاهد لتظل محلقة لبهوت جناحيها :
" توقفْ عن السرقة يونو ، اصغِ إليّ أرجوك سينتهي أمري الآن إن لم تتوقفْ عن ذلك "
تجاهلها لتواصل بجزع ورجاء :
" لا تفعل ذلك ، أصلحْ نفسك يونو أرجوك ، سأهلك إنْ لم تستجبْ لي "
صرف نظره عنها لينبس ببرود :
" تهلكينْ ! ، وماذا عن خالتي ؟! "
صُدمت برده فانهارتْ أرضاً مطأطئةَ رأسها بحزن لينخمضَ جناحاها تماماً واجتاحت الظلمة قلبها لتذبلَ كوردة انقضى عمرها فهمستْ بأسى :
" إنّه محق ، كم أنا أنانيّة ! "
نظرتْ لجسدها المتحجر لمنتصفه بيأس علاها ثمّ حدقتْ بيونو الذي بدأ يتسلقُ السورَ لاحقاً بغيّره . فجأةً أجفلتْ بفزعٍ لإحساسها بالخطرٍ لتتلفت حولها بتوترٍ فنطقتْ بتعبٍ ينتابها :
" يونو يجبُ أن أحميّه "
ماكان يدركُ ما ينتظره خلف السور إنْ تجاوزه وكاد يقعُ في المصيّدة لولا نور انبثق من العدم وابتلعه داخله وتبددَ بعدها ، بالأصح كان حاجزاً يحجبه عن البصر بيّنما هو يبصر ما حوله ، حدثَ كل شيء بسرعة فاقت استوعابه ، الشرطة كيف ظهرت بلا مقدمات ورفاقه كيف زجوا في العربة وأخذوا بعيداً ، كل ذلك جرى بلا استوعابه لا يفهم كيف نجى منهم ليظل مدهوشاً بيّن ظلمةٍ مكان غيّر الذي كان به ! ، ببطء ومضَ أمامه ضوءُ ضئيلُ تجسددتْ مِن خلاله رينا بوجه باسم رغم إمارات التعب و الحزن القائمين عليّها ، تفاجأ بها لينطق بدهشة :
" رينا ! "
خاطبته ببسمة متأثرة تُخفي وهنها خلفها:
" صحيح أني لم أتمكنْ من إصلاحك أو منعك ، لكنيّ سعيدة لأننّي حميتك"
ذُهل سمعه لتصريحها فأردفتْ هي برضا :
" على الأقل أنتَ لستَ سيء ولكنك تحتاجُ لبعض الإصلاح "
انهت ما قالته لتتناثر كدر مضيء دثرته نسمات الريح مها ، كانتْ كنسمة صيفية سريعة المرور طيبة الأثر فصدمه الأمر كثيراً ،فقط اسمها متبوعا بـ
" مستحيل!"
كل ما استطاع لفظه ليذيب الندم قلبه ، انتهت بسيبه وكذلك سيخسر خالته لفشله في إغاثتها فعاد بثقل لبيته منتصباً أمام الباب بلا حركة ،
تردد قليلاً ثم فتحه رغم خشيته مما لا يرجو حدوثه ليُذهل بميوتسوني تقف أمامه بصحة تامة ، خاطبته بقلق بمجرد دخوله :
"لما تأخرت هكذا ؟، أقلقتني عليك كثيراً"
تجمد حيث هو غير مصدق لها فأثار شكلة سائلته لتدنو واضعة يدها على كتفه ناطقةَ بقلق:
"مابك يونو ؟ ، لا تبدو بخير !" أيّقنَ حقيقتها أمامه بفعلها الطيّب الذي اعتاده منها ليجتاحه التأثر الفرح فبرقَ الدمعُ في عيّنيّه وأنبسَ بخليطٍ مشاعرٍ غمرته :
" خالتي كيف صرتِ الآن ؟ ، أتحسنتِ حقاً ! "
أجابتْ ببسمةٍ طيّبةٍ :
" أجل ، شكراً لكَ أفادني الدواءُ الذي جلبته بشكل لا يُصدق "
تحيّر بشدة فعبّر عن ذلك بسؤاله :
" قلتي الدواء الذي جلبته لكِ ، متى كان ذلك ؟! "
تعجبت منه ورغم الغرابة في الأمرِ أجابتْ :
" ألستَ من أعطاه للصغيريّن ياتو وراي وطلبت منهما أن يعطياه لي ! "
تصاعدتْ حيّرته أكثر ليُلجمَ لسانه بالصمتٍ مُتفكراً ، خاطبته بقلقٍ :
" يونو لم تجبني بعد ! "
رمقها بهدوءٍ ثم صرّحَ بمرحٍ مصطنعٍ :
" هذا صحيح أردتُ المزاح معك لا غيّر "
دخل غرفته المشتركة مع إخوته والأفكار تتقلب في رأسه ، الدواء ومن أين جاء بل من ذاك الذي أعطاه لأخويه ! ، فعصفت به الأسئلة عديمة الأجوبة وفجأة راودته صورة اندثار رينا أمام عيّنيّه ليّعاوده شعورُ الذنب ،فعبرَ إلى النافذة بحذرٍ كي لايوقذ نيّام الأرض بغيّة إنجاد نفسه المحتنقةَ بالهواءِ الطلقٍ فداستْ قدمه شيئاً صلباً ، نظرَ له لتصدمَ عيّناه لرؤية الشريط نفسه فالتقطه بسرعةّ ليجدها تتقوسُ داخله كما كانت مرفقة بقصاصة دونَ عليّها تاريخ اليوم 2010 -6 ـ 8
الأحداثُ تعيدُ نفسها كما يبدو لتنبثقَ فتاةُ الشريط مُحلقةَ بجناحيّها المضيئيّن من خلال الضوء الذي سطعَ بشدةٍ بعد أنْ همس يونو بذهلّ :
" إنّها هي ! "
فتراجعَ للخلف من هول الصدمة عليه فخاطبته بسرورٍ وهي تقتربُ منه :
" مرحباً يونو "
أجابَ بترددٍ فزعٍ بعد أنْ أعاقَ الحائطُ المهترئ تراجعه :
" أنتِ كيف عدتِ ؟ ، ألم تقولي أنكِ ستنتهين وقد حدث ذلك حقاً "
تبسمت بسعادة ثم أجابت :
" منحت فرصة أخرى بعد أن أنقذتك من أيّدي الشرطة كما حُقِقت لي أمنية تمنيتُها لأجللك "
تمتمَ بغباءٍ :
" ماذا قلتي ؟ ! "
طفتْ فوقه كأنّها تتعالى عليه وأردفتْ بثقةٍ :
" كما سمعت وهذه المرة لستُ مقيُدةً بوقت كما سبق أي .. "
صمت لوهلة لتكمل بمكر بعد أنْ هبطتْ بمستواه :
" أي أننّي أملكُ الوقتَ الكافي لإصلاحك دون القلق من شيء ، لذا أنصحك للاستماع إلي حتى لا أُطيل مكوثي عندك "
جُنّ بما قالته ومن اللحظة شرعَ بالهرب من الغرفة صارخاً بسخطٍ :
" تباً هذا الوضعُ لايُطاق "
" تمت " |
-
__________________ سُبحان الله العظيم
سُبحان الله وبحمدِه
التعديل الأخير تم بواسطة ۿـﺎلـﮧَ ; 06-12-2019 الساعة 07:48 PM |