لقد ضحكوا ، وألقوا الأحاديث لبعضهم .. ، وكلما انصتُّ إلى صوتِ أحدهم ، وجدتَ مقعدي يتراجع إلى الغرفة المظلمة التي تقع خلف ستائر المسرح ! عن موقع تجمّع أدوارهم على تلك المنصّة .. ،كالإعتزال بعيداً عَن البُقعة المضيئة . ( عليّ التمثيل بإتقان ! .. ) هكذا خاطبت نفسي . ولكن لمّ لم ألاحظ ذلك منذ أول إلتفافة ؟ فالزوج غراهام عندما جلس أمام الطاولةو حين انحنى لإدخال الشوكةِ في فمه ، انكشَفَ خطٌّ خلف عنقه !تماماً مثل الذي في عنق زوجته غراهام ، خط عرضيّ ، كما لو أن أحداً شق أعناقهم وعاود تخييطها .. !! هل هو أمرٌ مرتبط بحادثة بترِ ساق إيميليا !؟ .. لمَ هذا الوجَلً فجأة ؟ لَعّلي أضخّم المسألة ليس إلّا ، فغالِباً ما كان عقلي باحةً غير متناهية الحدّ لرسم تصوّرات لا تمسّ الواقع ، وإنمّا تحتكر تأثيره . لذلك قرّرت التراجع ،وإنتشال تفرّدي مِن مشهدٍ تلائمت مكوناته مع بعضها ، عَدا مكوّني الدخيل . أقفل السيّد غراهام الباب بعد أن دخلت زوجته وابنته ايميليآ إلى الداخل ، صعَدت الطفلة إلى الأعلى . ( إنها لطيفة حقاً ) قالت السيّدة غراهام . ردّ عليها زوجها وهو يعلّق مفاتيح على الحائط المجاور للباب ( ألم تلاحظي أنها غريبة بعض الشيء ؟ ) رفعت الأطباق التي حوت بقايا الطعام مجيبةً بتساؤل ، - كيف غريبة ؟ رمى بنفسه على أحد الكنبات متأوّهاً ثم قال وكأنه شارد الذهن .. ( لا أعلم كيف أصف ذلك ، لكن بشكلٍ ما .. كانت تنظر في بعض اللحظات بطريقة غريبة ) ثم غمغم مع نفسه ( كما أنّها هادئة جداً ) ضحكت وكأنّ ما تسمعه هو ما أثار تعجبّها ، - وصفك لها هو الأغرب عزيزي ، ألا يمكنك أن تظهر بعض الإمتنان لحفاظها على ابنتنا سالمة ! - ومن قال أنّي لم أظهر الإمتنان ؟ كلّ ما في الأمر أنّ جزء مني لم يرتح لوجودها قليلاً ، أو لأكن صريحاً ، لم أرتح لها بتاتاً ! ولازلت أتسائل عن السبب تنهدت وهي تكدّس الأطباق في المجلاة ، ثم دوى صوت المياه من الصنبور .. ، - أنا لا أوافقك ، لقد بدت لطيفة جداً رغم هدوئها ، حسنٌ لقد فكرّت بأنها تملك شخصية غير مرحة على نحو ظاهر كما يجب أن تكون الفتيات في مثل عمرها ، حتّى ملابسها أوحت لي بأنها متحفظة نوعاً ما ورسمية ، الأمر الوحيد الذي أثار غرابتي هو بقائها بالقبعة طوال الوقت ، وكأنها تتجنب النظر إلى المكان . - لذلك أخبرتك بأنها غريبة ، هي ليست طبيعيّة ، هناك أمور بشأنها لفتت انتباهي ! قالت محاولة تبسيط الأمور : ( ربّما لأنك طبيب تهتم للتفاصيل الدقيقة!) اسند رأسه على الكنبة وأغمض عينيه متمتماً .. ،( كنت طبيب ، .. كنت .. ، ) وغَاصَ سارحاً في السقف . أوقفت السيّدة يديها عن تفريك الأطباق ونظرت جانباً ، لكأنها تودّ استدراجه بالحديث عن أمر وتخشى من ردة فعله .. ! ( ألم تفكّر بالأمر مرة أخرى ؟ العودة للعمل .. ) فتَح عينيه ما أن استصاخَ مسألة ذكر العمَل .. ! أردفت : (لقد حصلت على وظيفة في تلك المنطقة ، على أيه حال إنها بعيدة جداً ويمكنك هناك إعادة شغفك في مزاولة مهنتك مرة أخرى .. دون مشاكل ) قاطعها محاولاً سدَّ أيّ نِقاش ستخوض فيه : ( لا تفكري بذلك حتّى ! يجب أن نكون حريصين بشكل هائل .. !) - ولكنك غيّرت كل شيء ، بِما فيهم بطاقة هويّتك و بياناتك الشخصيّة ، نحن أسرة أخرى تماماً ! - وإن يكن ! أنتِ لا تعلمين شيئاً ، هل تظنين أن بمجرّد تغيير هوياتنا سيكون ذلك كفيلاً ببقائنا سالمين ؟ عليّ أن أكون أكثر حذراً في كل خطوة أسير بها ، ليس لأجلنا نحن الأثنين فحسب ، بل ايضاً .. لم يكمل السيّد ويليام حديثه عندما أحسّ بجسمٍ صغير مختبئ خلف الحائط القريب من السلالم ، كانت زوجته قد وقفت أمام المجلاة تنظر إليه بقلق عندما كان مسترسلاُ بكلامه ، كانت ترتدي قفازات زهرية سميكة ، وعندما أحسّت أن زوجها ينظر لمكانٍ ما تبعت زاوية عينيه لترى طفلتهم إيميليآ واقفة ، ظهر نصف وجهها مِن خلف الحائط ، تشوَّب فيه بريق الذهبيّ في عينها، وحاجبها المتقوّس الذي أظهرها خائفة . ( ما الأمر إيمي ؟ ألم يحن موعد نومك ؟ ) وحَاوَلَ إرتداء ابتسامة مطمأنة . لم تنطق في بداية الأمر ، وبقيت تحدّق على ذاتِ الشاكِلة، لتتحدّث بعدها بصوتٍ يلامِس الهمس ( أولئك الأشخاص .. ) ثم صمتت والزوجين يراقبانها ، أكملت بنبرةٍ منخفضة : ( هل لازالوا خطرين ؟ ) بقي ويليام يحدّق بدهشة إليها ، تبادل وزوجته النظرات التي لم تتيقّنها الطفلة ، ثم وقف ومشى ناحيتها ضحك قليلاً بمرح ( عن أيّة أشخاص تتحدثين ؟ أيتها المشاكسة !) واختتم آخر كلماته وهو يرفعها للأعلى . - أشخاص سيئون . - ليس هناك أشخاص سيئون ، نحن فقط هنا لأجلك ، لا تخشي من أي شيء يا حلوتي الصغيرة . كانت الزوجة تنظر إليهم بإبتسامة ، رغم أنها لم تطابق تعابيرها ، حيث ظهرت خائفة بعض الشيء .. ! ابتسمت مجدداً بإرتباك ، ثمّ سعّت لطرد جميع الأفكار السلبية . في تلك الأثناء رنّ جرس المنزل .. ! تحوّلت أنظار الجميع ناحية الباب . سألت الزوجة ( أيعقل أن تكون قد نسيت شيء ؟ ) ( من ؟ كآي ؟ ) قال الزوج بحيرة . أومأت برأسها . - غريب ، لا أتذكر . خلعت القفازات السميكة من يدها وأوشكت على التقدّم ناحية الباب ، لكنه أوقفها بصرامة فجأة .. ! ( أنا سوف ألقي نظرة ، تراجعي للخلف و أمسكي إيمي لبعض الوقت ! ) بدا يتحدث بتوتّر خلّق فيها الإرتيابْ ولكنها نفذت ما قاله ، حيث ذهبت للطفلة وأمسكت بيدها ، وكانت الأخيرة تنتقل بناظِرها كل حين وهي لم تفهم كل هذا الحرص الذي يخرج مِن والديها . نظر من خلال عدسة العين السحريّة المثبتة في الباب ، فرأى شخصاً يرتدي زيّ موحّد اللون ، عبارة عن بنطال و قميص برتقاليّ ، ينتعل حذاء أزرق بقاعدة بيضاء وعلى رأسه قبعة نُقش فوقها عبارة ( أطلب مِن أي مكان في العالم ! ) كانت خصل سوداء تظهر من تحت القبعة ، الشخص يحمل صندوق كارتونيّ صغير ، وبيده قفازات قطنيّة بيضاء . سأل مستفسراً الأعين المترقبّة ( هل قام أحدكم بشراء إلكترونيّ ؟ ) أجابت الزوجة بغرابة ( هذه الفترة لا ) .. ثم وجهت سؤالها إلى ابنتها ، فهزت إيميليآ رأسها بالنفيّ . غمغم شارد الذهن ( كما أن توصيل الطلبات عادةً لا يكون عند هذه الساعة ) ابتعد عن الباب وأسرع نحو حقيبة سوداء كانت مستندة على حافة طاولة بيضاء أنيقة ، رفع الحقيبة وفتحها ليخرج حاسوب محمول صغير تحت نظراتهما الحائرة ، تفقده وهو واقف ليظهر تسجيل حيّ لصورة الشارع ثمَّ الرصيف مِن زاوية مرتفعة ، وظهرت فيه شاحنة متوسطة الحجم والشخص المجهول نفسه الذي رآه أمام الباب منذ لحظات . استَندَت رُوزْيَآن بذراعيها على نافِذة خلفيّة للشاحنة ، ورأسها مكشوف للخارِج بين صَمت الشارع السكنيّ الذي بدى مريباً ، كانت تمضغ العلكة وتحرّك إحدى لفائف شعرها الحلزونيّة .. ، ( ما هذه الكاميرا الرديئة ، إنها ظاهرة للعيان ! ) أخذت ترمق جهاز المراقبة الذي بدأ في التحرّك يميناً وشمالاً ، كأنَّ شخصاً ما يقوم بالتحكّم به عن بُعد ، كان هناك نقطة يصدر مُنها ضوءً أحمر متقطّع ، لوحّت بِيدها علامة نصر بإتجاه العدسة و نفخت العلكة على شكل فقاعة زهريّة . قال دانسي وهو يسند ذراعيه خلف رأسه وكأنه لم يكن مكترث بأي شيء ( على الأقل كان ليوفّر على نفسه تكلفة شرائها ، وسرقة واحدة أفضل قبل هروبه ) أطلقت ضحكة مستمتعة ، ( هل تظن أنه سيفتح لنا الباب ؟ ليس من الغريب أن لا يعرف من نكون ) سحب حقيبة صلبة وأخرج منها مسدساً من بين مجموعة أسلحة متفاوتة الأحجام، ثم بدأ بحشوه بالرصاص ( إنّه حذر أكثر من اللازم فحسب ) ، حتّى انكشَفَت إبتسامته الساخرة ( أتسائل أي نظرة ستتربّع على وجهه حين يرانا ، لقد كان يمشي بتبختر في أروقة القلعة.) إلتفتت إليه روزيان وهو يدسّ سلاحه في جيبٍ خلف بنطاله . - لا تقم بتخبئته سيكون ذلك مبتذلاً بعض الشيء ! نظر لها متسائلاً ، أشارت له برأسها ، - السلاح . كانت الزوجَة غراهام وابنتها تتناوبانِ النظرات القلقة ، تراقبان تحركات وِيليام الذي ألقى فجأة بالحاسوب على الطاولة التي توسطت الكنبات ، وكأنّه عَلِمَ بأمرٍ ألجمه الصمت مِن هوله ! وأقترب من صندوق مصنوع من الخشب الفاخر ليفتحه ويخرج بندقية تشبه بنادق الصيد ! رفعها و جعَل يتطلّع فيها ، - ما الذي تفعله ؟! إرتفع صوت زوجته بنبرة صادِمة وغير متقبّلة . أعادَ الزناد للخلف وفحص كميّة الذخيرة .. ، - عندما تتلقيّن إشارتي إصعدا للأعلى . صرخت بنفاذ صبر ( أرجوك أخبرني ما الذي يجري ؟ من يقف خارج المنزل ؟! ) ، نظرت إيميليآ إلى إنفعالات والدتها بهلع . يغلق الزوج الصندوق الخشبي ويقفله ، ثم يلتفت إليها وهو يحمل البندقية بيده الأخرى ويضع سبابته على زنادها، إنصبّت في نظراته جديّة وبرود شديدين .. ( لقَد عَلِموا .. ) إنقبضّت عيناها .. ! ( أنتَ لا تعنيهم ، صحيح ؟! ) ، كان صوتها هشّاً خافِتاً . ولكنّه وصَل إلى مسامعه وفَهِمَ كيف أنّها لا ترغب بالإستيعاب . أخفض رأسه جانباً ، ثم أسدل جفناه وكأنَّ به يعبّر لها دون حديث ، بأنَّ ما يدور في ذهنها هو ما يحدث بالفعل ، هي فقط لا تبتغي إطلاقاً تصديق ذلك ، تشعر أنّه قام بتنبيئها عن صاعقة موشكة على تحطيم أرضهم ! أشارَ لها بعدم الكلام وإلتزام الهدوء . حمَلَ سلسلة المفاتيح المعلّقة ، أدارَ واحداً في فتحة القفل ، صوت فكّه ! وبهدوءٍ وضع يده على المقبض كما لو أنه يدير الوقت ببطء ، ثم أطلّ برأسه ، و النصف الآخر من جسده يخبّئ البندقية خلف الباب في ثبات كتمثالٍ حجريّ . - أليس الوقت متأخراً بعض الشيء لعاَملي التوصيل ؟ نطقها بطريقة عابرة صحبتها ابتسامة توحي بطَبيعيّة الوَضع ! وخرّجت نبرة مبهمة في هدوئها من تحت قبعة الواقف ..( سيّد وِيليَآمْ غرَآهَامْ .. ) ثمَّ رفع المندوب رأسه أمام استصاخة المعنيّ الحذرة ، وتقطيبة ضئيلة .. ! ظهر وجه آرْثبْييّتو بإبتسامة ودودة مُشرقة ، وظهرت خصله المرتخية على طرفيّ وجهه .. ، ( لديكَ طلب مسبق الشرآء ! ) قطّب ويليام حاجبيه ، ولمعت قطرة ساكنة فوق جبينه عندما أيقن هويّة الواقف أمامه ولكنّه واصل الحديث بعفويّة يجيد حياكتها .. ! ( لا أتذكر أني قمت بطلب هذه الفترة ، ألم تخطأ العنوان ؟ ) أجابه بعد أن إمتدّت إبتسامته أكثر ،.. ( كيف لي أن أخطأ يا سيدي ؟ نحن حذرون جداً في مثل هذه الأمور ) و زَادَ مِن بشاشتِه : ( وأنت تعلم ذلك جيداً !) صكّ على أسنانه الخلفية ، وأخذ يحدّق في تلك الابتسامة التي لا تطابق الجزء العلوي من وجهه . وسرعان ما دحض ما بنفسه ، قرر أن يتخلى عن أي إندفاع والحرص أثناء قول أي شيء حاولَ اختتام الحديث.. ، - أظن بأنكم أخطأتم هذه المرة . - لا يمكن ذلك . ودعس العميل يده في جيبه ، كما هي طريقته الخاصة في القِيام بمهَامِه ، ثم أخرج قصاصة ورقية وهو يمسك الصندوق بيده الأخرى نظر محاولاً التكلّم : ( حَيّ نَايتسبرِيدج في وسَط لندَن ، القسم الغربي الحديث مِن المنَازِل السكنيّة ، الإسم المزوّر وِيليَامْ غرَآهآمْ ، الإسم الحقيقيّ هو كِريستََآن ) ورفع رأسه .. ،( الوظيفة طبيب مختصّ في زراعة الإعضاء الإصطناعيّة ،العنوان صحيح !) لاحظ أنَّ إبتسامة آرثبييِتو بدت مفعمة بالوديّة على نحو إستثنائي،بل باِعثةٍ للوجَل ،رآها كيف تظهَر من أعماق جليد يرقد في غيهب نفسه، شعر كما لو أن الواقف أمامه هو جثة تبتسم . لم يلبث الكثير من الوقت لينهي صاحب المنزل النِقاش ( أخطأتم العنوان ، غادر من هنا في الحال ! ) ثم أوصَد الباب أمام وقوفه ولكنه علق قبل إغلاقه .. ! بَرزَت عينٌ متبلّدة مِن فتحة الباب وتلاشت الإبتسامة .. ! (ألم أخبرك سيدي كريستان أننا لا نُخطأ العناوين ؟ ) أخرج كِريستآنْ يده من فتحة الباب محاولا دفعه .تنهد آرثبييتو ، إنه لا يحتمل المماطلة . سمع صوت إحتكاك ذراع كريستآن الذي شدّ عليها الباب ، ثم صوت تهشمها ، صرخ الرجل متألماً ، إرتفع بُكاءٌ طفولي من الداخل وصَاحَ صوتٌ إنثويَ نادى بإسمه الحقيقيّ . كانَ العميل قد أمسك بمقبض الباب ودفعه بقوة ، أما الآخر لايزال يمسك بندقيته بيده اليسرى . صاح وكأنه يحادث من في داخل المنزل ( اركضي إلى المهرب ! ) ( مهرب ؟ ) تدّخل صوت جاء من مسافة . خرج العميلان من الشاحنة ، دَانسِي يُشبك يديه وراء رأسه تبعته روزيآن وهي تسحب خلفَها الباب الجرار ( عذرا على التطفل في ساعة متأخرة ) نظرت بعفويّة قرِيبة للبَرآءة بدت لكريستآن أنها مُرعبة .. ! قال دانسي ( يبدو أننا سندخل من باب اخر ) حاول الطَبيبْ سحب ذراعه رغم الألم المقيت. قلب آرثبييتو الصندوق ، خشخش الصندوق قليلا ثم هوى مسدس منه ، وقبل أن يلامس الأرض ضربه للأعلى بفخذه كما لو أنه يتعامل مع كرة، ثم إلتقطه بطريقة عمليّة خاطفة . وضعه على رأس كريستآن الذي يجاهِد في محاولات سحب ذراعه من فتحة الباب ، ولكن العميل ما زال يشد المقبض بيده الأخرى . - الخونة مصيرهم الموت ، أنت خائن . نطّق بصعوبة ( أنت لا تعلم شيئا ، أنت مجرّد جرذ من جرذانهم ! ) لم يبدِ أي إشارة . اكملَ ووجهه يتصبب عرقا ( أنت لن تحصل على ما تريديه مِنهم أبداً ،هم فقط يقومون باستغلالك ، استغلال حقدك الدفين للناس لأجل أعمالهم القذرة فحسب) بقي صامت دون رد ، بل أنزل زر إتاحة الإطلاق للأسفل . ضرب البرق السماء لحقه صوت رعد مهوّل ، .وظهرت عيون أربعة عشَرْ المتأصّلة في الزرقة. تحدّث كِريستآن وهو يحدق بعمق فيه، ( لا تزال تملك فرصة .. ، الحصول على ما تريده ، بطرق أخرى .. ، أستطيع مساعدتك إن ساعدتني هذه المرة ! ) قال دانسي وهو يمد ذراعه خلف ظهره ملتقطاً سِلاحَه : (لننهي ذلك يا صاح ) في لحظة مباغتة تمكن كِريستآن مِن سحب ذراعه المكسورة و ركل آرثبييتو بقوّة ليتراجع إلى الوراء ثم رفع بندقيته مطلقا بيده الأخرى رغم ثقلها . دفعت روزيان دانسي ليسقطان على الأرض وعلقت الرصاصة في جزء من الشاحنة ! جفلت بين خطواتي وتوقفت عن متابعة السير! هل كان ذلك طلق سلاح ؟ استدرت للخلف لأرى أضواء شاحنة متوقفة وأشخاص بدوا كعاملين ولكن بشكل مثير للريبة ، والسيّد ويليام يوجّه بندقيّة ناحيتهم ! دقّقت النظر أكثر ، شخص ما يغطّي ملامحه بقبعة ..، لِما أشعر أن هيئته ليست غريبة ؟ توقف دفق أفكاري ما إن لمحت شكلاً مِن عيونه ، وسرعآن ما تحركت مشاهد أمامي ، .. "ولكن في السابق كنا نحصل على الكثير من الأموال !" عادت لي الذاكرة للوراء أكثر .. " لأني أملك ساق اصطناعية " أبتلعت ريقي عندما شعرت أن تفسيراتي صفعتني إلى نهاية طريق وَعِرْ كُتب على أحد حوائطه اسم القلعة ! أيعقل أنهّم على علاقة بهم ؟ لم أسترسل بالتفكير حتّى لمحت صورة إيمي أمامي ، إنّهم لا يتعاملون إلّا بإراقة الدماء ، هي في خطَر محتّم ! حلّقت ساقاي في الريح إلى ما خلف المنازل المصطفّة .. ! كان هناك شخص واحد يجب أن يكون على إستعداد للإطلاق بين الثلاثة ، آرْثبِييتو جثى على ركبتيه ووقف وكأنه لم يتعرض لشيء ، تمزق القميص البرتقالي وبان جزء من الرداء الخفي ، لم يتهاون كِريستان للحظة ورفع البندقية مجددا ويده المتورمة مسدولة على جانبه ، طلقة ثانية ! طلقة ثانية ،سبقه الأوّل بها، كادت تصيب قلبه ولكنها إنغرست بين كتفه وصدره .. ! ترنح الطبيب بضع خطوات متعرجة للوراء مما سمح لباب المنزل أن يكون معرضا لدخول الجميع ، وسالت على آثار تحرّكه الدماء من جرحه ، لكنه لم يتنازل عن إمساكه بالبندقية ، كان وجهه أحمر يتجعد من الألم . ( لن أسمح لكم بإيذاء عائلتي ! ) تقطعت أحرفه بين أنفاسه التي كانت تتهجّد .. ! دخل آرثبييتو ووطأ عتبة المنزل ، بينما استند هو على طرف طاولة الطعام وبدأ يلهث ويسعل دماءً . ظهر دانسي وعيناه أحيلت من اللاإكتراث إلى التجهّم .. ، (ما الأمر سيدي كريستانْ ؟ لما وجهك شاحب هكذا ؟) حملت لكنته الإزدراء والهزو . لم يجبه وإكتفى بالتحديق فيه بين لهاثِه ، هو يتذكر كل عميل مرّ عليه ، يتذكر ترفّعه عنهم جميعا ، لقد كان طبيب مهم في زراعة الأطراف الاصطناعية ، وبعد أن بدأ المقت يتفشى في نفسه إتجاه أعمال القلعة قرر الهروب منها ، كان يعلم أن هروبه لن يدوم طويلاً لكنه لم يكن ليخضع لهم . نظرت روزيان بريبة إلى أرجاء المكان ، مروراً بالعتبات التي ظهرت على مسافة في زاوية غرفة الجلوس .. ، رفع العميلان سلاحهما ناحيته ، عدا إختلاف زوايا وقوفهم ، لم يكن المستهدف قادرا على رفع بندقية الصيد الخاصة به بسبب الإصابة التي تعرض لها ، كانت ملابسه ملطخة ، سرعان ما أرتدَ دانسي للخلف قليلا وهو متسمر في مكانه ، على أثر رصاصة ظهرت من موقع السلالم ! صرخت روزيآن بهلع ونظر دانسي إلى كتفه بصمت ، هل كان يشعر بالألم ؟ الأشخاص المحسنين لديهم القدرة على الشعور بالألم ، ولكن بنسبة مخفّضة ، تساقطت بعض الدماء على خشب الأرضيّة . نظرت العميلة بحقد إلى الزوجة التي ظهرت من المجهول حاملة سلاح بين أصابعها المرتعشة .. ! صاح بها ما إن أبصرها ( ما الذي تفعلينه أيتها البلهاء ؟ لما لم تهربي ؟!) ( لا أستطيع تركك بهذه السهولة ، لا أستطيع فحسب ، أعلم أن الوضع معقد ، أعلم أنه من الاستحالة أن ننجو ، كنت أعلم بهذا ، لطالما خشيت أن نواجه هذا الوضع، مع هذه الأنفس الخاوية مِن الرحمة ، لكنني لا أحتمل رؤيتك تصاب بالأذى ) ثم ضجّت بإهتِياج إختلط بين الدموع.. ، ( نعم لنمت جميعاً إن كان هذا مصير عائلتنا ! ) وجهت ثلاثة عشر فوهة سلاحها ناحية الزوجة ، بدأ الاضطراب يعبث بعقلها ، قال دانسي بسرعة ( لا بأس ، تراجعي ! ) لكنها تظاهرت بإنها لم تسمع شيء و كبحت نوبتها ، حاولت التوازن ، مرت الرصاصة و دخلت جانبا من عنق الزوجة ثمّ خرجت من مؤخرته ، إنفجرت الدماء كنافورة حمرآء وتطايرت حول المكان .. !! صاح كِريستان مشدوهاً كأنّ فاجعة حلّت عليه ( آنابيْلْ ! ) بدأ الرهاب يعيد تكوين هياكل الخوف في رأسها ، تذكرت مشهداً دمويا من وقت مبهم وهي تنظر لشهقات الدم . التفت لها آرثبييتو ولاحظ إرتعاشات طفيفة في يدها تحاول كبتها ، لكنه لم يكترث بالأمر ، لمح دآنسي ذلك فأقترب مغطيّاً جزء مِنها . قال آرثبييتو بلكنة تحذيرية لكريستآن الذي بدا بغيرِ إدراكه ( أين أوراق البحث الخاصة بالساق الاصطناعية التي قمت بتهريبها معك؟ ) لم يجب . كرر العميل : ( أوراق البحث ، أخبرنا بمكانها وسنبقي على حياة ابنتك ) هتفت ثَلاثة عشَرْ وكأنها لم تعلم بهذا : ( أيوجد ابنة هنا ؟!) ابدى دانسي لها إشارة صامتة برأسه وكأنه يوحي لها بأمر ثمّ الهدوء، قطبت حاجبها وصمتت على مضض وتردد . أكمل أربعة عشر ، .. ( آخر انذار ، أوراق البحث ، أين هي ؟ هل تظن أننا لن نفتش كل شبر هنا ؟) - لن تعثروا على ما تريدونه حتى لو حفرتم الأرض وثقبتم الجدران ! - أين هي ؟ - لا أعلم - ابنتك ؟ .. هل تريديها مقتولة ؟ لا اجابة . مال ارثبييتو شفتيه ساخراً ، (سيكون مشهداً درامياً حرق جثثكم إلى جانب بعض ، أو لا ، لربما الانتفاع من أعضائها سيكون جيدا !) انتفض كريستان في مكانه وكأنه لم يحتمل سماع تلك الكلمات ، أصابته البليغة أفقدته قدرة الحركة ، لكن ارثبييتو تصور لو أنه كان قادر على الحركة لوثب من مكانه في غضب مهوّل و مزّق وجهه . كانت تقاسميه على وشك الانفجار ( أنتم ... وحوش !) سخر دآنسي : ( سمعنا هذا من قبل ) ضغط أربعة عشرْ الزناد ، أختتم المشهد بإصابة الطبيب برصاصتين ، خر على الارض هامد الجسد وسقطت البندقية بجواره. هُيّأ للعملاء الثلاثة سماع آخر الأحرف التي ترنحت من بين شفتيه على شفا فقدان صوته ، .. ( أنتم .. لستم سوى ... قطع شطرنج على طاولة الدوق .. ) و انتهى حديثه متوعداً .. ،( ستهـ...لـكون ) إستكانت أطرافه ، بهتت عيناه وأستقرت إلى الخواء ، هبط الصمت وانتشرت رائحة الدماء . خطى دانسي ناحية السلالم ( سأذهب لأتفقد مكانها) تجاوزه زميله قائلاً : ( سأهتم بالبقية ، أبحثا عن الأوراق ) تمتمت روزيان بصوت خفيض ( متعجرف ! ) مشى بين جسد الزوجة الطريح وتجاوزه ، ولكن شيء ما أعاقه عن مواصلة الخطو ، .. نظر للأسفل فشاهد روح معلّقة على وشك الإرتفاع وعيون تنتحب الرجاء والتوسل بعدم التقدم أكثر ، كانت يدها تحمل ما تبقى من قواها التي تشبثت بقدمه ، تأمّلها لبعض اللحظات ، كان هدوئه يخيف أغلبية العملاء، رغم أن الجميع كانوا على ذات الشاكلة ، ولكنه كان بشكلٍ ما كتقاسيم أُخرِجَتْ من ثلاجة للموتى . وكأنه لا يطيق رؤية مخلوق حيّ يرزق . إنّ العائلات تزيد حنقه ..! ( لا فائدة ... ) كادت لا تُسمع من شفتيه . أطلق عليها ، تحاشت روزيان النظر وشددت قبضتها ، نظر دانسي صامتاً بلا أدنى إنفعال . سرت برودة الشتاء بين عظامي ، كان الجو قارص ، وبدا أن السماء تتهيّأ لصب وابل سيغرق كل الطرقات .. ! شعرت بصعوبة في إستخدام أطرافي للحركة ! نافذة إيميليآ كانت المعبر الوحيد الذي استطيع الدخول من خلاله ، هذا إن فلحت في الصعود .. ! هل لازالت حيّة ؟ تخبطت خيالات مخيفة في نفسي وشعرت بالهلع وأنا أتصوّر جثمانها الصغير مغطّى بالدماء .. ! كان هناك أنبوب متين مثبت بشكل عرضيّ على مساحة من الحائط، وثبت عليه وكدت أنزلق فتشبثت أصابعي في حدود بارزة بعض الشيء ، يا إلهي ما الذي أفعله !! أنا أحدّق فقط في النافذة وأضيع الوقت بالاضطراب الذي يجتاحني .. !! لقد عرفت واحد منهم ، إنه هو ! لن يتهاون بفعلها ، لن يتهاون ! تلك العيون الباردة التي شهدتها في آخر لقاء ، اصمدي يا إيمي ، القليل فقط .. ! بدأت أتسلق الحائط ، رأيت شكل النافذة يتضخم ناحيتي، و إيطارها يقترب من مرمى عيناي ، كان الوجع خلف عنقي يغشيني ، لكنني تكبدت عناء تحمله . وصلت للنافذة و لهثت عدة مرات ! تفحصت النظر .. ، ماذا ؟ إنها خاوية! أيعقل أنها تختبئ في مكان ما ؟ أنا ألمح شيء ما يرتعش تحت السرير ... ! ( إيمي .. !!) لفظتها بغتَةً وعيوني تتسع . هل علي ضرب زجاج النافذة حتى تتنبّه لوجودي؟ لكن لا لحظة ! أنهم في المنزل ، سأستدرجهم إلى هنا لو أحدثت ضجة .. !! سحبت النافذة قليلا ، إنها عالقة ! لابد أنها مقفلة .. ! لحسن الحظ إلتفتت إيمي لصوت خفيف أصدرته على الزجاج ! رأيت وجهها المرتعب عندما عرفت هويتي ، أشرت لها بإشارة ( افتحي النافذة بحذر ! ) زحفت من تحت السرير وأسرعت بوضع مقعد بلاستيكي صغير ووقفت عليه ، ثم فكت القفل ( كاي ! ) إنتحبت مذعورة ! وضعت سبابتي على شفتاي لإحذرها من عدم إخراج صوت أمسكتها من يدها و سحبتها للخروج فاندفعت إلى أحضاني ، شعرت بأناملها الصغيرة المرتعشة تتمسك بمعطفي ، .. تحدثت لي مثل همس متحشرج ! (أشخاص سيئون ... هناك أشخاص سيئون !! ) هززت رأسي وهمست بتوتر ( علينا الخروج أولاً ! بسرعة ! إركبي فوق ظهري ! ) سحبتني من معطفي وأشارت لخارج الغرفة ( أمي ، أبي .. هناك ! ) وضعت كفّاي على خدّيها و قلت بإصرار ( لا تقلقي إتصلت بالشرطة ، إنّهم قادمون ! ) كنت أعلم أنها كذبة سريعة التلفيق ! ، لقد أدركت أن والديها بلا شكّ وافيا المنيّة ، ولكن كيف لقلبها أن يحمل ذلك فيما بعد ؟ أحاطت ذراعاها ، أطلقتُ أنينا حاولت كبته من وجع عنقي مجدداً تردّد صوتها المرتجف يحدثني بخوف (كآي ، لما توجد لديك كدمة خلف عنقك ؟ ) لم أجبها ، كانت المرة الأولى التي يخبرني فيها أحد عن هذا الأمر بل المرة الأولى التي أعرف فيها ذلك ! .. !! ثوانٍ من الخوف ، ليتهاوى على مسمعي وقع حذاء ! ( أنتِ ! ) جفلت في وقوفي! سقطت ايميلي خلفي وأسرعت لتخبئة جسدها ، كان معطفي الطويل يغطي جزء منها ، لم أتحرك من مكاني الا بعد مرور لحظات . حتى أستدرت لإواجهه، ما أن شاهدت هيئة وقوفه تذكرت أصوات الإنذارات فوق رأسي ، تلك العيون الليلكية ، ذلك الوجه .. ، والغرابة تطلّ من على محياه عندما علم بوجودي. ( إياك ! ) جاء صوتي مهدداً رغم الخوف ! أشار مشهراُ السلاح ناحيتنا ، ( لا أعلم كيف وصلتِ إلى هذا المنزل ، و إذا كانت لك علاقة بماضي هذه العائلة ، لكن ما يهمني الآن أن هذه الطفلة مسجلة ضمن أسماء الأشخاص اللذين يجب قتلهم ، فلا تضيعي علينا الوقت وتراجعي في الحال ! ) شددت على إيمي كإشارة تنفي عدم تراجعي ، ( لن أسمح لك بإيذائها ) - تراجعي - لا - لن أتهاون بقتلك معها - جرب اذاً أطرق جانبا ، صك على أسنانه ، ( أنطوان أيها المعتوه ! ) حاولت أن لا أصرخ بكلماتي ، (ألا تملك قلباً ؟ هذه الطفلة لا شأن لها بشيء ! لا دخل لي بأعمالكم السوداء لكني لن أسمح لك بالإقتراب منها ! ) ( أنتِ مثيرة للشفقة ) إهتز ناظري في صدمة ! جاءت حروفه كسم لاذع ، (من انتِ ؟ هل لديك عائلة ؟ هل لديك مكان تعيشين فيه ؟ بعد هروبك ، لا ، بل لأن أنطوان رأف بحالك ، أنت لا شيء ، ليس لديك أحد ، من المؤكد أنك تجوبين الشوارع كالمتسولين حتى وصلت إلى هذا المنزل عن طريق الصدفة ، ماذا ؟ هل طرقت بابهم للحصول على فتات من الطعام ؟ هل تظنين أنك عبقرية بخروجك من القلعة ؟ هه ! يا لغبائك ) انطلقت عباراته الساخطة وهوت على قلبي كأنها تقوم بتهشييمه ..! شعرت بغصة وغضب عارم لم يخالجني من قبل ! اندفعت بلا وعي رغم أني كنت أعلم أن جرح هذا الشخص بالكلمات محال ! ( هل تظن أنك تعيش رفاهية بكل ما تقوم به ؟ البطل الذي لا يتدنى لعواطف البشر ، يا للسخط ! أنت مجرم بالكامل ! أدنى من أن تسمي نفسك إنساناً ! أنت لست سوى دمية تحت أياديهم ، أنت لست قادراً حتّى على الاحتفاظ بحياتك ، الحياة التي تعيشها لا تستطيع تملّكها ، أنت مجرد قطعة رخيصة يقومون باستهلاكها كيفما يشاءون ! لا تملك الحرية حتى لنفسك!) لفظت آخر الأحرف وكأنها حمم بركانية تلهب صدري .. ! استقام دون نطق ، لم يبد أدنى ردة فعل ، كل شيء فيه مثل عدّاد متوقف .. !، سوى أني لحظت كيف أن قبضته تشتد حول مسدسه كما لو أنها تسعى لتحطيمه .. ! تراود الهتاف من الأسفل مباغتاً حربنا الكلامية ، ( آرث هل عثرت على الطفلة ؟ هل ترتدي ساق اصطناعية ؟! ) نظرت ناحية الباب بوجل ، كان واقفا دون رد ، حتى نطق وهو متسمر بنظراته القآتلة ناحيتي ( أجل عثرت عليها ) جاء الصوت مرة أخرى ( ما الخطب ليس من عادتك التأخر ؟ هل تحتاج إلى مساعدة ؟ ) خشيت أن يعثر علي واحد آخر منهم ، لكنه أجاب بالنفي وأخبره أنه قادم في الحال بجثة الطفلة ! أقترب ناحيتنا فأحط إيمي بحرص ، كانت أجزاء جسدها على وشك التحطّم ، باغتنا بقوة و أمسك بطرف بان من هندامها بين ذراعاي، صاحت بين الدموع وتحركت ساقيها في الهواء ، سحبت واحدة منها ، لكنه وجّه ركلة إلى وسطي فارتطم رأسي بزجاج النافذة محدثاً شقوق خلفه ! (ايمي ! ) ترنح المشهد أمامي ، وكأنّ الدببة في الغرفة تتساقط من أماكنها .. ! سمعت صرخات مرعبة ، مددت يدي للأمام ، ورأيتها معلقة بين يديه ، أصابني الصمم للحظات ، حتى رأيت جسداً يُلقى على الأرض كدمية صوفيّة ! إيمي .. ، إيمي تبتسم لي .. ، إيمي تضحك أثناء نداءها لإسمي ، إيمي تبكي بين ذراعاي ، تقترب لتهمس منّي .. ، كآي أول صديقة أحظى بها ! - هاه ؟ ناديت حروف إسمها دون تصديق ، - إيمي ... إيـ...ـمي ، شعر أشقر متبعثر حول رأسٍ تخضّب بالدماء .. ، كف صغيرة فقدت مقاومتها ، طفلة ميّتة ! كانت لقطة مبهمة تغطيها الحلكة ، حين أستدار بطرف إحدى عيناه ، نظرة واحدة موجهة لي، ثم خطوات تبتعد . لقد غادر وهو يحمل ضحيته بيده . كما لو أن من ينظر إلى آرثبييتو ، يجد شخصاً بجسدٍ إناءه فارغ من الروح ! هل روحه قًتِلت منذ زمن بعيد ؟ أم هو ولد حقاً دونها ؟! ترددت أصوات أبواب تفتح ، ثم تقفل ، وصوت عجلات تتحرك وتبتعد ..! حملتني ساقاي لتلامس العشب المزروع حول المنزل ، ذهني غائب عن الحضور ، لا إشارات عصبية .. ، شعرت بالبلل تحت أنفي فمسحته لأرى أصابعي ملوّنة ببقعةٍ حمراء . كان المطر يهطل بعنف، كنت أزحف على ركبتاي حيناً وأجر أقدامي معي في حينٍ آخر ، شعرت بالوحشة والرعب والعجز المقيت ! لا أعلم أين قاد بي الطريق ، لكنّي وجدت نفسي بين أشجار متداخلة فروعها ، وكان المطر يرتطم بوريقاتها، سمعت مواء قطة سوداء في وسط المكان غطيت كفي وعصف الدوار برأسي ، فلم أشعر بي إلا وأنا أنحني للعشب وسط الظلمة ، وكما لو أن إبر حادة تخترق غشاء عيني ، صاحت القطة بحدّة و انفجرت أشلائها ! إنتهى أنطوان مِن اجتماع مع بقية الأطباء في إحدى قاعات القلعة . تحدّث إلى واحدٍ من أحدهم عن تطوير أجهزة رقابة أمنيّة مكثّفة على الحجر الخاصّة والممرات،.. كان آذربيان يضع ساق فوق الأخرى على مقعدٍ جلديّ ، و ينظر إلى أنطوان بحقد وشرود غريب ، بعدها خرج من القاعة وذهب إلى مكتبه ، أشعل الأضواء وفتح أحد الأدراج بمفتاحٍ صغير ، ليخرج مجموعة من الأوراق ممتلئة بالبيانات . قلّب بينها حيث ورقة تحتوي على مكوّنات لصنع دواء غير معروف ، و أخرى لعملية فتح دماغ بتاريخ قديم ، .. كل صفحة مغايرة عدا أن جميعها يتشابه في الإسم المطبوع في آخر الأوراق ، اسم أنطوآن وتوقيعه . سارَ في رواقٍ زجاجيّ حتّى أبدا الجهاز بين يديه اهتزاز ثم رنيناً متتالياً ، توقف أنطوان عن المشي ورفع الجهاز لتضيء الشاشة من تلقائها ظهر ذات الرسم البياني الذي قرأه سابقاً ، ولكن هذه المرة كانت الأرقام بأعداد كبيرة ، وظهر مؤشر أحمر ثم علامة تعجّب تختفي وتظهر بشكل مستمر بجانب أحد الأرقام . تذكّر سيروليت ومقاومتها على الخروج،ثٌمَّ صورتها وهي تركب السيارة السوداء وتتحرك مبتعدةً عندما كان يراقبها مِن أحد النوافذ، قال في سرّه أن النوبة الثانية ظهرت وأن الأعراض ستبدأ بالتفشّي فيها . أقترب منه شاب بدى في نهاية العشرين من عمره ، يرتدي قميص أبيض ، مظهره أنيق،مسرّح شعره الأسود إلى الخلف كما لو أن خصله مقاومة لحركة الهوآء ، كان هذا الشاب يدعى ألفريد أُوسْتِنْ ، وهو طبيب متدرّب لم تمضي على رحلة عمله في القلعة سوى بضعة أشهر. ألفريد يعتبر أنطوان بمثابة قدوَة له ، كان أي سؤال يواجه حيرة فيه لا يتردد في المجيئ إليه ليطلق تساؤلاته بفضول علميّ بحت ! سأله عندما استوقف رئيسه وهو يهرول إليه ، ( رغبت أن أسألك عن أمر منذ فترة ، لكني لم أجرؤ على ذلك خشية التدّخل في أعمال لا تخصّني وأنا مجرد متدّرب هنا ) أجابه أنطوان بروح متعاونة يظهرها لبعض المتدربين الجادين في العمل ، ( أسأل ما شئت ألفريد ) حصل على الشارة التي أنتظرها فقال بلهفة طالب ( واحد من الأطباء الرؤساء أمرنا بكتابة بحث عن النظام الذي تستخدمه القلعة في التحكم بأدمغة المحسنيين ، سؤالي يتعلّق بهذا الخصوص ، هل توجد نسبة على أن المحسن يستطيع اختراقه وهو تحت تأثير النظام ؟ ) قال أنطوان بغرابة ( لا استطيع التحديد بدقة ، ولكن هذا الأمر يعتمد على عدّة احتمالات ، من بينهم طبيعة الشخص الذي تعرّض للتحسين ، لما تسأل ؟ ) أخرج ألفريد ورقة من ملف رماديّ يحمله وقال ( أخبرتك أنه بحث تم أمرنا كمجموعة متدربين بالقيام به .. ) قاطعه ( لما تسأل عن الإختراق بالذات ؟ هذا الأمر ليس مطلوباً ضمن البحث ) - صحيح ولكن .. - ولكن ؟ ابتسم ألفريد بارتباك قليل وحكّ رأسه مجيباً ( بصراحة نحن كمتدربين لا نملك الأحقيّة في أعمال الأطباء هنا ولكن منذ أن وقعت حادثة هروب العميلة ثمانية عشر ونحن نتداول ذلك في كل جلسة حديث نجتمع فيها ، ونتساءل كيف لنظام قويّ كهذا أن يتم إختراقه ، هل من الممكن أن يتعرّض للثغرات أو الأعطال؟ ) نفى أنطوان وقال ( النظام ليس معرّض لوجود ثغرات و أعطال بتاتاً ، أنه واحد من الأنظمة المرتبطة بالدماغ الإلكتروني الرئيس هنا ، أي مرتبط بقوة أكبر يتم التحكم بها عن طريق النخبة من الأطباء فقط ) - اذاً ماهو سبب اختراقه من قِبل العميلة الهاربة ؟ - تلك حالة استثنائية - كيف ؟ نظر له مطوّلاً ، حدّق في عيونه المتعطشة للمعرفة ، كان أنطوان سيتراجع للحظة ويمتنع عن سرد إجابته حتّى قال ( ألفريد أنا أحب شغفك الدائم ، أنت لا تتوقف عن البحث إلّا بعد أن تربط النتائج المجهولة بأسباب علمية واضحة ، ويعجبني هذا الأمر فيك ، ولكنك لست قادراً على معرفة إجابة كل سؤال يقفز إلى ذهنك، وأنت تعلم ما أتكلم عنه ، خصوصاً في هذا المكان ) قال ألفريد والإستياء طاغٍ على ملامحه ( أرى ذلك) باغته أنطوان ( ولكني سأخبرك بإجابتي ، شرط أن لا تقوم بإدراجها ضمن بحوثك ، أنت طالب من المفضلين لدي ) اندفع بحماسْ ( لا تقلق بخصوص هذا الأمر ، أنا أحافظ على سرية أي معلومات تخبرني عنها ، في الحقيقة أحب الإحتفاظ بالمعلومات المثيرة التي أقوم بجمعها او اكتشافها لنفسي ) ثم ضحكة مازحاً ( يمكنك القول أنّي هاوٍ لجمع الأمور الغريبة أو الاستثنائية ! ) أومأ له ثم اختفت ابتسامته ليقول ، ( النظام لا يمكن اختراقه كما تعلم ، ولكن ما حدث كان مختلف و بعيد عن وجود ثغرات أو أعطال ) صمت قليلاً ثم أكمل ، - في حالات نادرة جداًعندما يمتلك الشخص قدرات عقلية أكبر من الشخص الطبيعيّ ، فهو من المرجح سينبذ أي تأثير دخيل يتعرّض له ، سيكون للعقل مقاومة أكبر - هل هو مرتبط بإرادة الشخص نفسه ؟ - تستطيع قول هذا ولكن ، إلى جانبه، يملك الشخص تمرّد قويّ نابع من داخله ، هذه الصفة لا ترتبط بالكثيرين ، أنا لا أتكلم هنا عن صفاتٍ إعتياديّة، فكلّنا نملك جانب عنيد من شخصياتنا ، الأمر يتعلّق بالدماغ نفسه ، يكون مختلفاً عن الأدمغة الأخرى ، أو دماغ يستطيع استخدام نسبة كبيرة من مهاراته ، لا تنسى أن الإنسان الطبيعي يستخدم نسبة ضئيلة فقط من قدراته العقلية ولرفع هذه النسبة يحتاج إلى تدريب دماغه على مهارات معيّنة همهم ألفريد مفكّراً ثم قال - إذاً ما هي الأعراض التي تنتج عندما يختفي التأثير البرمجي من دماغ الشخص ؟ هل يعود لحالته الطبيعيّة كأي إنسان ؟ - ليس تماماً ، فنحن كما تعلم عندما نعرّض الدماغ لهذا النظام ، نمحي جزءً كبيراً من الذاكرة ، أي بمعنى أدق نمحي جزء من حياة الشخص الماضية لنتمكن من التحكم فيه بشكل أسهل ، لذلك عندما يقاوم الدماغ ويتخلص من التأثير البرمجي يحدث له كردّة فعل أعراض سلبية ) سأل ألفريد بسرعة ( ما نوع هذه الاعراض ؟) قال وهو يسند جهازه إلى جانبه ، ( يدخل في مرحلة الهلاوس ويتعرض للكوابيس ، لأن العقل يصبح بين الآثار التي أحدثها النظام البرمجي و ذكرياته القديمة ، وكأنه يصبح منفصلاً بين شقيّن ، فنحن نهيّأ الشخص بتكوين ذكريات جديدة في ساحة خالية، يكون أشبه بتكوين شخصية أخرى مختلفة تماماً عن شخصية أحدٍ ما لم يتعرض للتحسين ، نتمكن فيها من محو عواطفه ومخاوفه فيكون نطاق تفكيره منحصر بأمور معيّنة ، لذلك مهما حاولت التوسع بفكرك ستواجه الخواء فقط لأنك ستصبح شخص مقطوع عن ماضيك و هويتك الحقيقية ، ولكن عند اختفاء النظام البرمجي ، سيبدأ العقل بشكل تلقائي العودة إلى الشخصية الأوليّة المرتبطة بطفولة الشخص وجميع ما يتعلق به ، ولكن ذلك سيعرّضه لحالة أسوء ) ( أسوء ؟ هل هي أشد من الهلاوس والكوابيس ؟ ) تنهد أنطوان وأجاب ، وبدى للحظة شارداً في موقعٍ ما غير مرئي . ( أشدّ سوءً منها ، وقد يفقد الشخص قدرته على التحكم بتصرفاته ، يجب على الدماغ أن يتعرض للعلاج بعد إزالة التأثير بالكامل واستعادة ذكرياته بطرق مناسبة من قبل أخصائيين ضمن مراقبة مشدّدة ،وعدم معالجته سيؤول به لحالة سيئة ، كما لو أن الدماغ يعيد الذكريات ولكنه في ذات الوقت يدمّر صاحبه بسبب إنفصاله بين الوعي و اللا وعي )