عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > قصص قصيرة

قصص قصيرة قصص قصيرة,قصه واقعيه قصيره,قصص رومانسية قصيرة.

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-21-2007, 03:29 PM
 
Post الفصل الاول من روايت(البطاقة السحريه)

.الفصل الأول‏
في تلك الصبيحة القائظة، حينما استيقظ فجأة ووجد نفسه جالساً فوق الفراش، يتصبب عرقاً ويلهث في تنفس سريع ومضطرب، لم يكن يعي بوضوح وشفافية بأنه سيرتكب جريمة طالما راودته في لحظات حنينه إلى الماضي وذلك قبل غروب الشمس المحترقة بأشعتها المنثالة على الرؤوس الدائخة. استيقظ فجأة وبعنف، دون مقدمات تحت تأثير كابوس مرعب وأجهد‏
نفسه ليتذكر ولو صورة واحدة منه دون جدوي. كان مضطرب البال منفعلاً ومتعباً رغم أنه نام مبكراً كعادته، نوماً متصلاً دون انقطاع. مكث شارد الفكر، مستلقياً فوق السرير، يحاول التركيز واستعادة حالته الطبيعية. تلا قليلاً من الآيات القرأنية والأدعية بصمت ولعن الشيطان الوسواس. وقبل أن يغادر الفراش، دخلت زوجته مبتسمة وفتحت مصراع النافذة الخشبي، فدلف نور الصباح إلى الغرفة وأخرجها من الظلمة الشاحبة التي كانت سائدة داخلها، لاحظت زوجته شحوب وجهه والعرق الكثيف فسألته عن السبب، ولكنه طمأنها بأن أرجع ذلك إلى الحرارة المرتفعة، هذه الحرارة اللعينة التي وصلت مبكرة هذه السنة، إذ موسم الصيف ما زال في بدايته. قصد غرفة الحمام، أراد أن يأخذ دوشاً بارداً فتح الحنفية فلم ينهمر ذلك السائل المنعش الذي يعيد للانسان حيويته ويمنح له قوة يصمد بها طوال النهار. وبدل السيلان المنعش، قابله صوت مزعج ومنفر احدثه الماء الذي تراجع داخل الأنابيب تحت ضغوط الهواء الخارجي ، مما ضاعف من انفعاله ، فصاح بصوت أجش منادياً زوجته لتحضر له دلواً من الماء. وحينما جلس إلى الطاولة في المطبخ، لتناول فطور الصباح، انقطعت شهيته ولم يبتلع سوى فنجاناً من القهوة وهو يبذل قصاري جهده كي لا يتقيأها دفعة واحدة إذ غمره غثيان مقزز مع ارتفاع في درجة الحرارة والضغط الدموي. انتعل حذاءه الصيفي وغادر البيت متمنياً أن تتحسن حالته النفسية كي يتمكن من عقد الاجتماع الطارىء لقدماء المجاهدين المقرر في تلك الصبيحة، كان طويل القامة، نحيفاً ولكنه قوي البنية، تتوسط وجهه المعظم بالوجنتين البارزتين شلاغم سوداء كثيفة الشعر منحدرة قليلاً محلقة حول الشفتين. يكتنف شعر رأسه بياض من الشيب لم ينتشر بعد انتشاراً يوهم صاحبه بأنه شاخ وآن الوقت كي يفكر في الاستعداد للموت المريح.‏
ورغم شيب الرأس، مازالت الشلاغم محافظة على عظمتها ولونها الأصيل. كان يلبس بدلة صيفية رمادية اللون تتكون من سروال وقميص بنصف الذراعين.‏
في الخارج كان الجوّ حاراً وأجول رغم أن النهار ما زال في بدايته.‏
يبعث هذا الجو القائظ رخاء وكسلاً في الأجسام بحيث يبدو الناس في قعودهم ووقوفهم وتنقلاتهم كأنهم نيام أو سكارى أو أشباح كتلك التي نشاهدها في بعض أفلام علم الخيال.‏
الرغبة الوحيدة المعششة في الأذهان هي تلك التي توحي بالتمدّد والاستلقاء تحت ظل شجرة مورقة، تحرك أغصانها ريح خفيفة وتصفع الوجوه المتلألئة بحبات العرق الممزوج بالغبار المهيج للجلد، اتجه صوبا نحو مقر قدماء المجاهدين وهو شارد الفكر لا يلوي علي أحد من أهل القرية الذين يباشرونه بالتحية الصباحية والابتسامة تفيض من شفاههم المورمة، وهو يمشي بتثاقل بيّن يعصر نفسه في محاولة يائسة لاستذكار تفاصيل الكابوس الذي نغص عليه النوم اللذيذ، وبعث في نفسه حالة شعورية قلقة حائرة، جعلت جسمه النحيل لا يستقر على مكان ويتحمل الثبات والجمود، بل عليه بالتحرك المستمر والانشغال بشيء خارجي ليبعد عنه هذا الضغط المفروض من ذاكرته اللعينة التي طفق يصيبها النسيان والتلف. ينظر أمامه وهو لا يحدق في شيء بعينه بل يمسح ببصره الفراغ والعدم، متشبثاً بصور غامضة ومبهمة، تصور أنها مستمدة من ذلك الكابوس المزعج، ولم يتفطن إلى "كلاكصون" سيارة متوقفة قرب الرصيف المقابل من الشارع، الذي تردد أكثر من مرة، لما أدرك السائق عدم نفعية المنبه، فتح الباب، وقف متكئاً على سقف السيارة المغبّر ونادي بأعلى صوته الجهوري " ياسي مصطفى.. يا سي مصطفى " فنفذ النداء المرتفع إلى وعي هذا الأخير الغارق في حيرته، فالتفت في حركة سريعة ومفاجئة كأنه استيقظ من النوم للمرة الثانية في صبيحة ذلك اليوم الذي يبدو أنه لن يمر على خير. تحول من القلق والحيرة إلى الغضب ولسخط حينما تعرف علي المنادي وصاحبه المتكمش داخل السيارة بقامته القصيرة حتى كاد يختفي كلياً، تساءل مصطفى عمروش بغيظ عن لون القدر الذي جعله يلتقي بهذا الحلّوف في مثل هذا الوقت من الصباح. أنه نذير شؤم. منذ أيام وهو يتحايل لتجنب لقائه والابتعاد عنه قدرالمستطاع منذ تلك المرة التي وجده ينتظر خارج المسجد بعد صلاة الجمعة، فبادره بالتحية مصطنعاً ابتسامة مهادنة ودعاه إلى جوله قصيرة في سيارته الفخمة. فأنقاد مصطفى عمروش عن غير رغبة وهو العارف بأن " أحمد تكوش " الملقب بالسرجان لا يبحث عن خلق إلا ووراء ذلك مصلحة يقضيها إن عاجلاً أو آجلاً. وأثناء النزهة المفروضة، أنتظر مصطفى بفارغ الصبر أن يلفظ السرجان بهدف الدعوة المباغتة غير العادية، ولكن هذا الأخير بحسّ رجل أعمال، لم يطلب شيئاً محدداً، بل طاف حول ذكريات الماضي البعيد، أيام الحرب والجوع والتشرد الجماعي، مركزاً ذكرياته حول بعض المجاهدين الذين استشهدوا في المعارك الكثيرة التي انفجرت وسط الجبال المجاورة لقرية " عين الفكرون " مؤكداً على معرفته بهم أحسن معرفة وكانوا يقدرونه أكبر تقدير وذكر أسماء بعضهم الذي جندوا معه في الحرب العالمية الثانية وكيف نجا الأحياء منهم بأعجوبة لا يصدقها إلاّ من كان حاضراً.‏
السرجان يتكلم ومصطفى عمروش يبتسم بمرارة إذ أنه يعرفه حق المعرفة منذ أن كان طفلاً، لا يكبره السرجان إلا بعشرة سنوات فقط. يتذكر الأيام التي عاد فيها السرجان من الحرب العالمية الثانية وهو يتجوّل في القرية بزيه العسكري متبختراً، معلناً للجميع بأنه يرتبه سرجان وليس كَبْرَاناً مثلما يتصورون. ومنذ تلك الأيام أصبح معروفاً بهذا الاسم حتى حينما غادر الجيش الفرنسي في أواخر الخمسينات ليفتح دكاناً خاصاً للمواد الغذائية بمساعدة شيخ البلدية الفرنسي، وبعد أن التحق مصطفى عمروش بالثورة كانت تصلهم أخبار سكان عين الفكرون أول بأول وضمنها أخبار السرجان صاحب الدكان الوحيد وخاصة في السنوات الأخيرة مباشرة قبل الاستقلال حين أغلقت الدكاكين الأخرى لقطع المئونة عن المجاهدين في الجبال، وبقي وحده يتصرف كما يشاء، يبيع لمن يريد، ويرفض بيع القهوة والسكر والزيت لمن يريد أيضاً. وصلتهم أخبارٌ متعددة تفيد أن السرجان يرفض البيع لعائلات الشهداء والمجاهدين دون أن يصارحهم بالحقيقة. فمرة، السلعة مفقودة ومرة أخرى، يغلق الدكان بمجرد دخول أحد أعضاء هذه العائلات متحججاً بشغل ما خارج القرية، إلى أن حاصرته دورية المجاهدين في بيته وكان مصطفى خارج البيت يحرس الممر، وباغتته في سريره الوثير مطمئناً يغط في نوم لذيذ وأنذرته بالتخلي عن سلوكه المعادي، آمرة أياه ببيع السلعة للجميع دون تمييز وبالكمية التي يطلبونها. في تلك الليلة أقسم السرجان بكل الأنبياء والصالحين والأولياء المعروفين والمغمورين ورؤوس أبنائه، فلذة كبده بأنه لم يقصد ما يظنون بتاتاً بل يفرحه كثيراً مساعدة عائلات الأخوة الأبطال الذين يحررون الوطن من المعمرين الأشرار. ثم قصد غرفة جانبية وأخرج كيساً من المواد الغذائية وأعطاها لهم معلناً نيته الطيبة في مساعدة الثورة. ولكن أثبتت أفعاله فيما بعد بأن الولاء كان مؤقتاً ومصدره الخوف من الذبح لا غير إذ تمادي في تمييزه بين العائلات وأصبحت دوريات الجيش الاستعماري تطوف حول منزله ليلاً وفي أحيان كثيرة يطرقون الباب ويشربون الشاي عنده مستمعين إليه وهو يروي بطولاته المختلفة أيام تجنيده في الجيش الاستعماري. أجهد مصطفى عمروش نفسه لمعرفة هدف الجولة وطاف حول احتمالات متعددة دون أن يتوقف عند واحدة بعينها، وهو ما فتى، يسترق السمع إلى السرجان يسرد ذكريات الماضي. يتقرب الناس البسطاء إلى قسمة الحزب والمجاهدين عساهم يظفرون بامتياز مادي- سكن، قطة أرض، رخصة تاكسي أو فتح محل تجاري.. ويملك السرجان كل هذا وأزيد. فحالته المادية ميسورة ولا يحتاج إلى معونة، بل العكس هو الصحيح إذ يحتاج الناس إليه يطلبون منه المساعدة المادية والقروض المالية وكراء احدى شاحناته الضخمة لنقل البضائع. هذا ما أقلق مصطفى عمروش وحيّره، فجعله يفكر في الأمر أياماً حتى داهمه السرجان في مكتبه بعد خروج كل الموظفين. فمن عادته البقاء في المكتب بعد انتهاء أوقات العمل لقراءة القرارات والنصوص والوثائق التي يتلقاها من الجهاز المركزي للحزب، ليمعن فيها النظر جيداً، إذ يصر على معرفة كل القوانين المتعلقة بوظيفته، وذلك رغم ثقافته البسيطة وقراءته الابتدائية، فهو لم يلتحق بالمدرسة أيام الطفولة، لم يعرف مقاعد الدراسة إلا بعد الاستقلال عبر الدروس الليلية وهو كبير السن حيث تلعم مباديء الكتابة والقراءة حتى أصبح يقرأ الجريدة اليومية ويطالع بعض الكتب المتعلقة بتاريخ الجزائر، ثم توسعت دائرة معارفه وأضحى يقرأ القرآن والسيرة النبوية. وفي حالة غموض بعض العبارات والكلمات يستعين بإبنه البكر الذي يتابع دراسته في الجامعة وهو على وشك التخرج. داهمه السرجان دون إذن، ولم يتفطن له حتى وجده واقفاً بشموخ وكبرياء على عتبة الباب المفتوح دوماً، تسبقه كرشه المنتفخة الفائضة على حزامه السميك العريض، حزام يشبه أحزمة البذل الميدانية للجيش، ربما تكون عادة قديمة تعوّد عليها أيام كان سرجاناً حقيقياً، كان السرجان قصير القامة، ممتلئاً، يهتم بمظهر جسمه ولباسه بحيث يبدو أصغر من سنه الحقيقي الذي يدور حول الستين. يحلق ذقته باستمرار ويحافظ على التسريحة العسكرية لشعره. قبل أن ينبس بكلمة ويلفظ عبارة السلام المعتادة، أحس مصطفى عمروش بوجود شخص ما، فغادر بصره الصفحات الكثيرة المبعثرة على المكتب وتثبت على وجه الدخيل المتطفل الذي لم ير ضرورة الاعلان عن قدومه. ساد صمت قصير بين الرجلين قبل أن ينطلق السرجان في ثرثرة طويلة مسلماً ومعتذراً عن الازعاج المفاجيء.‏
- " كنت ماراً من هنا، شاهدت الباب مفتوحاً، فقلت لنفسي: لِمَ لا أدخل وأسلم علي سي مصطفى الرجل الطيب. يبدو أنك تتأخر كثيراً في المكتب، أنت تحب عملك دون شك" سكت برهة من الزمن تردد في الجلوس حدق حواليه في أثاث الغرفة المربعة الشكل، الضيقة. يظهر علي قسمات وجهه ارتباك ما. حالته مضطربة دون شك، ولم تلفت هذه الحالة من بصر مصطفى النافذ، وخاطب نفسه بأن الزيارة ليست مفاجئة وعادية بل يضمر أمراً ما وراءها، أمراً مهما يجعل السرجان مضطرباً وقلقاً ومرتبكاً في سلوكه، وهو الرجل الواثق من نفسه إلى حد التعالي والغرور. تعتبر الزيارة الأولى نوعها، لم يسبق أن تردد السرجان عليه في مكتبه، بل لا تربطه معه علاقة من أي نوع، طلب منه مصطفى عمروش الجلوس مرحباً، مصطنعاً الفرح والبهجة لحضوره.‏
تبادل الرجلان أخباراً عامة حول الظروف العائلية وأحوال القرية، ثم ساد الصمت من جديد، كانالجو مشحوناً ومكهرباً، تشاغل مصطفى عمروش بجمع الأوراق المبعثرة فوق المكتب، صنفها في تأن ثم أدخلها في الدرج الجانبي، فيما انساق السرجان خلف بصره الذي مسح المكتبة الخشبية الكبيرة برفوفها العريضة الغاصة بالملفات الادارية والوثائق الحزبية والكتب المتنوعة، محاولاً لم شتات تفكيره المتوتر الذي لا يأبي الاستقرار والسكون واراحة الأعصاب، بعد ثوان ثقيلة، تفطن إلى الصمت السائد، فسارع إلى كسره كي لاتنقطع المقابلة فجأة بسبب هذا الفراغ المضجر. هز رأسه ثم اتكأ علي حافة المكتب بذراعيه وقال بصوت يريده هادئاً ومعبراً- "اسمع ياسي مصطفى.. لقد تقدمت في العمر، فلماذا لا تفكر في مستقبلك ومستقبل أولادك، فتطلب التقاعد، وتفتح لنفسك محلاً تجارياً، يوفر عنك المتاعب وتعيش بقية أيامك سعيداً، مستريحاً. فيما تفيدك الوظيفة الحكومية؟ إنك تحرق صحتك وتعشي عينيك في قراءة ما لا ينفع أتظن بأن الحكومة تؤمن بهذه النصوص والقوانين التي تتكلمون عنها يومياً؟ أصحاب المناصب العليا يقولون كلاماً ويسلكون طريقاً يخالف ذلك الكلام أريد أن أصارحك بخبر سري؟‏
توقف عن الكلام، التفت حوله كأنه يحتاط من آذان صاغية، اقترب من محدثه حتى كاد يلامس كتفه ثم باض الاعتراف دفعة واحدة: "في هذه الأيام بالذات، اتصل بي وزير وطلب مني بناء فيلة له في مسقط رأسه، لأنه لا يأمن مستقبله في الوظيفة مهما كان شأنها، وأصرّ أن يبقي الأمر سراً بيننا إلى غاية الانتهاء من تشييدها. أترى ما يحدث ذلك؟ وزير بأكمله غير آمن علي مستقبله. ما رأيك في اقتراحي؟ وإذا اعترضتك عوائق مالية فأنا مستعد لتقديم كل المعونة اللازمة إلى أن تتحسن حالتك فمالي كثير والحمد لله.. آه.. ماذا تقول؟" حدّق في وجهه ملياً، يريد استشفاف الجواب في لحظتها، فيما بقي مصطفى يحفر في عمق مخه بحثاً عن سبب هذه المساعدة الهابطة من السماء التي يستحيل أن تمنح لوجه الله، وحينما لاحظ اصرار نظرة السرجان، قطب حاجبيه وقال بهدوء وثبات- "اسمع مليح ياسي أحمد، لو أردتُ امتهان التجارة لفعلت ذلك مباشرة بعد الاستقلال، كانت الصحة متوفرة والظروف مناسبة، وأنا ما شاء الله كنت في عنفوان شبابي أستطيع الحرث أحسن من الحصان، لربما كنت غنياً مثلك أو على الأقل تكون حالتي المادية أحسن مما هي عليه اليوم وأنا أشغل منصب أمين قسمة لبلدية صغيرة، لا يتعدى مرتبي الشهري ما تصرفه أنت في اليوم الواحد فقط. أما الآن وقد أشرفت على التقاعد وأنا بالفعل تراودني هذه الفكرة منذ مدة، فلا أرى ضرورة لفتح دكان مهما ارتفعت قيمته. من طمع في الغني والثروة فليبدأها في شبابه مثلما فعلت أنت، ولا ينتظر حتى يشيخ ويهرم ثم يقول بسم الله. إذا كانت نيتك فعلاً في المساعدة، فالقرية غاصة بالشبان الذين ينتظرون مثل هذه الغرض لهجرة الفقر والبطالة. أما آنا فقد فاتني القطار" - " أنا أساعد أصدقائي وأحبابي، أساعد الذين ذقنا الملح معاً أيام المحن، أيام كنا حقيقة نشتاق رغيف خبز نسترجع به الحياة إلى أجسادنا، أما اليوم، فهؤلاء الشبان التعساء الذين تحكي عنهم، كسالي، يبحثون عن الثراء السريع دون مشقة ولاعناء، إنهم لا يحبون العمل. تجدهم في المقاهي يمددون أرجلهم حول طاولات الدومينو، والكرطة " ورق اللعب " أو على أرصفة الطرقات يقيسون المسافات وهم يجرجرون الخطى الناعسة، وحينما تقترح عليهم شغلاً يديرون عنك وجوههم.أحلف لك يا سي مصطفى بدم الشهداء الطاهر، بأنني كثيراً ما بحثت عن شبان للعمل في ورشاتي، وأدفع لهم رواتب تفوق رواتب الحكومة، ولكنهم يرفضونه، الجاد والخير فيهم يعمل أسبوعاً أو أسبوعين ثم ينصرف إلى غير رجعة وبدون إذن".‏
انتظر مصطفى عمروش أن ينفجر السرجان ويلفظ السر الذي أوصله إليه ولكنه لم يفعل. وحينما غادرا معاً المكتب وقطعا الشارع الكبير راجلين وقعدا حول طاولة في مقهى هذا الأخير لشرب القهوة، تكلّم الناس وأطلقوا العنان لخيالهم وهواجسهم وقالوا متنهدين بأن الرجل الخير النزيه والأمين في القرية سقط في وحل نقود السرجان ومغرياته، لقد اشترى السرجان كل الناس في هذه القرية بما فيهم رجال الدَرَكْ، فهو يملك نصف المحلات التجارية.والقصر الذي يقطن فيه ، الواقع في الاتجاه الغربي للقرية لم يشاهده الناس إلا في المسلسلات التلفزونية الأمريكية وأثناء بنائه، تسربت أخبار لا تقل غرابتها وطرافتها عن تلك التي تروي في قصص الملوك والأمراء في الحكايات الشعبية، كثر الكلام عن نوعية المواد المستوردة من المرمر والزجاج المدخن والخزف المزخرف والزرابي والأثاث العصري مثل ذلك الذي يحلم الناس برؤيته وهم يبحلقون في الصور الملونة للمجلات النسائية المستوردة من وراء البحر سواء بطريقة رسمية أو مخفية تحت الملابس وبين ثنايا الحقائب المعبأة. أثناء الصيف في حين ينقطع الماء عن سكان القرية كلها، فيقضون جل أوقاتهم في حمل الدلاء "والقَزادِرِ" والجِرِيكانات" من زَنْقَة إلى زنقة بحثاً عن قطرة ماء صالحة للشرب، فداخل القصر يجري الماء أنهاراً، ويفرغ المسبح مرتين في الأسبوع حيث تلجأ العائلة إلى السباحة يومياً لازالة العرق وإبعاد الحرارة الميَهجة.‏
في ذلك اليوم، فقد الناس البسطاء في القرية، خاصة منهم رفاق السلاح الذين رافقوه في السراء والضراء، الأمل في امكانية الافلات من قبضة السرجان القوية. ماذا يفعل مصطفى عمروش مع السرجان؟ شخصيتان لا تلتقيان، ويعرف الكثير من مسني القرية ماذا حدث بينهما قبل سنتين فقط من وقف اطلاق النار. إنها حكاية قديمة ولكن الناس يتذكرون مثل هذه الحوادث ولا يتورّعون عن سردها كلما سنحت الفرصة. جلس الرجلان طويلاً في المهقى وخاضا في شتى الأمور ثم انضم إليهما آخرون وتشعب الحديث وديانا وانهارا إلى أن خيّم الظلام الحالك على القرية وافترق الجميع، والسرجان لم يبح بسره. كان مصطفى عمروش يدرك بأن لحظة الاعتراف الحميمية غير بعيدة، إذ من الصعب استمرار الوضعية على هذه الحالة وتمضي لقاءاتهما في ثرثرة عادية دون أن يجني السرجان ثماراً ما، وهو المشهور بأنه لا يشيد اتصالاته إلا تحت دافع الغريزة المصلحية وهو لا يمل من ترديد المثل الشعبي "اللي ما ينفع ادفع ". في اليوم الثالث بعد اللقاء الثاني، كان مصطفى عمروش يستعد لمغادرة المكتب، فشاهد سيارة السرجان اللامعة تتوقف على الرصيف المقابل لمقر القسمة، ابتسم في سريرة نفسه ولم يندهش لحضوره، بل كان يتوقع رؤيته في أية لحظة خلال الأيام الثلاث الماضية، أغلق باب المكتب واتجه صوبا نحو السيارة، لم يثرثر السرجان طويلاً هذه المرة، فبمجرد الابتعاد عن القرية، بحث عن مكان واسع وهادئ بمحاذاة الطريق وأوقف السيارة في اهتزاز طفيف. أطفأ المحرك والتفت نحو جليسه قائلاً.‏
- " سأكون صريحاً معك ياسي مصطفى، ولا أظنك غبياً بحيث لم تدرك بأنني سأطلب منك خدمة ما. وأظنك متشوق إلى معرفة قصدي"‏
لم يعلق مصطفى عمروش بحرف واحد بل اكتفي بابتسامة ضيقة كاد يبلعها لولا أنها فلتت منه.‏
سكت السرجان لفترة قصيرة محدقاً في المقود. ابتلع ريقه ثم أردف قائلاً:‏
- " أحتاج إلى أمضائك كي أحصل على شهادة المشاركة في الثورة. لا أخفي عنك بأنني اتصلت ببعض المجاهدين وقالوا لي: إذا أمضي لك سي مصطفى، فنحن مستعدون وفي أية لحظة"‏
صعق مصطفى عمروش وكاد يختنق غيظاً ولكنه كتم غضبه ولم يقل شيئاً، كانت كل الاحتمالات ممكنة إلا هذه.‏
يريد السرجان أن يصبح مجاهداً بعد ربع قرن من الاستقلال .. هذه نكتة العصر ..لِمَ لا وكل الخونة أصبحوا يملكون هذه البطاقة كأنها خاتم سيدنا سليمان، تفتح الأبواب الموصدة وتنطق الجماد وتحيي الأموات. سي أحمد السرجان مجاهد.. ها..ها.. بعد أن ملك القرية وما عليها، أراد أن يعيد الاعتبار إلى نفسه، اشترى كل شيء، فلماذا لا يشتري البطاقة ومعها البطولة والشرف والاعتزاز، ولكن ماذا يفعل بها؟ يتهافت الفقراء عليها كي يكسبوا امتيازات مادية، هذا معقول! أما هو فماذا يفعل بها؟ ربما يريد ترشيح نفسه في انتخابات المجلس الشعبي الوطني. لا أظنه يفكر في مثل هذا الأمر. سؤال وحيد خلط مخ مصطفى عمروش بعد أن أفرغ السرجان أخيراً بالسر المكنون في طياته بعد الصداقة المفتعلة والاغراءات المتكررة. ماذا يفعل بالبطاقة؟‏
- أنت تمزح ياسي أحمد! ماذا تستفيد من امتلاكك لهذه الورقة؟‏
- لا أحتاج مالاً ولا سلطة ولا تخسرون معي ديناراً واحداً. إن عدم امتلاكي هذه البطاقة جعل الألسنة تتهمني بالخيانة أثناء الثورة، ويعلم الله أنني لم أبع أحداً ولم أخن.‏
كنتُ تاجراً أميناً وساعدت الأخوة بالمال والمؤونة، وأصارحك بأنهم كانوا يترددون على داري في ليال كثيرة وكنت في كل مرة أزودهم بالمواد الغذائية اللازمة.‏
قاطعه مصطفى عمروش بعنف وانفعال ظاهرين.‏
- لمن تحكي تاريخك ياسي أحمد، أنا أعرف عنك وعن رجال القرية ونسائها كل ما ينبغي أن يُعرف، المرة الوحيدة التي دخل فيها المجاهدون إلى دارك، جاؤوا لانذارك وتهديدك لأنك كنت ترفض البيع لعائلات المجاهدين والشهداء الله يرحمهم برحمته الواسعة وكنت أنا ضمن الفرقة ولكنني آثرت البقاء خارج البيت للحراسة. اترك البير بغطاه، ولا تحرك المزبلة، فقد تنبعث منها روائح نتنة لا ترضيك.‏
خيم صمت مفاجىء وأصبح المكان يضيق بالرجلين كأن السيارة اقفرت فجأة بحيث لا تتسع لجسميهما المكهربين، اقتربت شاحنة ضخمة مكدسة بالأعمدة الخشبية فغطى ضجيجها المكان كله، مرت مسرعة قرب السيارة التي اهتزت قليلاً وتحرك جسما الرجلين بداخلها، مما جعلهما يتنفسان قليلاً ويستردان توازنهما.‏
أضاف مصطفى عمروش مكسّراً الصمت الثقيل.‏
- إنك تعيش في عزّ ونعيم ولا ينقصك شيء وحتى إن امتلكت هذه البطاقة التي تبدو لك سحرية، لا تغير من الوضع شيئاً.. الناس تعرف وتحكي في كل مكان، هل يمكنك منعهم من الكلام؟ طبعاً لا، لا أحد يمنعهم من الكلام حتى إن كان يضره ويهدد وجوده وكيانه.‏
إن امتلكها، يقول الناس أنك اشتريتها بمالك مثلما تشتري أية بضاعة. تريد رأيي صراحة، دعك من هذه البطاقة، فهي لا تزيد فيك شيئاً.‏
انكمش السرجان في مكانه خلف المقود، فقد شجاعته وكبرياءه وأصبح يشبه المومس التي تذل نفسها وتتضرّع أمام " شيكورها " تاه مدة يسترجع قواه ثم قال في نبرة صوت هادئة هي أقرب إلى التوسل منها إلى الطلب العادي.‏
- كن عاقلاً يا سي مصطفى.. لا يكلفك الإمضاء شيئاً، بل ستريح الكثير معي، فخيري كالبحر.. هي بطاقة أضعها في جيبي وكفي.. لا أطلب منكم خدمة ما، فكثير من الناس في القرية وأنت أول من يعرفهم، يملكون بطاقات النضال وهم لم يغادروا ديارهم خلال السنوات السبع. فلماذا ترفض لي أنا بالضبط؟‏
إحتار مصطفى عمروش في الأمر. هل يقول له بأن هذه الأفعال ليست من مسؤوليته وحده بل يوجد من المجاهدين من لا يتردد عن الإمضاء مقابل قسط زهيد من المال. خطرت إلى ذهن السرجان فكرة تواني في البرح عنها. خاف من رد فعل خصمه الذي يعرف بنزاهته. فهو لا يباع ولا يشتري. أدار الفكرة في رأسه مراراً ثم تجرأ وأفرغ الإقتراح دفعة واحدة:‏
- أنا مستعد للدفع أطلب ما تريد وسأحضرها لك في الحين.‏
إندفع مصطفى عمروش وتحرك في مكانه، أراد النهوض، لمس برأسه السقف الداخلي للسيارة: نسي أنه بداخلها، فتح الباب وقبل أن يخرج أدار رأسه كلية نحو السرجان وصرخ بغيظ:‏
- المسألة مسألة ضمير وليست مسألة مال، ثم اسمع لي جيداً، سأبوح لك بسرٍّ طالما كتمته في قلبي. من باع "سعيد سِتْواح" المجاهد الجريح الذي كان مختفياً في دارلالة فطومة آه.. قل لي.. من أوصل الخبر إلى "مِسْيو غُومِيز" الذي أوصله بدوره إلى الجيش الفرنسي؟‏
أنت محظوظ، وعمرك طويل.. عرفت الخبر بعد الاستقلال بسنوات، لو عرفته في حينه لـ.. وبانفعال شديد، غادر السيارة ضارباً الباب بقوة واتجه نحو القرية راجلاً وغاضباً يأكل نفسه من الندم لأنه لم يعرف الخبر في الوقت المناسب، ولو عرف الخبر في حينه لذبح السرجان بسكين صدئة كي يطلق شخيراً مثل شخير الحلوف البري ويصارع الموت ليلة كاملة قبل أن يلفظ أنفاسه.‏
لم يلتفع نحو السرجان الذي خرج هو أيضاً من السيارة راكضاً وراءه، صائحاً:‏
- إنك تظلمني.. أقسم لك بشرفي وأمي المدفونة تحت التراب وبدم الشهداء الطاهر أنني لم أبع أحداً.. من قال لك هذا الكلام؟ أنا مستعد لمواجهته.. أنا بريء.. أنا بريء.. كان يتوسّل يتضرّع، يريد أن يبكي، أن يفعل أي شيء لاثبات براءته أمام مصطفى الذي واصل سيره ولم يهتم بكلامه. كان مقتنعاً بفعل الخيانة، اقتناعاً راسخاً لا يزحزحه زالزال مهما كان عنفوانه، كان يفكر بسرعة جنوينة، ومخه يغلي غلياناً بركانياً وصوت العجوز التي اعترفت له بالسر يرن في أذنيه، مدوياً ومتحدياً كل الأصوات، كأنه يستمع إليه في اللحظة نفسها، رغم مرور سنوات طويلة منذ ذلك اليوم الذي قاده الطريق إلى إحدى الدشور المجاورة للقرية، وأثناء عبوره الدروب الملتوية، صادف عجوزاً ترعى بعض الماعز فسلم عليها وردت عليه منادية إياه باسمه، فسألها إن كانت تعرفه فأجابته: تعرف الأسود في كل مكان.‏
كان متعباً من المشي، فاغتنم الفرصة ليستريح قليلاً، وتجاذب معها أطراف الحديث فاتضح أنه يعرف ابنها الشهيد ابراهيم الذي قتل في احدى المعارك. وقالت أن لها ابنا آخر هاجر إلى فرنسا ولم تعد تسمع عن أخباره شيئاً، فلولا بناتها الخمس لماتت جوعاً وافترس الذئاب جثتها الهزيلة الناشفة. كانا على قمة رابية، والقرية تبدو واضحة المعالم في الأسفل وكانت الأشغال قد انطلقت في تشييد قصر السرجان وكان قد كثر الحديث العجيب عن أسرار قصره من الداخل. نطقت دون مقدمات:‏


- الخونة يمتلكون نفس امتيازات المجاهدين أو أكثر، أما عائلات الشهداء فقد نسيها الجميع ولم يهتم بها أحد. السرجان الخائن الذي باع الشهيد سي السعيد أصبح اليوم آمناً ومرفها يبني القصور،وزوجة سي السعيد تعمل خدامة في المدرسة مع النشاف والمكنسة.‏
تساءل مصطفى عمروش مستقصياً:‏
- ماذا تقولين؟ السرجان هو الذي باع سي السعيد للجيش الفرنسي، من أين لك هذا الخبر الخطير؟‏
- نعم يا سي مصطفى السرجان التاجر العظيم اليوم هو الذي أخبر مسيو غوميز بمكان اختفاء سي السعيد يرحمه الله برحمته الواسعة.. كنت خادمة عند "مسيو غوميز المير" وكان السرجان يتردد باستمرار على داره ليفيده ببعض أخبار المجاهدين، ثم مباشرة بعد انصرافه، يتصل "مسيو غميز " هاتفياً، بالقبطان الفرنسي في "لاصاص" ليتخذ الاجراءات اللازمة ضد الجبهة.‏
وذات مرة كنت أستعد للخروج من عند مسيو غوميز حين دخل السرجان لاهثاً وبعد التحية مباشرة عرفه بمكان وجود المجاهد الجريح، وفي لحظتها رفع مسيو غوميز التليفون واتصل بالقبطان، انصرفت وكاد الغضب ينسيني لباس "الحايك"، آكل نفسي من العجز والضعف أقلهم ، وقبل أن أغادر القرية، كانت السيارات العسكرية تحاصر دار لالة فطومة، عدت إلى هذا القربي الذي تراه أمامك، فهو لم يتغير وما زال على حاله منذ بناه زوجي رحمه الله بعد حرب الألمان، بت ليلة سوداء وبكيت بكاء مراً علي سي السعيد وعلى زوجي الذي كان قد توفي قبل ذلك بأقل من نصف سنة وهو يتقبأ الدم من صدره المهرس.‏
في تلك الليلة لم أكف عن طلب الله بأن ينزل عقوبة جهنمية على السرجان يسخطه ويحوله إلى كلب أجرب أو جيفة نتنة. ولكن حكمة الله فوق الجميع. عاش السرجان وكل يوم يمر يزداد غني وتجبرا.‏
- ولكن لماذا لم تخبري المجاهدين؟‏
- من أين لي أن أعرف وجه المجاهدين؟ كنا نسمع عنهم ويصلنا دوي الرصاص في الجبال والوديان ولكننا لا نعرف أحداً منهم. كان ابني ابراهيم معهم ولم أره بعد صعوده أبداً.‏
أخبرنا أحدهم بأنه سقط شهيداً في أحد الوديان ولم نتشرف حتى بدفنه ولا نعرف قبره إلى حد الآن، كنت عجوزاً خفت من بطش "مسيو غوميز" والسرجان، كنت مغلوبة على أمري وحيدة مع بنائي الخمسة وابني الذي لا يتجاوزالخامسة من عمره. كنا نسكن في هذا الكوخ وحدنا، لا رجل يحمينا، كانت الظروف قاسية.. والآن تعرف الحقيقة ولكن لا يمكن أن نتكلم. لو يسمع السرجان يستعين بالدرك ويطردوننا من كوخنا وربما يدخلوننا الحبس.. إنه قوي والحكومة معه.. انظر إلى قصره فقط كيف يبنيه بدون مساعدة الحكومة.‏
تنبه مصطفى عمروش إلى السبب الذي أدى إلى عدم ضبط السرجان متلبساً بالخيانة، كان يتصل برئيس البلدية الذي يتصل بدوره بالجيش والدرك. حسب لها حسابات ملتوية. في تلك اللحظة فكر في ذبح السرجان أو قتله بالرصاص وراودته الفكرة أياماً ثم اندثرت.‏
كتم السر لنفسه، إذ لا تفيد إذاعته في شيء. العفو الشامل يحمي كل الخونة والحركة إلى الأبد.‏
أدرك سكان قرية عين الفكرون المتراصفين داخل المقاهي حول الكارطة والدومينو والمتسكعين عبر الشاعر الكبير الوحيد يذرعونه ذهاباً واياباً في استمرارية رتيبة لقتل الوقت وجلب التعب لأجسامهم الرخوة كي يتمكنوا من النوم في هذه الليالي القائظة،أن خلافاً حاداً دبَّ بين الرجلين وأن الصراع لا ينتهي بخير منذ شاهدوا السرجان راجعاً وحده في سيارته بعد أن غادر القرية برفقة مصطفى عمروش.‏
ارتعدت أوصالهم وتخيلوا أشياء لا تحدث دائماً إلا في أفلام العنف والمغامرات التي يشاهدونها يومياً مسمرين أمام أجهزة التلفزيون، هذه الأجهزة التي انتشرت مثل الجراد حتى أصبحت العائلة الواحدة الساكنة في شقة واحدة تملك ثلاثة منها تفادياً للمناظر المحرمة اللاأخلاقية حفاظاً على مظاهر الشرف والأصالة، فيختلي الأولاد بجهاز في غرفة وتتحاشر البنات أمام جهاز ثاني وينفرد الأب مع زوجته بجهاز ثالث في غرفته كي يشاهد ما يقدم من الأفلام دون خجل أوحرج من أي نوع. أما العائلة التي قابلتها الدنيا بأستها وتتحاشر مرغمة في غرفة واحدة، فيكتفي أفرادها بالتنحنح والانشغال بالحديث المفتعل كما ظهرت فاتنة على الشاشة تعرض مفاتنها المغرية.‏
وخافوا أن يكون السرجان قد عملها وتخلص من مصطفى عمروش في لحظة غضب، ولكنهم سرعان ما تنفسوا الصعداء وهم يشاهدون هذا الأخير قادماً تجاه القرية يمشي بسرعة على حافة الطريق منشغل البال ومضطرب الحال يكتم غيظاً عظيماً، أصر مصطفى عمروش على العودة إلى القرية راجلاً رغم توسلات السرجان الذي تبعه، واقتفى أثره راكضاً على قدميه أول الأمر ثم امتطى سيارته ولحق به طالباً منه الركوب تفادياً لكلام الناس وتمتماتهم القائلة.‏
ماذا يكون موقف أهل القرية بعدما يشاهدوا الرجلين عائدين منفردين وقد غادرا القرية في سيارة واحدة، ولم ينطق مصطفى عمروش بحرف واحد ، تابع سيره مطرقاً رأسه ومقسماً مع نفسه أن لا يمتطي سيارة السرجان أبداً حتى ولو عاش قرناً ونيفاً من الزمن وأصيب بشلل كلي ووجدنفسه منعزلاً في مكان قفر خال تماماً من السيارات إلا سيارته لما ركبها ولتحمل الزحف على البطن مثل الدودة التي لا حول لها ولا قوة عبر كل الدروب الملتوية الوعرة إلى أن يلفظ آخر أنفاسه ويستريح.‏
كتم الرجلان سرّ الخلاف ولم يروياه لأحد. ورغم ذلك روى الناس حكاية الاختلاف بتفاصيل كثيرة، كأنهم كانوا محلقين حول السيارة يشاهدون ويسمعون ما يجري بداخلها أو أنهم يسردون حكاية شاهدوا وقائعها في التلفزة.‏
عرف أهل القرية أن السرجان طلب شهادة نضال في صفوف الثورة وأن مصطفى عمروش رفض الامضاء، واتهمه بالخيانة.‏
ولم يتوقف الصراع عند هذا الحد بل تعمق وتشعب مع ما يرويه الناس من حكايات من ماضي الرجلين حيث ارتفع عندهم الحماس في نبش قبور الذاكرات ونفض الغبار ونزع خيوط العنكبوت عن كل صغيرة وكبيرة تخص حياتهما. يترقب الجميع تصرف كلا الرجلين ويتشوقون لروايتها كل مساء كنشرة أخبار يومية، في البداية كان الصراع ملغماً ولكنه صامت دون مواجهة، ثم تجذر موقف السرجان وتطرف، حيث إنفلت من السر والكتمان إلى الجهر والعلائية. فراح يعلن في الملأ لزملائه وبصوت جهوري مرتفع في نبرة متحدية:‏
- سأخذ البطاقة بالمليح أو القبيح، سأخذها رغم أنف مصطفى عمروش الذي يحسب نفسه المجاهد الوحيد في هذه القرية.. كلنا ساعدنا الثورة..المجاهدون كانوا يترددون على داري ونجلس الليالي الطوال نتحدث في أمور تخص استقلال البلاد. كنا نخطط إلى ما بعد الثورة وكنت أزودهم بمعلومات سرية عن الجيش الفرنسي، وخططه العسكرية، كنت أعرف كل شيء عنه، تعلمتها أيام كنت في صفوفه.. في حرب الألمان.. وفي حرب الأندوشين.. ماذا كان مصطفى هذا؟‏
- حارساً لمغاور لاغير ، ولم يشارك في أية معركة بل كان يعجن مع زوجته ويحضران الأكل للمجاهدين الحقيقين . كان مثل المرأة تماماً .. واليوم ينصب نفسه وصياً عن الثورة‏
سنرى من هو الأقوى.. سأتصل بأصدقائي المجاهدين الحقيقيين في العاصمة وسيطردونه من مكانه، إن لم أكن أنا السرجان.. وإلا ما كنت أنا سرجانا.‏
كان يتكيء على الجانب الخارجي للكونطوار الطويل داخل مقهاه، يحيط به مجموعة من الرجال من أصدقائه ومن بعض المعارف البعيدين الفضوليين، يتعمد رفع صوته كي يسمع الصالة بكاملها، يتظاهر الجالسون بلعب الدومينو ولكن كل جوارحهم متيقظة لاستقبال حديثه والتمتع بعد ذلك بروايته. ويصل الخبر إلى مصطفى عمروش مباشرة بعد اذاعته، لربما يكون السرجان لم يغادر المقهي بعد، تنتشر الأخبار بسرعة البرق. ولا يُخفي خبر مهما كان خطيراً، بل بالعكس نوعية هذه الأخبار غير العادية هي التي يتسارع الناس ويتلذذون في روايتها. الكل يعرف الكل عن الكل، لم يتسرّع مصطفى عمروش إلى الاجابة عن اشاعات خصمه بل تريث وانتظر أن تمر الزوبعة بسلام، رغم الانفعال والغضب الظاهرين على قسمات وجهه وأصابعه المرتعشة قليلاً وبريق عينيه السوداوين اللتين تحلمان بانتقام ما، يكون لون الدم الأحمر القاني هو اللون الطاغي على كل الألوان مهما تضاعفت كثافتها. نصحه بعض أصدقائه المقربين بتجنب شر السرجان وبطشه. إنه قوي بماله وعلاقاته المتشعبة مع مسؤولين كبار في الدولة بل منهم من قالها صراحة دون التواء، الامضاء والتخلص من الأشكال، إنها بطاقة بسيطة لا تنفعه في شيء ولا تضر منظمة المجاهدين، هو شيخ بدأ يخرف يملك كل شيء إلا هذه البطاقة التي يتصور أنها ستعيد إليه الاعتبار، ربما يشعر بالندم من تصرفاته إبان الثورة ويريد إراحة ضميره. كاد مصطفى عمروش يعترف جهراً بواقعة الخيانة وأن الذي باع مجاهداً جريحاً مصاباً بخمس رصاصات إلى الجيش الفرنسي يستحق الذبح أو الشنق أو الدفن حياً.‏
فكيف يمنح بطاقة نضال لخائن كان يتبختر في النعيم فيما كان الثوار مطاردين كالذئاب عبر الأودية والغابات الموحشة، هروباً دوماً من القنابل المحرقة والتمشيط العسكري الشامل متحملين البرد القارس وارتفاع حرارة الطقس والجوع والعري والحفى، ولكنه تراجع في نهاية المطاف متحججاً بعدم تعميق وتوسيع الجرح، بعد أيام سيصمت السرجان وينشغل بأعماله وينسي قصة البطاقة، نهائياً، خمن هذا الكلام دون أن يحسب حساباً لتعنت السرجان وإلحاحه على أخذ البطاقة مهما كلفه ثمنها.تعود ريح كل القضايا التي يخوضها، فما معنى أن يخسر هذه بالذات؟ فلم يتراجع ولم يتنازل عما أسماه حقاً شرعياً له، بل طفق يعلن جهراً في كل مناسبة وفي كل مكان عن نيته في أخذ البطاقة النضالية ومن امضاء مصطفى عمروش نفسه مستعداً لاستعمال كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة فهو قادر على صنع المعجزات.. إنه السرجان سي أحمد تكوش.. من لا يعرفه في المنطقة؟ تجاوزت أخباره قرية عين الفكرون وتسربت إلى غاية العاصمة، ابتدأ من لا شيء وجمع ثروة ضخمة تعجز عن عدها الحاسبة الالكترونية ويمكنه الافتخار بدون خجل أنه من بين أكبر أثرياء البلاد إن لم يكن أثراهم جميعاً مثلما يحلو له أن يعلق مزهواً.‏
اتصل بالمجاهدين واحداً واحداً وكلمهم عن نيته التي وصفها بالشرعية وأن مطلبه حق من حقوقه مثله مثل غيره من الناس، ثم ذكَّرهم بأسماء رجال يملكون البطاقة النضالية وهم لم يغادروا ديارهم طوال السنوات السبع، بل كان بعضهم يغازل السلطة الاستعمارية ولم يكن يتردد في افشاء أسرار مهمة تسيء إلى الثورة، ومن هذه النقطة توسع الصراع ولم يبق بين الخصمين بل مس مجموعة من الذين تحصلوا علي البطاقة بطرق ملتوية مع فوضي الاستقلال. هدد السرجان بفضح الأسماء المزورة إذا رفضت له البطاقة، وأضاف أنه يملك معلومات خطيرة عن بعضهم.‏
بعد مد وجزر، قررت المنظمة عقد اجتماع طاريء لتدارس الوضع تفادياً لتدهور وتسرب بعض المعلومات إلى السلطة العليا التي ستوفد لجنة للمراقبة والتحري في القضية، هكذا خرج مصطفى عمروش مبكراً في هذه الصبيحة القائظة متوجهاً نحو مقر المنظمة ليترأس الاجتماع المصيري الذي سيفصل في الأمر بصفة نهائية حينما التقي في طريقه بالسرجان والحاج محمد مجبور. لو كان الأول وحده لما توقف. كان الحاج مجبور طاعناً في السن يتجاوز السبعين ومجاهداً قديماً من السنوات الأولى للثورة، اعتزل الحياة في السنوات الأخيرة وبالضبط منذ أدائه لفريضة الحج لم يعد مصطفى عمروش يراه إلا نادراً ، تقدم نحو السيارة سلم علي الحاج مجبور، متجاهلاً السرجان الذي اشتم بدوره توتر الجوّ ولزم السكوت مكتفياً بالسماع. قال الحاج مجبور في نبرة الخاشع والواعظ الديني.‏
- صلي على النبي ياسي مصطفى.. وقدر الموقف برزانة وحكمة، بطاقة تُرضي غرور شيخ مسنّ، لا تضر أحداً... فهو لم يخن علي أية حال وأكد أنه دفع الاشتراكات للجبهة.. نحن لا نريد مشاكل في هذه القرية، وبماله يساعد البلدية في اتمام مشاريع متعددة وهو مستعد لبناء مسجد كبير بثروته وعماله وألاته دون مساعدة من أحد، إنه يطلب التوبة.‏
فكن حكيماً وقف بجانبه في الاجتماع أو على الأقل التزم الحياد واترك الجماعة تقرر..‏
لم يكن مصطفى عمروش ينتظر مثل هذا الموقف من صديقه القديم. تأمله قليلاً، هز رأسه بمرارة وقال: الله يهديك ياسي الحاج... أنت زرت بيت الله وقبر النبي المصطفى، وانعزلت للعبارة، فما الذي حشرك في هذه الزوبعة؟ عد إلى دارك ودعك من المشاكل... قفل راجعاً بعد ذلك وأتمم بقية المسافة دون أن يتوصل إلى تنظيم تفكيره وازالة الاضطراب والتوتر، استرسل في خطاب داخلي منفعل تكاد الكلمات تطفو على شفتيه اليابستين من ارتفاع الحرارة:‏
" إذا أراد التوبة فليطلبها من الله، هو وحده الذي يقبلها أو يرفضها... أما البطاقة فما دمت حياً وفي هذا المنصب أقسم بروح كل الشهداء الأبرار أنه لن يراها... سأفضحه في الاجتماع بحضور الجميع، أتوقع أن يسانده كثير من أخواننا المجاهدين الذين لا يعرفون الحقيقة أو أشباه المجاهدين الذين لا يملكون من الجهاد إلا البطاقة، ولكني سأرفض رفضاً قاطعاً، أن أتنازل عن موقفي، لن ألطخ ذكرى سي السعيد ومعه كل الشهداء.‏
قاوم البطل التعذيب المرعب أسبوعاً بأكمله رغم الجرح ولم ينطق الا صراخاً وأنيناً.‏
يتصور مسيو السرجان أنه يشتري كل شيء بماله.. فليبن مسجداً بل آلاف المساجد... ماذا تفعل قرية عين الفكرون بالمسجد؟ يصلي المسلم في أي مكان... ومسجدنا يكفي لجمهور المصلين، توجد أشياء لا تشترى حتى بالذهب الخالص. لم أبع كرامتي بالأمس ولن أبيعها اليوم وأنا لم يبق لي من الدنيا إلا القليل."‏
أشرف علي مقر القسمة فلاحظ جمهوراً غفيراً من الرجال كهولاً وشيوخاً وافقين وسط الساحة في حلقات ثنائية وثلاثية ورباعية يتجاذبون أطراف الحديث في حماس ظاهر وملفت للانتباه، لحظة تشبه فترة انتخابات المجلس الشعبي البلدي. حينما اجتاز سياج الحديقة هرع الجميع يسلمون عليه، مصافحين ومقبلين، فأنشغل بالحديث مع رفاق السلاح وأصدقاء الطفولة متناسياً لفترة ما قلقه وترتر أعصابه وملاحقة السرجان له حتى في أحلامه.‏

__________________
  #2  
قديم 10-14-2007, 12:59 AM
 
رد: الفصل الاول من روايت(البطاقة السحريه)



اخي العزيز
وتقبل مروري
__________________

الوقت يداهمني والعمر يسرقني

لكن لا املك سوى شكر لكل من تقبلني في هذا المنتدى
واتمنى من الله ان يجمعنا في الجنان العليا




اخوكم


سامر البطاوي




  #3  
قديم 10-15-2007, 12:58 AM
 
رد: الفصل الاول من روايت(البطاقة السحريه)

مشكور00اخوي
والله يعطيك العافيه
__________________
رحلة الألف ميل تبدأبخطوة
متى وجدت الإرادة والصبر زالت الصعاب
احسن وسيلة للتغلب على الصعاب اختراقها
لانعرف قيمة مالدنيا حتى نخسرة
ليس الفخر أن لانسقط بل أن ننهض كلما سقطنا
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دليل المسافر الى المملكة العربية السعودية بــو راكـــــان أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 16 04-01-2007 12:02 AM
مسلسل كرتوني للكبار هدفه السخريه و الاستهزاء بديننا و وطننا saad0com نور الإسلام - 6 01-08-2007 05:51 PM


الساعة الآن 06:48 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011