عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام الإسلامية > نور الإسلام -

نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-15-2011, 10:31 AM
 
Post كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى وما يكره منها وما يحرم

بسم الله الرحمن الرحيم



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتاب » الجامع لأحكام القرآن » :



باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى وما يكره منها وما يحرم واختلاف الناس في ذلك :



مسألة: الجزء الأولالتحليل الموضوعي

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : كَانَ يَمُدُّ مَدًّا إِذَا قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْفَاتِحَةِ : 2 ] ثُمَّ يَقِفُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ الْفَاتِحَةِ : 3 ] ثُمَّ يَقِفُ ، وَكَانَ يَقْرَأُهَا : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) [ الْفَاتِحَةِ : 4 ] قَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِنَحْوِهِ .

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا مَنْ إِذَا قَرَأَ رَأَيْتَهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى .

وَرُوِيَ عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ مَعَ الْقُرَّاءِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقِيلَ لَهُ : اقْرَأْ . فَرَفَعَ صَوْتَهُ وَطَرَّبَ ، وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ ، فَكَشَفَ أَنَسٌ عَنْ وَجْهِهِ ، وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ : يَا هَذَا ، مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ! وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ ، كَشَفَ الْخِرْقَةَ عَنْ وَجْهِهِ . وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ أَنَّهُ [ ص: 30 ] قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الذِّكْرِ . وَمِمَّنْ رُوِىَ عَنْهُ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيد بْنُ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرُهُمْ ، وَكَرِهَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ; كُلُّهُمْ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبَ فِيهِ . رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَؤُمُّ النَّاسَ فَطَرَّبَ فِي قِرَاءَتِهِ ; فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَعِيدٌ يَقُولُ : أَصْلَحَكَ اللَّهُ ! إِنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَقْرَأُ هَكَذَا . فَتَرَكَ عُمَرُ التَّطْرِيبَ بَعْدُ . وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَرَّبَ ; فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَاسِمُ وَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [ فُصِّلَتْ : 41 ] لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [ فُصِّلَتْ : 42 ] الْآيَةَ .

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ ; فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً ، وَأَنْكَرَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَلْحَانِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي ، وَقَالَ : إِنَّمَا هُوَ غِنَاءٌ يَتَغَنَّوْنَ بِهِ لِيَأْخُذُوا عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ . وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبَ بِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَ الصَّوْتُ بِهِ كَانَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَسْمَعَ فِي الْقُلُوبِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : زَيَّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ . وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ . وَبِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا . وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ . وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ .

قُلْتُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَأْتِي . وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ ; أَيْ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ ; وَقَالُوا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ ; كَمَا قَالُوا : عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ . قَالَ : وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ ; فَقَدَّمَ الْأَصْوَاتَ عَلَى الْقُرْآنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَرَوَاهُ طَلْحَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : زَيَّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ . أَيِ الْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاشْغَلُوا بِهِ أَصْوَاتَكُمْ وَاتَّخِذُوهُ شِعَارًا وَزِينَةً ; وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّءُوبُ عَلَيْهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ . [ ص: 31 ]

قُلْتُ : وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ; كَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِ مُلَيْكَةَ . قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْوَرْدِ : سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ : مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَاتَّبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ . قَالَ : فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ ؟ قَالَ : يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ . ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَسَّنْتُ صَوْتِيَّ بِالْقُرْآنِ ، وَزَيَّنْتُهُ وَرَتَّلْتُهُ . وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ يَهُذُّ فِي قِرَاءَتِهِ مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ . وَالتَّحْبِيرُ : التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ ; فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْمَعُهُ لَمَدَّ فِي قِرَاءَتِهِ وَرَتَّلَهَا ; كَمَا كَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي حُسْنِ صَوْتِهِ بِالْقِرَاءَةِ . وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ : إِنَّ الْقُرْآنَ يُزَيَّنُ بِالْأَصْوَاتِ أَوْ بِغَيْرِهَا ; فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا فَقَدْ وَاقَعَ أَمْرًا عَظِيمًا أَنْ يُحْوِجَ الْقُرْآنَ إِلَى مَنْ يُزَيِّنُهُ ، وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ وَالزَّيْنُ الْأَعْلَى لِمَنْ أُلْبِسَ بَهْجَتَهُ وَاسْتَنَارَ بِضِيَائِهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّزْيِينِ اكْتِسَابُ الْقِرَاءَاتِ وَتَزْيِينُهَا بِأَصْوَاتِنَا وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ، أَيْ زَيِّنُوا الْقِرَاءَةَ بِأَصْوَاتِكُمْ ; فَيَكُونُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [ الْإِسْرَاءِ : 78 ] أَيْ قِرَاءَةَ الْفَجْرِ ، وَقَوْلِهِ : فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [ الْقِيَامَةِ : 18 ] أَيْ قِرَاءَتَهُ . وَكَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَيُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا ; أَيْ قِرَاءَةً . وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :


ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا


أَيْ قِرَاءَةً . فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يُخْرِجَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي هِيَ التِّلَاوَةُ عَنْ حَدِّهَا - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - فَيُمْتَنَعُ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ ، يَسْتَغْنِي بِهِ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِافْتِقَارِ ، لَا مِنَ الْغِنَاءِ ; يُقَالُ : تَغَنَّيْتُ وَتَغَانَيْتُ بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْتُ . وَفِي الصِّحَاحِ : تَغَنَّى الرَّجُلُ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى ، وَأَغْنَاهُ اللَّهُ . وَتَغَانَوْا أَيِ اسْتَغْنَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ . قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبْنَاءَ التَّيْمِيُّ :


كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ وَنَحْنُ إِذَا مُتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا


وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَيْضًا وَجْهٌ آخَرُ ، ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، أَيْ : يُسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ . وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لِإِتْبَاعِهِ التَّرْجَمَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [ الْعَنْكَبُوتِ : 51 ] . وَالْمُرَادُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ [ ص: 32 ] عِلْمِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ ، يَتَحَزَّنُ بِهِ ; أَيْ يَظْهَرُ عَلَى قَارِئِهِ الْحُزْنُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السُّرُورِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَتِلَاوَتِهِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْغَنِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْغَنِيَّةِ لَقَالَ : يَتَغَانَى بِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ يَتَغَنَّى بِهِ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ . الْأَزِيزُ ( بِزَايَيْنِ ) : صَوْتُ الرَّعْدِ وَغَلَيَانِ الْقِدْرِ . قَالُوا : فَفِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ التَّحَزُّنُ ; وَعَضَّدُوا هَذَا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اقْرَأْ عَلِيَّ ! ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ " حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ الْنِسَاءِ : 41 ] فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ . فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ ، لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ قَالَ : كَانَتِ الْعَرَبُ تُولَعُ بِالْغِنَاءِ وَالنَّشِيدِ فِي أَكْثَرِ أَقْوَالِهَا ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ هِجِّيرَاهُمْ مَكَانَ الْغِنَاءِ ; فَقَالَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ .

التَّأْوِيلُ الْخَامِسُ : مَا تَأَوَّلَهُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى التَّرْجِيعِ وَالتَّطْرِيبِ ; فَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ قَالَ : ذَكَرْتُ لِأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ تَأْوِيلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ : " يَتَغَنَّ " يَسْتَغْنِى ; فَقَالَ : لَمْ يَصْنَعِ ابْنُ عُيَيْنَةَ شَيْئًا . وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ : نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا ، لَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِغْنَاءَ لَقَالَ : مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ ، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ : " يَتَغَنَّ " عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ التَّغَنِّي . قَالَ الطَّبَرَيُّ : الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ التَّغَنِّي إِنَّمَا هُوَ الْغِنَاءُ الَّذِي هُوَ حُسْنُ الصَّوْتِ بِالتَّرْجِيعِ . وَقَالَ الشَّاعِرُ :


تَغَنَّ بِالشِّعْرِ مَهْمَا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ بِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ


قَالَ : وَأَمَّا ادِّعَاءُ الزَّاعِمِ أَنَّ " تَغَنَّيْتُ " بِمَعْنَى " اسْتَغْنَيْتُ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ ; وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى :


وَكُنْتُ امْرَءًا زَمِنًا بِالْعِرَاقِ عَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنْ




وَزَعْمَ أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ فَإِنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا عَنَى الْأَعْشَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : الْإِقَامَةَ ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : غَنِيَ فَلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَامَ ; وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [ الْأَعْرَافِ : 92 ] ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِهِ :


وَنَحْنُ إِذَا مُتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا
فَإِنَّهُ إِغْفَالٌ مِنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ التَّغَانِيَ تَفَاعُلٌ مِنْ نَفْسَيْنِ إِذَا اسْتَغْنَى كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ; كَمَا يُقَالُ : تَضَارَبَ الرَّجُلَانِ ، إِذَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ . وَمَنْ قَالَ هَذَا فِي فِعْلِ الِاثْنَيْنِ لَمْ [ ص: 33 ] يَجُزْ أَنْ يَقُولَ مَثْلَهُ فِي الْوَاحِدِ ; فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : تَغَانَى زَيْدٌ وَتَضَارَبَ عَمْرٌو ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى .

قُلْتُ : مَا ادَّعَاهُ الطَّبَرَيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ أَيْضًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَنَّ صِيغَةَ " فَاعَلَ " إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ جَاءَتْ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; مِنْهَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ . وَتَقُولُ الْعَرَبُ : طَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ; فَيَكُونُ " تَغَانَى " مِنْهَا . وَإِذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " يَتَغَنَّ " ، الْغِنَاءَ وَالِاسْتِغْنَاءَ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأُولَى مِنَ الْآخَرِ ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ أَوْلَى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا تَأْوِيلٌ غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ كَمَا ذَكَرَ سُفْيَانُ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ فِي حَقِّ سُفْيَانَ : مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ وَعَاصَرَهُ .

وَتَأْوِيلٌ سَادِسٌ : وَهُوَ مَا جَاءَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ قَالَ الطَّبَرَيُّ : وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ " حَسَنِ الصَّوْتِ " وَالْجَهْرِ بِهِ مَعْنًى . قُلْنَا قَوْلَهُ : ( يَجْهَرُ بِهِ ) لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَفِيهِ بُعْدٌ ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّطْرِيبِ وَالتَّرْجِيعِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : يُطَرِّبُ بِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : يَجْهَرُ بِهِ ، أَيْ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلَّذِي سَمِعَهُ وَقَدْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيلِ : أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا . . . الْحَدِيثَ . وَسَيَأْتِي . كَذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ ; وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ رَفْعَ صَوْتَهُ وَوَالَى بِهِ غَانِيًا وَفِعْلَهُ ذَلِكَ غِنَاءً وَإِنْ لَمْ يُلَحِّنْهُ بِتَلْحِينِ الْغِنَاءِ . قَالَ : وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِيُّ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَقَامِ وَأَقْعَدُ بِالْحَالِ .

وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ : وَقَدْ رَفَعَ الْإِشْكَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَغَنُّوا بِهِ وَاكْتُبُوهُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْمَخَاضِ مِنَ الْعُقُلِ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ فَيَرُدُّهُ مَا يُعْلَمُ عَلَى الْقِطَعِ وَالْبَتَاتِ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بَلَغَتْنَا مُتَوَاتِرَةً عَنْ كَافَّةِ الْمَشَايِخِ ، جِيلًا فَجِيلًا إِلَى الْعَصْرِ الْكَرِيمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فِيهَا تَلْحِينٌ وَلَا تَطْرِيبٌ ، مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ [ ص: 34 ] وَفِي الْمَدِّ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ . ثُمَّ إِنَّ فِي التَّرْجِيعِ وَالتَّطْرِيبِ هَمْزُ مَا لَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَمَدُّ مَا لَيْسَ بِمَمْدُودٍ ; فَتَرْجِعُ الْأَلِفُ الْوَاحِدَةُ أَلِفَاتٍ وَالْوَاوُ الْوَاحِدَةُ وَاوَاتٍ وَالشُّبْهَةُ الْوَاحِدَةُ شُبَهَاتٍ ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَوْضِعَ نَبْرٍ وَهَمْزٍ صَيَّرُوهَا نَبْرَاتٍ وَهَمْزَاتٍ ، وَالنَّبْرَةُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنَ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا هِيَ هَمْزَةٌ وَاحِدَةٌ لَا غَيْرَ ; إِمَّا مَمْدُودَةٌ وَإِمَّا مَقْصُورَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ " الْفَتْحِ " عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ ; وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ فِي صِفَةِ التَّرْجِيعِ : آء آء آء ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .

قُلْنَا : ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى إِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ صَوْتِهِ عِنْدَ هَزِّ الرَّاحِلَةِ ; كَمَا يَعْتَرِي رَافِعَ صَوْتِهِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا مِنَ انْضِغَاطِ صَوْتِهِ وَتَقْطِيعِهِ لِأَجْلِ هَزِّ الْمَرْكُوبِ ; وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ . وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدَّ لَيْسَ فِيهَا تَرْجِيعٌ . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِذَا كَانَ أَذَانُكَ سَمْحًا سَهْلًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ فَأَحْرَى أَلَّا يُجَوِّزَهُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ الرَّحْمَنُ ، فَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] . وَقَالَ تَعَالَى : لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فُصِلَتْ : 42 ] .

قُلْتُ : وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَى الْقُرْآنِ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ التَّرْجِيعَاتِ ، فَإِنْ زَادَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ ; كَمَا يَفْعَلُ الْقُرَّاءُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ أَمَامَ الْمُلُوكِ وَالْجَنَائِزِ ، وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُجُورَ وَالْجَوَائِزَ ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ ، وَخَابَ عَمَلُهُمْ ، فَيَسْتَحِلُّونَ بِذَلِكَ تَغْيِيرَ كِتَابِ اللَّهِ ، وَيُهَوِّنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي تَنْزِيلِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ ; جَهْلًا بِدِينِهِمْ ، وَمُرُوقًا عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ، وَرَفْضًا لِسَيْرِ الصَّالِحِينَ فِيهِ مِنْ سَلَفِهِمْ ، وَنُزُوعًا إِلَى مَا يُزَيِّنُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ; وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ; فَهُمْ فِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ، وَبِكِتَابِ اللَّهِ يَتَلَاعَبُونَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! لَكِنْ قَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ رَزِينٌ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي " نَوَادِرِ الْأُصُولِ " مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلَحَوْنَ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلَحَوْنَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنُّوَاحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِي يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ . اللُّحُونُ : جَمْعُ لَحْنٍ ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيِّ الْوُعَّاظِ وَفِي الْمَجَالِسِ مِنَ اللُّحُونِ الْأَعْجَمِيَّةِ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا ، مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالتَّرْجِيعُ فِي الْقِرَاءَةِ : تَرْدِيدُ [ ص: 35 ] الْحُرُوفِ كَقِرَاءَةِ النَّصَارَى . وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ التَّأَنِّي فِيهَا وَالتَّمَهُّلُ وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا بِالثَّغْرِ الْمُرَتَّلِ ، وَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِنُورِ الْأُقْحُوَانِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [ الْمُزَّمِلِ : 4 ] وَسُئِلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَاتِهِ ; فَقَالَتْ : مَا لَكُمْ وَصَلَاتُهُ ! ، ثُمَّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ ، فَإِذَا هِيَ تَنْعِتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .




الموضوع الأصلي : كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى وما يكره منها -||- المصدر : منتديات اكرم الخالدي الاسلاميه
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سلّمكِ الله يا مصر: لفضيلة الشيخ أبي عبد الله محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى Aboabdalah خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية 0 12-04-2010 10:16 PM
عمل يحرم الله صاحبه على النار ان شاء الله ام عبدالعزيز333 نور الإسلام - 10 05-27-2010 02:41 AM
شرح عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة العثيمين رحمه الله تعالى: للشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى Aboabdalah خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية 3 04-27-2009 05:54 PM
استمع الى 16 تلاوة لكتاب الله azertyuiop نور الإسلام - 5 08-05-2007 10:36 PM


الساعة الآن 02:42 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011