عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #116  
قديم 11-11-2011, 10:55 PM
 
مني أن أفكر... لدى علمي بأنه قد تركني فيما أنا فيه... وسافر مع عائلته دون أي كلمة؟؟ وكأنني شيء جانبي في حياته أو على الهامش...
تفاقم إحساسي بالغيظ وخيبة الأمل من وليد... وفاق إحساسي السابق بالقلق... فتوقفت عن محاولة الاتصال به... وصممت على ألا أكلمه... حتى أقابله وجها لوجه... المقابلة الحاسمة...

***********

كعادتي كل يوم... أقضي الساعات في الرسم... إذ إنه لاشيء أمامي غيره...
لم أكن أرغب في مجالسة دانة وسامر أو التحدث معهما... لم أرغب في التواصل مع خالتي ونهلة وطمأنتهما على أحوالي... لم أبادر بمهاتفة مرح أو أي زميلة في الجامعة وإعلامها بما حصل معي...
لا شيء يثير اهتمامي... ويشغل تفكيري... غير وليد...
لم أكن أرى غير عينيه... في نظرته الأخيرة لي... عبر زجاج نافذة السيارة... وهو يلوح لي مودعا...
والصورة الأخيرة التي طبعتها في مخيلتي... ترجمتها بفرشاتي فصارت نصب عيني...
كدت قد تعلقت بأمل شبه ميت... بأنه بخير... وسيظهر... هكذا كان سامر وعمي أبو حسام يرددان كلما سألتهما... إلى أن اتصل بسامر أبو فادي, صديق وليد الحميم وأكد أنه مع وليد في تلك البلدة وأن أباه المحامي يعمل جاهدا على حل قضيته. وصار سامر على اتصال يومي به... ينقل إلينا الأخبار أولا بأول... ويطمئننا إلى أن وليد بخير... وسيُطلق سراحه قريبا...
الحمد لله...
الساعة التاسعة والنصف مساء... ولا أزال واقفة أمام لوحتي الجديدة... أدمج ألوانها بحذر... متمنية أن أنجح هذه المرة في تصوير ملامح وقسمات وجه وليد... تماما كما هي في الحقيقة... وتماما كما كانت لحظة أن ودعني ويده تلوح في الهواء...
لحظة فظيعة... فظيعة جدا!
أشعر بتعب... فأنا منهكة في الرسم منذ ساعات... هذا إلى أنني مصابة بالزكام الحاد نتيجة الجو البارد في هذه البلدة... وتداهمني نوبات متكررة من السعال الشديد...
يُطرق الباب, فأجبت بتملل:
"من هناك؟؟"
وأنا أعرف أن الطارق لن يكون غير واحد من اثنين... سامر... و دانة... وهما لم يأتيا ويربكا تركيزي- كعادتهما منذ ساعات...
وعلى أثر التكلم تنتابني نوبة سعال قوية...
"هل تأذنين لي بالدخول؟"
سمعت صوت سامر يتحدث... فوضعت لوح ألواني جانبا باستياء... وتناولت وشاحي واتجهت إلى المرآة وأنا لا أزال أسعل...
هنا سمعت صوت مقبض الباب يُدار وفوجئت به يفتح...
كيف تجرؤ!
التفت إلى الباب بسرعة وأنا أهتف بصوتي المبحوح:
"انتظر سامر"
فإذا بي أرى دانة تطل برأسها من فتحة الباب ثم تتسلل إلى الداخل...
نظرت إليها باستغراب... وأصابني القلق لدى رؤيتي سيلين من الدموع على وجنتيها وتعبيرات متداخلة قوية منقوشة على وجهها... ثم إذا بها تقول:
"الآن...؟؟"
وتلتفت إلى الناحية الأخرى وتقول:
"تفضل"
وتفتح الباب على مصراعيه...
كان موليا ظهره للباب... ثم تنحنح بخشونة... واستدار ليلقي نظرة على داخل الغرفة... وتقع عيناه على عيني... ويتهلل وجهه ويبتسم ويقول:
"صغيرتي!"
لا أصدق...
لا أصدق...
لا أصدق... لا أصدق...
شهقت... رفعت يدي إلى فمي... كتمت سعالي... تراجعت إلى الوراء بخطوات مبعثرة... أهز رأسي... ثم أؤرجح يدي... ثم أترنح على قدمي... ثم أتسمر في موضعي... ثم أطلق زفرة صارخة قوية:
"وليد!!!"

***********

كانت تقف على قدميها الاثنتين... أجل, فالجبيرة قد نُزعت عن رجلها اليسرى... وصارت تمشي بحرية...
لكنني لحظت العرج البسيط في مشيتها من أول خطوات سارتها أمامي... وسمعت بحة قوية في صوتها وهي تناديني...
يا لصغيرتي الحبيبة... يا لرغد...
إنني لا أكاد أصدق... أنني عدت لأراها من جديد...
لقد حسبت... القدر يلعب معي لعبته الجديدة... وأنتهي مرميا في السجن محروما من الحرية... من نور الشمس والهواء... ومن أهلي وأحبابي...
ما سجدت لله شاكرا... لن أستطيع أن أبلغ جزءا من ألف جزء... من واجب الشكر والامتنان للرحمن...
اللهم لك الحمد والشكر... بعدد ما تشاء وما ترضى... إلى ما تشاء وما ترضى...
فيما بعد... جلست على أحد المقاعد... وأحاط بي شقيقي من الجانبين, ووقفت الصغيرة أمامنا... فضممت أخوي إلي بحرارة... مرددا (الحمد لله) وداعيا ربي بأن يحفظ لي أخوي وابنة عمي... ويبقي لي عائلتي سالمة وبعيدة عن كل المخاطر...
المأزق الذي مررت به... محنة سامر هذه... شيّبت شعري وجعلتني أقفز إلى سن الشيخوخة... وأصبح كعجوز على فراش المرض يعد أواخر أيامه... ويلملم أفراد عائلته من حوله... ليودعهم...
ولأنه كان اجتماعي الأول بدانة بعد فراق طويل... منذ ليلة عرسها تلك... فإن مئات المشاعر لمئات الأسباب والأحداث تفجرت ليلتها... وأغرقتها في بحور عميقة لا بداية لها ولا نهاية...
وطبعا لم تكن المناسبة تمر دون أن نذكر والديّ رحمهما الله, ونقلّب المواجع على فقدهما... وقد كانت دانة هي آخر من رآهما قبل وفاتهما... عندما زارتهما هي وعريسها بعد زواجهما مباشرة, وقبل انتقالهما للعيش في هذه البلد...
يا للذكريات...
هدأت عواصف مشاعرنا المختلفة أخيرا... وبدأ الجميع يسألني عن تفاصيل ما حصل معي خلال الأيام الماضية... فأوجزت لهم الأحداث وطمأنتهم إلى سير الأمور على خير... واطمأننت بدوري عليهم وشعرت لأول مرة... بعد عناء طويل وانشغال كبير... براحة البال...
وأنا أرى سامر... ورغد... وكذلك دانة من حولي... لم أكن لأتمنى من هذه الدنيا إلا سلامتهم... شددت على يد سامر ونحن نحدق في بعضنا البعض... وكانت النظرات أبلغ وأفصح من أي كلمات...
الحمد لله...
ولأنني كنت مرهقا من عناء السفر الطويل... ولا أزال في فترة النقاهة... فقد أردت أن أخلد للنوم والراحة... أخذتني دانة إلى إحدى الغرف... في زاوية بعيدة بعض الشيء عن الجناح الذي يقيم فيه سامر ورغد... وتركني الجميع هناك لأستحم ثم آوي إلى الفراش...
بعدما أنهيت استحمامي وفيما أنا أستخرج أدويتي من الحقيبة لأتناولها سمعت طرقا على الباب.
"تفضل"
كانت شقيقتي دانة... تحمل معها بطانيات وألحفة.
"تدثر جيدا... لئلا تصاب بنزلة برد مثل رغد"
قالت وهي تضعها على السرير فابتسمت وقلت:
"شكرا"
"أتحتاج أي شيء؟؟ ألا أجلب لك طعاما؟"
سألت فأجبت:
"كلا شكرا. هل لي ببعض الماء فقط؟؟"
"بالتأكيد"
وهمّت بالانصراف فأضفت:
"ومصحف من فضلك"
فابتسمت وحانت منها التفاتة إلى المنضدة التي وضعت عليها الأدوية ثم نظرت إلي باستنكار وقالت وهي ترفع سبابتها:
"التدخين ممنوع!"
فضحكن ضحكة خفيفة وقلت:
"هذه أدوية معدتي! أقلعت والحمد لله"
وفيما بعد جلست على السرير ملتحفا بالبطانية... أتلو آيات من الذكر الحكيم... وأحمد الله مرارا وتكرارا في سريرتي... وما إن مضت بضع دقائق حتى عاد الطرق على الباب...
"نعم تفضل"
متوقعا أن تكون دانة... غير أنها كانت رغد...
بدا عليها التردد وعي تفتح الباب ببطء وتطل من فتحته... ثم تخطو خطوة أو اثنتين إلى الداخل... بمجرد أن وقعت عيناي على عينيها عرفت أن لديها الكثير لتقوله... لكنّ تعبيرات وجهها اضطربت وقالت:
"اعتذر على الإزعاج... فقط أردت أن... أسألك إن كنت بحاجة إلى شيء"
أنا؟!... أنا محتاج إلى كل شيء يا رغد!
أجبت:
"شكرا صغيرتي... لا شيء للآن"
فشتت أنظارها في أرجاء الغرفة ثم سألت بخجل:
"هل شُفيت إصاباتك؟؟"
تعني ولا شك... الهجوم الوحشي الذي تعرضنا له تلك الليلة... وهي ليلة أشعر بالخجل والعار كلما تذكرتها... غضضت بصري وأجبت محاولا التظاهر بالعفوية والمرح:
"نعم... كما ترين"
ولما رفعت بصري إليها رأيتها تبتسم ثم تقول:
"حسنا... تصبح على خير"
ثم سعلت لبضع ثوان وهي تتراجع للخلف... فقلت:
"سلامتك"
فاتسعت ابتسامتها... وتابعت سيرها إلى الوراء وهي ممسكة بمقبض الباب تغلقه ببطء إلى أن بقيت فتحة صغيرة بالكاد تسمح برؤية نصف وجهها فإذا بي أسمعها تقول:
"أنا سعيدة بعودتك سالما... كدت أموت خوفا عليك... سعيدة جدا"
وتغلق الباب!
في اليوم التالي اجتمعنا أنا وشقيقاي ورغد ونوّار حول مائدة الغداء... وحتى لو لم أشاركهم طعامهم, شاركتهم الدفء العائلي والإحساس بالانتماء... والجو الأسري الرائع الذي كثيرا ما أفتقده...
وفي وقت القيلولة... جلست مع أخي سامر في غرفته أسأله عن تفاصيل ما حصل معه ومع رغد بعد افتراقنا... وأناقش معه الخطط المستقبلية... دار بيننا حديث طويل... كنت من خلاله... أريد أن أستشف وضعه النفسي... وأعرف إلى أي مدى ارتفعت معنوياته واستعاد رباطة جأشه...
وبالطبع, تحاشيت تماما ذكر موضوع المنظمة... بل إنّي قد عاهدت نفسي ألا أكترث لما فعل أخي ولا لكيف فعل, لا حساب ولا عتاب ولا استجواب, إن هو نجا وخرج من المأزق الخطير سالما... وما دام أخي معي الآن... وأراه أمامي بخير... فلا يهمني النبش في الماضي...
"لم تحدق بي؟!"
سأل سامر وقد لاحظ شرودي وأنا انظر إليه... فابتسمت وقلت:
"آسف... كنت أفكر... كيف سنعثر على منزل مناسب لنشتريه..."
فقال:
"في الحقيقة كنت قد استفسرت من نوّار مسبقا... عمه يقيم في هذه البلدة منذ عشرين عاما ويستطيع مساعدتنا في تدبر أمر المنزل"
قلت:
"جيد. إذن سنسعى لذلك من الآن إذ أنه من المحرج مبيتنا هنا"
حتى ولو كانت عائلة نوّار ترحب بنا بشدة...
قال سامر:
"نشتري شقة مناسبة في مكان قريب من هذا المنزل"
قلت:
"أو منزلا مستقلا... صغيرا ويناسب وضعنا الراهن"
قال سامر وهو يركز النظر إليّ:
"إذن... هل... ستستقر هنا؟؟"
  #117  
قديم 11-11-2011, 11:05 PM
 
وهو أمر لم أكن أريد التطرق إليه الآن... وأفكاري غير مرتبة... وجسمي منهك... وأعرف أنه موضوع إن فُتح سيجر خلفه مواضيع لا طاقة لنا بها هذه الساعة, لذا تظاهرت بالنعاس وتثاءبت وقلت وأنا أقف:
"سأفكر لاحقا... أشعر بالنعاس... سأقيل قليلا"
وغادرت الغرفة.
ذهبت إلى الغرفة التي خصصتها دانة لي, واضطجعت على السرير... وتدثرت بكل الألحفة والبطانيات المفروشة فوقه, ناشدا الدفء الذي حصلت عليه... في هذا الجو البارد... في هذه البلدة الغريبة... في هذه الغرفة النائية... كان مصدره المحفظة التي تنام تحت وسادتي...
أشلاء صورة رغد...

************

تغمرني سعادة لا توصف... وأنا أواصل دمج الألوان في لوحة وليد الأخيرة... وأتذكر وجوده من حولي... وأطلق زفرات الارتياح...
تناولنا الفطور والغداء معا هذا اليوم... صحيح أن وليد لم يشاركنا الأكل بسبب معدته, لكنه شاركنا الجلوس حول المائدة والأحاديث المختلفة... وعلمت أنه كان راقدا في المستشفى منذ فارقنا وحتى وافانا بسبب نزيف قرحة معدته... وأنه خضع لعملية جراحية لعلاجها وهي حقيقة أخفاها سامر عني طيلة الوقت...
وليد قلبي بدا مريضا بالفعل... شاحب اللون وفاقد الحيوية ومنطفئ البريق الذي كان يشع من عينيه... لكن الأهم أنه معنا الآن... وفي أمان...
عند العصر سمعت صوت دانة تناديني من خلف الباب:
"رغد تعالي لتناول الكعك معنا... نحن في الصالة"
فرددت بسرور ومباشرة:
"قادمة"
وتركت فرشاتي وانطلقت تسبقني سعادتي إلى الصالة, حيث كان أبناء عمي الثلاثة يجلسون... اقتربت منهم واتخذت مجلسي بجوار دانة, واخترت أكبر قطعة من الكعك... وبدأت في تناولها باستمتاع...
دانة ماهرة في صنع الكعك كما تعلمون... أما أنا فماهرة في التهامه!
راقبت وليد خلسة فلاحظت أنه يكتفي بشرب الماء من الكأس الموضوع أمامه, ولا يلمس الكعك...
قلت:
"إنها لذيذة وخفيفة وليد"
فأجاب وهو يبتسم:
"لا شك عندي... لكن معدتي لن تتحمل"
قالت دانة:
"جرب قضمة واحدة صغيرة... هيا وليد... من أجلي"
فكرر وليد اعتذاره وقال:
"إن اشتعلت هذه فلا شيء يطفئها"
وهو يشير إلى معدته, أحسست بالألم والقلق لأجله... وأنا متأكدة أن ما هيّج قرحته وسبب نزيفها هو الضرب الوحشي الذي تلقاه على أيدي وأرجل العساكر الوحوش... تلك الليلة...
تذكر تلك الليلة... جعل يدي ترتجف, وتُوقعُ الشوكة من بين أصابعي...

نظرت على وليد وشعرت وكأنه قرأ الذكريات التي مرت في مخيلتي... فقلت لا شعوريا بصوت هامس:
"الحمد لله... أنك هنا الآن"
وكأن أحدا لم يسمع ما قلت, فسألت دانة:
"عفوا؟؟"
فانحنيت لالتقاط شوكتي وأنا أقول مغيرة الموضوع:
"ما رأيك في المنزل وليد...؟ أليس رائعا؟؟ دانة تتصرف كملكة فيه!"
فنظرت دانة إلي بتباه وقالت مداعبة:
"أنا بالفعل ملكة هنا! كل هذا تحت تصرفي!"
فقال وليد مبتسما:
"هنيئا لك"
فقالت دانة:
"وأنتم كذلك... اطلبوا ما تشاؤون"
فقال سامر بعد أن ابتلع آخر قطعة في فمه:
"لا عدمناك... يكفينا هذا الجناح مؤقتا إلى أن نشتري منزلا أو شقة"
والتفتَ إلى وليد يطلب تأكيد كلامه, فقال الأخير:
"نعم. وسنعمل على ذلك عاجلا"
فقالت دانة مستاءة:
"هراء! تبحثون عن منزل ولدينا كل هذا؟؟"
فرد وليد:
"بارك الله فيكم... ولكن لا بد من منزل مستقل... إن عاجلا أم آجلا"
فقالت دانة مخاطبة إياه بحنق:
"وكأن منزلنا لا يتسع لكم! سآمر الخدم بتنظيف وإعداد كل الغرف التابعة لهذا الجناح وننقل غرفة نومك إلى أي غرفة تختارها يا وليد... سيكون هذا الجناح منزلكم"
فقال وليد:
"أرجوك... لا تتكبدوا العناء... الجناح هكذا يفي بالغرض لحين شراء مسكن مستقل ينتقلان إليه... أنا هنا مؤقتا على كل حال"
الجملة أربكتني وجعلتني أحملق في وليد... ثم أسأله:
"ماذا تعني؟؟"
وتنقلت بأنظاري إلى سامر و دانة, ورأيتهما يحملقان في وليد أيضا...
وليد لم يتكلم لأنه شعر بأن الأعين تتربص به... بل بدا مرتبكا وكأن الجملة قد انفلتت من لسانه دون قصد ولم يستطع استدراكها... أعدت سؤالي:
"ماذا تعني... وليد؟؟"
فإذا به يتأتئ ويمسح على جبينه ثم يرد أخيرا:
"آه... أعني... أنني سأعود إلى الوطن عاجلا..."
شهقت وترددت بأنظاري بين وليد وسامر و دانة ثم قلت وغير مصدقة:
" تمزح وليد... ألست تمزح؟؟!!"
فابتسم بقلة حيلة وقال:
"لا أمزح! أعني أنني... أنا هنا... لأطمئن عليكم ثلاثتكم وها قد اطمأننت ولا بد من العودة"
أخذ التوتر يتفاقم على وجهي ولاحظ الجميع ذلك... ثم قلت والكلمة لا تكاد تخرج من ثغري:
"و... وأنا...؟؟"
فتبادل الجميع النظرات... ثم تسلطت أعيينا على وليد الذي لم ينطق مباشرة... كان مترددا غير أنه في النهاية قال:
"ستبقين هنا يا رغد"
لما لاحظ سامر الهلع يجتاح قسمات وجهي قال مخاطبا وليد ومحاولا تلطيف وقع النبأ:
"لكن... لن تسافر بهذه السرعة... تعني بعد بضعة أسابيع؟..."
فالتفتَ إليه وليد وقال:
"بضعة أيام لا أكثر... تعرفون... لدي زوجة في انتظاري"
عند هذا الحد... وشعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ... فوقفت بسرعة وأنا أسد فمي بيدي وهرولت إلى دورة المياه...
عندما خرجت من الحمام –أكرمكم الله- وجدت دانة تقف في الجوار في قلق... وسألتني:
"أأنت بخير؟؟"
ولم أجب.
فأضافت:
"هل كانت الكعكة سيئة أو ماذا؟؟"
التفتُ إليها وقلت:
"ألم تسمعي ما قال؟ يريد العودة إلى الوطن... بعد كل الذي تكبدنا من أجل الفرار... إنه يريد العودة إلى الخطر"
بدا على دانة تفهم مشاعري... ثم قالت:
"لم يقرر... بل يفكر"
قلت بعصبية:
"كيف يفكر في العودة إلى الجحيم؟؟ ألم يكفه ما فعلوا به؟؟ ألا يكفي هذا؟؟"
وذهبت منزعجة إلى غرفتي... و انعزلت فيها لبعض الوقت.

************

"ما كان يجب أن تذكر هذا الآن"
قال سامر يخاطبني بشيء من اللوم... وأنا أدرك أنني فاجأت الجميع بما قلت.. فلم أعلّق. فتابع هو:
"تذكر عودتك العاجلة إلى الوطن... وإلى زوجتك... وأنت بالكاد وصلت البارحة!؟ إنها... كانت قلقة عليك حد المرض"
مشيرا إلى رغد
صمتٌ قليلا ثم قلت:
"ولكن... في الحقيقة هذا ما يجب أن يحصل عاجلا"
نظر إليّ أخي نظرة لم أفهم معناها, أو بالأحرى... لم أرد أن أفهمها... ثم إذا به يقول:
"إذن... إذن... لن تقيم معنا ها هنا؟؟"
وهذا السؤال كان يشغل بال شقيقي منذ الصباح أو ربما منذ زمن... وأعرف ما خلفه...
قلت:
"وأترك زوجتي... وعملي... هناك؟؟!"
أراد سامر قول شيء لكنه تردد... أنا أعرف ما الذي تريد الوصول إليه يا سامر... لكن أرجوك... دعني أسترخي ليوم آخر... ولا تشغل بالي وتشعل النار في داخلي الآن...
أخيرا قال سامر:
"و... والمنزل؟؟ هل سنقيم فيه أنا ورغد بمفردنا؟؟"
وكأنه يستل خنجرا من صدري... آه... كم أتألم...
عضضت على أسناني لأمتص بعض الألم... ثم قلت محاولا الهروب:
"لكل حدث حديث... ننتظر شراء المنزل أولا"
وكانت محاولة فاشلة... إذ إن سامر عاد يسأل:
"وإذا حصلنا على المنزل غدا...؟؟ فهل.."
ولم يتم السؤال...
مسحت على وجهي مضطربا ونظرت يمينا ويسارا باحثا عن مهرب... ثم عدت إلى أخي فرأيته ينظر إليّ باهتمام وقلق... ينتظر ردي...
مددت يدي وربت على كتفيه بعطف... وقلت والدماء تحتقن في وجهي: "لا تستعجل... تريث قليلا... ودعنا نلتقط بعض الأنفاس... أنا مرهق جدا..."
وما كان من أخي إلا أن أومأ تفهما وأغلق الحوار...
وفي المساء... على مائدة العشاء... والتي التففنا حولها نحن الثلاثة, أنا وشقيقي وابنة عمي... تحركت أيدينا بالملاعق, بينما أفواهنا صامتة عن الكلام... كان الوجوم مخيما على وجه رغد... الذي صار كتابا متقلب الحروف والرموز... يشغلني فكُ طلاسمه...
وفيما أنا أتناول حسائي البارد ببطء وأرسل النظرات إليها بين الفينة والأخرى,كانت هي محملقة في طبقها تتحاشى النظر باتجاهي...
أما سامر... فكان يتظاهر بالاهتمام بالمباراة التي تعرض على التلفاز والتي يشارك فيها نوّار...
"الحمد لله"
قالتها رغد ووقفت هامّة بالمغادرة... وأطباقها بالكاد لُمست...
قلت:
"إلى أين؟؟ لم تنهي عشاءك"
قالت دون أن تنظر إلي:
"اكتفيت"
فقلت:
"اجلسي يا رغد... وأتمّي عشاءك"
هنا نظرت إليّ... نظرة حزينة مؤلمة...فيها العتاب واللوم... والرجاء واليأس سوية...
همست:
"رغد..."
  #118  
قديم 11-11-2011, 11:24 PM
 
فإذا بها تطلق الكلام الذي كانت تكبته في صدرها منذ ساعات دفعة واحدة:
"كيف تفكر في العودة للخطر يا وليد؟؟ نحن ما كدنا نصدق أننا نجونا... ما كدنا نطمئن على سلامة بعضنا البعض... أتريد أن تعرض نفسك للهلاك من جديد؟؟"
ولم تعطني فرصة للإجابة بل قالت بصوت شديد الرجاء:
"أرجوك وليد... لا تذهب... أرجوك"
تأوهت وقلت:
"لا بد لي من الذهاب يا رغد... لا بد"
ورأيتها تعض على شفتها السفلى ثم تقول:
"يمكنك إحضارها إلى هنا... ونستقر عن الخطر والحرب"
تعني أروى...
قلت:
"صعب جدا... أروى لن يعجبها ذلك... ثم إن المنزل والمزرعة والمصنع... وكل شيء هناك..."
فأومأت برأسها اعتراضا فأضفت:
"إنهم لا يلاحقونني أنا... لا تخشي علي... صغيرتي"
فانفجرت قائلة:
"كيف لا أخشى عليك؟؟ لقد رأيت ما فعلوه بك بأم عينيّ... هل تريد أن تيتمني للمرة الثالثة بعد؟؟ أنت لا تعمل حسابا لي"
وانصرفت مسرعة إلى غرفتها...
انتظرت لحظة... في حيرة من أمري... ثم وقفت وقلت مخاطبا أخي:
"سأتحدث معها"
ولم يبد أخي أي ردة فعل...
لحقتُ بالصغيرة وحصلت على إذنها بدخول الغرفة... وما إن دخلت حتى وقعت عيناي على مجموعة من اللوحات إلى جانب بعضها البعض... عند الجدار المقابل للباب... صورة لوالدي وأخرى لوالدتي رحمهما الله... وصورة لي أنا... وأنا رافعٌ يدي... موضوعة على عمود الرسم...
لدى رؤية صورتي والديّ لم أتمالك نفسي... وسرتُ باتجاهها وحملقت فيهما وانتابني الأسى والمرارة...
خاطبتهما سرا... ألا تخرجان من اللوحتين... وتريان ما نحن فيه... وتحلان مشكلتنا؟؟ أنا وشقيقي نحب فتاة واحدة تعني لكلينا كل شيء وعلى أحدنا أن يُميت قلبه ليُحيي الآخر... أنا يا أمي ويا أبي... أفضّل اللحاق بكما على أن يمس شقيقي أي أذى... سامحاني لأنني كنت أنانيا جدا... لم أتفهم مشاعره ولم أقدّرها... حسبت أن رغد شيء يخصني أنا وأنه هو من سرقها مني...
والتفتُ نحو رغد والتي كانت مطأطئة بصرها بحزن نحو الأرض.. فخاطبتها في سري بلهفة... ألست شيئا يخصني أنا يا رغد؟؟ ألست فتاتي أنا؟؟ ألست لي؟؟ ألن تكوني لي؟؟ ألا يجب أن تكوني لي أنا؟؟
ربما أحست رغد بنظراتي المسلطة عليها أو استبطأت كلامي... أو حتى سمعت خطابي السري في نفسي... فإذا بها تلتفتُ إلي وترمقني بنظرة أرسلتني إلى عالم التيه والضياع...
ثم إذا بتعبيرات الرجاء الشديد بل التوسل تزحف إلى قسمات وجهها الحزين وتخرج من لسانها بقول:
"أرجوك وليد.. تخلّ عن الفكرة.. ودعنا نعيش هنا معا بسلام.. أنا تعبتُ من الحرب والتشرد واليتم والضياع والصراع.. ألا تفعل هذا من أجلي؟؟"
تفطر قلبي لكلامها ونزف كثيرا... إنك تطلبين المستحيل يا رغد...
اقتربت منها وقلت مغدقا عطفي وحناني ومتحججا بمسؤولياتي:
"يا رغد... يا صغيرتي العزيزة... ومن يتولى الأمور هناك في الوطن؟؟ لديّ مسؤوليات جدية وكبيرة في انتظاري"
فقالت:
"وأنا؟ ألست جزءا جديا من مسؤوليتك أنت؟؟ كيف تتركني وحدي وتذهب عني؟؟"
قلت:
"كيف تقولين وحدك؟؟ أتركك مع دانة وسامر"
فأجابت منفعلة:
"لكنك أنت الوصي علي... المسؤول عني شرعيا... ويفترض أن تبقيني معك وتبقى معي... أليس كذلك؟ أليس هذا من واجبك؟"
لم أجب مباشرة... ثم قلت:
"بلى... و... كذلك... أنا المسؤول عن أروى... ومن واجبي العودة إليها"
وكنت أتوقع أن يزعجها ذكر أروى... بل كنت أتعمد أن أذكرها حتى أستفيق أنا من حالة التيه في بحر رغد, وأعود إلى الواقع وأقطع الحبال المتشدقة بسفينة رغد... نعم كنت أتوقع أن تنزعج رغد من ذكر أروى –كعادتها- لكنني لم أتوقع أن تأتي ردة فعلها بهذا الشكل...
صرخت منفعلة منفلتة:
"إذن عُد إليها... هيا عُد... لا شك أنك متلهف لعينيها الزرقاوين وشعرها الحريري الأشقر... من يتنازل عن الحسناء الثرية؟؟ هنيئا لك بمن اخترت.. اذهب!"
وأشاحت بوجهها عني... وعندما ناديتها هتفت زاجرة:
"اذهب الآن"
وما كان مني إلا أن غادرت الغرفة.
عندما عدت إلى حيث كنا نتناول العشاء قبل قليل... لم أجد أخي هناك... بحثت عنه في غرفته وفي الجوار ولم أجده... ووجدت هاتفه موضوعا على سريره... سألت عنه دانة فأخبرتني أنها لم تره مذ كنا نتناول الكعك عصرا...
قضيت الساعتين التاليتين واقفا على أطراف أعصابي المشدودة... حتى إذا ما ظهر أخيرا... قادما من الخارج... قدمتُ نحوه وبادرت بالسؤال:
"إلى أين ذهبت؟؟"
ظهر الانزعاج من السؤال على وجه أخي وقال:
"عفوا؟؟"
فتراجعت وقلت مخففا سؤالي:
"أعني... في هذا الطقس البارد؟؟"
فرد سامر:
"تمشيت في الجوار..."
وبعد برهة صامتة قلت وأنا أهم بالانصراف:
"سأخلد للنوم"
استوقفني سامر بسؤاله:
"ماذا أحرزت مع رغد؟"
فشددت على قبضتي... ثم قلت:
"لا شيء..."
وتابعت:
"لا تقدر مسؤولياتي الأخرى... تتوقع مني أن... أتفرغ لرعايتها"
رأيت ابتسامة شبه ساخرة على زاوية فمه اليمنى... ثم حل الجد مكانها وإذا بأخي يقول:
"إنها... متعلقة بك"
تدفقت الدماء إلى وجهي... ورأيت أخي ينظر إلى عينيّ ينتظر تعليقا... فأبعد نظري عنه, ثم قلت:
"... أعرف..."
فقال:
"إذن..؟؟"
فالتفت إليه وقرأت في عينيه جدية واهتماما بالغين... ولم أعرف بم أقابلهما... فقال أخي وقد اصطبغ صوته بالانزعاج:
"لم لا ترد؟ لقد جئت بي من آخر العالم إلى هنا ووضعتها نصب عيني... أعدتني إلى ما كنت على وشك الخلاص منه... وها أنت تريد أن ترحل وتتركني في نفس الدوامة... فهلا حللت قضيتي مع رغد أولا؟؟"
تضاعف ضخ الدماء الحارة إلى وجهي... واشتعلت النار التي لا تكاد تهدأ في معدتي... وبدأ العرق يتصبب مني رغم برودة الجو...
قلت أخيرا:
"صبرا يا سامر... أعطنا فترة نقاهة مما حصل مؤخرا... رويدك"
ورأيت أخي يمد سبابته اليمنى نحو وجهي ويضيّق عينيه ويضغط على أسنانه وهو يقول مهددا:
"لا تتلاعب بي يا وليد"
فأفلتت أعصابي من سيطرتي وقلت حانقا:
"وماذا تريد مني أن أفعل الآن؟؟ أرغم الفتاة على العودة إليك؟؟ أليس لديك اعتبارا لمشاعرها هي وإرادتها ورغبتها هي؟؟"
فرد مباشرة:
"أنا أكثر منك معرفة... بمشاعرها هي.. وإرادتها هي.. ورغبتها هي.. وأنت.. أنت.. يجب عليك أن تتدخل لوضع حد لهذا.. يجب أن تُفهمها ما لا تريد هي أن تفهمه.. يجب أن تجعلها تستيقظ من أحلامها المستحيلة التي لا تسبب لها إلا الأذى وتتوقف عن هدر مشاعرها على الشخص الخطأ"
فوجئت بكلام أخي للحد الذي لزمني زمن طويل حتى أستفيق من طور المفاجأة... ولما استفقت, كان أخي قد انصرف...
ذهبت إلى غرفتي... وجلست على سريري... واستخرجت قصاصات صورة رغد من محفظتي المخبأة تحت الوسادة... وجمعتها... ونظرت إلى وجه رغد... وتأوهت...
هل آن الأوان... لأن ينتهي كل شيء يا رغد؟؟؟
هل يعقل... أنني سأضطر للتخلي عنك... بعد كل هذا؟؟
إنه يساومني على حياته يا رغد... هل سأضحي بك من أجله؟؟ هل سأفعل ذلك يا رغد؟؟ هل سأجرؤ؟؟
هل أنا أستطيع ذلك؟؟
وضممت الصورة إلى صدري وعصرتها بقبضتي وهتفت...:
"لا أستطيع... لا
أستطيع..."

*********
  #119  
قديم 11-12-2011, 12:28 AM
 
لاجمل عيون باحثة عن شيء ما
و لعيون همسه الجميلة و اهات مكتومة و انت لي و نبض صبا و بسمه غدير و nadosh is online
و لكل المشاهدين خلف الكواليس
اهدي نهاية الرواية:rose::rose::rose:
  #120  
قديم 11-12-2011, 12:31 AM
 
الأخيرة

النظرة الأخيرة


تركني وليد في حالة يرثى لها بعد خبر عزمه العودة إلى الوطن... إلى حيث الحرب والاعتداء والخوف والهلاك... إلى حيث الشقراء.. تنتظره... أنا يا وليد مستعدة للقبول بأي شيء مهما كان مقابل أن تبقيني إلى جانبك وتحت رعايتك أنت...
وفيما أنا غارقة في أفكاري جاءتني دانة تتفقدني..
"كيف أنت؟ يقولون أنك مضربة عن الطعام!"
وكل ما حصل هو أنني لم أتم عشائي البارحة ولم أتناول فطوري هذا الصباح.
قلت:
"من يقول ذلك؟"
أجابت:
"وليد! فهو قلق من أن يداهمك الإغماء بسبب الجوع! وأرسلني لتفقدك"
دغدغتني العبارة, لإحساسي بأن وليد يهتم بي...
قلت:
"أين هو الآن؟"
أجابت:
"خرج مع نوّار قبل قليل... ذاهبين إلى مكتب الطيران"
فوجئت بالجملة وشهقت وقلت:
"تعنين لشراء تذكرة السفر؟؟"
فأومأت بنعم, فجُنّ جنوني وصرّحتُ منفعلة:
"لن يغير موقفه... إذن سأذهب معه.."
والتفت نحو الهاتف وأتممت:
"سأتصل به وأطلب منه شراء تذكرة لي أنا أيضا"
وخطوت خطوتين نحو الهاتف حين استوقفتني دانة مادة يدها وممسكة بذراعي...
التفتُ إليها فوجدت الجد والحزم ينبعان من عينيها, ثم قالت:
"انتظري يا رغد... هل تظنين بأنه سيأخذك معه حقا؟"
اكفهرت ملامح وجهي وقلت مصرة:
"طبعا سيأخذني معه... أليس الوصي علي؟ ألست تحت عهدته؟"
فقالت بنبرة جادة:
"لقد... تنازل عن الوصاية لسامر"
حملقت فيها غير مستوعبة الجملة الأخيرة... فسألت:
"عفوا... ماذا قلت؟؟"
فقالت:
"كما سمعت... رغد"
فررت برأسي يُمنة ويسرة... كأنني أنفضه مما توهمت أذناي سماعه.. ثم هتفت:
"تكذبين!"
فنظرت إلي دانة متأثرة بتعبيرات الذهول الطارئة على وجهي ومن ثم تحولت جديتها إلى شفقة وأسى... وقالت:
"أخبرني بذلك بنفسه قبل قليل... قال أنه وكّل المحامي أبا سيف لإنجاز الإجراءات الرسمية أثناء مكوثه في المستشفى خلال الفترة الماضية"
رفعت يدي إلى صدري محاولة السيطرة على الطوفان الهمجي المتدفق من قلبي أثر الصدمة... وهززت رأسي غير مصدقة أن وليد قد فعلها... مستحيل... مستحيل..
"مستحيل"
أطلقت الصيحة وتابعت خطاي نحو الهاتف أريد الاتصال به والتأكد من الخبر على لسانه, غير أن دانة سحبت سماعة الهاتف من يدي وأجبرتني على النظر إليها والسماع إلى ما أرادت قوله..
"رغد! ماذا ستفعلين؟ هل ستطلبين منه إعادتك إلى كفالته؟ لا تعصبي الأمور يا رغد ودعيه يتصرف التصرف السليم والأنسب لظروفنا"
فهتفت منفعلة:
"الأنسب لظروف من؟ أنا لا ذنب لي في أن سامر يهدده الخطر إن عاد إلى الوطن. لا أريد البقاء هنا.. أريد العودة مع وليد والبقاء معه"
فسألت دانة منفعلة:
"إلى متى؟؟"
فقلت:
"إلى الأبد"
فإذا بدانة تمسك بيدي وتشد عليها وتقول:
"وليد لا يريدك أن تذهبي معه.. لم لا تفهمين ذلك؟ سيعود إلى خطيبته وربما يتزوجان قريبا.. لقد أعادك إلى سامر لتبقي مع سامر.. إنه أكثر شخص يحتاجك ويحبك يا رغد... إنه يمر بأزمة حرجة... لماذا لا تفكرين به؟"
سحبت يدي من بين أصابعها وابتعدت عنها وأنا أهتف بانهيار:
"أنا لا أريد العودة إلى سامر... لا تفعلوا هذا بي... لا تعيدوا الكرة... سأذهب مع وليد..."

************

كان لابد من حسم الأمور وبشكل نهائي حتى يحدد كل منا موقعه. كنت أفكر في الطريقة التي سأخاطب بها وليد هذا اليوم... وأطلب منه وضع النقط على الحروف وختم الصفحة.
كان الوقت ضحى وكنت جالسا في غرفتي أهيئ نفسي للمواجهة المرتقبة فأتتني شقيقتي دانة.
"صباح الخير سامر! ألم تنهض بعد؟؟"
"صباح الخير"
"تأخرت! رفعت أطباق الفطور"
سألتُ مباشرة:
"هل استيقظ وليد؟"
أجابت:
"نعم... وهو مع نوّار في مكتب الطيران الآن"
اضطربت تعبيرات وجهي وشردت بعيدا... ولما لاحظت دانة سألتني عما ألمّ بي, فما كان مني إلا أن أطلعتها على ما يدور في رأسي منذ الأمس... منذ أن أعلن وليد عن عزمه على العودة إلى الوطن... أخبرتها وبكل صراحة بأنني في حال رحيل أخي فسوف لن أتمكن من العيش مع رغد في مكان واحد وتولّي المسؤولية عليها, إلا إذا عاد رباطنا الزوجي الشرعي إلى سابق عهده... وإلا... فإن عليه اصطحابها معه وتخليصي من هذه الدوامة الفارغة. كنت صريحا جدا فقد اكتفيت من الهراء... ولن أستمر في لعب هذا الدور الأحمق...
"فإما أن يأخذها معه للأبد... أو يتركها معي وللأبد"
قلت ذلك منفعلا... ثم نظرت إلى دانة فرأيت على وجهها الأسى والقلق.. وكأنها تفكر في أمر ما..
"ما الأمر؟"
سألتها قلقا, فأجابت:
"آه... لقد... كنت مع رغد قبل قليل"
ففهمت أن لديها ما تقوله... فقلت:
"ماذا قالت؟؟"
فأجابت مترددة:
"تركتها تعد حقيبتها... مصرة على العودة إلى الوطن... مع وليد"
عن نفسي كنت أتوقع هذا... لم يفاجئني موقف رغد... لكنني أريد أن أحسم الوضع نهائيا مع وليد...
"إذن... سأطلب من وليد شراء تذكرة لها وأخذها معه, وننتهي"
وضربت الحائط من غيظي... وصحت:
"إنها لا تريده إلا هو... فليأخذها معه ويريحنا... أنا تعبت من هذا..."
كنت مجروحا من إصرار رغد على موقفها... ولا مبالاتها بي...
قالت دانة:
"لا تنفعل... دعه يعود... وسأتحدث أنا معه أنا أولا... لقد نقل الوصاية إليك كما أخبرني.. لن يأخذها معه.. سيقنعها بالبقاء معنا"
فقلت:
"وما الجدوى إن كانت ستبقى معنا وبالها معلق معه؟ ألم تري حالتها قبل حضوره؟ لا أريد أن يوليني المسؤولية على فتاة شبه حية... فليأخذها وليخلصني من هذا العذاب"
مدت دانة يدها وربتت على كتفي وقالت:
"هون عليك يا أخي"
فقلت منفعلا:
"أنا تعبت.. لقد كنت على وشك وضع نهاية لكل هذا.. هو من اعترض طريقي وجلبني إلى هنا.. هل سيتحمل هو عذاباتي؟"
صمتنا برهة.. ثم إذا بدانة تسأل:
"هل.. يعرف هو أنها..."
فأجبت مقاطعا:
"طبعا يعرف... وعليه هو أن يواجهها بحزم ويوقظها مما هي فيه.. إلى متى سيتركها تتعلق به وتجري متخبطة خلفه.. بينما هو متزوج ومشغول بزوجته؟"
قالت دانة متسائلة:
"هل... يحبها؟؟"
فاستغربت السؤال الدخيل وقلت:
"وما أدراني..؟!.. المهم أنه متزوج ومشغول بزوجته.. وليس شاغرا من أجل مشاعر رغد.."
قالت دانة موضحة:
"أعني... ماذا عن مشاعره هو؟؟"
فنظرت إليها باستغراب... وقلت مستفهما:
"مشاعره هو؟؟"
ورأيت نظرة ارتياب غريبة على عينيها أوحت إلي بأنها تلمح إلى شيء... فسألتها:
"ماذا تعنين بمشاعره هو؟؟"
فقالت مترددة:
"أعني... بما يشعر هو... نحو رغد"
فحملقت فيها تجتاحني الحيرة والدهشة... وقابلتني بنظرة جدية وكأنها تعتزم قول شيء مهم... وأخيرا قالت:
"سامر... سأخبرك بما قالته لي أمي رحمها الله... عندما زرتها بعد ليلة زفافي..."
أثار كلامها اهتمامي الشديد وسألتها بفضول:
"ماذا... قالت...؟؟"
فأجابت بنبرة جدية جعلتني أصغي بكل اهتمام وتركيز:
"عندما أخبرتها... عن قرار رغد المفاجئ بالانفصال عنك... وعن حالتها المتقلبة الغريبة تلك... بعيد سفر والديّ للحج... وعن بعض التفاصيل التي حصلت... قالت أن ذلك ما كانت تخشاه... وأنها... كانت قد لاحظت تغيّرات على رغد... بعد عودة وليد"
صمتت أختي لترى مدى تأثير الكلام علي حتى الآن... فحثثتها على المتابعة بلهفة:
"وبعد؟؟"
فتابعت:
"أنا بالفعل... لاحظت عليها تغيرات مزاجية كثيرة في تلك الفترة... لكنني لم أتوقع للحظة أن يكون السبب... هو وليد"
نعم وليد! وليد الذي ظهر فجأة... واستحوذ على قلب رغد... وأبعدها عني...
واسترسلت:
"كما لم أكن أبدا لأتوقع... أن..."
وصمتت مترددة وكأنها تخشى قول الجملة التالية. شجعتها وقلت:
"ماذا؟؟ أكملي؟؟"
قالت:
"لما أخبرتها عن ارتباط وليد المفاجئ بالفتاة بالمزرعة... حزنت وتألمت كثيرا... وأخبرتني أن وليد... كان أيضا يحب رغد كثيرا في صغره... كلنا نعرف ذلك... لكن... ما لم نكن نعرفه... هو أنه... حسب كلامها وحسبما تيقنت هي منه... أنه... حتى بعد عودته من السفر.. أعني من السجن.. كان لا يزال يحبها.. ويحلم بها.. وقد صُدم بزواجكما..."
حملقت في دانة بذهول... غير قادر على استيعاب ما تقول... بقيت مطرقا رأسي مذهول العقل منفغر الفاه... ثم نطقت مندهشا:
"مـــ... مـــ... ماذا تقولين؟؟!!"
فأجابت والمزيد من القلق يظهر على وجهها:
"ربما لم يكن يجدر بي قول هذا ولكن.."
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مؤمن الرشيدي صاحب الحق2 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 26 05-25-2014 12:29 PM
رساله من مؤمن الرشيدي على الخاص وليد مسايره أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 1 05-16-2012 12:24 PM
مآ [خُبِروَك ] إني عليك إنتَ ميت .. سـآعآت نـآيس .. - ٌ Ðяєαм` مواضيع عامة 11 03-25-2012 09:34 AM


الساعة الآن 04:43 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011