عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام الإسلامية > نور الإسلام -

نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-02-2007, 03:22 AM
 
الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم....


مسند الإمام أحمد
كان أحمد بن حنبل واحدًا من أئمة الهدى الذين ازدانت بهم القرون الهجرية الأولى، يلوذ بهم الناس حين تدلهمّ بهم الطرق، وتتشعب بهم السبل، فلا يجدون إلا يدًا حانية، ونورًا هاديًا يأخذهم إلى جادة الطريق، ويلقي بهم إلى بر النجاة.ينظر الناس إليهم فيجدون دينهم فيهم، وخلقهم وآدابهم ماثلة بين أيديهم، وسنة نبيهم حية ناطقة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا بين ظهرانيهم، وأصحابه المهديين يعيشون بينهم، فيطمئنون إلى سلامة المنهج، وصدق التطبيق.وكانت حلقاتهم في ساحات المسجد منازل للوحي ومجامع للأفئدة، وملجأ للعقول، يتحلق حولهم تلاميذهم ومن يرغب في سماع تفسير آية أو بيان حديث، أو طلب فتوى، ينزلهم الناس من أنفسهم المحل الأسمى، ويقتدون بهديهم كمن يطلب النجاة لنفسه من خطر داهم، ويستقبلونهم بالبشر والترحاب أينما حلوا كما يُستقبل القادة والفاتحون.المولد والنشأةفي بيت كريم من بيوت بني شيبان في بغداد وُلد أحمد بن حنبل في (ربيع الأول 164ه = نوفمبر 780م)، وشاء الله ألا يرى الوالد رضيعه؛ فقد توفي قبل مولده، فقامت أمّه برعايته وتنشئته، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، يسرع الخطى إلى شيخه قبل أن يسفر الصباح؛ حتى يكون أول من يلقاه من تلاميذه، حتى إذا شبّ عن الطوق انتقل إلى حلقة "أبي يوسف" تلميذ أبي حنيفة، وأول من اعتلى منصب قاضي القضاة، وكانت حلقته آية في السمو والرقي، يؤمها طلاب العلم والعلماء والقضاة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وقد لزم أحمد بن حنبل حلقة أبي يوسف أربع سنوات، كتب ما سمعه فيها ما يملأ ثلاثة صناديق، كما لزم حلقة "هشيم بن بشير السلمي" شيخ المحدثين في بغداد، ولا يسمع بعالم ينزل بغداد إلا أقبل عليه وتتلمذ له، فسمع من "نعيم بن حماد"، و"عبد الرحمن بن مهدي"، و"عمير بن عبد الله بن خالد".رحلاته في طلب العلمكانت الرحلة في طلب العلم وسماع الحديث من سمات طالبي العلم في هذه الفترة، وكان كبار الفقهاء وشيوخ المحدثين موزعين في أنحاء العالم الإسلامي، لا يختص بهم قطر أو إقليم؛ ولذا كان الطلاب النابهون يقومون بالترحال إليهم، لا يعوقهم عن ذلك قلّة المال أو بُعد المكان.بدأ أحمد بن حنبل رحلته الميمونة في طلب الحديث سنة (186ه = 802م) وهو في الثانية والعشرين من عمره، واتجه إلى البصرة، والكوفة والرقّة، واليمن، والحجاز، والتقى بعدد من كبار علماء الأمة وفقهائها العظام، من أمثال: يحيى بن سعيد القطان، وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، وأبي معاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، والشافعي الذي لازمه ابن حنبل وأخذ عنه الفقه والأصول، وكان يقول عنه الإمام الشافعي: "ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي".وكان شغف ابن حنبل بطلب الحديث يجعله يستطيب كل صعب، ويستهين بكل مشقة، لم تمنعه إمامته وعلوّ قدره من الاستمرار في طلبه العلم، ولا يجد حرجًا في أن يقعد مقعد التلميذ بعد أن شهد له شيوخه أو أقرانه بالحفظ والإتقان، يراه بعض معاصريه والمحبرة في يده يسمع ويكتب، فيقول له: "يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين "، فيكون جواب الإمام: "مع المحبرة إلى المقبرة".جلوسه للتدريسكان من تصاريف القدر أن يجلس الإمام أحمد للفتيا والتدريس في بغداد سنة (204ه – 819م) وهي السنة التي توفي فيها الشافعي فكان خلفًا عظيمًا لسلف عظيم، وكان له حلقتان: واحدة في بيته يقصدها تلاميذه النابهون، وأخرى عامة في المسجد، يؤمها المئات من عامة الناس وطلاب العلم، وتُعقد بعد صلاة العصر، وكان الإمام يهش للذين يكتبون الحديث في مجلسه، ويصف محابرهم بأنها سُرُج الإسلام، ولا يقول حديثًا إلا من كتاب بين يديه، مبالغة في الدقة، وحرصًا على أمانة النقل، وهو المشهود له بأن حافظته قوية واعية، حتى صار مضرب الأمثال.ولزم الإمامَ عدد من تلاميذه النابهين، نشروا علمه، وحملوا فقهه إلى الآفاق، من أشهرهم: أبو بكر المروزي، وكان مقربًا إلى الإمام، أثيرًا عنده، لعلمه وفضله، وصدقه وأمانته، حتى قال عنه الإمام أحمد: "كل ما قاله على لساني فأنا قلته"، ومن تلاميذه: أبو بكر الأثرم، وإسحاق بن منصور التميمي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وبقي بن مخلد.مذهب الإمام أحمدلم يدون الإمام أحمد مذهبه الفقهي، ولم يصنف كتابًا في الفقه، أو أملاه على أحد من تلاميذه، بل كان يكره أن يُكتب شيء من آرائه وفتاواه، حتى جاء أبو بكر الخلال المتوفى سنة (311ه = 923) فقام بمهمة جمع الفقه الحنبلي، وكان تلميذًا لأبي بكر المروزي، وجاب الآفاق يجمع مسائل الإمام أحمد الفقهية وما أفتى به، فتيسرت له منها مجموعة كبيرة لم تتهيأ لغيره، وقام بتصنيفها في كتابه: "الجامع الكبير" في نحو عشرين مجلدًا، وجلس في جامع المهدي، ببغداد يدرّسها تلاميذه، ومن هذه الحلقة المباركة انتشر المذهب الحنبلي، وتناقله الناس مدونًا بعد أن كان روايات مبعثرة.ثم قام أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة (334ه = 946م) بتخليص ما جمعه أبو بكر الخلّال في كتاب اشتهر ب"مختصر الخرقي"، تلقاه الناس بالقبول، وعكف عليه فقهاء الحنابلة شرحًا وتعليقًا، حتى كان له أكثر من ثلاثمائة شرح، كان أعظمها وأشهرها "كتاب المغني" لابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620ه = 1233م)، ولم يكتف مؤلفه فيه بالشرح وإنما تعداه إلى بيان اختلاف الروايات وذكر الأدلة الفقهية، مرجحًا بينها، وصاغ ذلك في عبارة سلسلة دقيقة المعنى.ثم جاء الإمام ابن تيمية الجد "عبد السلام بن عبد الله" المتوفى سنة (652ه = 1254م)، فحرر مسائل المذهب، وألّف كتابه "المحرر" في الفقه، ثم تعددت بعد ذلك كتب المذهب وانتشرت بين الناس.ويجدر بالذكر أن المذهب الحنبلي هو أوسع المذاهب الإسلامية في إطلاق حرية التعاقد، وفي الشروط التي يلتزم بها الطرفان؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد هو جعل معاملات الناس على أصل الإباحة حتى يقوم دليل شرعي على التحريم؛ ومن ثمّ كان في الفقه الحنبلي متسع لنظام المعاملات، يمتاز بالسهولة واليسر وتحقيق المصلحة للناس.محنة الإمام أحمدكان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيّنة.وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218ه = 833م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا؛ خوفًا ورهبًا، وامتنع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: "أنت رجل يُقتدى به، وقد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتق الله واثبت لأمر الله".وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله، فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك.ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط دون أن يستشعر واحد منهم بالخجل وهو يضرب إنسانًا لم يقترف جرمًا أو ينتهك عرضًا أو أصاب ذنبًا، فما بالك وهم يضربون إمامًا فقيهًا ومحدثًا ورعًا، يأتمّ به الناس ويقتدون به، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليطة، حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه، وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227-232ه = 841-846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232ه = 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، ورد للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.مؤلفات الإمام أحمدترك الإمام أحمد عددًا من المؤلفات يأتي في مقدمتها "المسند"، وهو أكبر دواوين السُّنّة؛ إذ يحوي أربعين ألف حديث، استخلصها من 750 ألف حديث، وشرع في تأليفه بعدما جاوز السادسة والثلاثين.أما كتبه الأخرى فهي كتاب "الزهد"، وكتاب "السُّنّة"، وكتاب "الصلاة وما يلزم فيها"، وكتاب "الورع والإيمان"، وكتاب "الأشربة"، وكتاب "المسائل"، وكتاب "فضائل الصحابة" وكلها مطبوعة ومتداولة.وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الإمام أحمد في (12 من ربيع الآخر 241ه = 30 من أغسطس 855م) عن سبعة وسبعين عامًا، ودُفن في بغداد.من مصادر الدراسة:
  1. ابن خلكان: وفيات الأعيان – دار الثقافة – بيروت – بدون تاريخ.
  2. محمد أبو زهرة: أحمد بن حنبل ، حياته وعصره – دار الفكر العربي – القاهرة – بدون تاريخ.
  3. عبد الحليم الجندي: أحمد بن حنبل – إمام أهل السنة – دار المعارف – القاهرة – بدون تاريخ.
  4. عبد الغني الدقر: أحمد بن حنبل إمام أهل السنة – دار القلم – بيروت – 1408ه = 1988م.
إسلام أون لاين
  #2  
قديم 06-02-2007, 03:24 AM
 
رد: الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم....

الامام مالك بن انس
يروى في فضله ومناقبه الكثير ولكن أهمها ما روي (عن أبي هريرة يبلغ به النبي (صلى اللهعليه وسلم) قال ليضربن الناسأكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)إنه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وصاحب أحد المذاهب الفقهيةالأربعة في الإسلام وهو المذهب المالكي، وصاحب كتب الصحاح في السنة النبوية وهوكتاب الموطأ. يقول الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
نسبه ومولده

هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرةأبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيلبن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حميرالأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني حليف بني تيم من قريش فهم حلفاء عثمان أخي طلحةبن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة.

وأمه هي عالية بنت شريك الأزديةوأعمامه هم أبو سهل نافع وأويس والربيع والنضر أولاد أبي عامر
.

ولد مالكعلى الأصح في سنة 93ه عام موت أنس خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونشأ فيصون ورفاهية وتجمل
طلبه للعلم
طلب الإمام مالك العلم وهو حدث لم يتجاوزبضع عشرة سنة من عمره وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة وقصده طلبةالعلم وحدث عنه جماعة وهو بعد شاب طري.

ثناء العلماء عليه

عن ابن عيينة قال مالك عالم أهلالحجاز وهو حجة زمانه.

وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم
.

وعن ابن عيينة أيضا قال كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلاعن ثقة ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته يعني من العلم
.

روي عن وهيبوكان من أبصر الناس بالحديث والرجال أنه قدم المدينة قال فلم أرى أحدا إلا تعرفوتنكر إلا مالكا ويحيى بن سعيد الأنصاري
.

إمام دار الهجرة
روي عن أبي موسى الأشعري قال (قالرسول اللهصلى الله عليه وسلم) يخرج ناس من المشرق والمغرب فيطلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)ويروى عن ابن عيينة قالكنت أقول هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم بن عبد اللهوغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة.

قال القاضيعياض هذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه ابن مهدي وابن معين وذؤيب بن عمامه وابنالمديني والزبير بن بكار وإسحاق بن أبي إسرائيل كلهم سمع سفيان يفسره بمالك أو يقولوأظنه أو أحسبه أو أراه أو كانوا يرونه
.

وذكر أبو المغيرة المخزومي أنمعناه ما دام المسلمون يطلبون العلم لا يجدون أعلم من عالم بالمدينة فيكون على هذاسعيد بن المسيب ثم بعده من هو من شيوخ مالك ثم مالك ثم من قام بعده بعلمه وكان أعلمأصحابه
.
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقهوالجلالة والحفظ فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعةوالقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بنسعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم فلما تفانوا اشتهر ذكر مالكبها وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمانوأقرانهم فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق والذي تضرب إليه آباط الإبل منالآفاق رحمه الله تعالى
.
قال أبو عبد الله الحاكم ما ضربت أكباد الإبل منالنواحي إلى أحد من علماء المدينة دون مالك واعترفوا له وروت الأئمة عنه ممن كانأقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهموالثوري وهو المقدم بالكوفة وشعبة عالم أهل البصرة إلى أن قال وحمل عنه قبلهم يحيىبن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديثحين خرج إلى العراق ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه
.
قصة الموطأ
يروي أبو مصعب فيقول: سمعت مالكا يقول دخلتعلى أبي جعفر أمير المؤمنين وقد نزل على فرش له وإذا على بساطه دابتان ما تروثانولا تبولان وجاء صبي يخرج ثم يرجع فقال لي أتدري من هذا قلت لا قال هذا ابني وإنمايفزع من هيبتك ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ومنها حرام ثم قال لي أنت والله أعقلالناس وأعلم الناس قلت لا والله يا أمير المؤمنين قال بلى ولكنك تكتم ثم قال واللهلئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه.فقالمالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكنفتنة!!

مواقف من حياته

روي أن مالكا كانيقول ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك سألت ربيعةوسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقلت فلو نهوك قال كنت أنتهي لا ينبغي للرجل أنيبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منهوقال خلف: دخلت عليه فقلت ما ترى فإذارؤيا بعثها بعض إخوانه يقول: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام في مسجد قداجتمع الناس عليه فقال لهم إني قد خبأت تحت منبري طيبا أو علما وأمرت مالكا أنيفرقه على الناس فانصرف الناس وهم يقولون إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله (صلىالله عليه وسلم) ثم بكى فقمت عنه.

وروي أن المهدي قدم المدينة فبعث إلىمالك بألفي دينار أو قال بثلاثة آلاف دينار ثم أتاه الربيع بعد ذلك فقال إن أميرالمؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السلام فقال قال النبي (صلى الله عليه وسلم)المدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله
.

وقدم المهديالمدينة مرة أخرى فبعث إلى مالك فأتاه فقال لهارون وموسى اسمعا منه فبعث إليه فلميجبهما فأعلما المهدي فكلمة فقال يا أمير المؤمنين العلم يؤتى أهله فقال صدق مالكصيرا إليه فلما صارا إليه قال له مؤدبهما اقرأ علينا فقال إن أهل المدينة يقرؤونعلى العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم فإذا أخطئوا أفتاهم فرجعوا إلى المهدي فبعثإلى مالك فكلمه فقال سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال وهم ياأمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجه بن زيد وسليمانبن يسار ونافع وعبد الرحمن بن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعه ويحيى بن سعيد وابنشهاب كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرؤون فقال في هؤلاء قدوة صيروا إليه فاقرؤوا عليهففعلوا
.

يروي يحيى ابن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال كنت عندمالك فدخل عليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق فقال مالكزنديق اقتلوه فقال يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته قال إنما سمعته منك وعظمهذا القول
.

وعن قتيبه قال كنا إذا دخلنا على مالك خرج إلينا مزينا مكحلامطيبا قد لبس من أحسن ثيابه وتصدر الحلقة ودعا بالمراوح فأعطى لكل منا مروحة
.

وعن محمد بن عمر قال كان مالك يأتي المسجد فيشهد الصلوات والجمعة والجنائزويعود المرضى ويجلس في المسجد فيجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس فكان يصلي وينصرفوترك شهود الجنائز ثم ترك ذلك كله والجمعة واحتمل الناس ذلك كله وكانوا أرغب ماكانوا فيه وربما كلم في ذلك فيقول ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره
.

وكانيجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة في منزله يمنة ويسرة لمن يأتيه من قريشوالأنصار والناس، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم قال وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس فيمجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيبإلا في الحديث بعد الحديث وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه وكان له كاتب قدنسخ كتبهيقال له حبيب يقرأ للجماعة ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم هيبة لمالك وإجلالا لهوكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليلا قال ابن وهب سمعت مالكا يقولما أكثر أحد قط فأفلح
.

وقيل لمالك لم لا تأخذ عن عمرو بن دينار قال: أتيتهفوجدته يأخذون عنه قياما فأجللت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن آخذهقائما
.

ويروى عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر نعم قالالله تعالى(ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) (السجدة:12)
وقال جعفر بن عبد الله قال كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد اللهالرحمن على العرش استوى " كيف استوى فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظرإلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضاء ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقالالكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعةوأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج)وفي رواية أخرى قال: الرحمن على العرشاستوى، كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعةأخرجوه.

من كلماته

العلم ينقص ولا يزيد ولم يزل العلم ينقص بعدالأنبياء والكتب.

والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلانزع الله هيبته من صدري
.

أعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع
.

ما تعلمت العلم إلا لنفسي وما تعلمت ليحتاج الناس إلي وكذلك كان الناس
.

ليس هذا الجدل من الدين بشيء
.

لا يؤخذ العلم عن أربعة سفيه يعلنالسفه وإن كان أروى الناس وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ومن يكذب في حديث الناس وإن كنتلا أتهمه في الحديث وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به
.
صفة الإمام مالك

عن عيسى بن عمر قال ما رأيت قط بياضاولا حمرة أحسن من وجه مالك ولا أشد بياض ثوب من مالك، ونقل غير واحد أنه كان طوالاجسيما عظيم الهامة أشقر أبيض الرأس واللحية عظيم اللحية أصلع وكان لا يحفي شاربهويراه مثله.

وقيل كان أزرق العين، محمد بن الضحاك الحزامي كان مالك نقيالثوب رقيقه يكثر اختلاف اللبوس، و قال أشهب كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنهويسدل طرفها بين كتفيه
.
إمام في الحديث

كان الإمام مالك من أئمة الحديث فيالمدينة، يقول يحيى القطان ما في القوم أصح حديثا من مالك كان إماما في الحديث، قالالشافعي قال محمد بن الحسن أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا وسمعت من لفظه أكثر منسبعمائة حديث فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله وإذا حدث عن غيره من الكوفيينلم يجئه إلا اليسير.

قال ابن مهدي أئمة الناس في زمانهم أربعة الثوري ومالكوالأوزاعي وحماد بن زيد وقال ما رأيت أحدا أعقل من مالك
.

محنة الإمام مالك
تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسببحسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثرذلك على يده فيقول إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمليده بالأخرى، ويقول الواقدي لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثرواعليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بنالأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بمارفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منهأمر عظيم فواالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو، وهذه ثمرة المحنة المحمودة أنهاترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير ومن يردالله به خيرا يصيب منه وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) كل قضاء المؤمن خير له وقالالله تعال(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكموالصابرين)(محمد:31) وأنزل الله تعالى في وقعه أحد قوله(أو لما أصابتكم مصيبة قدأصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عندأنفسكم)(آل عمران:165) وقال(وما أصابكم من مصيبة فبماكسب أيديكم ويعفو عن كثير)(الشورى:30)
فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظواستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه فالله حكم مقسط ثم يحمد الله على سلامة دينهويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.

تراث الإمام مالك

عني العلماءبتحقيق وتأليف الكتب حول تراث الإمام مالك، وما زال العلماء قديما وحديثا لهم أتماعتناء برواية الموطأ ومعرفته وتحصيلهوفاة الإمام مالك
قال القعنبي سمعتهم يقولون عمر مالكتسعا وثمانين سنة مات سنة تسع وسبعين ومئة وقال إسماعيل بن أبي أويس مرض مالك فسألتبعض أهلنا عما قال عند الموت قالوا تشهد ثم قال(لله الأمر منقبل ومن بعد)(الروم:4)، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسعوسبعين ومائة فصلى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس الهاشمي.
  #3  
قديم 06-02-2007, 03:26 AM
 
رد: الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم....

الامام ابو حنيفة النعمان
اسمه ونسبه:
هو النعمان بن ثابت بن المرزُبان ، من ابناء فارس الأحرار ينتسب إلى أسرة شريفة في قومة أصله من كابل – عاصمة أفغانستان اليوم - أسلم جده المرزبان أيام سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه وتحول إلى الكوفة ، واتخذها سكناً .
ولد أبو حنيفة رحمة الله تعالى بالكوفة سنة ثمانين على القول الراجح في أيام الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى .
نشأته ومشايخة:
نشأ رحمه الله تعالى بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة ، ويبدوا انه كان وحيد أبوية وكان أبوه خزاراَ يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة ، ولقد خلف أبو حنيفة أباه بعد ذلك فيه ، حفظ القرآن الكريم في صغره شأن امثاله من ذوي النباهة والصلاح ، ويبدوا أنه لم يتعلق بسماع دروس العلماء وحضور حلقاتهم ، بل كان يكون مع والده في الدكانه إلى أن وافق لقاء بينه وبين الشعبي ، و كان فاتحة خير عظيم في حياة الإمام رحمهما الله تعالى . فعن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة ربعة من أحسنالناس صورة وأبلغهم نطقا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه.ويعد أبو حنيفةمن صغار التابعين الذين يشملهم حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى اللهعليه وسلم_ قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم"رواه البخاري ومسلم.
وقد روىعن خلق كثير منهم : عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال وعن الشعبيوعن جبلة بن سحيم وعدي بن ثابت وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعمرو بن دينار وأبيسفيان طلحة بن نافع ونافع مولى ابن عمر وقتادة وقيس بن مسلم وعون بن عبد الله بنعتبة والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وآخرين أما أكبر شيوخه فيالفقه فهو هو حماد بن أبي سليمان، لدرجة أن الذهبي قال عن حماد: وبه تفقه، مما يدلعلى أنه لازمه ملازمة كبيرة بحيث عرف به. وسبب الملازمة الطويلة لحماد قصة ذكرها منترجم له، فقد رووا عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلاأجبت فيه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت على نفسي ألاّ أفارق حماداًحتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة
شيوخ الإمام رحمه الله تعالى:
إن شيوخ الإمام رحمه الله تعالى بلغوا أربعة آلف شيخ فيهم سبعة من الصحابة ، وثلاثة وتسعون من التابعين ، والباقي من أتباعهم . ولا غرابة في هذا ولا عجيب ، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة وحج خمسا وخمسين مرة ، وموسم الحج يجتمع فيه علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين ، وأقام بمكة رحمه الله تعالى ، حين ضربه ابن هبيرة على تولي القضاء بالكوفة ثم هرب منه ست سنين . وكانت الكوفة مركز علم و حديث تعج باكبار العلماء فإذا كان اللإمام حريصا – وقد كان كذلك – على اللقيّ والاستفادة من العلم وأهله ، وتسير له في خمسين سنة يلتقي بأربعة آلاف شيخ ، وأن يأخذ عنهم ، ما بين مكثر منه ومقل ولو حديث أو مسألة .

أما أكبر شيوخه فيالفقه فهو هو حماد بن أبي سليمان، لدرجة أن الذهبي قال عن حماد: وبه تفقه، مما يدلعلى أنه لازمه ملازمة كبيرة بحيث عرف به. وسبب الملازمة الطويلة لحماد قصة ذكرها منترجم له، فقد رووا عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلاأجبت فيه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت على نفسي ألاّ أفارق حماداًحتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة.
مكانته في نظر معاصريه:
ولأبي حنيفة _رحمه الله_ تأثير كبير فيمن عاصره، ونجد ذلك منثورا في طيات كلامهم عنه، فنجد عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وعنه قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. وقال أيضاً كما في (تهذيب الكمال): أفقه الناس أبو حنيفة ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله
وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.
وقال عبدالله بن داود الحربي ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنة عليهم وقال سفيان الثوري وابن المبارك كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه، وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.
ولما انتقد بعض المثبطين القاسم بن معن في جلوسه مع صغار الطلبة بين يدي أبي حنيفة، بطريقة استفزازية، نجد الرد المليء بالحب والإعجاب بهذا العالم المربي، فقد قيل للقاسم بن معن ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة قال ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة وقال له القاسم تعال معي إليه فلما جاء إليه لزمه وقال ما رأيت مثل هذا.
وقال مكي بن إبراهيم كان أعلم أهل زمانه وما رأيت في الكوفيين أورع منه.

وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سئل ابن المبارك، مالك أفقه أو أبو حنيفة قال: أبو حنيفة.

وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
علاقته بالحكام:
ابتلي أبو حنيفة بالسلطة السياسية في وقته فقد جربوا معه فتنة المال وفتنة السجن فلم يهتز أو يتأثر، قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة وقد جرب بالسياط والأموال.
وفد كان لأبي حنيفة مصادمات مع الولاة، فقد كان يرفض الأوامر الخاصة كتوليته القضاء، وقد روي من غير وجه أن الإمام أباحنيفة ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يجب، فقد كان ابن هبيرة قد أراده على القضاء في الكوفة أيام مروان الجعدي فأبى وضربه مئة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة وأصر على الامتناع فخلى سبيله، وكان الإمام أحمد إذا ذكر ذلك ترحم عليه.
وعن مغيث بن بديل قال دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه فقال: لا أصلح، قال: كذبت. قال: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح فإن كنت كاذباً فلا أصلح وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح فحبسه.

محفزات للاستمرار:
من توفيق الله _تعالى_ أن تهيأت له أسباب لطلب العلم والاستمرار فيه، فمن تلك الأسباب:
فقد وفقه الله _تعالى_ للتعلم على يد حماد الفقيه وملازمته السنوات الطوال.
ومن ذلك استغناؤه بالتجارة عن الحاجة للولاة ومنتهم، قال الذهبي عنه: كان لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب, وفي شذرات الذهب: وكان لا يقبل جوائز الدولة بل ينفق ويؤثر من كسبه له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع وأجراء رحمه الله _تعالى_. وهذا يدل على أنه لم تشغله التجارة عن العلم، بل يشرف على عملهم ويستعين بالثقات في إدارة تجارته.
وفي الرؤى مبشرات للمؤمنين، فقد جاء عنه أنه قال: رأيت رؤيا أفزعتني رأيت كأني أنبش قبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ فأتيت البصرة فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين فسأله فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

مظاهر القدوة في شخصية أبي حنيفة:

احترامه وتقديره لمن علمه الفقه؛
فقد ورد عن ابن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو علمته علما.

ومن السمات المميزة للإمام أبي حنيفة؛
سخاؤه في إنفاقه على الطلاب والمحتاجين وحسن تعامله معهم، وتعاهدهم مما غرس محبته في قلوبهم حتى نشروا أقواله وفقهه، ولك أن تتخيل ملايين الدعوات له بالرحمة عند ذكره في دروس العلم في كل أرض. نسأل الله من فضله، ونسأل الله لإمامنا أن يتغمده بواسع رحمته، ومن عجائب ما ورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره. وحدث حجر بن عبد الجبار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكراماً لأصحابه. وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.

حرصه على هيبة العلم في مجالسه؛ فقد ورد عن شريك قال كان أبو حنيفة طويل الصمت كثيرالعقل.
الاهتمام بالمظهر والهيئة:
بما يضفي عليه المهابة، فقد جاء عن حمادبن أبي حنيفة أنه قال: كان أبي جميلا تعلوه سمرة حسن الهيئة، كثير التعطر هيوباً لايتكلم إلا جواباً ولا يخوض _رحمه الله_ فيما لا يعنيه. وعن ابن المبارك قال: مارأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة.
كثرة عبادتهوتنسكه -رحمه الله-:
فقد قال أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرةصلاته، واشتهر عنه أنه كان يحيى الليل صلاة ودعاء وتضرعا. وذكروا أن أبا حنيفة _رحمه الله_ صلى العشاء والصبح بوضوء أربعين سنة. وروى بشر بن الوليد عن القاضي أبييوسف قال بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر هذا أبو حنيفة لاينام الليل فقال أبو حنفية والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى الليل صلاةوتضرعا ودعاء , ومثل هذه الروايات عن الأئمة موجودة بكثرة، والتشكيك في ثبوتها لهوجه، لاشتهار النهي عن إحياء الليل كله، وأبو حنيفة _رحمه الله_ قد ملأ نهارهبالتعليم مع معالجة تجارته، فيبعد أن يواصل الليل كله. ولكن عبادة أبي حنيفة وطولقراءته أمر لا ينكر، بل هو مشهور عنه _رحمه الله_. فقد روي من وجهين أن أبا حنيفةقرأ القرآن كله في ركعة.
خوفه من الله تعالى:
فقد روى لنا القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله _تعالى_ " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " القمر 46 ويبكي ويتضرع إلى الفجر.
ومن مظاهر القدوة شدة ورعه:
وخصوصا في الأمور المالية، فقد جاء عنه أنه كان شريكاً لحفص بن عبد الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسى أن يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
تربيته لنفسه على الفضائل كالصدقة، فقد ورد عن المثنى بن رجاء أنه قال جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها.
وله رحمه الله حلم عجيب مع العوام:
لأن من تصدى للناس لا بد وأن يأتيه بعض الأذى من جاهل أو مغرر به، ومن عجيب قصصه ما حكاه الخريبي قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل: إني وضعت كتابا على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم فقال أبو حنيفة إن كنتم تنتفعون بهذا فافعلوه. وقد شهد بحلمه من رآه، قال يزيد بن هارون ما رأيت أحدا أحلم من أبي حنيفة , وكان ينظر بإيجابية إلى المواقف التي ظاهرها السوء، فقد قال رجل لأبي حنيفة اتق الله فانتفض واصفر وأطرق وقال جزاك الله خيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا , وجاء إليه رجل، فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز , فقال: ما لونه؟ قال: كذا، وكذا , فقال له: اصبر حتى يقع، وآخذه لك، _إن شاء الله تعالى_ , فما دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهماً , فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما كنت أظنك تهزأ , قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
الجدية والاستمرار وتحديد الهدف:
فقد وضع نصب عينيه أن ينفع الأمة في الفقه والاستنباط، وأن يصنع رجالا قادرين على حمل تلك الملكة.
ترك الغيبة و الخوض في الناس فعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط. قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. بل بلغ من طهارة قلبه على المسلمين شيئا عجيبا، ففي تاريخ بغداد عن سهل بن مزاحم قال سمعت أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" قال: كان أبو حنيفة يكثر من قول: اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له.
ومن أهم مظاهر القدوة في شخصيته حرصه على بناء شخصيات فقهية تحمل عنه علمه:
وقد نجح أيما نجاح. ومن طريف قصصه مع تلاميذه التي تبين لنا حرصه على تربيتهم على التواضع في التعلم وعدم العجلة , كما في (شذرات الذهب): لما جلس أبو يوسف _رحمه الله_ للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن خمس مسائل وقال له: إن أجابك بكذا فقل له: أخطأت، وإن أجابك بضده فقل له: أخطأت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال "تزبيت قبل أن تحصرم" – يعنى تصدرت للفتيا قبل أن تستعد لها فجعلت نفسك زبيبا وأنت لازلت حصرما –.
ومن أشد مظاهر القدوة في شخصيته تصحيحه لمفاهيم مخالفيهبالحوار الهادئ:
قد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين، وروى أيضا عن عبد الرزاق قال: شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف فسأله رجل عن شيء فأجابه فقال رجل: إن الحسن يقول كذا وكذا قال أبو حنيفة أخطأ الحسن قال: فجاء رجل مغطى الوجه قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن ثم سبه بأمه ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون ثم قال: إي والله أخطأ الحسن وأصاب بن مسعود.
ومن مظاهر القدوة عدم اعتقاده أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن غيره من العلماء على خطأ؛
فقد جاء في ترجمته في تاريخ بغداد عن الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.وفاته رحمة الله عليه:
قال الذهبي: توفي شهيداً في سنة خمسين ومئة وله سبعون سنة , وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات في السجن _رحمه الله_.
  #4  
قديم 06-02-2007, 03:27 AM
 
رد: الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم....

الامام الشافعي
نسبه:
هو الإمام أبو عبيد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف جدّ جدّ النبي صلى الله عليه وسلم. وشافع هذا صماي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه السائب الذي أسلم يوم بدر.
مولده ونشأته:
ولد عالمنا في أرض فسلطين "غزة" سنة خمسين ومائة للهجرة. وهي سنة وفاة الإمام الأعظم ابي حنيفة.
توفي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين فذهبت به الى مكة وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها الى مكة مخافة ان يضيع نسبه وحقه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى، وكانت هذه أول رحلة في حياة هذا الطفل التي كانت كلها رحلات.
نشأ الشافعي في مكة وعاشر فيها – مع علو وشرف نسبه – عيشه اليتامى والفقراء والنشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ يسّب على خلق قويم ومسلك كريم فعلو النسب يجعله يتجه إلى المعالي والفقر يجعله يشعر بأحاسيس الناس ودخائل مجتمعهم وهو أمر ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع.
وقد بدت عليه علائم النبوغ والذكاء الشديدين منذ الصغر وأدخل الكتاب وقبله المعلم بدون أجر مقابل حلوله محله في تعليم الصبيان أثناء غيابه واستمرت هذه الحال حتى تعلم القرآن كله وهو ابن سبع سنين وجوّده على مقرئ مكة الكبير اسماعيل بن قسطنطين ويقال أنه ما نسي شيء حفظه أبداً.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
لقد بوركت نبؤة النبي صلى الله عليه وسلم في الشافعي حين قال فيه: (اللهم اهد قريشاً فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً) أولع الشافعي منذ حداثة سنة بالعربية فرحل الى البادية يطلب النمو والشعر والأدب واللغة ولازم هذيلاً عشر سنوات يتعلم كلامها وفنون أدبها – وكانت أفصح العرب – فبرز ونبغ في اللغة العربية وهو غلام قال الأصمعي:
"صممت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" أما في مكة فكان يتردد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد. وكان في ضيق من العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الذي يدون عليه فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدفوف ونحوها ليكتب عليها وكان يقول: "ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسر علي".
ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار استاذه مسلم ابن خالد الزغبي – إمام أهل مكة ومفتيها – يقول له: أفتِ يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي".
وهكذا اجتمع له في مكة النبوغ في اللغة وفي الفقه والتفسير ولكن همته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحد وقد جاهد في سبيله فكان كثير الترحال وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدون الرحال الى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس. وكان مالك صاحب مجلس في الحرم النبوي يطرق الخلفاء بابه ويحسبون حسابه. وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشافعي فاشتاق لرؤيته وتلهف لسماع علمه فحفظ كتابه الموطأ ورحل الى يثرب وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول الى باب مالك إلا بعد جهد ونظر إليه مالك وكانت له فراسته فقال له "يا محمد أتق الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشأن وفي رواية "أن الله عز وجل ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي"، ثم قال له: "إذا ما جاء الغد تجيء ويجئ من يقرأ لك". قال الشافعي: "فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطأ حفظاً" والكتاب في يدي فكلما تهيب مالكة وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته عليه في أيام يسيره وقال: أن يك أحد يفلح فهذا الغلام.
وبعد أن روى على مالك موطأه لزمه يثقفه عليه ويدارسه المسائل التي يفتى بها الإمام الجليل وتوطدت الصلة بينه وبين شيخه فكان مالك يقول:
"ما أتاني قريش أفهم من هذا الفتى" وكان الشافعي يقول: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم وما أحد أمنّ علي من مالك".
ولكن يبدو أن ملازمته لمالك لم تكن بمعانة له من السفر والاختبارات الشخصية فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلامية كما كان يذهب إلى مكة يزور أمه ويستنصح بنضائح.
وبعد مضي عشر سنوات على إفاقته في المدينة توفي مالك وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطراً فاتجهت نفسه إلى عمل من معونته فتولى عملاً بنجران من اليمن وهناك طفق يتردد على حلقات العلم ويأخذ عن كبار العلماء فيها إلى أن وقع بينه وبين وإلى اليمن أثناء عمله شيء فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرشيد الذي أمر بإحضاره الى بغداد ولعل هذه المحنة التي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها ويعود للاتجاه بكليته الى العلم. وخرج الشافعي من التهمة التي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق.
فقد اصبح محمد بن الحسن تلميذ ابي حنيفة الذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق استاذا للشافعي تلقى عنه فقه أهل الرأي ولما كان أخذ فقه الحديث عن مالك الذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما وهو مذهبه القديم المسمّى بكتاب "الحجة" ثم قفل عائداً إلى مكة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضي عامان على إقامته في بغداد وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج فكانوا يرون فيه عالماً هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل قال تعالى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله فأراني الشافعي. قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أفقه منه ثم تناظرنا في القرآن فلم أر أقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة فوجدته بيت اللغة ما رأت عيناي مثله قط". ومكث في مكة تسع سنوات كاملة وهو الذي عهدناه صاحب سفر وترحال ليصفو له الجو لاستخراج قواعد الاستنباط بعيداً عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها وألف كتاب "الرسالة" في علم أصول الفقه. ثم ارتحل ثانية إلى بغداد وقد سبقته شهرته إليها وتحدث بذكره المحدثون والفقهاء ولقب فيها بناصر الحديث وأخذ ينشر آراءه الفقهية الأصولية ويجادل على أساسها وعقد في الجامع الغربي في بغداد حلقات العلم والفقه وأمّه المتعلمون والعلماء، منهم التمحنى ومنهم المستمع ومنهم المعتد بمذهبه الساخر بهذا المتفقه الجديد على زعمه فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه ويتبعوه.
وما زال الشافعي يصول ويحول ويأتي كل يوم بجديد من فهم كلام الله وفقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين الناس وانفكت حلقات المخالفين حتى إن أحدهم قال: "قدم الشافعي بغداد وفي الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي فلما كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع" وفي هذه المقدمة التي دامت عامين أعلن كتبه وقد أنضمتها الدراسة والمراجعة. ونشرها بن صحابته وتكررت رحلات الشافعي بين مكة وبغداد وكانت خاتمة رحلاته: رحلته الى مصر التي كان الدافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسياسة وذلك بناء على دعوة والي مصر له. وانتهى به المطاف هناك واملى مذهبه الجديد في كتابه "المبسوط" الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب "الأم" وأعاد النظر في آرائه وكتبه ومؤلفاته فجدد بعضها وكان الناس في مصر على مذهب الإمام مالك فقدموا الشافعي واستمعوا إليه وأفتتنوا به. وقصده كثيرون من الشام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقه عليه.
وهكذا توالت الشهادات بمكانه الشافعي في العلم في عصره وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه أنه كان علماً بين العلماء لا يجاري ولئن تجاوزنا هذه الشهادات لنجدن شهادة أقوم دليلاً، هي ما تركه من آثار – من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة أو رسائل كتبها أو كتب أملاها ففي كل ذلك الدليل على مقدار علمه ومواهبه فقد كان أكبر من أديب وأكثر من فقه وكان مجلسه جامعاً للنظر في عدد من العلوم. قال الربيع ابن سليمان: "كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته اذا صلّى الصبح فيجيئه أهل القرآن فاذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه فاذا أرتفعت الشمس قاموا فاستوث الحلقة للمذاكرة والنظر فاذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنمو والشعر فلا يزالون الى قرب انتصاف النهار".
فمن أين جاءت للشافعي كل هذه المعرفة؟ وما الذي أوصله إلى هذه المنزلة من العلم؟
مواهبه وصفاته:
لقد آتى الله الشافعي حظاً من الموهب يجعله في الذروه الأولى من قادة الفكر وزعماء الآراء.
فقد كان قوياً في كل قواة العقلية ممّا جعل تلميذه بشر المريسي يقول: "مع الشافعي نصف عقل أهل الدنيا" وكان حاضر البديهة عميق الفكر بعيد المدى في الفهم فكانت دراسته طلباً للكليات والنظريات العامة.
- وكان قوي البيان واضح التعبير أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه صوتاً عميق التأثر يعبر بنيراته وقد سمّاه ابن راهوية خطيب العلماء.
- وكان نافذ البصيرة في نفوس الناس، قوي الفراسة، كشيخه مالك في معرفة احوال الرجل وما تطيقه نفوسهم وكان هذا سبباً في ان التف حوله اكبر عدد من الصحاب والتلاميذ.
- وكان صافي النفس من ادران الدنيا وشوائبها لذلك كان مخلصاً في طلب الحق والمعرفة يطلب العلم لله ويتجه في طلبه الى الطريق المستقيم فإذا اصطدم إخلاصه لطلب الحق انه كان يقول: "وددت ان الناس تعلموا هذا العلم لم ينسب إليّ شيء منه فأوجر عليه ولا يحمدوني" وما كان يغضب في جدال ولا يستطيل لحدة لسان في نزال لأنه يبغي الحق من جدله يقول: "ما ناظرت احداً قط على الغلبة وددت اذا ناظرت احداً ان يظهر الحق على يديه" ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء القلب وتباعداً عن الدنايا.
وكان شديد التشبث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الربيع: سمعت الشافعي يقول: "ما من أحد إلا يغيب عنه سنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب فمها ملت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي.
شيوخه:
تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أماكنهم وتخالفت مناهجهم فجمع فقه أكثر المذاهب التي كانت في عصره وتلقى فقه مالك عليه وتلقى فقه الاوزاعي عن صاحبه عمر بن ابي سلمه من أهل اليمن وتلقى فقه الليث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسان ثم تلقى فقه أبي حنيفة عن محمد بن الحسن فقيه العراق وبذلك يكون قد برع في مدرسة الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق. وكان ثمة مدرة ثالثة تعنى في تفسير القرآن وهي مدرسة مكة التي إتخذها ابن عباس مقاماً له. وقد جعل الشافعي ابن عباس مثله الكامل وترسم خطاه وسار في مثل سبيله. وانساغ كل ذلك العلم الكثير في نفس الشافعي فكان منه ذلك الفريج الفقهي المحكم الذي تلاقت فيه كل النزعات منسجمه معتدله متاكفة النغم وتولدت منه تلك المعالي الكلية فقدمها للناس في بيان رائع وقول محكم.
دراسته وتجاربه الخاصة:
كان رضي الله عنه مع اتصاله بشيوخه في مكة والمدينة محباً للرحلة ولا شك ان الأسفار فوق ما تعطيه للفقيه من مادة وخبرة هي بطبيعتها تفتق الذهن وترهف الحسّ. وكانت رحلاته علمية يتصل فيها بالشيوخ ويدارس العلماء ويأخذ منهم ويعطيهم وقد جعلته لا يقتصر على فقهاء الجماعة الذي دخلوا في طاعة الخلفاء بل يتعدى ذلك الى دراسة آراء الشيعة وغيرهم نجد أثر ذلك في ثنائه على بعض علمائهم مثل مقاتل بن سليمان.
فكان يطلب العلم أنى وجده لا يهمه الوعاء الذي حمله اليه بل يهمه ما في الوعاء.
عصره:
ولد الشافعي في العصر العباسي وعاش فيه وكانت الفترة التي استغرقت حياة الشافعي من ذلك العصر هي فترة استقرار الأمر لهذه الدولة وتمكين سلطانها وازدهار الحياة الإسلامية فيها. وقد امتاز هذا العصر بميزات كان لها الأثر الأكبر في إحياء العلوم ونهضة الفكر الاسلامي حتى انه يعتبر من أزهى العصور الاسلامية فكراً وعلماً. ففيه التقتت الحضارات القديمة كلها واقترحت تحت ظل الذين الجديد وهو عصر الخطب العقلي المستقل المنتج فهؤلاء المحدثون يشمرون عن ساعد الجدّ لتمييز الصحيح في الروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الفرق المختلفة كل فرقة تجرد سيف الحجة لتشقق الطريق لآرائها والشافعي يخالطها جميعاً ويناقش أصحابها ويقبس من علمائها ما يراه صالحاً وهؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين ينتقلون في البلاد طلباً للعلم.
فيلتقي بهم الشافعي وخصوصاً في البيت الحرام الذي كان مؤتمراً علمياً. ثم هاهم أولاء فقهاء الرأي وفقهاء الحديث يلتقون في مكان واحد ويتناظرون طلباً للحقيقة فيأخذ كل مما عند الآخر ثم هذا الفقه يجمع في الكتب فيرى الفقيه آراء غيره مدونة مبسوطة فيقرؤها ويدرسها ويتقوها ويقبل ما يراه أقرب للكتاب والسنة.
وهكذا جاء الشافعي في وسط هذا اللمب العلمي القوي وأخذ من تلك الثروه العلمية العظيمة وبقوه مواهبه ودراساته وحسن اتجاهاته خرج الى الناس بآرائه ومذهبه.
لمحة عن عبادته وأخلاقه:
كان رضي الله عنه كثير العبادة فكان يقسم الليل الى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم، ثلث للنوم/ وثلث للعبادة. وكان يقف بين يدي ربه فيصلي ويقرأ وعيناه تفيضان بدمع غزير خشية التقصير. وقد كان رضي الله عنه يرى نفسه من شدة تواضعه من أهل المعاصي وفي ذلك يقول:
أحب الصالحين ولست منهم


لعلي أن أنال بهم شفاعه


وأكره من بضاعته المعاصي


وإن كنا جميعاً في البضاعة



يقول هذا وهو الذي يصفونه بأنه " لم تعرف له صوره" وقد اختص الله عالمنا بالعناية فكان له صوت عميق التأثير يخرج من قلب منير زادته العبادة المتواصلة والمحبة الشديدة نوراً وتأثيراً وسحراً.
وكان مولعاً بالقرآن وصحبته فكان يختم في كل نهار وليلة ختمة وفي رمضان كان يختم كل نهار ختمة وكل ليلة ختمة وكان إذا قرأ القرآن بكى وأبكى سامعيه رؤى أحد معاصريه: "كنا اذا اردنا ان نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا الى هذا الفتى المطلب نقرأ القرآن فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيبهم بالبكاء فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة".
وكان tمستقيماً على الشرع الى أقصى الحدود. وكان كريماً ذا مرؤة وخلق رفيع شأنه شأن آل البيت سخياً يقبل على الفقراء ويعطي عطاء من لا يخاف عليه وفي هذا ترى وعن الأعاجيب ومن أقواله: "للمرؤة أربعة أركان: حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك" ومما يميز به شدة حيائه وخجله وحتى نقل عنه أنه كان يحمر وجهه حياء اذا سئل ما ليس عنده.
محنته:
اتهم الشافعيرضي الله عنه بالتشيع وحيكت له المؤمرات في قصر الخليفة هارون الرشيد حتى بعث في طلبه وسيق وهو في الرابعة والثلاثين من عمره في أقياده مع تسعة من العلويين الى الرشيد وهناك ضربت رقاب العلوية التسعة أمام الشافعي واحداً بعد آخر حتى جاء دوره وكان محمد بن الحسن القاضي عند هارون الرشيد حاضراً واستطاع الشافعي بذكائه وسرعة خاطره ان يستحيل إليه قلب الخليفة وعقله وأن يقنعه تبراءته وأسلمه الخليفة للقاضي محمد بن الحسن وكان العلم رحماً بين أهله ودافع عنه القاضي وساهم في خلاصه وقال فيه: "وله من العلم محل كبير وليس الذي رفع عليه من شأنه" وبرئت ساحة المتهم وأمر له الرشيد بعطاء قدره خمسون ألفاً أخذها الشافعي وانثالت كلها من بين يديه عطايا على باب الرشيد.
مرضه ووفاته:
كان رضي الله عنه كثير الأوجاع والأسقام وكان يشكوا البواسير خاصة وقد بلغت منه في أواخر أيامه مبلغاً عظيماً فكان ربما ركب فسال الدم من عقبيه وكان لا يبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة يقطر فيه دمه. وما لقي أحد من السقم مثل ما لقي ولكن هذا لم يكن ليصرفه عن الدروس والأبحاث وليس هذا غريباً على مثله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل".
ولما كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه ..... فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ولكأس المنية شارباً وعلى الله عز وجل وارداً ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي


جعلت رجائي نحو عفوك سلما


تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك ربي كان عفوك اعظما


فما زالت ذا عفو عن الذنب لم تزل


تجود وتعفو منه وتكرما



وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطاهرة الى ربها عن أربع وخمسين سنة. وذهل الناس بوفاة الشافعي وخيبت الكابه على وجوه العلماء وهبطت أجنحة تلاميذه. وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا العظيم وغاب نجم من النجوم التي سطعت في سماء البشرية فأظاءت المشرق والمغرب قال عنه أحمد بن حنبل: كان الشافعي كالشمس للدنيا.
  #5  
قديم 06-02-2007, 02:26 PM
 
رد: الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم....

بارك الله فيك أختنا الفاضلة

alassiya

على هذه الرحلة الماتعه في حياة هؤلاء الأعلام

وعلى هذه الببذة المباركة من سير هؤلاء النجوم

فلك كل الشكر والتقدير
__________________

قول الشيخ أنباني فلان*****وكان من الأيمة عن فلان

إلى أن ينتهي الإسناد أحلى***لقلبي من محادثة الحسان

فإن كتابة الأخبار ترقى***بصاحبها إلى غرف الجنان
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صورة لهذا المكان في الفصول الاربعة..........مكان جميل جدا....... samir albattawi أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 05-27-2007 01:39 PM
الشمعات الاربعة..(عبرة لمن اعتبر)..! ام محسن حوارات و نقاشات جاده 12 05-20-2007 06:59 PM
صور لنساء يتم خلع حجابهم با الاكراة adham-55 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 83 03-18-2007 09:10 PM


الساعة الآن 11:55 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011