عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام العامة > مواضيع عامة

مواضيع عامة مواضيع عامة, مقتطفات, معلومات عامه, مواضيع ليس لها قسم معين.

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-22-2012, 02:28 PM
 
Thumbs up أحمد هريدى يترجم لمصر المحروسة فصل من رواية زهرة الكركديه الأرجوانية(purple hib للروائية تشيماماندا نجوزى أديتشى Chimamanda Ngozi Adichie)

القاهرة 22 نوفمبر 2012 الساعة 12:21 م


ترجمة: أحمد هريدي

الطرق المؤدية إلى السجن مألوفة، أعرف المنازل والمتاجر ووجوه النساء اللاتي يبعن البرتقال والموز قبل أمتار قليلة من السير في الطريق الممتلئ بالحفر والمؤدي إلى ساحة السجن.
- أتريدين شراء برتقال، كامبيلي؟
سأل سيلستاين وهدَّأ من سرعة السيارة، وبدأ الباعة الجائلون يلوحون وينادون علينا. صوته مهذب، ولهذا السبب استعانت به ماما بعد أن طلبت من كيفن ذي الندبة الناجمة عن جرح سكين في عنقه أن يذهب.
- ما لدينا في حقيبة السيارة يكفي
إلتفتُّ إلى ماما وقلت:
- هل تريدين شراء أي شيء من هنا؟
هزَّت ماما رأسها وانزلق الوشاح الذي حاولتْ تثبيت وضعه لكنه انزلق من جديد. الدثار المتسع حول خصرها والذي تعيد ربطه من وقت لآخر يذكِّر بنساء سوق أوجيت اللاتي يدعن الدثار غير محكم فيمكن لأي شخص رؤية ما يرتدين من ملابس داخلية. يبدو أن ليس لديها مانع من أن تصبح على هذا الوضع، أو ربما لا يبدو أنها تعي وضعها هذا، فقد أصبحتْ مختلفة منذ أودع جاجا السجن، ومنذ أن كانت تردد للناس أنها قتلت بابا، وأنها وضعت السم في شايه، حتى أنها كتبتْ رسائل إلى الصحف تؤكد فيها إتهامها لنفسها، لكن لا أحد ينصت إليها. الجميع يعتقدون أن شدة حزنها على موت زوجها وسجن ابنها أدي إلى ما وصلت إليه من حال. يدبُّ الهزال في جسمها وتنتشر بقع بحجم بذور البطيخ في كل جسمها. ربما بسبب كل هذا يغفرون لها عدم ارتداء اللون الأسود فقط أو اللون الأبيض فقط حداداُ لمدة عام. ربما لذلك أيضا لم ينتقدها أحد لعدم حضورها قداس الذكرى السنوية لزوجها ولعدم قص شعرها.
- حاولي إحكام ربط وشاحك، ماما
قلت وأنا ألمس كتفها. هزتْ كتفيها بغير مبالاة دون أن تحوِّل بصرها عن النافذة. ينظر سيلستاين إلينا في المرآة الخلفية بعينين مهذبتين. مرة اقترح أن نأخذ ماما إلى رجل في قريته الصغيرة خبير في مثل هذه الأمور. لم أعرف ما إذا كان يقصد بـ"هذه الأمور" أن ماما قد جُنَّتْ، لكنني شكرته وأخبرته أنها لا تريد أن تذهب. أعتقد أنه كان يعني ذلك جيداً، ففي بعض الأحيان رأيتُ كيف ينظر إلى ماما، وكيف يساعدها على الخروج من السيارة، وأعلم أنه يرغب في أن تستعيد نفسها.
نادراً ما نأتي ماما وأنا معا إلى السجن. في العادة يأخذني سيلستاين إلى هناك قبل يوم أو اثنين من الموعد الذي يأخذها إليه في كل إسبوع، وأعتقد أنها تفضل ذلك. لكن اليوم يوم مختلف وخاص، فقد أخطرونا أخيراً وبشكل مؤكد أن جاجا سيتم الافراج عنه.
بعد وفاة الرئيس النيجيري منذ شهر.. يقولون إنه لقي حتفه فوق امرأة عاهرة والزبد يخرج من فمه ويرتعد جسده بقوة.. اعتقدنا أن إطلاق سراح جاجا سيتم في الحال، وأن المحامين سيقومون سريعا بعمل الإجراءات اللازمة، خاصة وأن الجماعات المناصرة للديمقراطية يخرجون في تظاهرات ويطالبون بإجراء تحقيق في ملابسات موت بابا ويصرون على أن النظام السابق قتله. لكن تمضي أسابيع قبل أن تعلن الحكومة المدنية المؤقتة أنها ستفرج عن كل سجناء الضمير، ويستغرق المحامون أسابيع أخرى لوضع جاجا على قائمة المفرج عنهم، واسمه رابع اسم في القائمة التي تضم أكثر من مائتين.
بالأمس أخبرنا اثنان من محامينا الكبار في نيجيريا أنه سيتم إطلاق سراحه الأسبوع المقبل. جاء إلى منزلنا بالأخبار وبزجاجة شمبانيا مثبَّت بها شريط بنفسجي، وبعد مغادرتهما لم نتحدث ماما وأنا عما قالاه، لأن كلينا يشعر لأول مرة بالثقة في أن ما نصبو إليه سيتحقق، وإن كنا لم نتشارك في هذا الشعور معا.
هناك الكثير جداً مما لا نتحدث عنه ماما وأنا بشأنه. لا نتحدث عن الشيكات البنكية الضخمة التي نكتبها كرشاوي للقضاة ورجال الشرطة وحراس السجن. لا نتحدث عن قدر النقود التي في حوزتنا بعد أن آلت نصف عقارات بابا إلى سان أجنيز. ولم نتحدث أبداً حول التبرعات التي خصصها دون ذكر اسمه لمستشفيات الأطفال ولدورالأيتام والمعوقين بسبب الحرب الأهلية. وهناك كثير جداً من الأشياء التي لا نقولها بأصواتنا ولا نحولها إلى كلمات.
- من فضلك، ضع شريط فيلا في المسجل، سيلستاين
سريعا ملأ الصوت القوي فضاء السيارة. إلتفتُّ لأرى ما إذا كان لدى ماما مانع، لكنها كانت تنظر مباشرة وفي خط مستقيم إلى المقعد الأمامي، وبدا لي أنها ربما لا تسمع شيئا. في معظم الأحيان تأخذ إجاباتها شكل إيماءات وهزات بالرأس وأتساءل إذا ما كانت تسمع ما يقال. اعتدتُ أن أطلب من سيسي أن تتحدث إليها أثناء جلوسهما معا في حجرة المعيشة لساعات طويلة، لكنها تقول إن ماما لا تجيبها وتكتفي بالجلوس والتحديق في الفراغ.
عندما تزوجتْ سيسي في العام الماضي، أعطتها ماما كراتين تحتوي ما يلزم للعروس من أطباق وآنية صيني، حينئذ جلستْ سيسي على أرضية المطبخ تبكي بصوت عال بينما ماما تراقبها في صمت. تأتي سيسي إلينا مرة كل فترة لتعطي تعليمات للمشرفة الجديدة على المنزل "أوكون" ولتسأل ما إذا كانت ماما تحتاج أي شيء. في العادة لا تقول ماما شيئا، فقط تهز رأسها وهي تؤرجح جسدها.
الشهر الماضي عندما أخبرتها أنني ذاهبة إلى نسوكا، لم تقل أي شيء، حتى لم تسأل لماذا وأنا لا أعرف أحداً في نسوكا الآن، واكتفتْ بهزة من رأسها. اصطحبني سيلستاين بالسيارة ووصلنا عند الظهر تقريبا، عندما بدأت الشمس تتحول إلى شمس حارقة تكاد تمتص الرطوبة من مخ العظم. تحت هذه الشمس الساطعة فقد تمثال الأسد المعتز بنفسه ألقه وتوهجه.




عندما سألتُ العائلة الجديدة التي سكنتْ شقة عائلة العمة افيوما إذا كان في استطاعتي زيارتها، نظروا إليّ بغرابة وقبلوا استضافتي وقدموا لي كوب ماء وقالوا إن الماء ليس بارداً بسبب انقطاع التيار الكهربائي. احتسيتُ ماء الكوب حتى آخر قطرة وأنا أجلس على الأريكة غيرالمستوية الفتحات عند الجانبين. أعطيتهم الفاكهة التي اشتريتها لهم واعتذرتُ لأن الحرارة في حقيبة السيارة أفسدتْ قشرالموز وحولته إلى اللون الداكن.
أثناء عودتنا إلى انوجو، ضحكتُ بصوت عال غطى على غناء فيلا.. ضحكتُ لأن طرق نسوكا غير المسفلتة تغطي السيارات بالغبار في وقت هبوب الرياح وبالطين في فصل المطر.. ضحكتُ من الطرق المسفلتة بسبب الكثير من الحفر التي تخبئها كهدايا مفاجئة لقائدي السيارات. داخلني شعور بأن نسوكا يمكن أن تطلق شيئا عميقا داخل جوفي ليرتفع إلى حنجرتي ويتحول في فمي إلى أغنية حرية أو إلى ضحكة.
- وصلنا
أوقف سيلستاين السيارة بالقرب من بوابة السجن. الجدران جرداء كئيبة بها رقع قبيحة من فطر يراوح لونه بين الأخضر والأزرق. في الخلف هناك جاجا داخل زنزانته القديمة المتكدسة بالسجناء ولا تتسع إلا للبعض منهم يستلقون على الأرض، والبعض الآخر يظل واقفا. لكل منهم مرحاض عبارة عن كيس بلاستيك أسود، ويتعاركون فيما بينهم على من يفوز بحمل كل الأكياس في فترة بعد الظهر من كل يوم وإلقائها بعيداً في الخارج، ليتمتع برؤية ضوء الشمس لوقت قصير. أخبرني جاجا مرة أن بعض السجناء الغاضبين لا يهتمون دائما باستخدام كيس البلاستيك في قضاء الحاجة.. يقول إنه لا يمانع من النوم مع فئران وصراصير لكنه بالقطع لا يحتمل وجود غائط رجل آخر أمام وجهه.
كانت له زنزانة أفضل حتى الشهر الماضي، خُصِّصتْ له فيها بعض الكتب وحشية ينام عليها، بفضل الرشاوي التي يقدمها محامونا الكبار. لكن حراس السجن نقلوه من تلك الزنزانة الخاصة لأنه بصق في وجه حارس بغير أي سبب سوى أنهم نزعوا عنه ملابسه وضربوه بالسياط. بالرغم من أنني لا أعتقد أن جاجا يمكنه فعل شيء عدائي ضد حارس السجن إلا أنني لا أملك أية رواية أخرى للقصة بسبب أن جاجا لن يتحدث إليّ بشأنها. لم يطلعني جاجا على آثار الضرب على ظهره المتورم بحجم النقانق كما وصفها طبيب السجن لأحد محامينا.
ثلاث سنوات تقريبا أمضاها في السجن. أحيانا أنظر إليه وأبكي فيهز كتفيه بغير مبالاة ويخبرني أن "أولاد يبوبو" زميله بالزنزانة لازال ينتظر محاكمته منذ ثماني سنوات. إذن وضْع جاجا الرسمي طيلة هذا الوقت في السجن هو انتظار المحاكمة.
اعتادتْ أماكا الكتابة إلى مكتب الرئاسة النيجيرية وإلى مكتب السفير النيجيري في أمريكا لتشكو من عوار النظام القضائي في نيجيريا. تقول إنها بالرغم من أن خطاباتها لا تسترعي اهتمام أحد إلا أنها مهمة لها لشعورها بأنها تفعل شيئا. لا تخبر أماكا جاجا عما تفعله في هذا الشأن في خطاباتها له. قرأتُ خطاباتها تلك التي لا تذكر بابا فيها ولا السجن. في آخر خطاب لها أخبرتْه كيف أن أوكبي جاءت في تقرير نشرته مجلة دورية أمريكية وحمل شكوك كاتبه في إمكانية ظهورالعذراء مريم المباركة وخصوصا في نيجيريا التي تتصف بالفساد والجو الحار. تقول أماكا إنها كتبت إلى المجلة عن رأيها في هذه المسألة.


تقول أماكا إنها تتفهم لماذا لا يكتب جاجا لها.. فماذا سيقول؟.. والعمة أفيوما لم تكتب لجاجا وبدلا من ذلك أرسلت له شريط كاسيت مسجل عليه أصواتهم جميعا، يدعني أسمعه أحيانا على المسجل الخاص بي عند زيارتي له. تكتب العمة افيوما لماما ولي حول عملها في الكلية وعملها الآخر في صيدلية، وحول الطماطم كبيرة الحجم والخبز زهيد الثمن، وفي غالب الأحيان تكتب عن أشياء تفتقدها وأخرى تتوق إليها، ودائما ما تتجاهل ذكر الحاضر الذي يلقي بظلال على الماضي والمستقبل.
في أحد الخطابات تقول العمة افيوما إن هناك أناسا يعتقدون أننا لسنا قادرين على حكم أنفسنا لأننا في بعض الأوقات القليلة حاولنا وفشلنا، وكأن الآخرين الذين يحكمون أنفسهم قد نجحوا منذ محاولتهم الأولى.. وتتعجب العمة افيوما من أولئك الذين يطلبون من طفل يزحف على الأرض ويحاول السير فيسقط على ظهره بأن يظل على حالة الزحف، وكأن البالغين الذين ينصحون الطفل بالكف عن محاولة السير لم يمروا بحالة الزحف من قبل. ما تكتبه العمة افيوما في خطاباتها لي أفكر فيه دائما وأتأثر به لدرجة أنني أحفظ عن ظهر قلب معظمه دون أن أعرف لماذا تخصني به؟.
تقول أماكا في أحد خطاباتها أنه بالرغم من تواجد التيار الكهربائي بصفة مستمرة وتوفر الماء الساخن في الصنابير، إلا أنهم لا يضحكون كما كانوا من قبل، وتُرجع سبب ذلك إلى أنهم ربما ليس لديهم الوقت للضحك وإلى أن الواحد منهم لا يرى الآخر إلا لماما.
خطابات أوبيورا هي الأكثر مرحا والأقل انتظاما. حصل على منحة دراسية في مدرسة خاصة، ويؤكد أنه يحصل دائما على التشجيع وليس العقاب عند ممارسته هوايته في تحدي أساتذته.
- دعيني أقوم بذلك
- شكراً لك
تنحيتُ جانبا. حمل سيلستاين حقيبة البلاستيك التي تحوي الملابس والفاكهة والطعام والأطباق من حقيبة السيارة، ثم توجهنا إلى بوابة السجن وإلى رجل الشرطة الجالس إلى منضدة عارية إلا من عدة الهاتف وسجل العمل اليومي وكومة ساعات ومناديل يد وقلادات.
- كيف حالك يا أختي
عيناه ثابتتان على الحقيبة في يد سيلستاين.
- تأتين مع المدام اليوم؟.. مساء الخير مدام
يبتسم وتهزُّ ماما رأسها ذاهلة، ويضع سيلستاين الحقيبة فوق الطاولة وبداخلها مجلة بها مظروف متخم بأوراق نقد نايرا. يقبض الشرطي على الحقيبة ويخفيها خلف منضدة صغيرة، ثم يقودنا ماما وأنا إلى حجرة خالية من الهواء بها مقاعد على جانبي طاولة منخفضة، ويغمغم قبل أن يغادر "ساعة واحدة".
جلسنا على نفس الجانب من الطاولة متجاورين لكن دون أن تلمس إحدانا الأخرى. لم يكن من السهل عليّ رؤيته هنا حتى مع مرور وقت طويل، وسيكون من الأصعب لي الجلوس إلى جوار ماما.
آخر رسالة كتبها الأب أمادي أحتفظ بها مطوية في حقيبتي: جاجا سيعود إلى المنزل سريعا.. يجب أن تصدقي ذلك. صدَّقتُ ذلك بالرغم من أننا لم نسمع من المحامين ما يطمئننا. أصدقُ أنا ما يقوله الأب أمادي وأصدقُ خطه المائل الذي يدلُّ على العزم والتصميم: "لأنه قالها وكلمته صادقة".
دائما أحمل آخر رسالة له معي حتى تأتي الرسالة الجديدة. عندما أخبرت أماكا بذلك، كتبتْ تمازحني وتضحكُ من كوني في حالة حب مع الأب أمادي، ورسمتْ أسفل كلماتها وجها مبتسما. لكنني لا أحمل رسائله معي لأنني في حالة حب معه، وإن كان هناك القليل من الحب على أية حال. في رسائله لي لا يذكر شيئا عن نفسه أكثر من "كالمعتاد"، ولا يجيب أبداً بكلمة نعم أو لا عندما أسأله إن كان سعيداً، ودائما يجيب بأنه أينما يوجهه الرب يتجه. يندر أن يكتب عن حياته الجديدة ما عدا كتابة أخبار موجزة حول السيدة الألمانية المسنة التي ترفض مصافحته لأنها لا تعتقد في أن يصلح رجل أسود ليكون كاهنا، أو الأرملة الثرية التي تصر على أن يشاركها العشاء كل ليلة.
أحملُ رسائله لفترة لأنها طويلة ومسهبة وتخاطب مشاعري وتذكِّرني بجدارتي. يكتب لي منذ أشهر أنه لا يريدني أن أبحث كثيراً عن الأسباب والدوافع وراء أعمال وتصرفات معينة، أوأن أبحث كثيراً في الأسئلة الصعبة، لأن هناك بعض الأشياء تحدث من حولنا ولا يمكننا أن نجد لها سببا أو دافعا، وربما ليس من الضروري وجودها. ولم يذكر بابا في رسائله، ولكنني أعرف ما يقصده من إثارة موضوع أو سؤال أخشى أن أثيره بنفسي.
تمنحني رسائله امتيازاً. تقول أماكا أن الناس يحبون القساوسة لأنهم يريدون الدخول في منافسة مع الرب.. يريدون الرب كمنافس.. لكننا لسنا في منافسة، الرب وأنا، وإنما ببساطة نحن في شراكة. لم أعد أتساءل إذا كان لدي الحق في أن أحب الأب أمادي، وإن كنت أواصل حياتي وأحبه. لم أعد أتساءل ما إذا كانت الشيكات البنكية التي أكتبها للآباء التبشيريين رشاوي للرب، بينما أنا مستمرة في كتابتها.
- هل أحضرنا سكاكين؟
تسأل ماما بصوت عال أثناء وضعها الأرز والدجاج في دورق الطعام الأسطواني، وتضع كذلك طبقا جميلا وكأنها تعد مائدة فاخرة على النحو الذي اعتادت سيسي أن تفعله.
- ماما، جاجا لا يحتاج سكاكين
تعلم ماما أن جاجا دائما يأكل من الدورق مباشرة، ومع ذلك تأخذ طبق العشاء معها في كل مرة، وتغير لون الطبق وشكله أسبوعيا.
- كان يجب أن نحضرها حتى يمكنه قطع اللحم
- هو لا يقطع اللحم ويأكل مباشرة
ابتسمُ إليها وأمدُّ يدي لألمس ذراعها لأهدئها. تضع الملعقة والسكين الفضيتين اللامعتين على الطاولة، ثم تميل قليلا إلى الخلف لكي تلقي نظرة أخيرة على المائدة. يُفتح الباب ويدخل جاجا. قميصه التي شيرت الذي أحضرته له منذ أسبوعين به رقع بنية مثل بقع عصير الكاجو التي لايمكن إزالتها. بنطلونه القصير ينتهي فوق ركبتيه بكثير. أنظر بعيداً عن الجرب في فخذيه. لا ننهض لنعانقه لأنه لا يحب أن نفعل ذلك.
- ماما.. كامبيلي.. مساء الخير
يفتح دورق الطعام ويبدأ في الأكل. أشعر بارتعاش ماما بجانبي. ولأنني لا أريد لها أن تنهار، أتكلم بسرعة لعل صوتي يوقف دموعها.
- المحامون سيخرجونك الأسبوع المقبل
هز كتفيه بلامبالاة. حتى جلد رقبته مغطى بالجرب الذي يبدو جافا إلى أن يحكه فيتسرب صديد إلى الخارج. كل أنواع المراهم أدخلتها إليه ماما عن طريق الرشوة ويبدو أنها لم تفد في شيء.
يضع الأرز بأقصي ما يمكنه من سرعة في فمه، فبدا خداه المنتفخان المحشوان مثل ثمرتي جوافة جافتين.
- أعني سيخرجونك خارج السجن، جاجا، وليس إلى زنزانة مختلفة
يتوقف عن المضغ ويحدق في وجهي في صمت بتلك العينين اللتين تزداد قسوتهما قليلا كل شهر من الشهور التي أمضاها هنا. الآن تبدو عيناه مثل لحاء شجرة نخل، حتى أنني أتساءل ما إذا كنا قد تبادلنا فيما بيننا لغة العيون من قبل أو أنني كنت أتخيل ذلك.
- ستخرج من هنا الإسبوع المقبل.. ستعود إلى المنزل الإسبوع المقبل
أريد أن أمسك بيده، لكن عينيه تمتلئان بإحساس الذنب لأنه يراني ويرى انعكاس صورته في عيني.. صورة بطلي.. الشقيق الذي حاول دائما أن يحميني بأفضل ما في وسعه. لن يفكر أبداً أنه فعل ما كان ينبغي، ولن يفهم أبداً أنني لا أعتقد إذا كان عليه أن يفعل أكثر مما فعل.
- أنت لا تأكل
تقول ماما. يرفع جاجا الملعقة ويستمر في التهام الأرز ثانية. ران الصمت بيننا، لكنه كان نوعا مختلفا من الصمت.. صمت يجعلني ألتقط أنفاسي. تراودني كوابيس حول النوع الآخر من الصمت.. ذلك الصمت الذي عايشته عندما كان بابا حياً. في كوابيسي يمتزج الصمت بالعار والأسى والكثير جداً من الأشياء التي لا يمكنني أن أسميها، وتشكل ألسنة زرقاء من النار تحط فوق رأسي إلى أن استيقظ صارخة والعرق يبللني.
لم أخبر جاجا أنني أدعو في صلاة القداس كل أحد أن أرى بابا في أحلامي، وأنني أريد ذلك كثيراً حتى أنني في بعض الأحيان أصنع أحلامي بنفسي عندما لا أكون نائمة ولا مستيقظة: أرى بابا يبسط ذراعية ليعانقني وأبسط ذراعي أنا أيضا لأعانقه، لكن جسمينا لا يلمسان بعضهما أبداً.. ثم يهزني شيء هزاً عنيفا، وأدرك أنني لا أستطيع التحكم حتى في أحلامي التي أصنعها بنفسي.
- احكمي ربط وشاحك جيداً، ماما
أحدِّق في استغراب، فلم يسبق أبداً أن لاحظ جاجا ما يرتديه أي شخص. بعجلة أقرب إلى التهور، عدَّلتْ ماما من ربط وشاحها، وفي هذه المرة قامت بربطه مرتين وأحكمتْ ربطه خلف رأسها.
- الوقت انتهى!
يأتي الحراس إلى الحجرة. لم تلتق عيوننا قبل أن يدع الحراس يقتادونه بعيداً.
- يجب أن نذهب إلى نسوكا عندما يخرج جاجا
أقول لماما ونحن نغادر الحجرة، فيمكنني الآن التحدث عن المستقبل. تهز ماما كتفها بغير مبالاة ولا تقول شيئا. تسير ببطء ويتحرك جسدها إلى اليمين واليسار مع كل خطوة تخطوها. عند اقترابنا من السيارة تستدير إليّ وتقول "شكراً لك". إنها مرة من المرات القليلة على مدى السنوات الثلاث الماضية التي تتحدث فيها دون أن تكون هي نفسها من تتحدث إليه. لا أريد التفكير في السبب الذي تشكرني من أجله أو في القصد منه. ما أعلمه فقط هو أنني لن أشم رائحة فناء السجن العطنة الخانقة.
- سنأخذ جاجا إلى نسوكا أولا، ثم نذهب إلى أمريكا لزيارة العمة افيوما. وسنزرع أشجار برتقال جديدة في أبا عند عودتنا. وسيزرع جاجا أيضا شجيرات الكركديه الأرجوانية، وسأزرع شجرة الاكسورا حتى يمكننا امتصاص عصير زهورها
أضحكُ. أمد ذراعي وأضعه حول كتف ماما. تميل نحوي وتبتسم. فوقنا سحابات بيضاء متناثرة طافية وقريبة جداً من رأسينا. أشعر أن بإمكاني لمسها بيدي واعتصر ماءها. الأمطار الجديدة ستهطل سريعا.
http://www.misrelmahrosa.gov.eg/sect...87%D8%A7%D8%AA
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيد حجاب يحكى ليسري السيد قصته مع الشعر و اسرار علاقته مع جاهين وحداد والأبنودى حصريا لمصر المحروسة ج1ء yousrielsaid أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 0 10-07-2012 12:33 PM
أحمد هريدي يكتب كل هذا البهاء والجمال يسكبه فن الباليه في نفوسنا وأرواحنا .. شعر الحركة yousrielsaid أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 0 08-30-2012 12:17 PM
تحميل دعاء ليلة القدر للشيخ محمد جبريل mp3,دعاء ليلة القدر محمد جبريل 2011,دعاء ليلة القدر لمحمد جبريل mp3 kimospeed أرشيف القسم الإسلامي 2005-2016 0 08-26-2011 01:07 PM
نبض وجداني /من ديوان محمد الغندور الشاعر المحب لمصر الموعود9 قصائد منقوله من هنا وهناك 0 11-16-2010 12:32 PM


الساعة الآن 11:53 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011