عقدة الذكريات هي كوابيس تلاحق الشخص, وإن كان مُستيقظاً, تطارده
بكل مكان وتمنعه من عيش يومه بطريقة طبيعية, هي لعنة حلت
عليهم وكم تمنى أصحابها أن يفكوها لو أُتاحت لهم الفرصة لفعل ذلك, لكن
هيهات أن تعبث يد بشر بما قدره رب العباد فأي منا يفهم تدابيره سبحانه سواه
ومن يتجرأ ويخالف ذلك , سيلقى قطعاً ما لا تُحمد عقباه !
~~~~~
بداية الفصل الثاني :
بوسط ذلك البحر الهائج توقفت تلك السفينة ذات اللون الأزرق الحالك كحلكة
هذه الليلة وعواصفها, تقاذفتها الرياح وأمواج البحر الغاضبة بكل مكان, بينما
وقف على سطحها وعيناه البُنيتان الغامقتان تحدقان بالأفق البعيد, لم يكن حقاً
مغرماً بهذه الأجواء ولا بالعمل الذي يقوم به هو والبقية إلا أنه بنفسه عاش
هذه التجربة من قبل, لقد شاهد نتائج أن يعيش أكبر مخاوفه من قبل وفاده
الأمر كثيراً حقاً, التفت بجسده الضخم نحو ذلك الباب الموصد من الخارج
بقطعة خشب طويلة وهو يتساءل إن كانا بخير حقاً, ابتسم بهدوء فرامي قطعاً
سيكون بخير لكن ذلك الغر لن يكون كذلك وهذا يزعجه حقاً فلماذا يخشى
من المياه والبحر لهذه الدرجة ؟ إنه يظهر ضعفه بلا أي خجل وهذا أكثر
ما يثير غضب إيهاب بذلك الشاب, فهو إن تعلم حكمة ما من حياته ستكون
بلا ريب أن لا تظهر ضعفك للآخرين وإلا ندمت بلا شك !
شعر بشخص ما يخزه على خصره ليغمض عيناه بغضب شديد وهو يتمتم
بحقد:" أغرب عن وجهي وقم بعملك حتى لا نغرق حقاً"
رفع يده التي اكتسبت اللون البرونزي كحال بقية جسده ووجهه بسبب تعرضه
الدائم لأشعة الشمس ليضعها على شعره وهو يمسك بإحدى خصل شعره
البنية والمائلة للون الأشقر وهو يتحدث بترفع شديد :" تعلم يا صديقي العزيز
لستُ من يتخلى عن عمله بمثل هذا الوقت لأتأمل البحر
( وبشيء من الجد ) :" ألا يفترض بك إخباري عن الطريق الذي يتوجب
علي سلوكه بعد أن تلف نظام القيادة الآلي !"
تنهد بتعب وهو يسير برفقته للداخل ولكنه ما إن كاد يصل له حتى
ضربه بيده القوية بشيء من اللطف حتى لا يكسره بالفعل وهو يتحدث:" إياك
والتحدث معي بهذه الطريقة الوقحة أيها الطفل الثرثار."
بالرغم من أن تأوه من الألم بالبداية إلا أنه ابتسم وهو يسير بمحاذاته ليتحدث
بمرح :" هي إيهاب أخبرني منذ متى تعرفت إلى رامي ؟"
أجابه بسخرية شديدة :" ليس من شأنك أيها الفضولي "
نفخ هشام خديه بملل شديد وهو يسير ليتقدمه مُتجاهلاً بذلك إيهاب المزعج .
~~~~~
وبداخل تلك الغرفة بدأ بفتح عيناه تدريجياً وهو يشعر بيد ما تحركه برفق
شديد وهدوء, بصره كان مشوشاً ولذا رمش عدة مرات حتى اتضحت الرؤية
أمامه, وأول ما وقع بصره عليه كان رامي والذي ابتسم براحة ما إن رآه
يستعيد وعيه تدريجياً ليتحدث بسرعة:" حمداً لله , لقد استيقظت كُنت قلقاً
عليك للغاية "
اعتدل هيثم بجلسته قليلاً وهو لا يزال يحاول تذكر ما حدث له مسبقاً وفجأة
توسعت عيناه بشدة ليقف بسرعة وهو يهتف:"مهلاً ماذا حدث للسفينة ؟"
لم يتلقى أي إجابة من رامي بل شعر بالمياه تكاد تصل لركبتيه !
شعر بالرعب يتسلل لأعماقه لاسيما بعد رؤيته لرامي يجلس بهدوء بين المياه
ليصرخ بغضب:" وأنت لما لا تعثر على شيء مرتفع قليلاً حتى لا تغرق هُنا حقاً !"
ابتسم رامي بهدوء ليقف وقد ابتل نصف جسده:" لا داعي للقلق يا هيثم, فأنا
كنت أنتظر استيقاظك لنبدأ بالتحرك لكسر الباب معاً "
حل الصمت بعد هذه الجملة لعدة ثواني قبل أن يهمس هيثم بصوت هادئ
ومهزوز تماماً:" عندي بأنك لن تموت أمامي أبداً, ولن تغرق هنا"
رفع رامي عيناه بسرعة لينظر لوجه محدثه والذي اجتمعت الدموع بعيناه, فتلك
الجملة آخر ما توقعه منه ! هو ظن أنه ربما يطلب منه أن يعده بأنه لن يدعه
يغرق أو أن ينقذه لكنه حطم كل تلك التوقعات وضرب بها عرض الحائط
فمن كان يتوقع أنه سيطلب منه الحفاظ على حياته هو !
خرج من صدمته تلك ليضع يده على وجه هيثم بكل رفق ليجيب بابتسامة
واسعة وحنونة :" أقسم لك بأنني سأبذل كل جهدي للنجاة, لكن أن أعدك
تماماً فهذا مستحيل فأنا لا أعلم متى سيأتي الموت .
لم ترح كلماته هيثم وإن كان يدرك تماماً أن الموت هو أمر لابد منه لكل البشر
بالنهاية, ولكن جلوسه هكذا بلا أي عمل فقط بانتظار مصيره بسبب خوفه
من الماضي هو أمر لن يرغب حقاً بفعله لذا وأخيراً عقد العزم على النهوض
وقد قرن ذلك بالعمل الفوري بحيث اتجه نحو الباب وبرفقته رامي الذي
اتسعت ابتسامته فور رؤيته لوجه رفيقه الجاد.
~~~~~
كز على أسنانه بقوة شديدة وهو يتمتم بغضب شديد:" ما كان يجب أن يحدث
كل ذلك فهذا خطأ, كيف حدث هذا ؟!"
أجابه الأصغر سناً منه والخوف يرتسم على وجهه:" لا أعلم أقسم لك, كل شيء
كان بخير قبل دقائق فقط والآن تحطم كُل شيء !"
ضرب بيده أجهزة التحكم بالسفينة بكل قوة قبل أن يتحدث بصوت آمر:" أطلب
المساعدة حالاً و من ثم لنقم بفصل كل هذه الأجهزة ولنحاول القيادة يدوياً "
شهق هشام بفزع وقد تراجع للخلف عدة خطوات وهو يجيب:" أحمق! لم يعد
هنالك من يتعلم قيادة السفن, هذا جنون هذه الأجهزة قادرة على تدارك الوضع,
فهو عملها بكل حال, يفترض بنا فقط توجيهها للمكان الصحيح وهي من ستقود"
نظر نحو إحدى الزوايا بغرفة القيادة وقد احتوت على طاولة إلكترونية
بالكامل متشعبة الأجزاء والكثير من الرقاقات الدقيقة تنتشر بها, بحيث
تعمل بعضها كمجسات تشعر بأي جسم بعيد عنهم أو قريب وتحدد موقعه تماماً
وإن كان سيشكل خطر على السفينة أم لا , وبعضها الآخر يعمل بدلاً
من رُبان السفينة بحيث تحركها بعد إدخال المعلومات حول المنطقة التي تتوجه
له, عادى عن الكثير من الأجهزة الخاصة بالحماية والأمان إلا أن هنالك شيء
ما عالق الآن وهم غير قادرين على تحديده, فالسفينة توقفت من الاتجاه نحو
المدينة المقصودة وباتت تتجه إلى قلب العاصفة !
يستحيل أن تكون الفيروسات هي السبب فلا يوجد سوى أربعة أشخاص على
متنها وهم رامي وإيهاب وهيثم وهشام, كما أنهم لم يغادروها ولو لثانية واحدة
عند توقفها بالميناء, والأهم هو أجهزة مضاد الفيروسات عالي الجودة والذي
يستحيل أن يهزم .
ربما تصميمها من الخارج مشابه تماماً لما كانت عليه قبل أعوام إلا أن السفن
أصبحت أقل حجماً وسماكة كما أن اعتمادها الكامل على الطاقة الشمسية أو
على النفط ولكن فقط بكميات قليلة ولأوقات طارئة كالعواصف التي تستمر
لعدة أشهر.
حك شعره المجعد بطرف أصبعه ليتحدث وهو ينظر لمقود السفينة اليدوي
:" صحيح أنهم يضعوه هناك ولكنه أقرب بالمنظر منه إلى أداة مفيدة يمكن
استخدامها, فقط ليحافظوا على التراث , البلهاء "
تنفس هشام الصعداء بعد أن أطفأ جهاز طلب المساعدة ليتحدث بسرور
وبهجة :" لقد أخبرني عامر أن المساعدة ستكون هنا خلال ساعة "
أغمض عيناه ليبتسم قليلاً:" إذن علينا الحفاظ على حياتنا لمدة ساعة فقط,
لا بأس لنبذل ما بوسعنا"
أومأ هشام له بمرح شديد ليبدأ بالتحرك وهو يبحث عن أي خلل في الأنظمة
بمساعدة إيهاب والذي يعتبر أحد أكبر الفنيين بالحواسيب و الأجهزة الحديثة
لهذا العصر.
~~~~~
تنفس بصعوبة شديدة ليتحدث بانزعاج:" تباً أشعر بأن كتفي قد خُلع تماماً"
ابتسم بتعب ليجيبه:" ولكن ألم تشعر بأن ما يسد الباب قد تحرك قليلاً !"
أومأ برأسه إيجاباً قبل أن يهمس ببطء:" وأين هُما صديقاك المزعجان ؟ "
نظر له بعدم فهم قبل أن يجيب بشيء من التوتر:" تعني هشام وإيهاب ؟ ولكن
من أخبرك أنهما صديقاي ؟ فقط نحن نعرف بعضنا البعض منذ فترة قريبة جداً,
بكل حال من يعلم ربما مشغولا بمنع غرق هذه السفينة !"
اعتدل بوقفته وهو يجيب بشيء من الحدة:" أتمنى أنك تقول الحقيقة رامي
فأنا أعطيتك ثقتي بالرغم من أنها المرة الأولى التي نتقابل بها ولكن أتمنى
أن لا تخذلها حقاً"
أراد أن يجيبه ولكنه حقاً لم يكن مستعداً للكذب أكثر لذا أبقى فمه مُغلقاً وقرر
النهوض لمساعدته وهو يتمتم بألم:" ثق بأنني لا أريد سوى مساعدتك, وسأكون
دائماً هنا لأجلك "
تراجعا للخلف وهما يسعيان لضرب الباب بأقصى ما يمتلكانه من قوة عله يفتح
أبوابه ولكن وما إن كادا يصلا له حتى شعرا باهتزاز شديد بالسفينة أجبرهما
على السقوط أرضاً ليبتلا بالكامل!, نهض هيثم من المياه برعب وقد لاحظ
زيادة بمنسوبها بينما اعتدل رامي بالوقوف بهدوء وهو يراقب تدفق المياه الذي
بات أسرع من قبل ليقطب حاجباه بضيق وهو يشعر بوجود خطب ما حقيقي ! .
~~~~~
هتف هشام برعب حقيقي وهو يهتف بفزع:" لقد فقدنا السيطرة على منسوب
المياه بتلك الغرفة ! أقل من نصف ساعة وسيغرقان بالفعل, والأسوأ هو أن
أثاث الغرفة كالثريات المعلقة وغيرها ستقع بفعل الضغط, فتلك المضخة باتت
تضخ الكثير من المياه و ترفع من الضغط لذا حتى تحركهما بالغرفة سيصبح
أقل بقليل!"
ظهر الغضب جلياً على إيهاب الذي زمجر :" إذن قم الآن بفتح نظام سحب المياه من تلك الغرفة حالاً"
أخفض هشام رأسه بأسى وهو يجيب:" مستحيل, إنه لا يعمل "
عض على شفته السفلية بقهر, لم يكن كل هذا من ضمن المخططات , مجرد مقلب
بسيط لجعل هيثم يعيش خوفه مجدداً عله يشعر بقليل من الأمان بعد أن ينجح
بالتغلب على الموقف ولكن وببساطة انقلب كل شيء رأساً على عقب ويبدوا أنه
سيفهم سبب خوف هيثم من المياه, ربما سخريته من الأخير هي السبب بكل
ما يحدث ولكن الآن ماذا يجدر به أن يفعل فهنالك نصف ساعة عليه أن
يكملها ويتوجب عليه محاولة إنقاذ الجميع خلالها ! .
~~~~~~
عيناه توسعتا على أشدهما وهو يشعر بقطرات الدماء التي تقطر على وجهه
وبقية جسده, نظر لجسد رامي الدامي برعب حقيقي ودون أن يدرك بعد ما جرى,
رمش عدة مرات بعيناه ليتذكر أخيراً أنه نهض ليبدأ المحاولة مجدداً للخروج
ولكن وفجأة شعر بجسد مرافقه يمسك به بقوة ويحيطه كالدرع ومن ثم شعر
باصطدام شيء ثقيل بهما ليسقطا بالمياه التي تكاد تغرقهما حقاً,هذا المنظر
أفزعه بحق وجعله يستسلم تماماً, رامي المغطى بالدماء يغرق أمامه وهو ينظر
له فقط, أراد أن يبكي وأن يقتل نفسه مراراً على موافقته لأداء التجربة المُريعة
هذه, كان يجدر به البقاء برفقة والداه وشقيقه بالمنزل عوضاً عن تعريض حياته
وحياة هذا الشاب للخطر!
عندما بدأ شعور الاختناق يصل له بدأت الذكريات تنفجر بمخيلته لمئات
المرات حتى نهض فجأة بعزم ليمسك برامي ويرفعه للأعلى , صحيح أن الغرفة
لم تغرق بالكامل بعد إلا أن نصفها تقريباً بات مغموراً بالمياه وإن فقدت الوعي
فقطعاً سيكون الأمر كفيلاً بغرقك!
وضع هيثم الجريح على إحدى الأرائك الطافية! لينطلق ويبدأ بركل الباب بكل
ما يملك من قوة فهو لا يريد رؤية رامي يموت أمام عيناه وليس الوقت
هو بالوقت المناسب للتفكير بالوعود أو المشاعر أو حتى الماضي , إن لم
يرد أن يتكرر ذلك المشهد ويعيش ست أعوام أخرى مليئة بالكوابيس بوجه جديد
فهو قطعاً سيكون عليه العمل والتخلي عن خوفه, لكن الضغط بالغرفة يجعل
حركته أكثر صعوبة مما يجب! توقف للحظات ودموعه بدأت بالانهمار وهو
يشعر بأنه لا فائدة أبداً مما يفعلها, رفع رأسه للأعلى وقد رفع كلا يداه
ليتحدث بصوت كسير ومخنوق :" إلهي أعلم بأنني لستُ من عبادك الصالحين,
وأنني لم ألتزم بالكثير من أوامرك ولكن أرجوك وإن كانت نهايتي قد حانت
أن لا تكون هُنا, أرجوك إلهي أن لا يموت رامي هُنا, أتوسل إليك أمدني بالقوة
لإنقاذه على الأقل فأنت سيدي قادر على كل شيء"
أخفض بصره لينظر لرامي والذي اختلطت قطرات العرق بالدماء وأنفاسه تخرج
منه بقوة ليشد على قبضة يده بقوة شديدة وقد قرر أن يضع كل طاقته بركلة واحد
باتجاه الباب وهذا ما فعله بالفعل فقد بدأ بالتحرك لركله بقدمه وما إن لامسه
بقليل حتى سمع صوت تكسر الباب وانشقاقه, تراجع للخلف قليلاً وهو
مذهول بعض الشيء فلن تستطيع ركلته أن تحطم الباب حقاً إلا أنه سرعان
ما تقدم باتجاهه مجددا ليحاول ولكنه وما إن اقترب منه حتى تطايرت
شظاياه بكل أنحاء الغرفة وبعضها قد أصابه ليصيبه بجروح طفيفة للغاية,
إلا أن كل هذا لم يكن ليعنيه فقط تسمر بمكانه وهو يراقب المياه تخرج
من الغرفة إلى الخارج بينما يقف إيهاب والذي كان يلهث بتعب شديد
مقابلاً له وكذلك الأمر بالنسبة لهشام الذي كان يمسك بعصا ما ويبدوا
أنه كان يستخدمها لتحطيم الباب, ثوانِ فقط حتى ركض هشام باتجاه
رامي بقلق شديد, بينما فقد هيثم وعيه ليمسك إيهاب به وهو يتحدث بفتور
:" طفل مغفل ( وبابتسامة بسيطة أردف): لكنك بذلت كل جهدك أحسنت ".
شعر بصوت أحدهم خلفه وهو يتحدث :" أخبرتك بأنه يملك عزيمة جيدة "
نظر إيهاب لعامر الذي كان قد تعداه ليلقي نظرة على رامي المصاب وما
إن فعل حتى قطب حاجباه بضيق وهو يتحدث:" بسرعة أحضروا النقالة لهنا
فحالته ليست بسيطة أبداً "
بعد هذه الكلمات سارع بضع أشخاص يرتدون ثياب فرق الإنقاذ وقد كانت
باللون الأبيض وشعار على أكتافهم وقد رسم عليه ورقة الزيتون كرمز
للطب العربي بدلا من الهلال كما كان في العصور السابقة !
وبذلك تم نقلهم جميعاً إلى سفينة أخرى وقد بدأ المسعفون بمحاولة لإنقاذ
رامي بينما وضع هيثم بغرفة بمفرده ليرتاح قليلاً أما البقية فقد وقفوا أمام
غرفة الأول حتى يطمئنوا عليه فور خروج المسعفين .