عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 12-19-2015, 12:05 AM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 10 -

أفقْتُ تدريجياً فلم أكن أدرك في البداية أنني كنت نائماً.

كان شذى الأزهار في أنفي. رأيت نقظة كبيرة بيضاء تطير في الفضاء، ثم بعد بضع
ثوان أدركت أنني كنت أنظر إلى وجه بشر، وجه معلّق في الهواء على بعد قدم أو
قدمين مني. و بعد أن استعدت إدراكي أصبحتْ رؤيتي أكثر دقة، و ما زال الوجه
يوحي أنه وجه عفريت: وجه مدوّر فيه حاجبان منتفخان و شعر إلى الوراء و عينان
سوداوان صغيرتان كأنهما خرزتان، لكنه كان حتما وجه إنسان صغير نحيل. كانت
تنظر إلى نظرات حادة. قالت:

- مرحباً.

أجبتها و عيناي تطرفان:

- مرحباً!

- أنا جوزفين.

كنت قد استنتجت ذلك من قبل. كنت أعلم أن جوزفين أخت صوفيا في الحادية عشرة
أو الثانية عشرة من عمرها. كانت طفلة قبيحة مع شبة واضح بجدها، و لعل فيها
عقلاً مثل عقله أيضاً. قالت جوزفين:

- أأنت رجل صوفيا؟

أقررتُ، فقالت:

- لكنك جئت هنا مع رئيس المفتشين تافيرنر، لماذا جئت معه؟

- إنه صديقي.

- حقاً؟ أنا لا أحبه، و لن أقول له شيئاً.

- و ما الأشياء التي لن تقوليها له!

- الأشياء التي أعرفها... أعرف أشياء كثيرة، فأنا أحب كثرة السؤال.

جلست على ذراعي الكرسي و أمعنت النظر في وجهي فتضايقت منها، قالت:

- جدي قد قُتل، هل عرفت؟

- أجل، عرفت.

- لقد تسمم بالإي... سير... ين – نطقتْ هذه الكلمة بحذر شديد – ألا يثير ذلك الاهتمام؟

- بلى.

- أنا و يوستيس مهتمان كثيراً. إننا نحب القصص البوليسية، و قد تمنيت دائماً أن
أكون فتاة تَحرٍّ، و الآن أنا أتحرى و أجمع الأدلة.

أحسست أنها كالغول، و عادت إلى الموضوع:

- و هل صاحِبُ رئيس المفتشين الذي جاء معه محقق أيضاً؟ تدل الروايات أنك تقدر
على كشف المحققين الذين يلبسون ثيابهم المدنية من أحذيتهم، لكن هذا المحقق يلبس
حذاء سويدياً من القماش!

- لقد تغير الأمر القديم.

- أجل. فقد جدّت أشياء كثيرة الآن. سنذهب و نعيش في بيت في لندن عند الجسر.
أمي تريد ذلك منذ زمن. ستكون فرِحة جداً، و أبي لن يمانع أن نحمل كتبه أيضاً، لم
يكن يطيق ذلك من قبل، و كم خسِر من المال من أجل ((جيزبيل))!

- جيزبيل؟

- نعم، ألم ترها؟

- ها! هل كانت مسرحية؟ لا، لم أرها، كنت مسافراً.

- إنها لم تُعرض طويلاً، و الحقيقة أنها عمل فاشل، لا أرى أن أمي من الصنف الذي
يناسب دور جيزبيل، أليس كذلك؟

فكرت في ماجدا، لا تناسبها شخصية جيزبيل، لا في الثوب القرنفلي و لا في بدلتها،
لكنّ لماجدا صوراً أخرى لم أرها بعد. و قلت بحذر:

- ربما لا.

- جدي كان يقول دائماً أنها ستفشل في جيزبيل. قال إنه لن يدفع جُنيهاً من أجل
تمويل هذه المسرحيات التاريخية القديمة. تشاءم بها جميعاً لكن أمي كانت متحمسة
للمسرحية. أما أنا فلم أحب المسرحية كثيراً، لم تكن مثل القصة التاريخية الأصلية؛
فجيزبيل لم تكن شريرة بل امرأة وطنية و لطيفة جداً، و هذا ما يجعلها تبعث على
السأم. لا بأس في نهايتها، فقد ألقوها من الشباك و لكن الكلاب لم تنهشها، أظن أن
ذلك مؤسف، أليس كذلك؟ كنت أحب أن أرى الكلاب و هي تأكلها!
أمي قالت بأن سوْق الكلاب إلى المسرح شيء مستحيل، و لكني لا أفهم لماذا، فأنت
تستطيع أن تجعل الكلب يؤدي دوراً ما.

ثم قالت جوزفين كلمة مقتبسة:

- ((و قد أكلتْها كلها سوى راحتيْها))! لماَ لم تأكل الكلام راحتيها؟

- لا أدري.

لعلّ الكلاب كانت مروّضة؟ إن كلابنا ليست كذلك... تأكل كل شيء!

فكرتْ جوزفين في هذا اللغز التاريخي بضع لحظات، و قلت لها:

- إنني آسف لأن المسرحية فشلت!

- نعم. كانت أمي كئيبة، فالتعليقات كانت مخيفة، و عندما قرأتها انفجرت بالبكاء و
كانت تبكي طوال اليوم، و ألقت بطبق الإفطار على غليدز فنطقت غليدز بكلمة غريبة.

- أرى أنك تحبين الدراما يا جوزفين!

- لقد شرّح الأطباء جثة جدي ليعلموا سبب موته.

- أأنت آسفة على موته؟

- ربما، و لكني لم أكن أحبه كثيراً؛ لأنه منعني من تعلّم رقص الباليه.

- هل كنت تريدين تعلم رقص الباليه؟

- أجل، و كانت أمي ترغب أن أتعلمه و والدي لم يكن يمانع، لكن جدي زعم أن هذا
لن ينفعني!

ثم سألتني بطريقة عارضة:

- هل تحب هذا البيت؟

- ربما، لست متأكداً تماماً.

- أظنه سوف يًباع إلا إذا قررت بريندا أن تمكث فيه، و أظن أن العم روجر و كليمنسي لن يرحلا الآن.

سألتها باهتمام كبير:

- أوكانا سيرحلان؟

- نعم، كانا سيرحلان يوم الثلاثاء بالطائرة إلى مكان ما، و قد اشترت كليمنسي حقيبة
خفيفة جديدة.

- لم أسمع أنهما كانا سيرحلان.

- أجل، فلا أحد يعرف و هما لم يخبرا أحداً بذلك، و كانا ينويان أن يتركا رسالة
لجدي من ورائهما, لم يكن سفرهما أكيداً... كان ذلك بالأسلوب الذي كانت الزوجات
يفعلنه حين يتركن أزواجهن في الروايات القديمة، لكنه الآن فعل سخيف!

- بالطبع. جوزفين، هل تعلمين لماذا كان عمك سيرحل؟

نظرت إلي نظرة ماكرة من طرف عينيها:

- أظنني أعلم... ربما من أجل شيء ذي علاقة بمكتب العم روجر في لندن، لعله
اختلس شيئاً.

- لماذا تظنين ذلك؟

اقتربت جوزفين مني أكثر و همست في أذني:

- يوم تسمم جدي كان عمي روجر مع جدي في غرفته و أغلق الباب بعد فترة
طويلة. كانا يتحدثان و يتحدثان، و قال عمي روجر بأنه لم يعُد يصلح للعمل و أنه
سيتخلى عن جدي... ليس بسبب المال، لكن بسب إحساسه أنه غير جدير بالثقة. لقد
كان في حال سيئة.

- جوزفين، ألم يقل لك أحد أبداً أنه ليس جميلاً أن تتنصتي وراء الأبواب؟

هزت جوفين رأسها بقوة:

- لقد قالوا لي طبعاً، لكنك إذا أردت أن تكتشف شيئاً فعليك أن تتنصّت
وراء الباب. أنا واثقة أن رئيس المفتشين تافيرنر يفعل مثلي، أليس كذلك؟

فكرتُ في هذه الكلمة و أردفت جوزفين:

- و على أية حال فإن كان تافيرنر لا يفعل ذلك فإن الرجل الآخر يفعله، ذلك الرجل
الذي يلبس الحذاء السويدي، كما أنهم يفتشون أدراج الناس و يقرؤون رسائلهم
جميعاً و يفضحون أسرارهم كلها... إنهم أغبياء لا يعرفون كيف يفتشون!

كانت جوزفين تتكلم بتفاخر قليل، و كم كنت أحمق لأنني لم أفهم رأيها هذا، و جعلت
الطفلة البغيضة تتكلم من جديد:

- إني و يوستيس نعرف كثيراً من الأمور، و أنا أعرف أكثر منه و لكني لن أخبره
به. إنه يزعم أن النساء لا يستطعن أن يتفوقْنَ في أعمال التحري لكني أقول بأنهن
يستطعن. سوف أدون كل شيء في دفتري، ثم، عندما تتحير الشرطة تماماً أتقدم أنا
إليهم و أقول لهم: ((أنا أعلم من فعل ذلك)).

- هل تقرئين قصصاً بوليسية مثيرة يا جوزفين؟

- كثيراً جداً.

- و أنت تعتقدين أنك تعرفين قاتل جدك؟

- نعم، لكن عليّ أن أكشف بعض الأدلة الأخرى – و سكتتْ قليلاً –.. هل يظن
رئيس المفتشين تافيرنر أن بريندا هي التي ارتكبت الجريمة أ، أنها هي و لورانس
معاً لأنهما يحبان بعضهما؟

- يجب ألا تقولي أشياء كهذه يا جوزفين!

- لم لا؟ إنهما يحبان بعضهما.

- إنك لا تعلمين، فلا تحكمي عليها.

- لم لا؟ هما يكاتبان بعضهما برسائل الحب.

- جوزفين، كيف عرفت ذلك؟

- لآنني قرأتها... رسائل عاطفية. لورانس رجل عاطفي، و كان خائفاً من القتال في
الحرب. لقد ذهب إلى السراديب ليختبيء، و كان يعمل في إيقاد النار في السفن. حين
كانت القنابل تسقط هنا كان وجهه يشحُب فأضحك منه كثيراً عندئذٍ، أنا و يوستيس!

لم أعرف ماذا أقول بعدها، و في تلك اللحظة توقفت سيارة في الساحة، فانطلقت
جوزفين سريعاً إلى النافذة و ألزقت أنفها الأفطس بزجاج النافذة. سألتُها:

- من هذا؟

- إنه السيد جيتسكيل، محامي جدي. أظن أنه جاء ليناقش الوصية.

و أسرعتْ إلى خارج الغرفة و هي هائجة لكي تكمل أعمال التحري التي تنجزها. و
جاءت ماجدا ليونايدز إلى الغرفة، و لشدة دهشتي اقتربتْ مني و أمسكت بيدي. ثم
قالت:

- يا عزيزي، أشكر الله أنك ما تزال هنا، إني محتاجة إلى رجل.

و أفلتتْ يدي و ذهبتْ إلى كرسي له ظهر عالٍ و زحزحتْه قليلا عن مكانه و نظرت
إلى نفسها في المرآة، ثم رفعت علبة مزخرفة على طاولة و وقفت حزينةً تفتحها و تغلقها.

أدخلت صوفيا رأسها من الباب و قالت همساً تذكرّ ماجدا:

- جيتسكيل!

- أعرف.

دخلت صوفيا الغرفة بعد بضع لحظات يلحقها رجل عجوز ضئيل الحجم، و وضعت
ماجدا علبتها المزخرفة و جاءت لمقابلته.

- صباح الخير يا سيدة فيليب. إنني ذاهب إلى الأعلى، فالظاهر أن هناك سوء فهم
بخصوص الوصية. لقد كتب زوجك إليّ موحياً أن الوصية عندي، في حين كنت قد
فهمت من السيد ليونايدز نفسه أن الوصية كانت في حوزته، لا أظنكم تعلمون شيئاً
عنها، أليس كذلك؟

فتحت ماجدا عينيها بذهول:

- في شأن وصية الرجل المسكين؟ لا، قطعاً لا. لا تقل لي أن تلك المرأة الشريرة في
الطابق العلويّ قد أتلفتها.

هزّ المحامي أصبعه موبّخاً:

- و الآن يا سيدة فيليب. لا حاجة للظن الشيء، بل هو سؤال عن مكان الوصية!

- لكنه أرسلها إليك. أجل، أرسلها إليك حتماً بعد أن وقّعها، هو أخبرنا بذلك!

- أعتقد أن الشرطة قد قلّبوا أوراق أريستايد الخاصة. سوف أتناقش مع رئيس المفتشين تافيرنر في هذا.

و غادر الغرفة، فصرختْ ماجدا تخاطب صوفيا:

- لقد مزّقتْها يا حبيبتي. أنا على حق.

- هذا هراء يا أمي، إنها لم تكن لتفعل شيئاً غبياً كهذا.

- إنه ليس غبيّاً على الإطلاق: إذا لم تكن ثمة وصية فسوف ترث كل شيء!

- صه... ها هو جيتسيكل عاد مرة أخرى.

دخل المحامي الغرفة ثانية، و جاء معه رئيس المفتشين يتبعه فيليب. و قال جيتسكيل:

- لقد فهمت من السيدة ليونايدز أنه وضع الوصية في المصرف لتكون في مأمنٍ هناك.

هز تافيرنر رأسه نافياً:

- لقد اتصلت بالمصرف، ليس عندهم أية ورقة تخص السيد ليونايدز ما عدا سندات
مالية معينة.

قال فيليب: إنني أتساءل إن كان روجر... او خالتي إيديث... و ربما صوفيا. هل
تستطيع دعوتهم ليأتوا إلى هنا.

لم يكن روجر ذا فائدة حين دعي إلى الاجتماع. قال:

- هذا هراء، هراء بلا شك. والدي قد وقع الوصية و أعلن أنه سوف يرسلها بالبريد
إلى السيد جيتسكيل في اليوم التالي!

قال السيد جيتسكيل و هو يستند إلى الكرسي مغمضاً عينيه نصف إغماض:

- إن لم تخني ذاكرتي فقد أرسلت له مسودّة وصية في الرابع و العشرين من تشرين
الثاني من العام الماضي صغتها حسب إرشاد السيد ليونايدز نفسه، و قد وافق على
المسوّدة و أعادها إلي، ثم أرسلت إليه بعد ذلك الوصية ليوقعها، و بعد أسبوع ذكرّته
بأنني لم أستلم منه الوصية بعد توقيعها و تصديقها، و سألته إن كان يرغب في
تعديلها، فردّ قائلاً بأنه راضٍ تماماً و سوف يرسل الوصية بعد توقيعها إلى المصرف
الذي يتعامل معه.

قال روجر متلهفاً:

- هذا صحيح تماماً. كان ذلك في نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي. أتذكر
يا فيليب حين جمعنا والدي ذات مساء جميعاً و قرأ الوصية علينا؟

التفت تافيرنر إلى فيليب ليونايدز:

- أتذكره يا سيد فيليب؟

- نعم.

- آنسة صوفيا؟

- نعم، أتذكر ذلك تماماً.

سأل تافيرنر:

- و ما هي بنود تلك الوصية؟

أوشك جيستيكل أن يُجيب المفتش بطريقته الدقيقة لكن روجر سبقه قائلاً:

- كانت وصية بسيطة تماماً، فقد ماتت إلكْترا و جويس فعادت حصتهما من التسوية
لوالدي. و قتل ويليام ابن جويس في معركة في بورما فذهب المال الذي تركه لأبيه.
و قد بقي فيليب و أنا و الأطفال الأقرباء وحدنا عنده ليس سوانا. و قد فصّل والدي
وصيته: خمسون ألف جنيه بلا ضرائب إلى الخالة إيديث، و مائة ألف بلا ضريبة إلى
بريندا، و هذا البيت لبريندا أو نشتري لها بيتاً مناسباً في لندن حسب رغبتها هي.
و أما البقية فتُقسم ثلاث حصص: واحدة لي، و واحدة لفيليب، و الثالثة تقسم بين
صوفيا و يوستيس و جوزفين، و حصة الاثنين الأخيرين تبقى تحت الوصاية حتى
يبلغا السن القانونية. أظن هذا صحيحاً، أليس كذلك يا سيد جيستيكل؟

- بلى، إنها بنود الوصية التي صغتها بالضبط.

- لقد قرأها الوالد علينا و سألنا إن كان لنا أية ملاحظة على هذه الوصية، فلم تكن
لنا من ملاحظة.

قالت الآنسة دي هافيلاند:

- بريندا قدمت ملاحظة.

قالت ماجدا بتلذذ: نعم، قالت بأنها لا تطيق احتمال حبيبها العجوز أريستايد و هو يذكر
الموت؛ لأن هذا يوقع في نفسها الشعور بالذعر، و هي لا تريد شيئاً من ماله إن هو مات!

و علقت إيديث دي هافيلاند فوراً:

- كان ذلك اعتراضاً تقليدياً يتناسب مع طبقتها الاجتماعية.

كانت هذه كلمة قاسية و عنيفة من دي هافيلاند، و أدركت فجأة كم تكره إيديث دي
هافيلاند بريندا!

قال المحامي جيستيكل:

- إنه توزيع عادل و معقول جدا لأملاكه.

- و ماذا حدث بعد قراءة الوصية؟

روجر: بعد أن قرأها وقعها.

مال تافيرنر إلى الأمام سائلاً:

- كيف وقعها و متى؟

نظر روجر إلى زوجته كأنما يستنجدها، فتكلمت كليمنسي و قد بدا بقية العائلة راضين:

- تريد أن تعرف ما الذي حدث تماماً؟

- أرجوك يا سيدة روجر!

وضع حماي الوصية على درْج مكتبه و دعا أحدنا – أظنه روجر – ليقرع الجرس
ففعل. حين جاء جونسن ليجيب الجرس طلب حميّ منه أن يذهب و يدعو خادمة
الاستقبال جانيت وُلْمر، و عندما جاء الاثنان وقع الوصية و أمرهما أن يشهدا و يوقعا
باسميهما الحقيقين.

قال السيد جيستيكل:

- ذاك هو الصواب، يجب أن يوقع الموصي الوصية في حضور شاهدين يوقعان في
الزمان و المكان نفسه.

- و بعد ذلك؟

- شكرهما حماي و خرجا، و أخذ الوصية و وضعها في مغلف طويل و أعلن أنه
سوف يرسلها إلى السيد جيستيكل في اليوم التالي.

نظر رئيس المفتشين تافيرنر حوله و قال:

- هل توافقون جميعاً على أن هذا سرد دقيق لما حدث؟

و سمعنا همسات موافقة. ثم سأل تافيرنر كليمنسي:

- كانت الوصية على المكتب كما قلتِ. كم كانت المسافة بين أيٍّ منكم و ذلك المكتب؟

- لم تكن المسافة قصيرة جداً. ربما كان يبعد عنه أقربنا أربعة أمتار أو خمسة.

- أكان السيد ليونايدز يجلس خلف المكتب و هو يقرأ الوصية عليكم؟

- نعم.

- و هل نهض من مكانه أو ترك الكتب بعد قراءة الوصية و قبل توقيعها؟

- لا.

- هل كان بإمكان الخادمين قراءة الوصية حين وقّعها كلاهما؟

- لا، فقد وضع حماي ورقة بيضاء على الجزء العلوي من الوثيقة.

فيليب: أجل، فما كُتب في الوصية لم يكن يهم الخدم.

و بحركة سريعة أخرج تافيرنر ظرفاً طويلاً و انحنى ليسلّمه للمحامي قائلاً:

- انظر إلى هذا و أخبرني ما هو؟

أخرج السيد جيستيكل وثيقة مطوية من الظرف. نظر فيها مذهولاً و قلبها بين يديه
مرة تلو الأخرى:

- إنها مفاجأة لا أفهمها بتاتاً!... هل لي أن أسألك أين كانت هذه؟

- في الخزانة الحديدية بين أوراق السيد ليونايدز الأخرى.

سأل روجر: و لكن ما هذه؟ لمَ كل هذه الضجة من أجلها؟

- هذه هي الوصية التي أعددتُها لوالدك ليوقعها يا روجر، و لكنها ليست موقعة!

- ماذا؟ أظنها مسوّدة.

- لا. لقد أعاد السيد ليونايدز المسوّدة لي، ثم صغت الوصية: هذه الوصية – و
نقرها بأصبعه – و أرسلتها له كي يوقعها. و وفق شهادتكم فقد وقع الوصية أمامكم
أجمعين و شهدها شاهدان، لكن هذه الوصية لم توقع!

صاح فيليب ليونايدز بقوة و جعل فمُه يهدُر:

- هذا مستحيل!

سأله تافيرنر:

- كيف كان بصر أبيك؟

- كان مصابا بالغلوكوما، و كان يضع نظارة سميكة عند القراءة.

- هل كان يضع هذه النظارة في ذلك المساء؟

- نعم، طبعاً، إنه لم ينزع نظارته إلا بعد أن وقع الوصية، أليس كذلك يا كليمنسي؟

- هذا صحيح تماماً.

- هل أنتم متأكدون أن أحداً لم يقترب من مكتبه قبل توقيع الوصية؟

قالت ماجدا و هي تغمض عينيها قليلاً:

- ترى لو أن أحداً يستطيع تصور ذلك مرة أخرى!

قالت صوفيا: لم يقترب احد من المكتب، و جدي جلس وراءه طوال الوقت.

- هل كان المكتب في نفس الموضع الذي هو فيه الآن؟ ألم يكن قريباً من الباب
أو الشباك أو أية ستارة؟

- بل حيث هو الآن.

- إنني أجتهد أن أرى كيف تتغير أمكنة الأشياء، فلابد أن شيئاً قد تغير مكانه. لقد
كان السيد ليونايدز عازماً أن يوقع الوثيقة التي قرأها لتوه عليكم.

روجر: ألا يمكن أن تكون التواقيع قد محيت؟

- لا يا سيد روجر. لابد أن تترك أثراً على ذلك. لعل هذه ليست الوثيقة التي أرسلها
السيد جيتسيكل إلى السيد ليونايدز و التي وقعها في حضوركم.

قال السيد جيتسيكل: كلا، بل إن هذه هي الوثيقة الأصلية. في الورقة شق صغير في
أعلاها إلى اليسار على شكل طائرة، لقد لاحظته آنذاك.

نظر الحاضرون إلى بعضهمُ البعض بذهول و أكمل جيتسيكل:

- إنها ظروف غريبة جداً لم يسبق لها مثيل خلال عملي من قبل!

قال روجر: إن الأمر كله غريب! كنا جميعاً هناك فكيف يحدث ذلك؟

سعلت الآنسة دي هافيلاند سعلة جافة و قالت:

- هذا كلام لا يجدي قطّ، كيف تقول في شيء قد حدث إنه لم يحدث... و ما هو
الموقف الآن؟ هذا ما أودّ معرفته.

أصبح جيتسيكل في الحال محامياً حذراً. قال:

- تجب دراسة الموقف بحرص. إن هذه الوثيقة تبطل قطعاً كل الوصايا التي قبلها، و
ثمة عدد كبير من الشهود الذي رأوا السيد ليونايدز يوقع بحسن نية ما كان يظنه
يقيناً أنه هذه الوصية. هذا عجيب! إنها مشكلة قانونية صغيرة. لا بأس.

نظر تافيرنر إلى ساعته:

- أخشى أنني أؤخركم عن غدائكم!

سأله فيليب:

- ألا تبقى و تأكل الغداء معنا يا حضرة المفتش؟

- شكراً لك يا سيد ليونايدز، و لكني سأقابل الدكتور غراي في سوينلي دين.

التفت فيليب إلى المحامي:

- هل تتغدى معنا يا جيتسيكل؟

- شكراً لك يا فيليب.

نهضنا جميعاً. تقدمتُ إلى صوفيا و همستُ:

- هل أمكث أم أغادر؟

- أرى أنه من الأفضل أن تغادر.

و انسللْتُ بهدوء خارج الغرفة على أثر تافيرنر. كانت جوزفين تمشي جيئة و ذهاباً
قرب باب أخضر يؤدي إلى الساحة الخلفية، و كانت تبدو مسرورة جداً من شيء ما.
قالت:

- الشرطة أغبياء!

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال:

- ماذا كنت تفعلين يا جوزفين؟

- كنت أساعد ناني.

- بل كنت وراء الباب تتنصّتين.

نظرت جوزفين إليها باشمئزاز ثم انسحبت. و قالت صوفيا:
- هذه الطفلة جزء من المشكلة.





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]


التعديل الأخير تم بواسطة زيزي | Zizi ; 12-19-2015 الساعة 03:15 PM
  #12  
قديم 12-19-2015, 03:00 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 11 -

وصلت إلى غرفة مساعد المفوض في سكوتلانديارد لأجد تافيرنر يُنهي سرده
لتفصيلات التحقبيق قائلاً:

- و النتيجة أنني غادرتُهم و لم أحصل منهم على أي شيء! لا دوافع، لا أحد منهم
كان معسراً، كل ما علمناه ضد بريندا و صديقها الشاب هو أنه كان يرمقها بنظراته
عندما كانت تسكب له القهوة.

قلتُ: لا عليكم يا تافيرنر، يمكنني أن أضيف شيئاً أفضل من ذلك.

- حقاً؟ حسناً يا تشارلز، ماذا عندك؟

جلست أتحدث و قد أسندت ظهري إلى المقعد:

- كان روجر و زوجته يخططان للرحيل يوم الثلاثاء القادم، و قد التقى روجر مع
والده لقاءً عاصفاً في اليوم الذي توفي فيه العجوز. اكتشف العجوز ليونايدز شيئاً غير
طبيعي، و كان روجر يعترف أنه يستحق اللوم.

احمرّ وجه تافيرنر:

- من أين حصلت على هذه المعلومات؟ إن كنت حصلت عليها من الخدم...

- ماذا تقصد بقولك؟

- و إني أعترف – وفق القواعد المقررة في القصص البوليسية – بأنه – أو بالأصحّ
بأنها – قد تفوقت على الشرطة. ثم إن التحري الخاص بي لديه أشياء خاصة ما يزال
يحتفظ بها لنفسه.

فتح تافيرنر فمه ثم سكت مرة أخرى. أراد أن يسأل أسئلة كثيراً لكنه أدرك أن من
الصعب أن يبدأ. ثم قال:

- روجر! أهو روجر ذلك الرجل؟

كرهت أن أفضي بهذا السر، فقد كنت أحب روجر ليونايدز. كرهت – و أنا أتذكر
غرفته المريحة الجميلة و سحر الرجل الودود – أن ينطلق رجال العدالة على أثره
فيعتقلوه. ربما تكون أخبار جوزفين كلها غير موثوقة، لكنني – في الحقيقة – لم أكن
أظن ذلك. قال تافيرنر:

- إذن الطفلة أخبرتك ذلك؟ إنها تبدو طفلة واعية لما يدور في ذلك البيت!

قال والدي معلّقاً:

- الأطفال هكذا في العادة.
لو كان هذا الخبر يقيناً فسوف يتغير الموقف كله. لو كان روجر كما زعمت
جوزفين(يختلس) أموال شركة الغذاء، لو كان الرجل العجوز قد كشف أمره فيلزم
روجر و زوجته اسكات العجوز ليونايدز و مغادرة إنكلترا قبل اكتشاف الحقيقة... ربما
يكون روجر قد ارتكب هذه الجريمة!

تم الاتفاق على إجراء التحقيق في شؤون شركة التجهيز الغذائي فوراً دون تأخير.
قال والدي:

- لو أن ذلك الرجل غادر لكانت كارثة شاملة. إنها مسألة تهم أناساً كثيراً، فهي تتعلق
بملايين الناس.

- لو كانت الشركة في أزمة مالية أو ورطة فسوف تتضح الفرضية: الأب يستدعي
روجر، ينهار روجر و يعترف. بريندا ليونايدز كانت خارجاً في السينما، فما كان على
روجر إلا أن يغادر غرفة أبيه إلى الحمام و يفرغ زجاجة الأنسولين و يضع فيها
محلولاً خالصاً من الإيسيرين ثم يكون ما كان.

أو أن زوجته فعلتْها: صعدت إلى الجناح الأخر بعد أن عادت إلى البيت ذلك اليوم
مدعيةً أنها ذاهبة لتحضر غليون روجر الذي تركه هناك. كان بإمكانها أن تصعد هناك
لتغير المحلول قبل أن تعود بريندا إلى البيت لتعطيه الحقنة. إنها رابطة الجأش و تقدر
على فعل ذلك!

أومأت برأسي و قلت:

- نعم. كأني أراها هي من فعل الجريمة، فإن لديها قدرة عجيبة على ضبط نفسها و
لجم انفعالاتها، و لا أظن أن روجر يخطر بباله السم وسيلة؛ لأن حيلة الأنسولين فيها
رائحة أنثوية!

قال والدي بغلظة:

- كثير من الرجال يستعملون السم في القتل.

تافيرنر: أعرف يا سيدي، أتراني جاهلا؟ لكني لا أظن روجر من هذا الصنف.

- و هل تذكر بريتشارد يا تافيرنر؟ لقد كان بريتشارد مازجاً ماهراً للسم!

- إذن لنفترض أنهما كانا مشتركين فيها معاً.

قالها تافيرنر و انصرف، و قال والدي:

- أيخطر ببالك يا تشارلز أنها تشبه الليدي ماكبث في رواية شكسبير؟

تخيلت المشهد: المرأة الجميلة تقف قرب النافذة في غرفة متقشفة، و قلت:

- ليس تماماً، فقد كانت الليدي ماكبيث امرأة جشعة كثيراً، و كليمنسي ليونايدز غير
جشعة. أظن أنها لا تهتم بالمال و لا تحرص أن تحوزه و تملكه.

- لكن ألا يهمها نجاة زوجها و سلامته؟

- بلى، و ربما تكون طبعاً قاسية القلب.
... هذا ما قالته صوفيا: (( قسوة القلب))!

رفعت بصري لأرى الرجل العجوز يراقبني:

- فيم تفكر يا تشارلز؟

و لكني لم أخبره حينئذٍ.
***
دُعيت اليوم التالي فوجدت والدي و تافيرنر معاً. كان تافيرنر مسروراً قليلاً،
و قال والدي:

- إن شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية.

قال تافيرنر:

- أجل... إنها عرضة للانهيار في أية لحظة.

قلت: علمت أن الأسهم نزلت في الليلة الماضية نزولاً حاداً، لكنها عادت و ارتفعت
هذا الصباح.

قال تافيرنر: يجب أن نتحقق بحذر شديد. لا نريد تحقيقات مباشرة تسبب الذعر أو
تروع صاحبنا الذي يريد الفرار، فلدينا مصادر خاصة و الأخبار أكيدة تماماً. شركة
التجهيز الغذائي على شفير الهاوية و قد تعجز أن تفي بالتزاماتها. هي تعاني من فساد
الإدارة منذ عدة سنين.

- إدارة روجر ليونايدز؟

- نعم، إن سلطته قوية كما تعلم.

- و قد اختلس مالاً...؟

- لا، لا نظن أنه فعلها. قد يكون روجر قاتلاً و لكننا لا نعتقد أنه محتال، و بصراحة
لقد كان أبله لا يملك أدنى حد من الحكمة، كان ينطلق حين يلزمه أن يتوقف، و يتردد
و يتراجع حيث يجدر به الانطلاق و التقدم، و كان يعتمد على رجال و يوكل إليهم
أعمالاً هم آخر من توكل إليهم مثلها. إنه رجل يثق بالناس الذي لا يستحقون الثقة، و
في كل مرة و كل مناسبة يعمل العمل الخطأ!

قال والدي: رأيت رجالاً من صنفه، لكنهم ليسوا أغبياء في الحقيقة. إنهم يخطئون في
الحكم على الرجال فحسب، و يتحمسون في وقتٍ لا ينبغي فيه الحماس.

قال تافيرنر:

- إن رجلاً مثل روجر لا يجب أن يسند إليه عمل من الأعمال بتاتاً.

- لعله لم يكن ليصبح ذلك لولا أنه ابن أريستايد ليونايدز.

- كانت الشركة حين عهد العجوز إليه بها شركة ناجحة، و كان ينبغي أن تصبح
((منجم ذهب)). لكنني أراه جلس مستريحاً و ترك الشركة تدير نفسها!

هز أبي رأسه و قال:

- لا. لا شركة تدير نفسها بنفسها، في كل شركة قرارات يجب اتخاذها: فصل هذا و
توظيف ذاك، و أسئلة حول سياسة الشركة، أما روجر فيبدو أن أجوبته كانت دائماً خطأ!

قال تافيرنر:

- هذا صحيح. إنه رجل مخلص: أبقى على الموظفين الفاشلين لأنه يميل إليهم أو لأنهم
كانوا يعملون في الشركة منذ دهر بعيد! ثم كانت له أحياناً أفكار طائشة غير عملية
و كان يصرّ على تجربتها رغم نفقاتها الباهظة.

ألحّ والدي قائلاً:

- و لكن ألا توجد مخالفة جنائية؟

- لا مخالفة جنائية.

سألتُه: إذن فلمَ يقترف جريمة القتل؟

- ربما كان أحمق لا محتالاً، لكن النتيجة واحدة. كان الشيء الذي ينقذ هذه الشركة من
الإفلاس مبلغاً ضخماً يتم تدبيره قبل – فتح دفتره و قرأ – ... قبل الأربعاء القادم
على أبعد تقدير.

- مبلغ كالذي يرثه حسب وصية والده، أليس كذلك؟

- بالضبط.

- لكنه لم يكن ليستطيع الحصول على ذلك المبلغ نقداً.

- لكنه سيسهّل له الحصول على اعتماد أو قرض مصرفي.

أومأ الرجل العجوز برأسه موافقاً، قال:

- ألم يكن أسهل عليه أن يذهب للعجوز ليونايدز فيطلبَ منه مالاً؟

- لقد فعل لاذلك، هذا ما سمعتْه الطفلة، فلعل العجوز رفض صراحة أن يدفع خشية
من الخسارة ثانية. لقد ذهب روجر إليه.

أظن أن تافيرنر كان على حق، فقد رفض أريستايد لونايدز دعم مسرحية ماجدا و قال
بأنها لن تجني أرباحاً في شباك التذاكر. ثم تبيّن أنه على حق. كان ليونايدز رجلاً
كريماً مع عائلته لكنه لا يضيّع المال في مشروعات غير رابحة، كما أن الشركة يساهم
فيها الآلاف و ربما مئات الآلاف. لقد رفض صراحة، و ليس أمام روجر لكي يتجنب
الإفلاس إلا وفاة والده. نعم، لابد من دافعٍ بالتأكيد.

نظر والدي في ساعته و قال:

- طلبت منه أن يحضر، سيكون هنا الآن في أية لحظة.

- روجر؟

- نعم.

همستُ:

- قالت العنكبوت للذبابة: ((هلاّ أتيتِ إلى بيتي؟)).

نظر تافيرنر إلي مندهشاً! قال بقسوة:

- سنأخذ منه حذرنا و نحترس.

بدأ العمل، و حضر الكاتب. و في الحال قرع جرس المكتب ثم، بعد بضع دقائق، دخل
روجر ليونايدز الغرفة متلهفاً مرتبكاً، و تعثرت قدمه بأحد الكراسي فتذكرت كلباً
ضخماً ودوداً و في الوقت نفسه قررت جازماً أنه ليس هو الذي نفذ العمل و بدل
زجاجة الإيسيرين بألنسولين، إذن لكان يسكرها أو يسكبها أو ترجف يده و يفشل في
الحيلة بطريقة أو أخرى. لا... لا شك أن كليمنسي هي الفاعل و إن كان روجر متهماً
بعلمه هذا العمل.

تدفقت الكلمات من فمه:

- هل أردت رؤيتي؟ هل وجدت شيئاً؟ مرحبا يا شارلز. لم أرك. جميل منك أن تأتي
هنا. و لكني أرجوك أن تخبرني يا سير آرثر...

إنه رجل لطيف، و لكن كثيراً من القتله كانوا رجالاً لِطافاً، و ذلك ما كان يؤكده
أصدقاؤهم المذهولون بعد جرائمهم. و ابتسمت محيّياً.

كان أبي رجلاً حازماً هادئاً يحترس في حديثه، فجرت كلماته عفوية: الشهادة.. سوف
تدون... لا إكراه... محامٍ...

أزاح روجر ليونادز كل هذه الأشياء جانباً غير صابر، و رأيت ابتسامة المفتش تافيرنر
الساخرة على وجهه فعرفت ما يخطر باله، كان يقول في نفسه: ((إنهم واثقون من
أنفسهم. هؤلاء الأشخاص لا يخطئون. إنهم أذكياء!)).

و جلست في زاوية من الزوايا و أضغيت. قال والدي:

لقد دعوتْك هنا يا سيد روجر لا من أجل أن أعطيك معلومات جديدة و لكن لأطلب
منك بعض المعلومات التي كتمتها من قبل.

بدا روجر ليونايدز متحيراً:

- كتمتها؟ لكني أخبرتك بكل شيء، كل شيء دون كتمان!

- لا، لقد جرى بينك و بين الفقيد حديث في مساء يوم مقتله، أليس كذلك؟

- بلى بلى، شربت معه الشاي. لقد أخبرتكم بذلك.

- أجل، أخبرتنا بذلك، لكنك لم تخبرنا ماذا دار بينكما.

- لقد... كان... حديثاً ليس غير.

- فيم تحدثتما؟

- في الأمور اليومية: البيت، صوفيا...

- فماذا عن شركة التجهيز الغذائي؟ هل ذكرتماها؟

تمنيت ساعتئذٍ أن تكون جوزفين قد اخترعت القصة كلها، لكن هذا الأمل سرعان ما
تلاشى، فقد تغير وجه روجر، تغير في لحظة واحدة إلى شيء قريب من اليأس، و
قال:

- يا إلهي!

و جلس على كرسي و غطى وجهه بيديه. ابتسم تافيرنر كالقطة المطمئنة:

- أتعترف يا سيد روجر أنك لم تكن صريحاً معنا؟

- كيف عرفتم بذلك؟ كنت أظن أنْ لا أحد كان يعلمه. لا أفهم كيف علمه غيري؟

- لدينا وسائلنا الخاصة في معرفة هذه الأمور يا سيد ليونايدز.

و سكت سكتة مهيبة ثم قال:

- أظن أنك تفهم الآن. من الأفضل لك أن تخبرنا بالحقيقة.

- نعم، نعم. بالطبع سأخبركم. ماذا تريدون أن تعرفوا؟

- هل صحيح أن شركة التجهيز الغذائي توشك أن تنهار؟

- نعم. لقد فات الآوان فلا أستطيع إنقاذها الآن! إن الانهيار آتٍ لا محالة! ليت أبي
مات دون أن يعرف ذلك! إنني أشعر بالعار و الخزي الشديد...

- و هل هناك احتمال لحدوث مقاضاة جنائية؟

انتصب روجر في مكانه متحداً:
- لا. سيكون إفلاس لكنه إفلاس شريف: سندفع للمساهمين عشرين شلنا لكل جنيه
ناهيك عن موجوداتي الشخصية. إن الخزي الذي أصابني سببه أنني خذلت والدي! لقد
كات يثق بي و عهد بهذا العمل إليّ و هو أكبر اهتماماته. كان العمل المفضل لديه. إنه
لم يتدخّل يوماً و لا سألني عما كنت أفعله. كان يثق بي لكنني خذلته!

قال أبي بجفاف:

- هل قلت: ((لا توجد مقاضاة جنائية))؟ إذن فلم خططت أنت و زوجتك للسفر دون
إعلان أو خبر؟

- و تعرف هذا أيضا؟

- أجل يا سيد ليونايدز.

انحنى روجر إلى الأمام:

- لم أكن أستطيع مواجهته بالحقيقة، خشيت أن يفهم أني أطلب منه مالاً كأني أستنجد
به ليوقفني على قدميّ مرة أخرى. لقد.. لقد كان يحبني كثيراً، و كان سيساعدني، لكني
لم أستطع... لم أستطع المواصلة. كانت المواصلة تعني ورطة مرة أخرى. إني لا
أصلح لهذا العمل، فليست عندي القدرة عليه. أنا لست مثل أبي.
كنت أعلم بنفسي منه، لقد حاولت فلم أنفع. كنت تعيساً جداً! يا إلهي! إنك
لا تعرف تعاستي التي ذقتها و أنا أحاول الخروج من المشكلة و أرجو رضاه
و آمل ألاّ أضطر للبوح بالأمر للرجل العجوز! و لكن لم يَبْقَ أي أمل في
تجنب الكارثة.
زوجتي كلمينسي، تفهّمت الأمر و وافقتني الرأي، و فكرنا في هذه الخطة معاً. لم نقل
لأحد شيئا: نهرب و ندع العاصفة تثور.
كنت ساترك لأبي رسالة أفصّل الأمر له فيها و كيف أنني كنت أشعر بالخزي، و
أتوسل إليه أن يسامحني! كان طيباً معي دائماً!
لكنّ الوقت كان متأخراً إن هو أراد أن يفعل شيئاً. ما كنت أريد منه المساعدة، كنت
أريد أن أبدأ من جديد في مكان آخر. أحيا حياة بسيطة متواضعة: أزرع البُنّ و الفواكه
لتكون عندي ضروريات الحياة فقط. و كان ذلك صعباً على زوجتي، لكنها أقسمت ألا
تمانع. إنها رائعة. رائعة دون ريب!

قال أبي بجفاء:

- و ما الذي جعلك تغير رأيك؟

- أغيّر رأيي؟


- نعم، لماذا عزمت أن تذهب إلى أبيك و تطلب منه المساعدة المالية بعد كل هذا؟

حَدَقَ روجر إلى أبي و قال مندهشاً:

- لكني لم أفعل ذلك.

- هيّا يا سيد ليونايدز.

- لقد أخطأ من أبلغكم ذلك. أنا لم أذهب إليه، بل هو أرسل في طلبي. كأنه سمع –
بطريقة ما – من أهل المدينة. لعلها كانت إشاعة، لكنه كان يعلم ما يجري حوله دائماً.
صارحني أبي، ثم، أخبرته بكل شيء و قلت له بأن رحيلي ليس بسب المال و إنما
إحساسي أني خذلته بعد أن وثق بي!

ثم تغير صوت روجر و جعل يتكلم بانفعال:

- لا يمكنك أن تتخيل كم كان الرجل العجوز طيباً معي. لم يوبخني، بل كان لطيفاً.
أخبرته أنني لا أريد المساعدة و أفضّل ألا يساعدني و أنه من الخير أن أرحل كما كنت أخطط،
لكنه ما كان ليضغي إليّ. لقد أصر على إنقاذي و على دعم شركة التجهيزات
الغذائية لتستأنف عملها من جديد.

قال تافيرنر بحدة:

- أتريدنا أن نصدق أن والدك كان ينوي مساعدتك مادياً؟

- كان ينوي ذلك يقيناً، و قد أوصى سماسرته هنا و هناك من أجل مساعدتي.

قرأ روجر الشك في عيون الرجلين، فاحمرّ وجهه و قال:

- ما زلت أحتفظ بالرسالة. كنت سأرسلها بالبريد، لكني نسيتها من... من الصدمة
و الفوضى! ربما أحضرتها و لعلها في جيبي الآن.

أخرج محفظته و بدأ يبحث فيها، و أخيراً وجد ما كان يريده. أخرج ظرفاً مجعداً عليه
طابع، و كان عنوانه(شركة غريتو ريكس و هانبري)). قال:

- فلتقرأْها بنفسك إن كنت لا تصدقني.

فتح والدي الرسالة، و ذهب تافيرنر وراءه. لم أر الرسالة وقتئذٍ لكني رأيتها من بعد:
كانت تطلب من ((شركة غريتو و هانبري)) أن تسيّل استثمارات معينة و ترسل في
اليوم التالي أحد أعضاء الشركة من أجل شروط معينة تتعلق بشؤون شركة التجهيز
الغذائي. كان السيد أريستايد ليونايدز يتخذ الإجراءات اللازمة إيقاف الشركة على
قدميها مرة أخرى.

احتفظ تافيرنر بالرسالة قائلاً:

- سنعطيك وصلاً بهذه الرسالة يا سيد ليونايدز.

أخذ روجر الصكّ و نهض قائلاً:

- هل من شيء آخر؟ هل فهمتم الآن الأمر كيف كان؟

قال تافيرنر:

- هل أعطاك السيد ليونايدز هذه الرسالة ثم غادرته، ماذا فعلت بعد ذلك؟

- رجعت سريعاً إلى جناحي الخاص في المنزل. كانت زوجتي قد دخلت لتوها
فأخبرتها بنية والدي و كيف كان رائعاً. إنني – في الحقيقة – لم أعلم ماذا كنت أفعل!

- ثم مرض والدك، بعد كم من الوقت حدث ذلك؟

- دعني أتذكر... ربما نصف ساعة، أو ساعة. جاءت بريندا مسرعة خائفة، قالت بأنه
يبدو غريباً. و قد... و قد انطلقت معها، لكني أخبرتكم بكل ذلك من قبل.

- خلال زيارتك الأولى لجناح والدك. هل ذهبت إلى الحمام المجاور لغرفته؟

- لا أظن. لا... لا... إني لم أفعل ذلك قطعاً. لماذا؟ لا. لا يمكن أن تظنوا أنني..

هدأ والدي مشاعر السخط المفاجئة. نهض و صافحه قائلاً:

- شكراً لك يا سيد ليونايدز! لقد ساعدتنا كثيراً، لكنْ كان يجب أن تخبرنا بهذا من قبل.

أغلق الباب وراء روجر. و نهضتُ لأنظر إلى الرسالة فوق طاولة والدي فيما رددّ
تافيرنر متمنياً:

- يمكن أن تكون مزورة.

قال والدي: ربما. لكني لا أظن ذلك، علينا أن نقبل بها تماماً كما هي.
كان العجوز ليونايدز مستعداً ليخرج ابنه من هذه الورطة بطريقة فعّالة و هو ما يزال
حياً بأفضل مما يستطيع روجر عمله بعد موته، لا سيّما بعد أن أصبح معروفاً الآن أن
أحداً لم يجد الوصية فغدا نصيب روجر مشكوكاً فيه، و هذا يعني التأخير و العقبات، و
حسب ما هي الحال عليه الآن فإن الكارثة قادمة! لا يا تافيرنر، ليس لدى روجر
ليونايدز أو زوجته دافع لقتل العجوز. بل على العكس من ذلك...

سكت أبي و كرر كلمته الأخيرة متأملاً كأن فكرة خطرت له فجأة. سأله تافيرنر:

- ما الذي يدور في ذهنك يا سيدي؟

- لو أن أريستايد ليونايدز عاش 24 ساعة أخرى لكان روجر بخير! لكنه لم يعش

24 ساعة، مات فجأة بصورة مثيرة خلال ساعة أو أكثر قليلاً!

- هل تظن أن أحداً في البيت كان يسعى لإفلاس روجر؟ شخص له مصلحة مضادة،
ألا ترى هذا؟

سأل والدي:

- ما هي حقيقة الوصية؟ من الذي يرث أموال ليونايدز في الواقع؟

تنهد تافيرنر عميقاً و قال:
- أنت تعلم مهنة المحاماة: المحامون لا تسمع منهم جواباً صريحا. هناك وصية سابقة
كتبها حين تزوج بريندا. ثم هذه الوصية تقسم لبريندا النصيب نفسه، و أقل منه للآنسة
دي هافيلاند و الباقي بين فيليب و روجر. لو لم تكن هذه الوصية موقعة فإن الوصية
القديمة ستكون معتمدة لكن الأمر يبدو صعباً. أولاً: إن كتابة الوصية الجديدة قد أبطلت
السابقة، و عندنا شهود على إمضائها، و هناك ((نية الموصي)). لو تبين أنه مات و
لم يوص إذن تفوز الأرملة بحصة مدى الحياة على أية حال!

- إذن فلو اختفت الوصية فإن بريندا ليونايدز هي أكثر الأشخاص انتفاعاً، أليس كذلك؟

- بلى. لو كان هناك خداع فلعلها تكون متورطة فيه. و من الواضح أن في الأمر
خدعة، لكني لا أعلم كيف هي؟

لم اكن أعرف أنا الآخر. أظن أننا كنا حمقى؛ لأننا كنا ننظر للأمر من الزاوية الخطأ.





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]


التعديل الأخير تم بواسطة زيزي | Zizi ; 12-19-2015 الساعة 03:19 PM
  #13  
قديم 12-19-2015, 08:32 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 12 -

خرج تافيرنر و مازلنا صامتْين. ثم قلت بعد برهة:

- كيف يكون شكل القتلة يا أبي؟

نظر الرجل العجوز متأملاً. كنا نفهم بعضنا جيداً ففهم ما كنت أفكر فيه حين سألته.
و أجابني بجدية تامة:

- أجل. هذا مهم جدا بالنسبة لك، فقد أصبح القتل قريباً منك، فما عاد ممكنا أن نتظر
إليه بعين المراقب البعيد.

كنت أهتم بعض القضايا المثيرة في المباحث الجنائية، لكني كنت – كما قال أبي –
أطلّ عليها من بعيد. أما الآن فقد صار الأمر قريباً مني للغاية. و لا بد أن صوفيا قد
أردكت ذلك بسرعة أكثر مما فعلت.

قال الرجل العجوز:

- لا أدري إن كنت أنا الذي ينبغي أن تسأله، أستطيع أن أوصلك باثنين من أطباء
النفس الذين يؤدون أعمالاً لنا و تافيرنر يمكن أن يقدم لك بعض المعلومات الداخلية، و
لعلك تريد أن تسمع رأيي أنا بسب خبرتي في المجرمين، أليس كذلك؟

قلت بامتنان:

- نعم، هذا ما أريده.

رسم والدي بأصبعه دائرة صغيرة على الطاولة:

- ما هو شكل القتلة؟

و ابتسم بسمة باهتة كئيبة و هو يضيف:

- بعضهم كان لطيفاً جداً.

لعلّي جفلتُ قليلاً. و استمر والدي قائلاً:

- نعم. كانوا لِطافاً مثلك و مثلي و مثل الرجل الذي خرج الآن روجر ليونايدز. القتل
جريمة غير محترفَة. إنني أتحدث عن نوع الجرائم التي تفكر فيها و ليس جرائم
العصابات. أشعر أحيانا كثيرة أن هؤلاء المجرمين اللطاف فوجئوا بجريمة القتل
فاضطروا أن يرتكبوها بطريقة عارضة تقريباً، كأن يُحصَروا – مثلاً – في زاوية
ضيقة أو أنهم يريدون شيئاً بإلحاح شديد كالمال أو المرأة، فيقتلون من أجلهما. إن
الضمير ساعتئذٍ يتعطل لديهم. الطفل يترجم رغبته في العمل دون وخز الضمير، و
الطفل الذي يغضب على قطته يقول(سوف أقتلك))، و يضرب رأسها بمطرقة، ثم
يحزن لأن القطة قد ماتت. كم من رضيع يحاولون أخذ رضيع من عربته ليغرقوه لأنه
يلفت الإنتباه أو يعكّر ملذاتهم. إن الأطفال يعرفون في مرحلة مبكرة جداً أن هذا
((خطأ)) فإن فعلوه عوقبوا، لكن كثيراً من الناس لا ينضجون إنفعالياً بالقدر الكافي:
يدركون أن القتل عمل خاطئ لكنهم لا يحسون به. لا أعتقد – حسب تجرِبتي – أنني
رأيت قاتلاً أصابه الندم حقاً، بل هو يبحث عن تعليل لما ارتكبه متجاوزاً نفسه: ((كان
ذلك هو الطريق الوحيد))، أو ((هو – الضحية – الذي سعى إلى حتفه))... إلخ


- لو كان أحد يكره العجوز منذ زمن بعيد، فهل يكون الكره سباً لقتله؟

- كراهية فحسب؟ هذا بعيد جداً حسب ظني...

و نظر إليَّ بفضول قائلاً:

حين تقول(كراهية) فإنني أظنه أنك تقصد أن الحب قد انقضى. كراهية الغيرة أمر
مختلف؛ لأنه هذه تنشأ من التعلق و الإحباط. الناس يقولون بأن كونستانس كِنْت كانت
تحب أخاها الرضيع الذي قتلته حباً كبيراً، لكننا نظن أنها كانت تريد نزع انتباه و محبة
الآخرين له. الناس في الغالب يقتلون من يحبون أكثر من قتلهم من يكرهون؛ لأن الذين
تحبهم هم وحدهم الذين يستطيعون أن يجعلوا حياتك لا تطاق!
لكن هذا لا يساعدك كثيراً، أليس كذلك؟ كأن الذي تريده يا تشارلز هو علامة ما أو
إشارة تساعدك في كشف القاتل من بين أهل البيت الذي يبدون أناساً عاديين يبعثون
على السرور، أليس كذلك؟

- نعم، هذا هو ما أريده.

- و هل ترى بينهم صفة مشتركة؟

و سكت قليلاً و هو يفكر ثم قال:

- لو كان كذلك فإنني أميل إلى القول بأنها الغرور.

- الغرور؟

- أجل، لم أَرَ قاتلاً غير مغرور. إن الغرور هو الذي يؤدي إلى كشفهم غالباً، ربما
يخافون القبض عليهم، لكنهم لا يستطيعون كفّ نفوسهم عن التباهي و الاحتيال، و هم
عادة يكونون متأكدين أنهم أذكياء لا يمكن أن يمسك بهم أحد، و هنا شيء آخر: إن
القاتل يريد أن يتحدث.

- يتحدث؟

- أجل، إن القاتل حين يقتل يصير في عزلة شديدة، فهو يحب أن يصارح أحداً بكل
شيء، لكنه لا يستطيع. و هذا يجعله يريد أن يخبر بالمزيد، و هكذا: إن كان لا
يستطيع أن يقول كيف فعل هذا فإنه يستطيع أن يتحدث عن القتل نفسه و يناقشه و
يطرح نظريات لتدرسها.
لو كنت مكانك يا تشارلز لنتبهت لهذا الأمر. اذهب هناك مرةً أخرى و اقعدْ بينهم و
اختلطْ بهم جميعاً و اجعلْهم يتحدثون. لن يكون عملاً سهلاً، و سواء كانوا مجرمين أو
أبرياء فسيكونون سعداء بفرصة التحدث مع رجل غريب؛ لأنهم سيقولون لك أشياء لا
يقولونها لبعضهم، و لعلك تستطيع أن تتبين الاختلاف، فالذي يريد أن يكتم شيئا في
نفسه لا يطيق بالطبع الحديث معك، و كان رجال الاستخبارات يدركون ذلك بالطبع أيام
الحرب. لو أنك أُسِرْتَ ستفشي اسمك و رتبتك و رقمك العسكري و لا شيء غيرها.
أما الذي يحاولون إعطاء معلومات مزيفة فإن ألسنتهم تزل دائماً. فلتجعل أهل البيت
يتحدثون يا تشارلز و راقب فيهم زلة اللسان أو لمحات الكشف عن الذات.


أخبرتُه عندها أن صوفيا تحدثت عن القسوة في العائلة، و ذكرتْ أنواعاً مختلفة منها،
فاهتم بذلك اهتماماً كبيراً و قال:

- أجل، إن لدى فتاتك شيئاً في هذا الأمر، إن الصفات الوراثية شيء يثير الاهتمام. خذ
على سبيل المثال قسوة دي هافيلاند، و ما يمكن أن نسميه عديمية الضمير عند ليونايدز.
إن عائلة هافيلاند طبيعيين لأنهم ليسوا عديمي الضمير أما عائلة ليونايدز فهم رغم
تجردهم من الضمير إلا أنهم عطوفون، و لكن أحدهم ورث هاتين الصفتين مجتمعتين.
هل تفهم ما أعنيه؟

لم أفكر بهذه الطريقة تماماً، و قال والدي:

- لن أرهقك بالصفات الموروثة، فهذا أمر دقيق و معقّد جداً. اذهب يا ولدي و دعهم
يحدثونك. إن فتاتك محقة تماماً في شيء واحد: لن ينفعك و ينفعها سوى الحقيقة.

ثم أضاف فيما كنت أغادر الغرفة: و احذْر الطفلة!

- جوزفين؟ تعني الاّ أبوح لها بما أنوي أن أفعله؟

- كلا، لم أقصد ذلك، بل أقصد أن تعتني بها، فلا نريد أن يصيبها شيء.

حَدَقْتُ إليه، فقال:

- هيا يا تشارلز، إن بين أهل البيت قاتلاً يقتل بدم بارد، و يظهر أن الطفلة جوزفين
تعرف معظم ما يجري.

- إنها تعرف كل شيء عن روجر، و ربما أخطأت بالقفز إلى إستنتاجٍ بأنه محتال و
لكن معلوماتها تبدو صحيحة!

- نعم، نعم. إن شهادة الطفل هي أفضل الشهادة و أنا أصدقها كل مرة، لكنها لا تفيد
في المحكمة قطعاً؛ لأن الأطفال لا يطيقون توجيه الأسئلة المباشرة، بل تراهم يهمهمون
و يبدون بلهاء و يقولون بأنهم لا يعرفون لكنهم يكونون في أفضل أحوالهم عندما
يتباهون. سوف تسمع منها مزيداً بالطريقة نفسها: لا تسألها أسئلة، اجعلها تشعر أنك لا
تعلم شيئاً لتثيرها، و لكنّ عليك أن تهتم بأمرها، فلعلها تعرف كثيراً من أجل سلامة إنسان!





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

  #14  
قديم 12-19-2015, 08:38 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]



- 13 -


تركت أبي و ذهبت إلى ((البيت المائل)) و شعور قليل بالذنب يلازمني، لقد كررت
على مسمع تافيرنر أسرار جوزفين التي تتصل بروجر، لكنني لم أقل شيئاً حول مسألة
بريندا و لورانس براون و رسائل الحب.

إني معذور، فقد حسبت ما بيتهم رومانسية مجردة و لم أعلم سباب يثبت صحة ذلك،
لكني كرهت أن أجمع أدلة أخرى على بريندا ليونايدز، كنت أشفق عليها من عائلة تكنّ
لها العداء و هي متجمعة عليها بقوة. لو كان مثل هذه الرسائل بينهما فلا شك أن
تافيرنر و أعوانه سيجدونها، كنت أكره أن أكون سباب في طرح نهمة جديدة على
امرأة تعيش وضعاً صعباً! ثم إنها أكدت لي بهدوء أنه لم يكن بينها و بين لورانس أية
علاقة، و شعرت أني أميل إلى أن أصدقها أكثر من تلك ((القزم الحقود)) جوزفين!
ألم تقل بريندا بلسانها بأن جوزفين لم تكن هناك؟

كتمت قناعتي بأن جوزفين كانت هناك، و تذكرت الذكاء في عينيها السوداوين الصغيرتين.

و كلّمت صوفيا بالهاتف و سألتها إن كانت تأذن لي بالقدوم ثانية؟

- أرجوك أن تأتي يا تشارلز.

- كيف تسير الأمور؟

- لا بأس، ما زالوا يفتشون البيت، عمّ يبحثون؟

- لا أدري.

- إننا جميعاً غاضبون جداً، تعال في أسرع وقت، سوف أجن إذا لم أتكلم مع شخص ما.

قلت لها بأني سآتي إليها فوراً.

لم أرً أحداً و أنا قادم في السيارة إلى الباب الأمامي. أعطيت السائق أجره و نزلت.
ترددت: هل أقرع الجرس أم أدخل، فقد كان الباب مفتوحاً.

و بينما أنا كذلك سمعت صوتاً خفيفاً من خلفي. أدرت رأسي بحدة... كانو جوزفين
عند فتحت سياجٍ من الشجر تنظر إليَّ و قد حجبتْ وجهها تفاحةٌ كبيرة، ذهبت تجاهها.

- مرحبا جوزفين.

لم تجبني، لكنها اختفت خلف السياج، و عبرتُ الطريق و تبعتها. كانت تجلس على
مقعد خشبي صدئ غير مريح عند بركة السمك و تحرك ساقيها و هي تقضم التفاحة.

كانت تنظر إليَّ باكتئاب و شيءٍ لا أحسبه إلا العداء. قلت:

- ها قد جئت ثانية يا جوزفين.

كانت بداية ضعيفة، لكن كان صمت جوزفين و عيناها الجاحظتان يثيران الأعصاب.

و مازالت صامتة تفكر تفكيراً عميقاً. سألتُها:

- هل هذه تفاحة جيدة؟

هذه المرة تعطّفت جوزفين و أجابت بكلمة واحدة:

- غامضة!

- أمر مؤسف! لا أحب التفاح الغامض.

ردّت جوزفين بازدراء:

- لا أحد يحب ذلك.

- لم لم تكلميني حين قلت(مرحبا))؟

- لم أكن أريد ذلك.

- لماذا؟

أبعدت جوزفين التفاحة عن وجهها لتساعد في توضيح حجبها و قالت:

- لأنك ذهبت و أبلغت الشرطة.

تفاجأْت:

- ها! تقصدين... بخصوص...

- بخصوص العم روجر.

- لكن لا بأس يا جوزفين لا بأس. إنهم يعرفون أنه لم يقترف ذنباً، لم يختلس مالاً أو
شيئاً كهذا.

نظرتْ جوزفين إليَّ نظرة ساخطة:

- كم أنت غبي!

- إني آسف!

- لست قلقة على العم روجر؛ لكن هذا ليس أسلوب العمل البوليسي. ألا تعرف أنه
ينبغي أن لا تخبر الشرطة حتى النهاية؟

- ها! فهمت. إني اسف يا جوزفين. إني آسف حقاً!

- يجب ان تشعر بالأسف، لقد كنت أثق بك!

قلت لها مرة ثالثة بأنني آسف. بدت جوزفين هادئة، قضمت التفاحة مرتين و قلت لها:

- لكن الشرطة سيكتشفون كل شيء. إنك... إنني... نحن لا نستطيع أن نكتم الأمر طويلاً.

- تقصد لأنه كاد يفلس؟

كانت جوزفين – كعادتها – عالمة بالأمر. و قلت:

- ربما. أظن أن الأمر سيصل إلى ذلك الحد.

- سيتحدثون هذه الليلة: والدي و والدتي و العم روجر و الخالة إيديث. سوف تعطيه
الخالة إيديث مالها لكنها لم تأخذه بعد، أما والدي فلا أظنه يعطيه، إنه يقول(إن كانت
روجر قد وقع في مأزق فعليه أن يلوم نفسه، و ما فائدة تبذير المال في مشروع
خاسر؟)، كما أن أمي لن ترضى أن تعطيه جنيهاً واحداً لأنها تريد من والدي أن
يعطي المال إلى إيديث تومبسون. هل تعرف إيديث تومبسون؟ كانت متزوجة من رجل
لم تحبه، و كانت تحب شاباً يدعى بيواترز، و قد نزل من السفينة و سار في شارع
مهجور بعد المسرح فطُعِنَ في ظهره.

تعبت مرة أخرى من نضج معلومات جوزفين و الفهم الدرامي الذي قدم جميع الحقائق
البارزة بإيجاز. قالت جوزفين:

- إن الأمر يبدو طبيعياً، لكني لا أظن أن المسرحية ستكون كهذه على الإطلاق، سوف
تكون مثل جيزبيل مرة أخرى... – و تنهدت – كنت أتمنى أن أعرف لمَ لم تأكل
الكلاب راحتيها؟

- جوزفين، هل قلت بأنك متأكدة من هوية القاتل؟

- حسناً؟

- من هو؟

نظرت إلي نظرة ازدراء، فقلت:

- فهمت. لن تخبريني إلا عند الفصل الأخير؟ فإذا وعدتك ألا أخبر المفتش تافيرنر؟

- بل أريد بعض الأدلة الأخرى.

و جعلت تلقي لبّ التفاحة في حوض أسماك الزينة، ثم أضافت قائلة:

- على أية حال ما كنت سأخبرك بذلك لأنك تشبه واطسون في قصص شيرلوك هولمز.

تحملتُ هذه الإهانة و قلت:

- حسناً. أنا واطسون، لكن واطسون عرف أسراراً!

- ماذا عرف؟

- الحقائق، ثم بعد ذلك اجتهد فأخطأ، ألَنْ يكون أمراً مسلياً لك أن أسمع منك ثم ترينني
أقوم باستنتاجات خاطئة؟

أُغريتْ جوزفين لحظة، لكنها بعد ذلك هزت رأسها و قالت:

- لا، و على كل حال فأنا لا أحب قصص شيرلوك هولمز... إن أسلوبها قديم و
يركب أبطالها عربات تجرها الكلاب!

- و ماذا عن تلك الرسائل؟

- أية رسائل؟

- رسائل لورانس براون و بريندا.

- لقد اخترعتها.

- لا أصدقك.

- نعم، إنها كذبت اخترعتها! إنني أخترع كثيراً أشياء من هذا النوع، فهذا يسليني.

حدقتُ فيها و حدقتْ إليّ:

- اسمعي يا جوزفين: أعرف رجلاً في المتحف البرطاني مطّلعاً على القصص
التاريخية. لو سألته: لم لَمْ تأكل الكلاب راحتي جيزبيل فهل تخبرينني عن هذه الرسائل؟

هذه المرة ترددت جوزفين حقاً. ثم في مكان ليس بعيداً انكسر غصن شجرة و أحدث
صوتاً حاداً. قالت جوزفين ببرود:

- لا، لن أخبرك.

رضيتُ بالهزيمة. و في وقت لاحق من ذلك اليوم تذكرتُ نصيحة والدي. أما في تلك
اللحظة كررت المحاولة:

- حسناً... إنما هي لعبة. أنت لا تعلمين شيئاً.

قدحت عين جوزفين لكنها قاومت الإغراء، نهضتُ و قلت:

- هيا، يجب أن أدخل الآن لأبحث عن صوفيا.

- سأقف هنا.

- لا. لن تفعلي. سوف تدخلين معي.

شددتُها بغلظة حتى تقف على قدميها فتفاجأتْ، احتجّتْ لكنها استسلمت عن طيب خاطر
منها، ربما لأنها كانت ترغب ملاحظة ردود فعل أهل البيت عند حضوري.

لم أدرك في تلك اللحظة سرَّ حرصي على اصطحابها معي إلى البيت، و لكن السبب ما
لبث أن خطر بالي و نحن ندخل من الباب الأمامي:

كان السبب هو انكسار الغصن المفاجئ!





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

  #15  
قديم 12-19-2015, 08:53 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 14 -


كانت همسات تُسمع من قاعة الجلوس الكبيرة. ترددت و لكني لم أدخل، تمشيت في
الممر و بدافع الغريزة دفعت باباً أخضر. كان الممر من خلفي مظلماً لكن باباً انفتح
فجأة مظهراً لي مطبخاً كبيراً مضيئاً.

كان عند الباب امرأة كبيرة في السن، عجوز ضخمة تضع مريلة بيضاء نظيفة حول
خصرها السمين، و حين رأيتها عرفت أن كل شيء كان على ما يرام. إنه الشعور
الذي يسكن في قلبك من مدبرة المنزل ناني الطيبة. إنني في الخامسة و الثلاثين
لكنني أحسست أنني ولد صغير مطمئن في الرابعة من عمره!

و لقد عرفت أن مدبرة المنزل ناني لم نكن قد رأنني من قبل لكنها قال في الحال:

- أنت السيد تشارلز، أليس كذلك؟ ادخل إلى المطبخ و دعني أقدم لك كوباً من الشاي.

كان مطبخاً كبيراً و جميلاً. و جلست إلى الطاولة الوسطى، و أحضرت ناني لي فنجاناً
من القهوة و قطعتين من البسكويت على طبق، و أحسسن أنني في الحضانة مرة
أخرى: كل شيء كما يرام و لم تعد المخاوف من الظلمة و المجهول تنتابني! قالت ناني:

- ستكون الآنسة صوفيا مسرورة جداً لمجيئك فهي متضايقة.

و أضافت و قد تغير لون وجهها: عجباً! إنهم جميعاً في ضيق.

نظرت ورائي و قلت:

- أين جوزفين؟ لقد دخلت معي!

طقطقت ناني بلسانها استهجاناً:

- إنها تتنصت وراء الأبواب و تدون ما تسمع في ذلك الدفتر الصغير السخيف الذي
تحمله حيثما ذهبت. كان يجب أن تذهب إلى المدرسة و تلعب مع أترابها من الأطفال.
لقد قلت ذلك للآنسة إيديث و وافقتني، لكن السيد رأى أن تبقى هنا في البيت.

- أظن أنه كان يحبها كثيراً.

- نعم كان كذلك يا سيدي، كان يحبهم جميعاً!

بدا الذهول على وجهي قليلاً و أنا أتعجب لماذا كان حب فيليب لذريته يعبر عنه
بصيغة الماضي، و لاحظت تاتي ملامح الدهشة فاحمر وجهها قليلاً:

- عندما قلت(السيد) فإنما كنت أعني السيد ليونايدز العجوز.

و أردت أن أجيبها لكن الباب انفتح بقوة و دخلت صوفيا مندفعة. قالت:

- تشارلز..!

ثم أضافت بسرعة تخاطب ناني:

- أنا سعيدة لأنه جاء يا ناني.

- أعلم أنك سعيدة يا حبيبتي.

جمعتْ ناني الأوعية و حملتها إلى حجرة الغسيل و أغلقت الباب وراءها. نهضتُ
و جئت إلى صوفيا فأمسكت ببيدها.

- عزيزتي، إنك ترتجفين! ما الأمر؟

- أنا خائفة يا تشارلز. خائفة!

- يا ليتني أستطيع أن آخذك بعيداً...

ابتعدت عني قليلاً و هزت رأسها:

- لا. هذا مستحيل. يجب علينا أن نواصل حتى النهاية، لكنك تعرف يا تشارلز أنني لا
أحب الإحساس بأن أحداً في هذا البيت أراه و أكلّمه كل يوم هو قاتل عديم الإحساس!

لم أعرف كيف أجيبها. إن المرء لا يستطيع أن يقدم تطمينات لا معنى لها لفتاة مثل
صوفيا. قالت:

- فقط لو نعرف من هو القاتل...

- هذا أسوأ ما في الأمر.

همست: أتدري ما الذي يخيفني؟ أننا قد لا نعرف أبداً...

كان يمكنني أن أتخيل هذا الكابوس، ربما يظل قاتل العجوز ليونايدز مجهولاً، لكنني
تذكرت سؤالاً تعمدت أن أسأله صوفيا، قلت لها:

- أخبريني صوفيا، كم واحداً في البيت كان يعلم أمر قطرة الإيسيرين الخاصة بالعين؟
أقصد أن يعرف أنها عند جدك و أنها كانت قطرة سامة أو قاتلة؟

- فهمت مرادك يا تشارلز، لكن هذا لن يفيد، فكلنا كنا نعرف. كنا نجلس جميعاً ذات
يوم مع جدي نحتسي القهوة في الدور العلوي بعد تناول الغداء. كان جدي يحب أن
نجتمع حوله. و كانت عيناه تؤلمانه كثيراً فأحضرت بريندا الإيسيرين لتنقُط في كل
عين قطرة، و قالت جوزفين التي تحب كثرة الأسئلة(لماذا كتب عليها ((قطرة
عين)) و ليس جرعة للشرب؟)) فابتسم جدي و قال(لو أن بريندا أخطأت و حقنتني
إبرة من قطرة العين في يومٍ ما بدلاً من إنسولين فسينقطع نفَسي و يزرّق وجهي ثم
أموت؛ لأن قلبي ليس قوياً!))، و قالت جوزفين(ها!)).
ثم أكمل جدي حديثه فقال(فعلينا أن نكون على حذر لكيلا تعطيني بريندا حقنة
إيسيرين بدلاً من أنسولين، أليس كذلك؟))

و سكتت صوفيا قليلاً، ثم أضافت:

- كنا جميعاً نصغي، هل عرفت؟ سمعنا ذلك جميعاً!

لقد فهمت ذلك حقاً، لكني تذكرت الآن أن العجوز ليونايدز قد زودّهم – صراحة –
بمسوّدة خطة لقتله، لم يكن على القاتل أن يرسم خطة أو أن يخترع شيئاً، فقد قدم
الضحية نفسه أسلوباً سهلاً و بسيطاً يتسبب في موته.

تنهدتُ عميقاً و أدركت صوفيا ما أفكر فيه و قالت:

- نعم. إنه أمر مرعب، أليس كذلك؟

قلت بطء:

- أتعرفين يا صوفيا؟ إني أفكر في شيء واحد لا غير.

- و ما هو؟

- لقد كنتِ على صواب؛ لأن بريندا يستحيل ان تفعلها، لم تكن تستطيع فعل ذلك بتلك
الطريقة تماماً، حيث كنتم جميعاً تستمعون و كلكم يتذكر ذلك الموقف.

- لا أدري، أحياناً تكون صامتة!

- كيف تكون صامتة إزاء ذلك كله؟ لا. لا يمكن أن يكون الفاعل بريندا.

ابتعدت صوفيا، سألتني:

- ألا تريد أن تكون بريندا هي القاتلة؟

و ماذا يمكنني أن أقول؟ لم أستطع... لا، لم أستطع أن أقول صراحة: نعم، أرجو أن
يكون القاتل بريندا! و لمَ لم أستطع؟ أشفقت على بريندا، كانت وحدها في جانب و
عداء عائلة ليونايدز القوية كان ضدها صفاً في الجانب الآخر. أهي شهامة؟ نُصرة
الضعيف الذي لا يقوى على الدفاع عن نفسه؟

و تذكرتها و هي تجلس على الأريكة في ثوب الحداد الغالي و اليأسُ تسمعه في
صوتها و الخوف تراه في عينيها!

رجعتْ ناني في الوقت المناسب من حجرة الغسيل، و لعلّها أحسّت توتراً بيني و بين
صوفيا، قالت باستنكار:

- تتحدثان عن القتل؟ أنصحكما أن تكُفّا عن ذلك و تتركاه للشرطة، إنه عمل بغيض
من شأنهم هم و ليس من شأنكما.

- ناني، ألا تدركين أن أحداً من أهل البيت هو القاتل؟

- هذا هراء يا آنسة صوفيا، لم أعد أطيق سماع ذلك. أليس الباب الأمامي مفتوحاً
طوال الوقت، كل الأبواب مفتوحة، كأنها تقول للّصوص(ادخلوا)؟

- لكن الفاعل يستحيل أن يكون لصاً، فلم يُسرق من البيت شيء، ثم لماذا يدخل لص
إلى البيت و يسمم إنساناً؟

- لم أقل بأنه لص يا آنسة صوفيا، إنما قلت الأبواب كلها كانت مفتوحة لذلك فأي
واحد كان يمكن أن يدخل، لو سألتني عن القتال لقلت بأنهم الشيوعيون.

أومأت ناني برأسها علامة الارتياح، سألها صوفيا:

- و لماذا يريد الشيوعيون قتل جدي المسكين؟

- الناس يقولون بأنهم وراء كل مصيبة، لو لم يكن الشيوعيون فإنهم الكاثوليك، إنهم
جميعاً في الخبث سواء.

ذهبت ناني مرة أخرى إلى حجرة الغسيل. ضحكت أنا و صوفيا، و قلت لها:

- إنها عجوز بروتستانتية متعصبة!

- أجل، إنها كذلك. هيا يا تشارلز، تعال إلى غرفة الاستقبال، هناك اجتماع عائلي
منعقد. كان موعده هذا المساء لكنه بدأ مبكراً.

- إذن فالأفضل ألا أتدخل يا صوفيا.

- إن كنت ستتزوج فتاة من العائلة فالأحسن أن ترى ما يكون عليه الأمر حين يُنزع
القفاز من اليد.

- ما هو موضوع الاجتماع؟

- شؤون روجر، لعلك تعرفها؟ لكن من الخبل أن تظن روجر قد قتل جدي، فقد كان
روجر يحبه حباً شديداً!

- في الواقع لم أظنّ أن روجر هو الذي فعلها، كنت أرجّح أنها كليمنسي.

- ذلك فقط لأنني اقنعتك بهذه الفكرة، لكنك مخطئ أيضاً، لا أظن أن كليمنسي لا تهتم
و لو قليلاً لو أن روجر خسر كل أمواله. أظنها ستكون سعيدة بذلك، إن لديها رغبةً
عجيبة ألا تملك شيئاً! هيا، أدخل.

دخلت مع صوفيا إلى غرفة الاستقبال و سكتت الأصوات التي كانت تتحدث فجأة،
ونظر الجميع إلينا.

كانوا جميعاً هناك: فيليب على كرسي كبير قرمزي بين النافذتين، و وجهه الجميل
متجهم حزينٌ كأنه قاضٍ يوشك أن يقطع حكماً، و روجر على مقعد قرب الموقد يجلس
منفرج الساقين و ينفش شعره بأصابعه، و ساق بنطاله اليسرى مثنية و ربطة عنقة
مائلة، و وجهه محمّر ثائر.

جلست كليمنسي خلفه، و قد بدت نحيلة على كرسي كبير. كانت تنظر بعيداً عن
الآخرين كأنما تتفحص صور الحائط بنظرات هادئة. و جلست إيديث على كرسي الجد
أريستايد منتصبة و هي تغزل الصوف بحركة سريعة و شفتاها مزمومتان.

و كان أجمل الحاضرين في الغرفة ماجدا و يوستيس. كأنا كأنهما لوحة رسمها فنّان.
جلسا معاً على الأريكة: الولد الأنيق أسود الشعر متجهّماً و إلى جانبه ماجدا و
ذراعها ممدودة خلف ظهره. دوقة بيت ((ثري غابلز)) في ثوب جميل و إحدى
قدميها الصغيرتين ممتدة و هي تلبس الخفّ!

قطب فيليب جبينه:

- إني آسف يا صوفيا، نحن نناقش شؤوناً عائلية ذات خصوصية!

قرقعت صنارتا الآنسة دي هافيلاند و هممتُ أن أعتذر و أخرج لكن صوفيا سبقتني
و قالت بوضوح و تصميم:

- أنا و تشارلز سنتزوج، و أريده أن يكون هنا.

قفز روجر من مقعده فجأة و صاح:

- و لم لا؟ كنت أقول لك يا فيليب إنه لا يوجد شيء خاص في هذا الأمر، لسوف
يعلمه الناس جميعاً غداً أو بعد غد!

و جاء و وضع يده على كتفي بتودد:

- يا ولدي العزيز، أنت تعلم كل شيء عنه، كنت هناك هذا الصباح.

صاحت ماجدا و هي تنحني:

- أخبرني، كيف هي سكوتلانديارد؟ إن المرء يتساءل عن ذلك كثيراً... طاولة؟
مكتب؟ كراسي؟ كيف ستائرها؟ أظن أنه لا يوجد زهور فيها أو مسجّل؟

قالت صوفيا: ضعي له مشهداً كوميدياً، و على كل حال فقد أمرتِ فافاسور جونز أن
يحذف مشهد سكوتلانديارد ذاك؛ لأنه يهبط بالمسرحية – حسب قولك – هبوطاً مفاجئاً.

ماجدا: إنه يجعلها تشبه المسرحية البوليسية كثيراً!

سألني فيليب محتداً:

- هل كنت هناك هذا الصباح؟ لماذا؟ أوه! والدك...

قطب جبينه. فهمت أكثر من ذي قبل أن حضوري لم يكن مرغوباً فيه لكن يد صوفيا
كانت تقبض على ذراعي.

حركت كليمنسي كرسياً إلى الأمام و قالت:

- اجلسْ من فضلك!


نظرت إليها نظرة امتنان و وافقت على دعوتها.

و قالت الآنسة دي هافيلاند قولاً عرفت منه أنها كانت تواصل الحديث الذي كانوا فيه:

- قل ما تشاء، لكنّ علينا أن نحترم رغبة أريستايد. حين يتمّ تسوية أمر الوصية هذه
فنصيبي كله تحت تصرفك يا روجر.

شد روجر شعره بقوة و صاح:

- لا يا خالتي إيديث. لا!

فيليب: يا ليتني أستطيع أن أقول نفس الشيء، لكنّ على المرء أن يحسب لكل شيء حسابه...

- ألا تفهم يا عزيزي فيل؟ لن آخذ بنساً واحداً من أحد منكم.

صاحت كليمنسي فجأة:

- إنه لا يستطيع بالطبع.

ماجدا: على أية حال يا إيديث، إذا تم تقسيم الوصية فسوف يأخذ نصيبه.

يوستيس: و لكن ربما لا يتم تقسيمها علآن، أليس كذلك؟

فيليب: أنت لا تعلم شيئاً عنها يا يوستيس.

صاح روجر:

- الولد على صواب. لقد وضع أصبعه على الجرح! لا شيء سوف ينقذني من
الكارثة، لا شيء!

كليمنسي: لا أرى شيئاً يستحق النقاش في الحقيقة.

روجر: على أية حال فلا شيء يهمني!
ضم فيليب شفتيه ثم قال:

- كنت أظن أنه يهمك كثيراً يا روجر.

- لا لا، و ماذا يهمني بعد أن مات أبي؟ و ها نحن نجلس هنا نناقش فقط شؤون المال!

احمرت جنتا فيليب الشاحبات قليلاً و قال بثبات:

- إننا نحاول المساعدة فقط.

- أعرف يا فيل، أعرف، و لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً. دعنا نَقُلْ بأنه لم يبق
سوى يوم واحد.

- أظن أنني أستطيع جمع مقدار من المال، لقد تدهورت السندات المالية كثيراً، و
بعضٌ من رأس المال مشتغل في استثمارات معينة فلا أستطيع أخذها، فهي سداد
لديون ماجدا و لكن...

أدركته ماجدا بسرعة:

- إنك لن تستطيع جمع المال يا عزيزي. سيكون سخيفاً أن تحاول، كما أنه ظلم للأطفال.

فصاح روجر:

- لقد أخبرتكم أنني لا أطب شيئاً من أحد منكم ، لقد بحّ صوتي و أنا أقول لكم ذلك.
إنني راضٍ تماماً أن تأخذ الأمور مجراها.

- إنها مسألة سمعة اجتماعية، سمعة والدي و سمعتنا.

- لم يكن هذا من شأن العائلة، بل كان شأني أنا وحدي.

قال فيليب و هو ينظر إليه:

- أجل، كان شأنك وحدك.

نهضت الآنسة دي هافيلاند و قالت و في صوتها نبرة هيمنة تؤثر في الحاضرين:

- اظن أننا ناقشنا هذا بما فيه الكفاية.

و نهض فيليب و ماجدا، و خرج يوستيس من الغرفة في كسل، و لاحظت الغرور في
مشيته العرجاء: لم يكن أعرج لكن مشيته عرجاء.

تأبّط روجر ذراع فيليب و قال:

- إنك حلو المعشر يا فيل و إن يكن تفكيرك هكذا!

خرج الأخوان معاً و همست ماجدا و هي تتبعتهما:

- يالها من جلبة!

أما صوفيا فانصرفت قائلة إنها ستتدبر أمر غرفتي.

وقفت إيديث دي هافيلاند تجمع صوفها. نظرتْ إليّ فظننت أنها تريد محادثتي، كانت
نظراتها توحي أنها تستغيث لكنها غيرت رأيها و تنهدت و خرجت في عقب الذي قبلها.

وقفت كليمنسي عند النافذة تطلّ على الحديقة، جئتُ إليها فاتلتت و قالت:

- الحمد لله. اللقاء انتهى!

و أضافت بنفور: إنها غرفة عجيبة!

- ألا تحبينها؟

لا أستطيع أن اتنفس و أنا فيها، فرائحة الزهور المقيتة و الغبار دائماً فيها!

لا أظن أنها كانت عادلة في وصف الغرفة، لكني فهمت ماذا قصدت، كانت تقصد حتماً
ما بداخل الغرفة. كانت غرفة غريبة، مريحة للنظر، مغلقة، لا يعتريها تقلّب الجو
السيء في الخارج. و لم تكن غرفة يكون الرجل فيها سعيداً لو مكث فترة طويلة،
فأنت لا تستطيع أن تستريح فيها و تقرأ صحيفة و تدخن بالغليون و تمدّ قدميك. ومع
ذلك كنت أفضلها على غرفة كليمنسي البسيطة المجردة من الأثاث في الطابق العلوي،
و بالجملة فأنا أفضل حجرة الجلوس على قاعة العمليات التدريبية في مستشفى.


نظرت كليمنسي حولها و قالت:

- إنها خشبة مسرح، لوحة خلفية من أجل ماجدا لتمثل عليها المشاهد، شارلز، هل
عرفت ما كنا نؤديه قبل قليل؟ المشهد الثاني. الاجتماع السري العائلي، لقد رتبته
ماجدا، لم يكن يعني شيئاً إذ لم يكن ثمّة شيء نتحدث فيه أو نناقشه، كل شيء تمت
تسويته... انتهى.

لم يظهر الحزن في صوتها، بل الرضى، و رأتْني و أنا أنظر إليها، فسألتني بعجلة:

- ألا تفهم؟ أخيراً أصبحنا أحراراً! ألا تفهم أن روجر كان بائساً... بائساً تماماً...
منذ سنوات عدة؟ لم يكن يرغب في العمل. إنه يحب أشياء مثل الخيول و الأبقار، و
يحب التسكع في الأرياف. لكنه كان يعشق والده، و كلهم كانوا مثله، و لم يكن
العجوز طاغية و لم يؤذِهم أبداً، و هم بقوا مخلصين له. هذا هو الأمر غير الطبيعي
في هذا البيت... عائلة كبيرة جداً..

- أهذا شيء غير طبيعي؟

- اعتقد ذلك. أعتقد أنه عندما يكبر أطفالك، فيجب أن تبتعد عنهم و تطلق سراحهم
و تجبرهم على نسيانك.

- أجبرهم؟ هذه قسوة، أليس كذلك؟ أليس الإكراه عملاً سيئاً؟

- لو لم يصنع من نفسه تلك الشخصية...

- لا أحد يملك أن يصنع من نفسه شخصية. لقد كان قوي الشخصية بطبيعته.

- كانت شخصيته مؤثرة في روجر حتى العبادة! كان روجر يفعل كل ما يأمره أبوه،
و كان يسعى أن يكون الولد الذي يريده والده، و لم يستطع! نقل إليه مليكية شركة
التجهيز الغذائي التي كانت سبب متعة العجوز و فخره، و اجتهد روجر أن يتبع خطى
أبيه لكنه لم يفلح! لم يكن يمتلك تلك القدرة فهو غبي في الإدارة. أجل، أقولها
صراحة و قد أوشكت أن أجرحه... إنه بائس! مكث سنينُ يكافح و يرى المصلحة
كلها تنهار، و تخطر باله أفكار ((رائعة)) فجأة و خطط كانت دائماً تضلّله الطريق و
تزيد أمره سوءاً في كل يوم! كم هو مفزع أن تشعر أنك لا تجني غير الفشل سنة بعد
أخرى! أنت لا تعلم كيف كان روجر بائساً، إنما أنا أعرف!

و التفتت مرة أخرى و واجهتني:

- خمنت أنك اقترحت على الشرطة أن روجر ربما قتل والده من أجل المال. كم يبدو
هذا سخيفاً!

قلت بتواضع:

- لقد أدركت الآن أنه سخيف.

- حين علم روجر أنه لا يستطيع أن يدرأ عن نفسه الكارثة و أنها متحققة الوقوع
أحس بالارتياح. نعم أحس بذلك. كان منزعجاً لأن والده عرف الأمر و ليس لأي سببٍ
آخر، و كان يتطلع إلى الحياة الجديدة التي كنا سنعيشها.

ارتعش وجهها و سكن صوتها!

- أين كنتما سترحلان؟

- إلى جزر البارْبادوس. مات ابن عم لي بعيد قبل زمن قصير و ترك عقاراً صغيراً
هناك، ليس بالشيء الكثير لكنه مكان كنا نذهب إليه. كنا سنصبح فقراء بائسين لكننا
نكدّ في طلب العيش، و تكلفة العيش هناك زهيدة جداً. كنا سنعيش معاً دون قلق بعيداً
عنهم جميعاً!

تنهدْت.

- إن روجر رجل عجيب. كان سيقلق عليّ من الفقر، ففي ذهنه موقف عائلة ليونايدز
نفسها من المال. عندما كان زوجي الأول حياً كنا فقيرَيْن جداً، و رأى روجر أن
زواجه مني هو جرأة رائعة، لكنه لم يدرك أنني كنت سعيدة و لقد فقدتُ السعادة منذ
ذلك الوقت!.. لم أحب ريتشارد أبداً كما أحب روجر!

و أغمضت جفنيها قليلاً ثم نظرْ إلي، و أدركت حدّة شعورها حين أضافت قائلة:

- و لذلك فأنت ترى، ما كنت لأقتل أحداً من أجل المال. لا يغريني المال!

كنت متأكداً أنها تعني ما تقول. كانت كليمنسي ليونايدز من القلّة الذين لا يهمهم
المال. إنها تكره الرفاهية و تحب الزهد و التقشف و تنظر إلى الأملاك نظرة ارتياب.
و مع ذلك فهناك الكثير من الناس الذين لا يجذبهم المال و لكن القوة التي يمنحها
المال لهم تغريهم!

قلت لها:

- لعلك لم تكوني تطلبين المال لنفسك، لكنّ المال إن صُرف بحكمة فعل الأعاجيب.
ماذا لو وُضع للأبحاث مثلاً؟

كنت أشك أن كليمنسي كانت ذات طريقة غريبة في التفكير بالنسبة لعملها لكنها قالت:

- أشك أن وقف الأموال على الأبحاث ينفع كثيراً. إن الأموال تُصرف في الطريق
الخطأ. الأشياء الهامة ينجزها عادةً أناس متحمسون ذوو رؤية واقعية. إن المعدات
الغالية و التدريب و التجارب ليست أساساً في الإنجاز كم تظن؛ لأن الأيدي التي
تستعملها غالباً غير أمينة!

- و هل تتركين عملك إذا سافرتِ إلى الباربادوس؟ أظنك مازلتِ ترغبين في الرحيل.

- أوه، نعم. ساعة يأذن لنا الشرطة بذلك... لا، لن أهتم أن أدع عملي بتاتاً، و لمَ
أهتم؟ لم أكن أحب أن أكون عاطلة عن العمل، لكني لن أكون عاطلة عنه و أنا في
الباربادوس. يا ليت هذا الأمر يتمّ كله بسرعة فنرحل!

- كليمنسي، أليست لديك فكرة عمن يمكن أن يكون قد ارتكب الجريمة؟ إذا كنت أنت
و روجر غير متورطَيْن – و أنا أرى في الحقيقة سبباً يدعوني لأظن ذلك – فإنك
بذكائك بالتأكيد قد علمت شيئاً عمن فعلها، أليس كذلك؟

نظرتْ إلي نظرة غريبة حادة من طرف عينيها و حين نطقت كان صوتها فقد عفويته،
و لعلّها كانت مرتبكة بعض الشيء.

قالت: المرء لا يستطيع أن يخمّن... هذا غير علمي. فقط أقول بأن بريندا و لورانس
هما المشبوهان كما يبدو، و لا أزيد.

- إذن فأنت تشكّين فيهما.

هزّت كتفيها استهجاناً، و وقفت لحظة كأنها تستمع، ثم خرجت من الغرفة مارةً
بلإيديث دي هافيلاند عند الباب، و جاءت إليّ إيديث و قالت:

- أريد التحدث إليك.

وَثَبَتْ كلمات والدي إلى ذهني. هل كان هذا... لكن إيديث دي هافيلاند كانت مستمرة
في حديثها.

قالت: أرجو ألا تكون أخذت الانطباع الخاطئ. أقصد عن فيليب، فهو رجلٌ يصعب
فهمه. قد يبدو لك متحفظاً و فاتراً لكن الأمر ليس كذلك على الاطلاق، إنها فقط عادة
لا يمكنه التخلي عنها.

قلت:

- إنني في الحقيقة لم أفكر...

لكنها اندفعت تقاطعني قائلة:

- الآن فقط... بشأن روجر. إنه لم يظنّ على أخيه بالمال، لم يكن أبداً بخيلاً بالمال،
و هو – في الحقيقة – رجل محبوب. كان دائماً رجلاً محبوباً لكنه لا يجد من يفهمه!

نظرت إليها نظرت من يرغب أن يفهم، و أكملتْ:

- لعلّ سبب ذلك أن فيليب هو الولد الثاني في العائلة، هناك في الغالب شيء يتعلق
بالطفل الثاني. لقد أعطاهما أبوهما فرصة متساوية، و كان روجر يحب والده كثيراً، و
كل أفراد العائلة كانوا يحبون أريستايد و هو أحبهم كذلك، أما روجر فكان مصدر
فخره و فرحه الخاصين؛ لأنه الأكبر و الأول، و أعتقد أن فيليب أحسّ بذلك فعكف
على نفسه و جعل يبحث في الكتب و الماضي و أشياء لا تتصل بالحياة اليومية. أظن
أنه عانى، و كم يعاني الأطفال!

سكتت قليلاً، ثم أضافت:

- الذي أعنيه في الحقيقة أنه كان يغار دائماً من روجر، و ربما لم يكن يدرك ذلك في
نفسه، لكني أظن أن موقفه بخصوص فشل روجر في عمله... أنا متأكدة أنه لم يكن
يدرك ذلك، لكن الذي أريد قوله أنّ فيليب ربما لم يكن يأسف على أخيه كما كان يجب.

- أي أنه كان مسروراً لأن روجر قد أخفق في عمله؟

- أجل، أعني هذا تماما... – و عبستْ قليلاً – ... لقد آلمني أنه لم يعرض على
أخيه المساعدة فوراً!

- و لماذا يفعل؟ إن روجر أفسد الأمور. إنه رجل ناضج و ليس له أطفال كي يفكر
في مستقبلهم، لو كان مريضاً أو كان في عوزٍ حقيقي لكانت عائلته ستساعده بالطبع،
لكني أجزم أن روجر يفضل أن يبدأ حياة جديدة تماماً على عاتقه هو.

- أوه! كاد يفعل ذلك. لا يهمه إلا كليمنسي، و كليمنسي مخلوق غير طبيعي: تحب
كثرة التنقل و أن يكون لها كوب شاي واحد تشرب به. لعلها امرأة عصرية لا تفهم
الماضي و لا الجمال!

أحسست بأن عينيها الداهمتين تمعنان النظر فيّ. قالت:

- هذه محنة قاسية لصوفيا. إنني آسفة جداً لأن شبابها سيذبل بسبب هذا الأمر. إنني
أحبهم جميعاً: روجر و فيليب، و الآن صوفيا و يوستيس و جوزفين. أحب الأطفال
كلهم. أجل، أحبهم كثيراً!

و سكتت قليلاً ثم أضافت بحدة:

- لكني أذكرك بأن الحب أعمى.

و استدارت فجأة و ذهبت. لا بد أنها عَنَتْ بكلمتها الأخيرة شيئاً محدداً،
لكني لم أفهمه تماماً!






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الجرائم الابجدية abc ~ اجاثا كريستي زيزي | Zizi روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة 25 07-19-2017 06:13 PM
من روايات وقصص اجاثا كريستي.. عاشقة لان أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 19 06-06-2011 03:54 PM
نبذة عن الكاتبة اجاثا كريستي Kairis kingdom أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 24 12-02-2010 08:57 PM
رواية ( البيت المائل) آغاثا كريستي ***peer dagher*** أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 5 07-26-2007 04:17 AM


الساعة الآن 01:41 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011