عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #26  
قديم 02-05-2017, 11:41 PM
 

الفصل السابع
والعشرون


في انتظارك


داعبت نسمة رقيقة بشرة نانسي فأغمضت عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا مشبعا برائحة أوراق الربيع العطرة .. كان الطقس رائعا .. مائلا إلى البرودة .. إلا انه كان مناسبا للغاية لشخص بكآبة نانسي بحاجة إلى ما يرفه عنه قليلا .. فتحت عينيها لتتأمل الحديقة المحيطة بالكلية .. بينما هي تجلس فوق أحد المقاعد الحجرية .. بعد ان أخرجها غثيان مفاجئ من إحدى المحاضرات
لم يستطع شيء تحسين مزاجها منذ ذهبت إلى الطبيب برفقة أم ماهر وتأكدت من حملها .. عمر الجنين 10 أسابيع .. وهذا يعني بان الحمل قد تم في الليلة التي أخذها فيها محمود عنوة لأول مرة .. أكد الطبيب على اهمية الغذاء الصحي والمتكامل نسبة إلى نحولها الملحوظ .. ومنذ ذلك اليوم والكل يعاملها بحرص وكأنها مصنوعة من الزجاج .. السيدة رجاء تطعمها بإفراط . . لمياء ولبنة تمنعانها من بذل أي جهد .. ماهر يأتيها بما تحتاجه من محاضرات .. حتى بدات تحس بالاختناق وبالحاجة إلى الخروج والتخلص من إحساسها بالعجز .. وأصرت على مرافقة ماهر هذا الصباح إلى الجامعة . والآن .. في لحظة صفاء مع نفسها .. عرفت نانسي بأن السبب الرئيسي لإصرارها على الحضور هو أملها في رؤية محمود ولو من بعيد .. حتى مع علمها بأنه لا يكون موجودا في هذا اليوم من الاسبوع .. ولكنها بعد أيام على لقائها به .. بدأ الشوق يضنيها لرؤيته أو حتى سماع صوته وقد توقف عن الاتصال بها واكتفى بالاتصال بماهر يوميا للاطمئنان عليها رغم كراهيته لهذا .. توقفه عن محاولة التحدث إليها جعلت خيبة الأمل والحزن والكآبة تسيطر علبها .. هل صدق حقا بانها ترفض وجود هذا الطفل ؟
ربما في البداية .. معرفتها بحملها كانت صدمة كبيرة لها في حالتها النفسية السيئة .. إحساسها بانه قد سعى إليها وبحث عنها لأجل الطفل .. وليس لأجلها هي .. وأن الحب الكبير الذي ادعى انه يشعر به اتجاهها كان مجرد حيلة يستميلها بها ويخدعها بها .. كي تستسلم وتعود من جديد تحت رحمته
إلا انها بعد أن استمعت إلى خفقات قلب الجنين داخل عيادة الطبيب .. وتفكيرها كل ليلة بالكائن الذي بدأ يتشكل داخلها .. جعل إحساسا دافئا وعاصفا يجتاحها .. سوف تنجب طفلا .. طفلا صغيرا تحبه ويحبها بلا حدود .. طفل صغير يكون لها تماما .. طفل هو جزء من الرجل الذي حصل على حبها واحترامها وكراهيتها في وقت واحد .. فجأة .. لم تعد فكرة الحصول على ما يذكرها بمحمود سيئة
ورغم هذا .. فهي ما تزال قلقة ومتوترة بشان المستقبل .. حتى الآن لم تستطع أن تقرر تماما ما ترغب بفعله . لقد طلبت الطلاق من محمود .. وقد نصحها ماهر باللجوء إلى محامي مختص ليقوم بالإجراءات المناسبة إن رفض محمود منحها الطلاق من تلقاء نفسه .. وحتى الآن هي تتلكأ مؤجلة الأمر المحتوم وكأنها تنتظر .. تنتظر ماذا بالضبط ؟؟؟
تنهدت وهي تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحتضن نفسها وتمنحها الدعم في حالة الضعف التي تحس بها .. فكرت بيأس .. متى سينتهي الألم ؟
نانسي
التفتت إلى ماهر الذي اقترب برفقة ندى كما اعتاد دائما .. جلسا إلى جانبها بينما سألها ماهر :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت :- أفضل بكثير بعد أن تنشقت بعض الهواء النقي
تأمل وجهها الشاحب وقال بإصرار :- تبدين متعبة .. ما كان عليك الحضور إلى الجامعة اليوم
نظرت نانسي إلى ندى التي تأرجحت نظراتها بين الفضول .. والانزعاج باهتمام ماهر الشديد بنانسي .. فقالت بضيق :- أنت محق .. أظنني سأعود إلى البيت
نهض فور وقوفها وقال :- سأوصلك
اعتذر من ندى التي رغم المودة التي تحملها لنانسي .. بدت غير سعيدة على الإطلاق بهذا الترتيب .. وفور ابتعاد نانسي وماهر سألته نانسي بحدة :- هل تعرف ندى بأنني أقيم في منزلك بشكل مؤقت ؟
قال بغضب :- أي سؤال هذا يا نانسي .. منذ متى أتجول هنا وهناك ناشرا أسرارك ؟
زفرت بقوة وهي تقول بتوتر :- أنا آسفة .. أعصابي مرهقة هذا اليوم .. وأشعر برغبة كبيرة في الشجار مع احدهم وكنت أنت كبش الفداء
نظر إليها متفحصا وهما يعبران معا بوابة الجامعة وهو يقول :- انا لا امانع في ان تفرغي غضبك بي .. ألن تخبريني بما يزعجك ؟ هل كنت تأملين برؤية الدكتور محمود ؟
نظرت إليه بحدة ساخطة من فراسته المعتادة .. وقالت بغيظ :- بالطبع لا .. ولماذا قد ارغب برؤيته ؟ لا تتعب نفسك بإيصالي .. عد غلى ندى .. سآخذ سيارة أجرة وأعود وحدي
أسرعت تقول عندما فتح فمه ليعترض :- إياك ان تحتج .. انا بحاجة إلى السير قليلا على أي حال .. لست في عجلة من أمري
تركها مستسلما لإصرارها وهو يقول :- لا ترهقي نفسك
تركته ملوحة بيدها وقطعت الشارع .. لتتوقف في منتصفه فجاة مذهولة وهي ترى سيارة زرقاء تتجه نحوها بسرعة جنونية بدت غير قادرة على تفاديها . جمدها الرعب .. فلم تشعر إلا بماهر يدفعها بقوة بعيدا عن طريق السيارة التي لم تخفف حتى من سرعتها وهي تبتعد عن الانظار .. سقطت نانسي على الأرض بعنف مع ماهر الذي قفز واقفا وهو يشتم هاتفا بغضب :- الحقير .. ليس لسيارته لوحة ..
لفتت انتباهه آهة انطلقت من فم نانسي فأسرع نحوها ليساعدها على الوقوف ..إلا أنها سرعان ما انثنت وهي تئن وقد شحب وجهها وألم حاد يمزق بطنها .. تغير لون ماهر عندما تذكر حملها وهتف بلوعة :- ما الذي حدث ؟ هل أذتك السقطة ؟
تمتمت مغمضة عينيها :- لا اعرف .. أحس بألم شديد
قال فورا وثد اتخذ قراره :- يجب ان يراك الطبيب حالا
دون ان تعترض هذه المرة .. ساعدها في الوصول إلى سيارته .. ونقلها إلى عيادة الطبيب الذي طمأنهما بعد ان قام بفحص نانسي بينما انتظر ماهر خارجا .. ثم اشتدت نبرته حزما وتحذيرا وهو يشدد على اهمية اعتنائها بنفسها والتزام الراحة خلال الأيام القادمة .. ووصف لها بعض الأدوية لتثبيت الجنين .. ثم خرجت نانسي محمرة الوجه برفقة ماهر بعد ان ألقى الطبيب بتعليمات خاصة ظنا منه بأن ماهر هو زوجها
في البيت .. بدا ماهر كالنمر الحبيس وهو يجوب غرفة الجلوس ويصيح غاضبا :- أنا متأكد مما رأيت .. ذلك السائق اتجه نحوك متعمدا بنية صدمك وقد ازال الأرقام من سيارته كي لا يتم التعرف عليه .. لا يمكننا السكوت عن هذا
تمتمت نانسي من حيث كانت ممددة على الأريكة بإلحاح من السيدة رجاء :- أنت تبالغ يا ماهر .. لماذا قد يرغب أي أحدهم بأذيتي ؟
إلا أنها كانت في الحقيقة تشعر بالقلق والخوف أكثر مما اظهرت .. وهي تتذكر مشهد السيارة الزرقاء القديمة الطراز تندفع نحوها بإصرار وكأنها حقا ترغب بأذيتها .. ولكن لماذا قد يرغب أي كان في إلحاق الأذى بها ؟ السؤال هو .. من قد يرغب في هذا ؟ هل هناك حقا من يكرهها إلى هذا الحد ؟
برزت صورة محمود فجأة امام عينيها فأزاحتها بعنف .. مهما كبرت المشاكل بينهما فإن محمود أبدا لن يسبب لها الأذى .. هل أنت متأكدة .؟
قطع ماهر أفكارها القلقة بهتافه :- أبالغ ! .. لقد كنت هناك يا نانسي .. ورأيت ما رأيته انا بالضبط شخص ما حاول إيذئك عمدا
قالت أم ماهر بقلق :- المهم انها بخير الآن .. لن تتعرض لأي أذى إن لازمت المنزل او حظيت بالمرافقة أينما ذهبت .. صحيح ؟
ارتفع في تلك اللحظة صوت لمياء وهي تقول مترددة :- أليس من حق زوج نانسي ان يعرف بما حدث ؟
اتجهت الانظار نحو الفتاة الصغيرة التي تلقت ركلة خفية من شقيقتها الكبرى لتصمت بينما قال ماهر :- لمياء محقة .. الدكتور محمود يجب أن يعرف
أسرعت نانسي تهتف مذعورة :- لا
نظر ماهر إليها وهو يقول بحزم :- فكري جيدا يا نانسي .. من حق الدكتور محمود أن يعرف بان شخصا ما قد حاول إيذاء زوجته .. الوضع لا يحتمل عنادك الطفولي هذا .. حياتك وحياة طفلك هما على المحك الآن
تناول هاتفها المحمول ودفعه نحوها قائلا بإصرار:- اتصلي به يا نانسي .. أنا لا أطلب منك التنازل والذهاب إليه .. فقط أخبريه بما حدث
تناولت الهاتف بيد مرتجفة .. وطلبت رقم هاتفه باضطراب شديد .. دوى الأزيز المألوف ليعبث بأعصابها .. ولم يطل الأمر حتى سمعت صوته الجهوري يقول بحدة :- نانسي
خفق قلبها بعنف لدى سماعها لصوته .. ووجدت نفسها عاجزة عن قول أي كلمة .. فعاد يكرر بصوت عصف به القلق :- نانسي .. اهذه انت ؟
غلبها الانفعال .. فدفعت الهاتف مذعورة نحو ماهر الذي نظر إليها بعتاب وهو يرفع الهاتف ويتحدث عوضا عنها :- دكتور محمود .. أنا ماهر .. لا .. نانسي بخير .. أنا من ألح عليها بالاتصال بك ولكنها عجزت في اللحظة الأخير عن إخبارك بما حدث
بكلمات مختصرة حكى ماهر ما حدث لمحمود .. فلاحظت تغير ملامحه واحمرار وجهه أمام كلمات محمود العاصفة التي انهالت عليه من الطرف الآخر .. وهو يجيب عن أسئلته .. تمتمت في النهاية :- بالتأكيد .. إنها هنا .. تفضل
لم تستطع نانسي التراجع وقد وجدت الهاتف بين يديها .. رفعته إلى أذنها وهي ترتجف كم الخوف هامسة :- ألو
أتاها صوت محمود القلق يقول :- نانسي .. هل أنت بخير ؟ هل أصابك مكروه ؟
اهتمامه الشديد جعل إحساسا دافئا بالحماية يجتاحها .. وجعل دموعا تتجمع في عينيها وهي تقول باضطراب :- أنا بخير
:- هل أنت متأكدة ؟ ما الذي قاله الطبيب ؟ هل الطفل بخير ؟
قالت بتوتر :- الطفل بخير يا محمود .. ليس عليك أن تقلق
ارتفعت حدة صوته وهو يقول بغضب :- أليس علي حقا أن أقلق يا نانسي ؟ أنا أعرف جيدا بأنك لم ترغبي أبدا بهذا الطفل .. وقد أخبرتني بنفسك عن رفضك له .. وأخمن بأنك ستكونين أكثر من مسرورة إن لم يقدر له أن يولد .. لقد ألحيت عليك مرارا بأن تعودي إلى بيتك كي أتمكن من العناية بكما معا إلا أنك بعنادك المعتاد رفضت وأصريت على تعريض نفسك للخطر .. ليكن بعلمك يا نانسي .. إن أصاب ابني أي مكروه بسبب أي إهمال أو تقصير منك .. فستدفعين الثمن غاليا
أحست نانسي بطعنة ألم قوية جعلتها نعجز عن التنفس للحظات .. محمود لم يكن قلقا عليها .. إنه مهتم فقط بسلامة طفله .. لقد صدق ظنها إذن .. محاولته السابقة لاستعادتها لم تكن إلا وسيلة لاستعادة الطفل الذي يأمل في إنجابه
الصدمة التي تعرضت لها منذ ساعات وحالة الضعف التي تمر بها .. الغضب والالم والمرارة .. كل هذا اجتمع داخلها ليدفع كل ما اختزنته داخلها من مشاعر عاصفة إلى الحافة .. تدفقت دموعها وهي تقف هاتفة بكل ما يعتمر داخلها من ثورة :- أهذا ما يهمك يا محمود ؟ لقد كدت فقد حياتي تحت عجلات سيارة مجهولة وكل ما تفكر به هو الطفل .. فلتعلم إذن بان مكروها لن يصيب ابني .. سأحميه بحياتي إن اضطررت .. وسأحرص على ألا يعرف أبا انانيا باردا وقاسيا وخاليا من المشاعر مثلك .. أب خائن لا يعرف معني الحب والإخلاص .. أب لن يتورع عن خيانة أمه تحت سقف بيتها بلا أي اعتبار للقيم والأخلاق .. أكرهك يا محمود .. أكرهك وأحتقرك ولا أصدق بانني قد أحببتك يوما .. أكرهك واتمنى لو انني لم اعرفك أبدا ....
خنقتها الدموع فسقط الهاتف من يدها وهي تخفي وجهها بيديها وتجهش في بكاء مر جعل السيدة رجاء ترتجف لوعة وقلقا وهي تضمها محاولة تهدئتها .. بينما التقط ماهر الهاتف .. وتحدث إلى محمود قائلا :- انا آسف يا دكتور محمود ... نانسي لن تستطيع التحدث إليك أكثر .. نعم .. حسنا . سأخبرها
أنهى المكالمة .. ونظر إلى نانسي التي عادت تجلس على الأريكة وأمه تطبطب عليها بحنان وهو يقول :- الدكتور محمود قادم إلى هنا .. سيكون موجودا خلال ربع ساعة
محمود سيكون هنا .. سيأتي إليها .. وسيثبت لها بأنها مخطئة في ظنها .. وأنه يحبها هي .. ويهتم لأمرها هي .. سيأتي لأنها في حاجة إليه .. في حاجة إلى وجوده إلى جانبها في هذه الظروف .. وإلى حمايته لها
اختفى فجأة غضبها منه .. ولم تعد ترغب إلى بحضنه يلفها ويمنحها الدفء والحنان .. سيبرر لها كل شيء .. ويفسر لها كل شيء .. وهي ستتفهم .. وتسامح .. فقط إن عاد إليها وأحبها من جديد
مرت ربع ساعة .. ثم نصف ساعة .. ثم ساعات أخرى دون أن يأت محمود .. ورغم هذا .. ظلت نانسي مصرة على أنه سيأتي .. وأن هناك ما أخره وعطله عن الحضور .. لقد قال بأنه سيأتي .. ومحمود لا يكذب
حقا .. ألم يكذب عليك مرارا مدعيا حبه لك ؟ ألم يعدك بحمايتك والعناية بك ثم أهانك وأذلك مرارا وتكرارا ؟
فوق سرير لمياء الصغير .. سهرت نانسي لساعات طوال دون أن تتوقف دموعها عن السيلان .. لقد منعت ماهر من الاتصال به .. وسؤاله عن سبب تأخره .. ورغم هذا .. ما زال جزء منها واثق بأنه سيأتي في النهاية
ومهما تأخر الوقت .. إن لم يكن من أجلها .. فلأجل طفلهما ..
ولكن محمود لم يأت .. وتجاوزت الساعة منتصف الليل .. وعم الهدوء الشقة الصغيرة وقد نام أصحابها .. ولم يعد هناك سوى نانسي المستيقظة .. تضع يدها على بطنها .. وتهمس لطفلها بألم شديد .. والدك سيأتي في النهاية .. لابد أن يأتي
إلا أن النعاس غلبها في النهاية .. ووجدت نانسي نفسها تنام وقد عرفت بأنها كانت مخطئة منذ البداية .. وأن محمود قد أخلف وعده كما أخله عدة مرات من قبل
لقد عرفت هذه المرة بأنها النهاية .. النهاية حقا
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #27  
قديم 02-05-2017, 11:48 PM
 


الفصل الثامن والعشرون




بين الحياة والموت



لم تفتح نانسي عينيها حتى تأكدت من خروج لبنة ولمياء كل إلى مدرستها أو معهدها .. انتظرت حتى أصبحت وحيدة في الغرفة ثم فتحت عينيها وانقلبت على ظهرها .. تحدق في السقف بجمود .. وهي تشعر بالخواء داخلها .. وكانها قد فقدت القدرة على الشعور بأي إحساس .. لم يأت محمود .. وهذا يعني انه بكل بساطة لم يعد يريدها .. وهي كالحمقاء انتظرته طوال الليل وقد نسيت كل ما فعله بها .. أين قوتها .. أين كرامتها ؟ لقد سمعت من قبل عن تأثير هرمونات الحمل على المرأة ولكنها لم تعرف بانها تسبب لها داء الحماقة والوهم
اختفت الأصوات خارج الغرفة فعرفت بان البيت قد خلا الآن إلا من السيدة رجاء .. فنهضت وهي تفكر بأنها يجب أن تتخذ قرارا حاسما حول حياتها المستقبلية .. لا يمكن أن تبقى عبئا على ماهر وعائلته لفترة طويلة مهما رحبوا بها وأحسوا بالمسؤولية اتجاهها
خرجت إلى المطبخ لتجد السيدة رجاء تبدأ بتنظيف المائدة من بقايا إفطار الاولاد .. وعندما راتها تهللت أساريرها وهي تقول :- صباح الخير يا عزيزتي .. أرجو أن تكوني قد نمت جيدا
ابتسمت نانسي مؤكدة على هذه الحقيقة التي تعرف كلتاهما زيفها .. فنانسي لم تخطئ قراءة الشفقة المرتسمة على وجه المرأة المسنة .. لابد أن لمياء ولبنة قد أخبرتاها بأن نانسي قد قضت الليل كله ساهرة في انتظار زوج لم يعد يريدها
عندما رأتها السيدة رجاء تشمر عن ساعديها بهدف تنظيف الأطباق .. أسرعت تمنعها قائلة :- لقد كان الطبيب واضحا .. يجب أن تتجنبي أي جهد قد يتسبب بأذية الطفل
قالت نانسي باحتجاج :- لم أعد أطيق الجلوس بلا عمل أكثر .. أشعر بأنني عالة وعديمة الفائدة .. لن أستطيع البقاء في بيت لا أشعر بأنني عضو فعال بين أفراده .. أرجوك يا خالتي .. أنا أعرض تنظيف الأطباق ليس أكثر
نظرت إليها السيدة رجاء بتردد قبل أن تقول :- حسنا .. لا بأس.. سأسمح لك بغسل الأطباق إن تناولت فطورا كاملا
أشرق وجه نانسي وهي تجلس أمام المائدة وتبدأ بالأكل مع أم ماهر التي شاركتها الطعام وهي تسامرها في محاولة مها لشغل عقلها عن التفكير بمحمود
سمعتا فجأة جرس الباب .. يسبق صليل مفاتيح ماهر الذي اعتاد أن ينبه الموجودين لوصوله قبل الدخول احتراما لخصوصية نانسي
تبادلت نانسي نظرات القلق مع السيدة رجاء .. فلم تمر ساعة على خروج ماهر إلى الجامعة .. نظرت الاثنتان إليه عندما أطل عبر باب المطبخ شاحب الوجه زائغ النظرات .. فوقفتا مذعورتين .. وامه تقول بقلق :- ما الأمر يا ماهر ؟ ما الذي اعادك بهذه السرعة ؟
نظر إلى نانسي الشاحبة .. التي عرفت مسبقا ما سيقوله ماهر .. قال بهدوء :- نانسي .. يجب ان تأتي معي حالا
سألته بتوتر :- إلى أين ؟
:- إلى الدكتور محمود
أسرعت أمه تقول بحدة :- هل جننت يا ماهر ؟ كيف تفكر بأخذها إليه وهو لم يتعب نفسه بالحضور أمس بينما انتظرته المسكينة طوال الليل
بالكاد سمعتها نانسي وهي تحس بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان عندما قال ماهر :- الدكتور محمود لم يحضر مساء الأمس لأنه لم يستطع الحضور .. لقد تعرض لحادث أثناء خروجه من مبنى الشركة .. وهو في المستشفى الآن .. بين الحياة والموت .. مجهول المصير
نظر إلى عيني نانسي التين تحجرت فيهما الدموع قائلا :- أعرف بأنك غاضبة منه يا نانسي .. ولكنه بحاجة إليك في هذه اللحظات .. لن تسامحي نفسك إن أصابه مكروه وانت بعيدة عنه
لن تعرف نانسي كيف بدلت ملابسها وخرجت برفقة ماهر شبه واعية لحديثه إليها في السيارة .. وشرحه لها ما حدث بالضبط .. بدلا من الذهاب إلى الجامعة .. اتجه ماهر إلى شركة محمود بنية لقاءه ومواجهته كي يعرف سبب تخلفه عن الحضور مخالفا كل تحذيرات نانسي .. ليجد المكان في فوضى عارمة .. والكل هناك يتحدث عن حادث إطلاق النار الذي تعرض له محمود فور تجاوزه بوابة الشركة .. لقد توقفت سيارة زرقاء لا لوحة لها وأطلق سائقها رصاصتين نحو محمود أصابتاه على الفور وأسقطتاه على الأرض مضرجا بدمائه قبل ان تبتعد هاربة .. لا احد يعرف شيئا عن حالته بعد نقله إلى المستشفى حيث أجريت له عمليات جراحية عدة استغرقت الليل بطوله .. وماهر لم ينتظر ليعرف ..بل أسرع عائدا ليخبر نانسي وجها لوجه ويأخذها إلى هناك لتكون إلى جواره
نظر إلى نانسي بطرف عينه قائلا :- هل سمعت ما قلته يا نانسي ؟ سيارة زرقاء بلا لوحة أرقام حاولت قتل الدكتور محمود .. هل يبدو لك هذا المشهد مألوفا ؟
كانت نانسي ترتجف وهي تفرك يديها باضطراب .. وعقلها يدور ويدور حول فكرة واحدة لا غير .. محمود يموت .. لقد كانت حياته على المحك طوال الليل بينما كانت هي تلومه على التأخر دون ان تعرف ما اصابه .. محمود يموت الآن وسيتركها وحدها .. سوف تخسره غلى الأبد .. لم يكن عقلها قادرا على التفكير بما يقوله ماهر .. كل ما كان يهمها هو أن تصل إلى هناك .. ان تكون معه في حالته الصعبة .. أن تقف إلى جانبه وتمسك يده مطالبة إياه بألا يموت .. لا يمكن ان يموت حارما ابنهما القادم من أبيه .. لن يجرؤ على هذا
ارتجف فمها واحترقت عيناها بالدموع الحبيسة .. ولكنها لم تسمح لها بالفرار .. لقد تذكرت فجأة الساعات التي قضتها امام غرفة العمليات في انتظار خبر عن والدتها .. هاهي تحس بانها معرضة للتيتم من جديد .. ستفقد الآن زوجها وحبيبها وعائلتها الوحيدة .. لا .. إن كان هناك من لحظة تتطلب منها التسلح بالقوة فإنها هذه .. لن تنفع محمود باستسلامها للبكاء والانهيار .. فهو يحتاج إليها قوية .. وصامدة .. كي تحثه على الكفاح لأجل الحياة .. وصلا إلى المستشفى أخيرا .. سارت نانسي خلف ماهر الذي تكفل هو بالسؤال عن محمود .. فعرف بانه قد خرج من غرفة العمليات قبل ساعات قليلة .. وأنه الآن في غرفة العناية الفائقة .. دون ان يعرف مصيره بعد
أمام جناح العناية الفائقة .. كان هناك جمع من الناس المنتظرة .. كان العم طلال هناك ممتقع الوجه .. واجم الملامح .. والسيدة منار تبكي بمرارة وهي تدعو لمحمود بالشفاء .. ريم كانت منطوية في الزاوية وقد بدت شاحبة بوجهها الخالي من الزينة .. وعينيها القلقتين .. بينما كان فراس يجوب الممر بلا هوادة منتظرا أي أخبار من الطبيب .. بالإضافة إلى بضعة موظفين من الشركة رافقوا سيارة الإسعاف إلى المستشفى
نظر الجميع إلى نانسي فور وصولها برفقة ماهر .. فاختفى الحزن من وجه ريم .. وتوحشت ملامحها وهي تقول بغضب :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ لا أحد على الإطلاق يرحب بك هنا
استعادت نانسي صلابتها على الفور وهي تقول بحزم :- أنا هنا لأكون مع زوجي يا ريم .. ولا أحد يستطيع منعي من هذا
قالت ريم بكراهية :- لقد تركته ورحلت بنفسك .. لم تعد لديك عليه حقوق .. بل وتأتين برفقة صاحبك غير عابئة بكلام الناس .. أهو من تركت محمود لأجله ؟
ارتفعت يد نانسي على الفور لتصفع ريم بقوة جعلت تلك تصرخ مذعورة فهبت أمها تصيح غاضبة :- أيتها الحقيرة
أسرع السيد طلال يبعد زوجته وابنته زاجرا بخفوت .. بينما قال فراس بنية التهدئة :- الوقت غير مناسب للشجار .. ما يهمنا جميعا هو مصير محمود
سألته بلهفة وهي تتشبث بذراعه :- كيف هو الآن ؟ أرجوك يا فراس ... أخبرني
قال متوترا :- الطبيب يقول بأن العملية قد تمت بخير .. لقد أخرجت الرصاصات بنجاح .. فقد اخترقا إحداهما كتفه على بعد سنتيمترات من قلبه لحسن الحظ .. والاخرى للأسف اخترقت رئته اليمنى .. لقد تم نقله منذ ساعة تقريبا إلى غرفة العناية الفائقة ولا يسمحون لأي أحد بزيارته
نظر حوله بتوتر قائلا بصوت منخفض :- لقد وصلت الشرطة قبل قليل .. وطرحت الأسئلة على الجميع .. من المتوقع أن يستجوبك أحدهم لاحقا .. لا أصدق بان أحدا قد يفكر بإيذاء محمود
ارتجفت نانسي وهي تفكر لأول مرة بهذه الحقيقة .. أحدهم حاول أذية محمود .. لماذا ؟ لماذا قد يرغب أي أحد بقتل محمود ؟
نظرت حولها إلى عائلته التي لفها القلق و التوتر .. إلى موظفيه اللذين ظهر عليهم الحزن العميق .. وتذكرت محمود .. الرجل القوي الصارم .. لماذا قد يرغب أي أحد بقتله ؟
خرج الطبيب فجأة .. فأحاط به الجميع لسماعه وهو يقول بارتياح :- لقد صحا أخيرا .. مؤشراته الحيوية ممتازة .. إنه ضعيف الآن فحسب .. ويحتاج إلى أكبر قدر من الراحة والعناية
أسرعت السيدة منار تقول بلهفة :- هل نستطيع رؤيته ؟
ظهر التردد على الطبيب وهو يقول :- أنا آسف .. لا يسمح إلا لشخص واحد برؤيته .. شخص يكون الأقرب إليه من عائلته .. ويكون بعيدا عن الشبهات أيضا .. إنها تعليمات الشرطة حتى يتم القبض على الفاعل
أسرع ناهر يتدخل بقوله :- السيدة نانسي زوجته أيها الطبيب .. كما انها تملك دليلا قاطعا على وجودها في مكان آخر وقت وقوع الحادث
اتجهت الأعين نحو نانسي بينما قال العم بامتعاض :- أنا عمه .. وبمثابة والده .. انا من رباه وأنا الأحق برؤيته
قالت ريم بحقد :- كما انها قد تركته طالبة الطلاق .. فعليا هي لم تعد زوجته
نقل الطبيب نظره بين العائلة المتحفزة .. والفتاة الشاحبة التي بدت على حافة الانهيار .. فاتخذ قراره على الفور :- السيدة زوجته على أي حال .. وهي الأقرب إليه في غياب والديه
كادت نانسي تعانق ا لطبيب امتنانا لرده .. إلا أنها في الوقت ذاته كانت ترتجف اضرابا لرؤية محمود الوشيكة .. ارتدت الملابس المعقمة .. وسارت خلف الممرضة إلى حيث يرقد محمود .. حبست أنفاسها وهي تنظر إلى الجسد الممدد أمامها
كان وجهه الذي اختفى نصفه تحت قناع الأكسجين .. شاحبا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه المغمضتين .. بدا كظهره مؤلما بالأسلاك التي وصلت جسده بالأجهزة المتطورة .. وبالضمادات المحيطة بصدره .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه .. وتجلس إلى جواره .. لكم يبدو بعيدا في هذه اللحظة عن الرجل الذي عرفته خلال الأشهر الماضية .. مدت يدها نحو يده الملقاة إلى جانبه .. وأمسكت بأصابعه الباردة .. وهي تهمس :- ستكون بخير .. يجب أن تكون بخير
أغمضت عينيها .. وسمحت للدموع الغزيرة بالتدفق من بين أجفانها .. وهي تدعو الله في قلبها أن يشفي لها محمود .. حتى لو انه لم يكن لها في النهاية .. المهم ان يكون سعيدا حتى لو كان برفقة امرأة اخرى
لأول مرة تدرك نانسي ماهية الحب الحقيقي .. الحب الحقيقي هو أن تترك الشخص الذي تحبه يعيش سعيدا .. ولو على حساب سعادتها .. وهي تحب محمود .. تحبه ولن تكون لغيره ابدا
فتحت عينيها عندما أحست بضغط مفاجئ على أصابعها .. ثم أجفلت عندما رأت عيني محمود مفتوحتان .. تنظران إليها بثبات .. خفق قلبها بقوة .. وارتجف جسدها كاملا .. وهي تحس بالمشاعر العاصفة تجتاحها
كان ينظر إليها بطريقة جعلتها تعجز عن قول أي شيء .. عيناه العسليتان النصف مغمضتين .. كانتا تنظران إليها بشيء من الانفعال وكأن وجودها إلى جانبه كان آخر ما توقع رؤيته
لم تعرف ماذا تقول .. هل تعتذر لوجودها المزعج إلى جواره .. أم تهنئه بالسلامة .. أم تجهش بالبكاء ؟
عيناه كانتا قد لاحظتا الدموع التي بللت وجنتيها .. فهمهم بشيء من أسفل قناع الأكسجين .. فأسرعت تقول بلهفة :- لا تقل شيئا .. سنتحدث لا حقا بكل شيء .. فور أن تتعافى بإذن الله وتقف على قدميك مجددا
لم تتوهم نانسي رؤية دموع تتلألأ في العينين الذكوريتين .. رؤيتها لضعف محمود الغير مألوف .. جعل قلبها يتمزق .. ودفعها لرفع يده نحو شفتيها لتطبع قبلة قوية على ظهرها .. ثم تضع راحتها على وجنتها مستمتعة بالاتصال الوحيد المتاح بينهما .. نبهها صوت الممرضة الخافت إلى أن دقائق الزيارة المتاحة لها قد انتهت .. وأنها تستطيع رؤيته بعد ساعتين وفقا لجداول الزيارات المفروض على القسم .. تشبثت أصابعه بيدها .. فطمأنته متماسكة :- لن أذهب إلى أي مكان .. سأعود لاحقا لرؤيتك .. أعدك
تركت يده .. وخرجت لتجد ماهر في انتظارها ... فلن تستطع كبح دموعها أكثر .. انهارت باكية كما لم تفعل يوما .. وكأنها قد استنفذت كل قدرة لديها على التماسك .. أمسكها ماهر .. وأجلسها على أحد المقاعد .. وهو يقول :- اهدئي يا نانسي .. ستؤذين نفسك والطفل بهذه الطريقة
ولكنها استمرت بالبكاء فأمسك ماهر بكتفيها وهزها برفق وهو ينظر إلى عينيها قائلا بحزم :- محمود بحاجة إليك يا نانسي .. يجب لأن تتسلحي بالقوة لتقفي إلى جانبه في محنته
كلماته كانت بالضبط ما احتاجت نانسي إلى سماعه كي تستعيد رشدها وتتماسك مجددا .. خاصة مع الأعين الحاقدة التي انصبت عليها كراهية لوجودها هنا
بعد ساعات .. غادر العم طلال متحججا بالأعمال المتراكمة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه في غياب محمود .. ثم غادرت ريم برفقة أمها التي أصابها التعب بعد قضائها الساعات في انتظار أخبار عن محمود .. لم يبق هناك سوى ماهر وفراس اللذين ظلا إلى جانب نانسي طوال الوقت .. قال فراس وهو يجلس إلى جانبها :- أنا آسف لما فعلته كل من ريم ووالدتي يا نانسي .. إنهما قلقتان على محمود .. نحن هنا منذ البارحة وقد أرهقت أعصابنا جميعا من شدة القلق
تمتمت :- لست غاضبة منهما
كانت غاضبة .. ولكنها لم ترغب بإزعاج فراس الطيب القلب .. قال لها :- أنا سعيد لأنك هنا يا نانسي .. محمود بحاجة إليك .. وأنا لا أقول هذا بسبب الحادث .. فهو في حالة سيئة منذ تركته ورحلت .. محمود يحبك يا نانسي ولا يستطيع العيش بدونك
تقبلت كلامه صامتة ولم تعلق .. لم تستطع التفكير في هذه اللحظة بمشاكلها مع محمود .. كل ما كان يشغل عقلها هو شفاء محمود وعودته كالسابق .. قال لها ماهر بعد فترة :- نانسي .. أنت متعبة .. دعيني آخذك إلى البيت لترتاحي قليلا وسأعيدك لاحقا
قالت بحزم :- لن أتحرك من هنا حتى أطمئن على استقرار حالة محمود .. فلا تتعب نفسك بالإلحاح علي يا ماهر .. إن كنت متعبا فلتذهب .. لست مضطرا للبقاء
قال غاضبا :- هل تظنين بأنني عديم الرجولة لأتركك في ظرف كهذا يا نانسي .. لن أتركك وحدك حتى لو دفعتني دفعا من هنا
جاء لاحقا ضابط الشرطة لطرح أسئلة على نانسي فأجابت بمساعدة ماهر الذي حكى عن السيارة الزرقاء التي حاولت صدم نانسي أمام الكلية .. وعندما رحل قال ماهر :- أرجو أن يمسكوا بالمجرم الحقير في أسرع وقت .. من قد يرغب بإيذائك أنت ومحمود معا يا نانسي ؟
دخلت نانسي لرؤية محمود عدة مرات .. وفي كل مرة كانت تجده نائما .. فتجلس إلى جانبه تتأمل ملامحه الوسيمة الشاحبة بشوق ولهفة .. حتى تخرجها الممرضة بهدوء ولطف .. تم نقل محمود أخيرا بعد ذلك إلى غرفة خاصة بعد أن اكمئن الأطباء على استقرار حالته .. دخلت نانسي إلى الجناح المرفه المخصص له .. لتجده بين يدي الممرضات الحريصات على راحته .. والطبيب الذي انهمك بفحص مؤشرات محمود الحيوية وجروحه مطمئنا عليه قبل أن يغادر .. دخل معها كل من ماهر وفراس .. وأسرعا يهنئان محمود بالسلامة بينما رد هو عليهما شاكرا بهدوء .. وقد بدا رغم شحوبه وضعفه .. متماسكا وصلبا .. وكأنه يأبى التخلي عن هيبته رغم كل شيء .. نظر إلى نانسي التي وقفت بعيدا دون أن تتفوه بحرف .. وسألها بهدوء :- كيف حالك يا نانسي ؟
ارتجفت بلا سبب وهي تعجز عن الرد .. فاعتذر كل من ماهر وفراس .. وغادرا تاركين نانسي تواجه الموقف وحيدة
قال لها :- اقتربي
مشت بخطوات مرتبكة نحو السرير .. دون أن تجرؤ على النظر إليه .. ووقفت قريبا منه فقال :- ألن تنظري إلي ؟ أيبدو مظهري بشعا إلى هذا الحد بهذه الضمادات ؟
كلماته المداعبة .. كانت كافية لإشعال فتيل مشاعر نانسي المتحفزة للانفجار .. فتدفقت دموعها وهي تبكي بلا تحفظ .. رفعت يدها نحو فمها في محاولة منها لكبت شهقاتها التي تعالت بدون فائدة ... فاضطربت عيناه وهو يمد يده إليها .. فأسرعت تجلس على طرف السرير .. وتنحني نحوه داسة وجهها في تجويف عنقه .... تبكي وتبكي وهي تشم رائحته .. وتحس بدفئه غير مصدقة لأنه هنا .. إلى جانبها .. على قيد الحياة .. لم يكن قادرا على رفع يده نحوها .. وقد رغب بشدة في التخفيف عنها .. في لمسها .. والإحساس بها .. همس بانفعال :- انظري إلي .. أرجوك .. أريد أن أراك
رفعت رأسها .. ونظرت إلى وجهه الحبيب الذي لم يفصله عنها سوى مسافة قصيرة .. نظرت عيناه إلى وجهها تتأملان كل جزء من ملامحه الناعمة .. عينيها الباكيتين .. وفمها المرتجف .. قال بصوت أجش :- أريد أن أقبلك .. أرجوك
رجاءه مس فؤادها في الصميم ... فمالت بلا تردد تضع فمها على فمه بشوق تقبله بحرارة .. ثوان مرت .. دقائق .. لم تعرف .. وكل منهما غائب في شوقه إلى الآخر .. حتى اتكأت دون ان تدري على كتفه المصاب فتأوه مما جعلها تبتعد مذعورة وهي تهتف :- يا إلهي .. انا آسفة .. كم انا غبية
:- لا تعتذري .. إن كان علي ان اموت فأنا أفضل الموت بين يديك
أسرعت تضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام قائلة بصوت أجش :- لا تقل هذه الكلمة مجددا .. انت لن تموت .. يجب ان تشفى وتخرج من هنا سليما معافى .. فابننا في حاجة إلى وجودك إلى جانبه
لم تعرف إلى أي حد أثارت كلمة ابننا الدفء في قلبه .. إلا انه نظر إلى وجهها قائلا برقة :- ابننا فقط
ارتبكت .. وقبل ان تجد ردا على استفساره .. ارتفعت طرقات على الباب .. دخلت بعدها كل من السيدة منار وريم التي تجاهلت تماما وجود نانسي .. وأسرعت تطبع قبلة ساخنة على خد محمود وهي تقول بلهفة :- حمدا لله على سلامتك يا محمود .. كيف تشعر الآن ؟ هل تتألم ؟
بينما قالت السيدة منار بصوت مفعم بالمشاعر :- لقد قلقنا عليك للغاية .. لم نتحرك من المستشفى حتى أكد لنا الطبيب بانك بخير .. وأن حياتك ما عادت في خطر
شكرهما محمود بهدوء .. بينما تراجعت نانسي إلى الخلف شاحبة الوجه .. وقد اعاد لها منظر تقبيل ريم له ذكرى ذلك المشهد الذي كان سببا في تركها البيت
قالت منار :- لا أصدق أن أحدا قد يرغب بقتلك .. ليس هناك من يكرهك أو يتمنى لك الأذى .. أتمنى ان يمسكوا بالفاعل في أسرع وقت لينال جزاءه ويتعفن في السجن
ثم نظرت إلى نانسي بطريقة ذات معنى جعلتها تصدم من التلميح الواضح .. هل تتهمها هذه المرأة بمحاولة قتل محمود ؟
ربتت ريم على وجنته وهي تقول بعاطفة جياشة :- لقد كدت اموت من القلق عليك .. الحمد لله أنك بخير الآن
تجاهل ريم وهو ينظر إلى نانسي التي تراجعت حتى وصلت إلى الباب وهو يقول :- نانسي .. إلى أين تذهبين ؟
نظرت إليه وهي ما تزال مذهولة من اتهام منار الضمني .. ومن الحميمية الصريحة التي غلفت معاملة ريم له .. وقالت باضطراب :- أنا .. يجب أن أذهب
كسا الوجوم وجهه وهو يقول :- لست مضطرة للرحيل
أسرعت منار تقول :- دعها تذهب يا محمود .. لقد قضت وقتا طويلا وهي تنتظر خبرا عنك .. لابد انها مرهقة .. لولا وجود صديقها الشاب الذي ساندها بحماس لانهارت من التعب
قالت ريم بلؤم :- هذا صحيح .. لقد نامت على كتفه عدة مرات في غرفة الانتظار .. المسكينة
أخفض محمود عينيه متحاشيا النظر إلى نانسي .. وقد خلا وجهه من أي تعبير .. وكأنه يدينها على وصف منار وريم لطريقة دعم ماهر لها .. ألا يستطيع أن يرى إلى أي حد كانت منهارة ؟ وأنها لولا دعم ماهر وسط رفض عائلته لما تمكنت من الصمود لحظة ؟
استعادت قوة صوتها وهي تقول :- أنت بخير الآن .. ولم تعد بحاجة إلي
تمتم بهدوء :- بالتأكيد
كبتت نانسي الألم العميق الذي أحست به .. لم يحاول محمود تصحيح كلامها .. لم يصر عليها لتبقى .. وكأن وجود عائلته حوله وريم بالأخص الملتصقة به في هذه اللحظات أكثر من كافي بالنسبة إليه
منعت دموعها بصعوبة من خيانتها .. وحافظت على هدوئها .. وما تبقى من كرامتها وهي تقول :- الوداع يا محمود .. وحمدا لله على سلامتك
استمر محمود في تحاشي النظر إليها .. فما كان منها إلا أن فتحت الباب وخرجت .. وأغلقته ورائها بهدوء شديد
إلى الأبد هذه المرة

__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #28  
قديم 02-10-2017, 03:13 PM
 


أحاول ان أنزل الفصل الأخير لكنه يأبى ذلك

سأحاول حل المشكلة
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #29  
قديم 02-19-2017, 11:33 PM
 
الفصل التاسع والعشرون


والأخير





بداية .. أم نهاية ؟؟







خرجت نانسي من قاعة الامتحان متعطشة لاستنشاق الهواء العليل .. وجدت ماهر برفقة مجموعة من زملاءه يتناقشون حول أسئلة الامتحان ويتجادلون حتى لمحها فاعتذر من رفاقه واتجه نحوها .. قالت له على الفور :- لنذهب إلى الخارج
خرجا من مبنى الكلية .. وجلسا على أحد المقاعد فسألها ماهر :- كيف أبليت ؟
نظرت إليه بتأنيب قائلة :- ما كنت لأطرح هذا السؤال لو كنت مكانك
قال بتعاطف :- لن يلومك أحد يا نانسي .. الكل يعرف ظروفك الصعبة مع حالة الدكتور محمود الصحية
قالت ساخرة :- هذا صحيح .. لقد أتاح لي مراقبو القاعة عدة فرص كي أسترق ا لنظر إلى إجابات الشاب الجالس أمامي تعاطفا مع ظروفي دون أن يعلموا بأنني لم أره منذ أسابيع .. بل انا لم أتحدث إليه ولو مرة منذ تركت المستشفى بلا رجعة فور تأكدي من نجاته .. وإلا لكانوا رموني خارج الجامعة غضبا من برودي وجحودي
هز ماهر رأسه قائلا :- لا تقسي على نفسك يا نانسي .. لقد كنت تتصلين بطبيبه يوميا للاطمئنان على حاله .. كما كنت تتواصلين مع إحدى الممرضات لتعرفي أخباره أولا بأول
فكرت بمرارة بأن هذا صحيح .. و يا ليتها لم تفعل .. إذ كانت تسمع باستمرار عن زيارات ريم المتكررة له .. وعن الفتيات الجميلات اللاتي كن يعدنه بين الحين والآخر .. وهي ليست غبية كي لا تخمن بأن نسرين إحداهن
تمتمت :- ولكنه قد خرج قبل عشرة أيام من المستشفى .. ولم تعد أخباره تصلني كالسابق .. أرغب فقط بأن أطمئن عليه .. أن أتأكد بأنه بخير
كان الطلاب يروحون ويجيئون حولهما بلا توقف .. وماهر ينظر إليها بإمعان لفترة طويلة قبل أن يقول بهدوء :- ألم يحن الوقت لإنهاء هذه المهزلة يا نانسي ؟
نظرت إليه بارتباك فقال :- أنت تحبين الرجل بجنون بحق الله .. تحبينه ولا تتوقفين عن التفكير به .. إلى متى ستستمرين بقطع أنفك كناية بوجهك ؟
تمتمت بألم :- أنت لا تعرف شيئا يا ماهر
قال بحزم :- أنا لا أعرف شيئا عما فعله الدكتور محمود .. أو ما دفعك لتركه .. ولكنني أعرف شيئا واحدا .. وهو أنك إن كنت تحبينه بما يكفي .. فستذهبين إليه .. وتتحدثين إليه .. واجهيه وصارحيه .. واسمعي منه .. امنحيه الفرصة ليبرر نفسه لك .. على الأقل حتى توقني بأنك قد استنفذت جميع فرص الصلح بينكما
ظهر العجز في عينيها وهي تتخيل نفسها ذاهبة إليه .. تصارحه بجميع شكوكها وأوهامها .. بخيانته لها وتاريخه المظلم مع النساء .. تخيلته يؤكد لها هذا فارتجفت .. وتمتمت :- لا أستطيع الذهاب إليه هكذا وبكل بساطة
:- بل تستطيعين .. أنت زوجته .. ومن حقك الاطمئنان عليه .. قلقك على صحتك سيمنحك العذر المناسب
عندما لاحظ ترددها ..أمسك يديها .. ونظر إلى عييها قائلا :- أنا وعائلتي سنبقى دائما معك يا نانسي .. ولكنني لا أريدك أن تندمي يوما وتفكري بما كانت ستؤول إليه الأمور لو أنك منحت الرجل الذي تحبين فرصة أخرى
مشاعر ماهر الصادقة جعلت قوة من نوع مختلف تنبثق داخلها .. قوة نابعة عم امرأة عاشقة .. طال شوقها لرؤية من تحب .. لاحظ ماهر التغير فيها .. فابتسم قائ:-اذهبي إليه يا نانسي .. وتأكدي بأن مكانك سيظل محفوظا بين أفراد عائلتي لو قررت العودة
منحته ابتسامة امتنان وهي تقف بحسم .. وقد اتخذت قرارها
نزلت من سيارة الأجرة طالبة من السائق أن يعود بعد ساعتين .. نظرت إلى المنزل الكبير وقد عاودها الجبن من جديد .. محمود هناك .. خلف هذه الأسوار .. ولكنه ليس وحيدا .. فهو محاط بأفراد عائلته .. هل ستقوى على مواجهة رفضهم وكراهيتهم لها ؟ .. هل ستحتمل رؤية ريم تحوم حول محمود ملقية عليه ظلال الماضي المخزي بينهما ؟
استجمعت شجاعتها وسارت نحو البوابة ليستقبلها الحارس بحماس مرحبا بها .. وهو يفتح لها الباب على الفور .. استقبلتها نجوى عند باب المنزل بذهول سرعان ما انقلب إلى سرور وهي تضمها بقوة وترحب بها .. وقد أسرعت باقي الخادمات ليرحبن بها بنفس الحفاوة .. قالت نجوى بتأثر :- لقد اشتقنا لك يا عزيزتي .. لا فكرة لديك عن كآبة هذا المنزل بدونك .. جميعنا كنا في انتظار عودتك إلينا
شكرتها نانسي وهي تنظر حولها بتوتر منتظرة أن ترى أحد سكان المنزل قائلة :- كيف حال محمود ؟ أظنه في غرفته .. أليس كذلك ؟
كانت قلقة من رؤية أحد أقارب محمود فيمنعها من الدخول والوصول إليه .. إلا انها لم تتوقع إجابة نجوى التي قادتها إلى غرفة الجلوس قائلة :- الدكتور محمود يثير جنوننا جميعا .. بالكاد التزم الفراش منذ خروجه من المستشفى .. وقد خرج منذ الصباح غير عابئ بتعليمات الطبيب واحتجاجنا جميعا
جلست نانسي كما جلست نجوى قريبة منها وهي تقول بقلق :- كيف استطاع الخروج في حالته تلك ؟ كيف سمحت له العمة منار بإهمال نفسه وصحته هكذا ؟
:- السيدة منار ليست موجودة .. لا أحد في البيت سوى السيدة الكبيرة
عبست نانسي قائلة :- لا احد في المنزل !.. أين هم جميعا .. لا أصدق تركهم لمحمود في هذه الحالة والخروج
:- لقد غادروا المنزل منذ ايام في سفر مفاجئ .. لا أحد يقول شيئا في هذه البيت .. والدكتور محمود صامت على الدوام .. بل هو نادر ما يبقى في البيت
أهذا يعني انها لن تراه هذه المرة ؟ جزء منها شعر بالراحة لان المواجهة قد تأجلت قليلا .. وجزء منها شعر بالحزن لانها لن تراه .. وان الفرصة قد لا تتاح لها مجددا للقدوم إلى هنا
نظرت حولها متمتمة ::- لا أرى حنان .. أين هي ؟
تبادلت نجوى نظرات الخبث مع الخادمات وقالت :- لا احد يرى حنان هذه الأيام .. فهي بالكاد تقوم بعملها مستغلة مكانتها لديك ولدى السيد محمود .. إنها تقضي معظم الوقت برفقة مأمون .. كلما كان موجودا .. وهي في الغالب تتحدث إليه في هذه اللحظة في الحديقة الخلفية
اتسعت عينا نانسي بذهول .. حنان ومأمون !! .. ثم ضحكت وهي تهز رأسها .. يجب ألا يدهشها هذا ... فحنان لن تجد رجلا طيبا ومرحا ومناسبا لها كمأمون
ثم عبست وقد تذكرت شيئا :- مأمون هنا .. هل هذا يعني بان محمود قد قاد سيارته بنفسه ؟
هزت نجوى رأسها قائلة بيأس :- لقد أخبرتك بانه يثير جنوننا
لم يكن امامها الكثير من الوقت قبل عودة سيارة الأجرة .. قررت زيارة الجدة وقد اشتاقت لرؤيتها والاطمئنان عليها .. وقد اخبرتها نجوى بأن الجدة لا تعرف شيئا عن حادث محمود .. لقد اخبروها بانه قد اضطر للسفر فجأة .. فلم تشك بشيء خاصة عندما ذهب إليها محمود فور وصوله من المستشفى مطمئنا إياها قدر المستطاع
طرقت الباب برفق .. ثم فتحته عندما سمعت صوت الجدة .. أدارت المرأة المسنة رأسها قائلة :- أهو انت يا محمود ؟
تمتمت نانسي :- إنها انا يا جدتي
تهللت أسارير الجدة وهي تقول لها بسرور :- حمدا لله على سلامتك يا عزيزتي .. لقد طال غيابك كثيرا ... لن اعاتبك على سفرك دون وداعي لأن محمود قد أخبرني باضطرارك للسفر فجأة إلى فرنسا لأجل شقيقتك
ارتبكت نانسي وهي تجلس إلى جانبها قائلة :- آه 00 أنا آسفة

لم تكن لديها فكرة عن تفسير محمود لجدته سبب رحيلها .. فقررت التزام الاجوبة المختصرة كي لا تخطئ بالكلام .. خاصة وقد لاحظت شحوب وجه الجدة وإرهاقها الواضح .. سألتها برقة :- كيف حالك يا جدتي ؟
تنهدت الجدة قائلة :- بخير .. إلا انني قلقة على محمود .. لا يبدو لي طبيعيا منذ عودته من السفر .. الحمدلله انك قد عدت اخيرا لأنني أظن تعبه عائد إلى غيابك عنه .. هكذا كان محمود دائما .. شديد الحرص والتعلق بما هو له .. وقد لاحظت أنت بالطبع علاقته الوثيقة بأقاربه
تمتمت نانسي :- بالطبع
بحثت الجدة بيدها عن يد نانسي فأسرعت تقدمها لها طائعة .. قالت الجدة برقة :- أعرف بانك تكرهين وجود أشخاص آخرين حولكما ولم يمض على زواجكما أشهر قليلة .. وأخمن بأن سبب سفرك الرئيسي عائد إلى رفضك لوجود ريم ومنار وباقي أفراد العائلة .. أي امرأة كانت لتفعل المثل
لم تعرف نانسي ما تقول أمام بصيرة المرأة الحادة .. من الواضح بان محاولات محمود لإخفاء الوقائع عنها ليست مجدية تماما .. حتى عندما أخفى عنها أمر الحادث الذي تعرض له .. لم ينجح في تجنيب جدته القلق بسبب غريزتها المتيقظة
أكملت الجدة دون أن تنتظر ردا :- لابد أنك قد تفهمت الأمر الآن بما أنك قد عدت .. محمود لا يستطيع إبعاد عائلته عنه بسبب خوفه من تكرار ما حدث مع والديه .. تعرفين طبعا بان الحادث الذي أدى إلى وفاتهما كان مدبرا
لا . لم تكن تعرف .. حبست نانسي انفاسها وهي تستمع إلى وقائع كانت مجهولة لها تماما عن حياة محمود
:- كان من المفترض به أن يرافقها ذلك المساء .. ولكنه فضل البقاء ليدرس فلم يمانع والداه .. توفيا بحادث سير مريع .. انحرفت السيارة عن الطريق لأسباب مجهولة واصطدمت بعمود إنارة ضخم .. توفيا على الفور .. ولم يسامح محمود نفسه أبدا على ماحدث
أسرعت نانسي تقول بحرارة :- ولكن الحادث لم يكن ذنبه هو
:- لم يكن ذنبه .. ولكنهما ماتا .. وبقي هو حيا .. وهذا كان ذنبا كافيا لابن الثامنة عشرة .. انتهت التحقيقات .. واتضح بان الحادث كان مدبرا .. وأن أحدهم قد عبث بسيارة والده ليفقد تحكمه بها ... ولم يعرف الفاعل أبدا رغم وجود الكثير من الاعداء لوالده مرجل اعمال معروف
لم تكن نانسي بقادرة على استيعاب كل هذه المآسي التي عانى منها محمود في حداثته .. احست بالشفقة والعطف اتجاه الفتى الشاب الذي وجد نفسه عاجزا عن الإمساك بقاتل والديه .. تمتمت :- لابد ان الأمر كان صعبا عليه
:- أ:ثر مما يمكنك أن تتخيلي .. عندما انتقل عمه للإقامة معه برفقة زوجته وأولاده .. كانت قد تشكلت لدى محمود نوع من عقدة الحماية اتجاه أحباءه .. وجودهم إلى جانبه وتحت انظاره كان يضمن له أ، يقوم بحمايتهم كما يجب من ان يتعرض احدهم لأي أذى .. لهذا تجدينه متمسكا بهم .. ولهذا يجب أن تفهمي إصراره على بقاءهم حوله .. ليس لأنه يفضلهم عليك .. بل لأنه محمود .. الذي لا يستطيع منع نفسه من حماية غيره والعناية بهم .. إنها جزء من طبيعته .. الإحساس بالمسؤولية اتجاه من يحب .. وعلى الأرجح .. غيابك عنه كل هذه الفترة أرهقه إلى حد كبير .. فهو لن يشعر بالاطمئنان والراحة إلا إذا كنت تحت انظاره
صدقت نانسي كلمات الجدة على الفور .. وتذكرت غضبه عندما أخبره ماهر بالحادث الذي كادت تتعرض له .. ولومه لها لأنها لم تسمح له بحمايتها بطريقته .. تخيلته يهرع خارجا من مكتبه متجها إليها وكله لهفة لاحتضانها .. والعناية بها لولا الحادث الذي تعرض له
أحست بغصة تقف في حلقها فابتلعتها مرغمة .. لن تزعج الجدة بعرض مبتذل للمشاعر الآن .. تحدثت إليها قليلا .. ثم استأذنت لتقول لها الجدة قبل أن تخرج :- لن ترحلي مجددا .. أليس كذلك يا نانسي ؟
لم ترغب نانسي بالكذب عليها .. ولكنها في النهاية تمتمت مرغمة :- لا .. لن أرحل
نزلت الدرج ببطء وهي تفكر بكل كلمة سمعتها من الجدة .. وبالوعد الذي قطعته لها دون أن تنوي تنفيذه .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تقطع الدرجات نحوها .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تصعد الدرج نحوها لتضمها بلهفة قائلة :- حمدا لله على سلامتك يا نانسي .. لقد نورك بك المنزل .. قولي بانك قد عدت لتبقي .. فقد اشتقنا لك جميعا
قالت نانسي بخبث :- نعم .. أصدق بأنك لم تنقطعي عن التفكير بي .. أيتها الكاذبة .. ما أن أدير ظهري حتى تعبثين من ورائي مع مأمون
احمر وجه حنان وهي تتمتم :- الثرثارة نجوى
ضحكت نانسي لخجل حنان المفاجئ .. وربتت على كتفها قائلة :- أنت تستحقين السعادة يا حنان .. مبارك لك
برقت عينا حنان وهي تقول :- هناك الكثير لأحكيه لك .. هل تصدقين بأنه قد طلب يدي من....
بترت كلامها عندما لاحظت بان نانسي لا تستمع إليها .. وأن أنظارها المتوترة قد تركزت عند نقطة في الأسفل .. فاستدارت لترى محمود يدخل باب المنزل .. ويعبر البهو راميا سترته عن كتفيه فوق أحد المقاعد بحركة عنيفة .. وقد ظهر الغضب المكتوم على ملامحه وهو يعتلي الدرج .. ليتسمر مكانه فور ملاحظته لنانسي .. تقف على بعد درجات عنه .. جامدة مثله .. وكأنها لم تتوقع رؤيته
اهتزت عيناه حتى الأعماق وهو يلتهمها بعينيه .. كانت ترتدي قميصا أصفر بياقة مثلثة .. وتنورة حريرية بنية اللون هفهفت حول ساقيها بنعومة .. شعرها الذهبي كان حرا حول وجهها وخلف ظهرها مانحا إياها هالة ملائكية .. لم يعكرها سوى التعبير الحذر الذي ارتسم على ملامحها .. وهي تنظر إليه بنفس التصفح
بدا لها أكثر نحولا بقميصه الأبيض .. وسرواله الأسود الأنيق .. كانت يده محمولة بحامل قماشي معلق بعنقه .. وجهه الوسيم كان شاحبا ومرهقا .. شعره الناعم كان أطول من المعتاد وقد تدلت خصلة متمردة على جبينه لتمنحه مظهرا بعيدا عن وقاره المعتاد ... ذقنه كانت نامية وكأنه لم يحلقها منذ يومين .. برغم كل هذا .. لم يبد لها يوما اكثر جاذبية .. أحست بشوقها إليه يخنقها .. وبرغبة عارمة في قطع المسافة الفاصلة بينهما .. وغمره بذراعيها .. والإحساس بقوته ودفئه من جديد .. والتخفيف عنه وقد بدا لها تعيسا للغاية وهو ينظر إليها دون أن يفارقه الذهول بعد لرؤيتها

كان عليها أن تتماسك .. وأن تخفي ضعفها الشديد .. فهو لم يظهر أي ممانعة لرحيلها في لقائهما الأخير .. ولن تظهر له لهفتها عليه مهما كان هذا صعبا عليها .. قالت بهدوء عندما لم يتكلم :- كيف حالك يا محمود ؟
راقبها وهي تنزل الدرج ببطء وهو يقول بجفاف :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟
توقفت وقد آلمها جفاءه .. إلا انه لم يمنعها من أن تقول :- جئت لأراك .. وأطمئن عليك .. أنت مازلت زوجي في النهاية .. ومن واجبي السؤال عنك
قال ساخرا :- بالتأكيد .. فممرضتك الغالية لم تعد قادرة على إمدادك بالأخبار عني بعد مغادرتي المستشفى .. أليس كذلك ؟ اهتمامك مثير للإعجاب .. وقد يخيل للمرء انك قلقة حقا علي .. ومهتمة لامري
قالت باحتجاج :- أنا اهتم لأمرك ..
قال بغلظة :- لو كنت تهتمين لما غبت طوال هذه الفترة دون أن تزعجي نفسك بزيارتي أو بالاتصال بي
قالت بغضب :- لم تظهر أي اعتراض عندما تركتك آخر مرة بين يدي أقاربك الاعزاء .. لقد أظهرت لي وبكل وضوح تفضيلك لهم علي .. فلم أفرض عليك وجودي وقد انتفت حاجتك إلي
نظر إليها للحظات طويلة .. وقد ظهر تعبير لم تفهمه في عينيها .. ولكنه أخافها .. قال بهدوء :- من الأفضل ان نذهب إلى غرفة المكتب ونتحدث على انفراد ..
لاحظت حنان الواقفة قريبا منهما وتستمع إليهما باهتمام وقلق .. وأعين الخدم التي تلصصت من وراء الأبواب فضولا لسماع شجارهما .. فقالت بتوتر :- ليس هناك ما نقوله يا محمود .. ستصل سيارة الاجرة خلال دقائق .. لقد جئت لأراك .. وأطمئن عليك .. وتبدو لي بخير تماما
فتح ذراعيه امامها قائلا بحدة :- حقا .. أيكفيك النظر إلي كي تشبعي فضولك يا نانسي ؟ الن تسأليني عن جراحي ؟ وإن كانت في طور الشفاء ام لا ؟ ألن تسأليني عما استجد في تحريات الشرطة حول الرجل الذي حاول قتلي أم ان اهتمامك بي لم يصل إلى هذا الحد ؟
احمر وجهها غيظا وحرجا .. ولوعة عندما ذكرها بالحادث .. أحست بانها مجبرة على الدفاع عن نفسها فقالت :- أرغب بان اعرف كل شيء بالتأكيد
:- هذا يعني انك سترافقينني إلى غرفة المكتب لنتحدث بهدوء حتى وصول سيارة الأجرة
تراجع مفسحا لها الطريق لتسير امامه إلى داخل الغرفة متحاشية الاقتراب منه خشية لأن تتأثر بجاذبيته ... فدخل خلفها وأغلق الباب خلفهما
نظرت حولها بامتعاض وقد تذكرت فور وقوع بصرها على المكتب الكبير .. والمقعد الجلدي الوثير ذلك المشهد الذي جاهدت طويلا لتنساه .. توترت كل عضلة في جسدها وهي تشيح ببصرها بعيدا وقد ظهر الألم واضحا على ملامحها .. سألها محمود :- هل انت بخير ؟ هل تتألمين ؟
أدركت بأنه ينظر إليها .. وأنه قد أساء فهم تشنجها فتمتمت :- أنا بخير
اقترب قائلا :- ما الذي قاله الطبيب صباح الأمس ؟
نظرت إليه بدهشة فقال :- أنا اتحدث مع ماهر بشكل يومي تقريبا لسؤاله عنك .. ظننته قد اخبرك بهذا
تمتمت :- لا .. لم يخبرني .. أظنه لم يرغب بأن يسبب لي الازعاج
توتر فمه .. وبدا وكأنه سيقول شيئا قبل أن يغير رأيه .. ويتجه نحو المكتب .. ويعبث بيده الحرة ببعض الأوراق قائلا بجفاف :- حسنا .. ما الذي قاله الطبيب ؟
:- الطفل بخير .. من المفترض أن تتم الولادة في بداية شهر أكتوبر
التفت فجأة ليحدق في بطنها قائلا :- هل أنت متأكدة بأن الطفل بخير ؟ ألم يطلب منك الطبيب الاهتمام بغذائك .. فأنت نحيلة للغاية .. ولا يبدو عليك الحمل على الإطلاق
وضعت يدها على بطنها غريزيا وهي تقول بانزعاج :- صحتي جيدة تماما .. والتحاليل التي أجريتها بناءا على اوامر الطبيب تثبت هذا .. إنما الملابس هي ما يخفي آثار الحمل عن العيون
رقت نظرته وهو ينظر إليها بطريقة جعلتها تدرك بانه يفكر حتما بما تخفيه ملابسها .. فاجتاحتها ذكريات علاقتهما الحميمة على الفور .. واحمر وجهها وهي تحيط نفسها بذراعيها وتتراجع إلى الخلف قائلة باضطراب :- أما انت فمن الواضح انك لا تهتم أبدا بنفسك .. آخر ما توقعته هو ان أحضر لأجدك قد غادرت البيت .. بل وتقود السيارة بنفسك مخاطرا بحياتك
قست عيناه وهو يقول بجفاف :- كان علي الذهاب إلى مكان ما .. بدون رفقة
هزت رأسها قائلة بتوتر :- هذا ليس عذرا .. ما كان على العمة منار أن تسمح لك بالخروج .. أين هم أقاربك على أي حال ؟ لا أصدق بأنهم قد تركوك وحدك في ظروف كهذه .. لقد توقعت ان أرى ريم تحوم حولك على الأقل لاعبة دور الممرضة المخلصة على اكمل وجه
قالت عبارتها الأخيرة بتهكم .. فلم يغضب محمود كما توقعت منه .. ولم يلمها هذه المرة على سخريته .. بل نظر إليها ببرود شديد قبل أن يقول بصوت أثار داخلها رجفة غريبة :- العمة منار وريم .. وباقي أفراد العائلة .. ما عادو يقيمون هنا بعد الآن
صمتت للحظات طويلة وقد فاجأها بكلامه .. ثم سألته بارتباك :- ماذا ؟ .. ولكن لماذا ؟
لاحظت بان وجهه رغم صرامة ملامحه قد شحب قليلا وهو يغير الموضوع قائلا :- ألا ترغبين بآخر نتائج تحريات الشرطة ؟
خفق قلبها وقد أحست بالخوف مما ستسمعه .. قالت بقلق :- هل امسكوا بالفاعل ؟
:- لقد فعلوا .. الفاعل كان مجرد مجرم صاحب سجل حافل بالجرائم المختلفة .. وقد سبق له أن قضى سنوات طويلة في السجن .. وقد تلقى مبلغا كبيرا من المال ليقوم بإطلاق النار علي ذلك المساء
كان يتحدث ببرود شديد .. كأن الامر لا يخصه هو .. ولكنها احست بخطورة الامر .. أسندت نفسها إلى ظهر الأريكة وهي تقول بصعوبة :- من هو الشخص الذي دفع له ليقتلك يا محمود ؟ .. من هو ؟
رفع رأسه إليها .. فأطلقت شهقة عنيفة وهي ترى العذاب والمرارة في العينين العسليتين وهو يقول :- خمني
هزت رأسها وقد عرفت .. عرفت بغريزتها التي نبهتها إلى الخطر قبل أشهر دون أن تدري
همست مذعورة :- لا .. لا يمكن
قال بمرارة وهو يرمي نفسه على احد المقاعد :- بل هو ممكن .. الشخص الذي أراد قتلي .. ودفع مبلغا كبيرا لذلك الرجل كي يقوم بالمهمة .. هو أقرب الناس إلي .. إنه الرجل الذي رباني .. واهتم بي لسنوات طويلة وكأنه والد لي .. إنه عمي يا نانسي .. عمي هو من أراد قتلي
لم تستطع تخيل صدمته وألمه الكبير في هذه اللحظات .. فتدفقت دموعها .. عاجزة عن قول أي شيء لمواساة الرجل الذي تحب منهارا .. أن يعرف بأن عمه يرغب بموته .. قد طعنه في الصميم .. دمره وحطم جزءا منه .. راقبته وهو يحاول تمالك نفسه .. فلم تستطع إلا أن تسأله بانفعال :- لماذا ؟ لماذا قد يرغل العم طلال بإيذائك ؟
قال بسخرية مريرة :- لنفس السبب الذي دفعه لقتل والدي قبل خمس عشرة سنة .. المال .. والمال وحده يا عزيزتي
كتمت صيحة الذعر التي كادت تفلت من فمها بيدها .. ووجدت نفسها تجلس على طرف الأريكة قبل أن تخذلها ساقاها .. بينما قال هو بألم شديد :- لقد أمسكوا بالمجرم منذ يومين .. واعترف هو بتحريض عمي له على قتلي كما فعل قبل سنوات عندما دفع له ليعطل سيارة شقيقه الأكبر ويتسبب بموته .. أمسكوا به صباح الأمس أثناء محاولته مغادرة البلاد .. فاعترف بكل شيء تحت ضغط استجواب الشرطة له .. كل شيء
أخذ نفسا عميقا وهو يقول :- لقد بدأ الامر قبل سنوات طويلة .. عندما توفي جدي تاركا ثروته لابنيه الوحيدين مناصفة .. بينما ضيع الأخ الأصغر امواله بسبب إسرافه وتهوره .. استطاع والدي أن يضخم ثروته بالعمل الشاق والمخلص .. فما كان امام عمي إلا ان يلجأ إلى شقيقه الذي جعل منه يدا يمنى له دون أن يدرك بأن طمع أخيه لن يتقبل لفترة طويلة أن يكون موظفا مأجورا لا يملك سوى راتبه .. ففكر بان حادثا يودي بحياة أخيه وعائلته .. هي أسهل طريقة للحصول على كل تلك الاموال والشركات الناجحة .. دون أن يحسب حسابا لنجاة الابن المراهق وبقائه شوكة في حلقه .. وحائلا يقف بينه وبين الثروة .. لم يجرؤ على إيذائي كي لا يلفت الأنظار إليه ويثير الشبهات حوله .. وفجأة .. تحول على الفور إلى العم الحنون المخلص .. وانتقل مع عائلته للإقامة معي كي لا أبقى وحيدا .. وأنا كالأحمق ظننت لسنوات طويلة بأن بقائهم إلى جانبي سيحميهم من كل أذى خاصة وأن قاتل والدي لم يعرف أبدا .. كانت خطته واضحة .. سيضع يده على ميراثي .. ويتصرف به كما يشاء بينما أنشغل انا بشغفي بالدراسة .. دون ان يعرف بانني ما كنت أبدا لأفرط بما تركه لي أبي .. لطالما اعدني لهذا اليوم .. أخذني معه دائما إلى العمل .. وعلمني مبادئه وتفاصيله .. فلم أستطع أن أتخلى عن رغبته في إدارة العمل الذي بناه بنفسه وبتعبه مهما كان حبي وثقتي بعمي كبيرة في ذلك الوقت .. لطالما أحببته واحترمته .. تجاهلت متعمدا اختلاساته المتكررة .. وتجاوزاته لانه في النهاية عمي .. حاول دفعي للزواج من ريم أكثر من مرة كي يضمن بقاء المال ضمن العائلة .. والله يعلم بأنني حاولت مرارا بان أفكر بريم كزوجة محتملة .. ولكنني لم أستطع .. لطالما كانت هي وفراس كأخوة لي ..
أغمضت عينيها محاولة منع نفسها من القفز في وجهه ومواجهته بعدم صحة أقواله .. فقد كان ألمها لأجله في هذه اللحظة أكبر بكثير من غضبها منه .. أرادت أن تذهب إليه وتخفف عنه .. ولكنها لم تجرؤ .. نظرت إليه فوجدته يحدق بالأرض وكأنه يستعيد أحداث السنوات السابقة وكانها تحصل امامه .. أكمل كمن يحدث نفسه :- زواجي منك كان القشة التي قصمت ظهر البعير .. لقد خسرني صهرا .. وأنا حظيت بزوجة وأكاد أبني عائلة .. كانت مسألة وقت قبل أن أطلب منه مغادرة منزلي .. وربما اكتشفت فيما بعد تجاوزاته في العمل وأعمال الغير قانونية التي مان يمررها دون ان اعلم .. وجد الزمن يكرر نفسه .. فقد سبق وكاد أبي يطرده من عمله بسبب تهوره .. وهو ما عرفته مؤخرا من أحد الموظفين القدامى الذين كانوا مقربين من أبي .. لم يعد أمامه خيار آخر .. كان عليه في النهاية أن يتخلص مني .. فاتصل بنفس الرجل الذي استأجره قبل سنوات لقتل أخيه .. وكلفه بقتل ابن أخيه هذه المرة
تهدج صوته في النهاية فلم تتمالك نفسها .. أسرعت نحوه .. وجثت إلى جانبه وهي تمسك يد قائلة بصوت أجش :- انا آسفة يا محمود .. آسفة لأنك تعاني من كل هذا .. أعرف بأنك كنت تحبه كوالدك .. أعرف معنى أن تصدم برجل كان يعني لك الكثير .. لقد كان إيقاف أبي واتهامه .. ثم موته في السجن صدمة كبيرة لي .. لإلا أنني على الأقل كنت متأكدة دائما بأنه ما كان ليؤذيني.. أو ليؤذي أحدا من أسرته
نظر إليها .. فالتقت عيناهما .. رأت توسلا وضعفا شديدا في نظراته .. فنهضت ببطء لتقف إلى جانبه .. وتضم رأسه إلى صدرها .. فأحاط خصرها بذراعه وشدها إليه .. ملتمسا العزاء والسلوى بين أحضانها التي طال شوقه إليها .. أحست به يأخذ نفسا عميقا وكانه يستنشق رائحتها فارتجفت .. وسرت في جسدها موجة شوق عاتية كادت تحني ركبتيها ضعفا .. ابتعدت عنه وهي تقول باضطراب :- ألهذا السبب تركت العمو منار البيت ؟
وقف وهو ينظر إليها قائلا :- فور إلقاء القبض على عمي ومواجهته بالاتهامات .. جمعت العمة أغراضها .. ورحلت مع اولادها إلى منزل شقيقها .. لا ذنب لها أو لهم بما فعله والدهم .. وأنا اعرف بانها قد احبتني دائما كابن لها .. ولكنها تعرف أيضا بانهم لن يتمكنوا من البقاء يعد معرفتهم بما فعله عمي بي .. وبوالدي .. وأنا ما كنت أستطيع احتمال وجودهم حولي لأتذكر صدمتي بوالدهم .. كان من الممكن ان أسامحه .. وأتنازل عن حقي لأجل عائلته وإكراما للقاربة بيننا وما فعله لأجلي لسنوات .. إلا أنني ما كنت أبدا لأسامحه على محاولته الحقيرة لإيذائك وإيذاء طفلي
نطق بالجملة الأخيرة بوحشية بينما ارتعدت قائلة :- أتعني بأن تلك السيارة ....
:- هذا صحيح .. لقد كانت السيارة نفسها .. لقد أرسله عمي ليصدمك أولا عند خروجك من الجامعة قبل أن يستقصدني .. فإن لم يقتلك .. فإنه سيجهض الطفل الذي كان ليشكل عائقا امام حصوله على ميراثه .. وهو ما كان ليسمح للزمن بأن يتكرر مرة أخرى .. لقد عرفت الآن لماذا تركتك تذهبين عندما غادرت المستشفى .. لقد عرفت بأنك في خطر .. وأن من حاول قتلي يرغب بإيذائك أيضا .. أردت إبعادك عني حتى الامساك بالقاتل على الأقل كي أحميك من الأذى
صمتت لفترة طويلة وهي تتذكر الألم الذي احست به ذلك اليوم عندما صرفها محمود .. لقد أحست بالغضب عندما اضطرت لتركه بين يدي ريم .. ريم التي خرجت من حياته اخيرا .. المدهش هو انها في هذه اللحظة كانت تحس بالتعاطف مع ريم وفراس .. وهي تتذكر خزيها الشديد لما فعله والدها .. أحست بالشفقة اتجاه السيدة منار وولديها .. فقد عرفوا الآن ما الذي يعنيه ان يشار إليهم بالبنان نتيجة خطأ شخص آخر
:- نانسي
رفعت عينيها إلى محمود بقلق .. كانت تعرف إلى أين سيؤدي بهما هذا الحديث .. كان ينظر إليها بإصرار ويقول :- لم يعد هناك ما يمنعك من العودة إلى بيتك الآن
أحست بالذعر وهي تتراجع وقد أدركت بانها قد وقعت في الفخ .. تصميم محمود كان واضحا .. لن يسمح لها بالتحرك من هنا حتى تبسط جميع الاوراق على المائدة .. ارتفعت طرقات نجوى على الباب وهي تقول :- سيدة نانسي .. لقد وصلت سيارة الاجرة
هتف محمود بصرامة :- اصرفيه
هتفت نانسي بذعر :- لا .. انتظري
اسرعت نحو الباب فاعترض طريقها واضعا راحته وثقل جسده عليه مانعا إياها من فتحه قائلا بحزم :- لن تتحركي من هنا ولن ترحلي يا نانسي حتى نتحدث .. اتفهمين ؟
هتفت بعنف :- ليس هناك ما يقوله أحدنا للآخر يا محمود .. لا تستطيع احتجازي هنا ومنعي من الرحيل إن أردت .. هذا يسمى اختطافا
قال :- لن يلوم أحدا رجلا على محاربته لأجل استعادة زوجته .. لقد سبق واشترطت علي رحيل عائلتي لتعودي إلى بيتي يا نانسي .. إياك ان تنكري هذا .. وها قد تم ما أردته .. وأصبح المنزل وصاحبه تحت تصرفك .. ليس لديك أي عذر يمنعك من العودة
تراجعت إلى الخلف وقد تلاشى كل تعاطفها دفعة واحدة .. نظرت إليه بغضب قائلة :- هل تظن ما دفعني لتركك هو وجود عائلتك يا محمود ؟ حتى لو كنت استجبت لطلبي ذلك اليوم ما كنت لأعود إليك .. كما لن أعود إليك الآن .. انا لن أعود لأذل نفسي بين يديك مجددا .. لم أسمح لك على الإطلاق باحتقاري وإهانتي من جديد يا محمود .. اذهب وابحث عن ضحية اخرى تذلها وتذكرها دائما بنواقصها .. أظن ريم قد أصبحت الآن مناسبة لذوقك تماما .. يمكنك الزواج بها وتذكيرها كلما تشاجرتما بخزي والدها لتخر تحت قدميك ساجدة وممتنة لانك أويتها في منزلك .. ولكنني أبدا لن أفعل هذا
امتقع وجهه .. واعترض طريقها مجددا عندما حاولت أن تفتح الباب .. أمسك بها وأدارها إليه وهو يقول بعنف :- اهدئي يا نانسي و استمعي إلي ..أنا لم أنظر إليك يوما على انك أقل مني قدرا .. نعم لقد أهنتك مرارا.. ووجهت نحوك كلمات جارحة .. إلا انني أبدا لم أقصد أي منها .. في كل مرة كنت تهاجمينني بها .. وترمينني بكراهيتك في وجهي كنت أثور مرغما وأجد نفسي اخطئ في حقك رغبة مني في إسكاتك فقط .. لقد كنت تتطاولين علي وعلى عائلتي .. وأنت كنت تعلمين إلى أي حد كنت اهتم لأمرهم .. طبعا في النهاية أثبت بانك كنت محقة .. وانم ما كنت تقولينه عن عمي ومخاوفك اتجاهه كانت محقة
أفلتت ذراعها من بين أصابعه .. وابتعدت وهي تكبت ألما كبيرا داخلها وتجبر نفسها على عدم التعاطف مع مرارته .. تمتمت بألم :- الامر لا يتعلق فقط بعائلتك يا محمود .. مهما فعلت .. فانا سأظل دائما ابنة رجل مجرم في نظرك .. سأكون الفتاة التي أنقذتها وأنقذت عائلتها من الضياع .. سأظل مدينة لك .. وأنت لن تترك فرصة تمر دون أن تذكرني بهذا
قال بصوت أجش :- انظر إلي يا نانسي .. أنا أحبك .. هل تعلمين ما تعنيه هذه الكلمة .. أحبك .. مستعد لفعل المستحيل لأحتفظ بك
نظرت إليه مصدومة لعمق المشاعر التي فاض بها صوته .. رات عيناه الداكنتان تعصفان بالعاطفة .. فمه الجميل كان متوترا .. وصدره العريض كان يعلو ويهبط باستمرار مع عنف أنفاسه .. قال لها :- لم تمنحيني ولو لمرة أي إشارة عن حبك لي .. منذ زواجنا .. بل منذ لقاءنا الأول .. كان نفورك مني واضحا .. كنت لا تدخرين جهدا في إظهار كراهيتك لي .. كان علي فعل المستحيل للاحتفاظ بك .. جربت الصبر والحلم .. جربت كل شيء دون فائدة .. انت كنت تتسربين من بين أصابعي كالزئبق .. تزهين ببغضك لي .. وتتبجحين بعلاقتك بماهر أمام الجميع .. حتى عندما بدأت تلينين .. وخلال الأيام التي قضيناها معا في المنزل الجبلي .. لم أر أي دليل منك على مبادلتك لي المشاعر .. وفجأة .. انقلبت دفعة واحدة .. وأصبحت كراهيتك لي مضاعفة .. وجدت نفسي أخسرك .. فلم يكن أمامي من سبيل سوى الضغط عليك وتذكيرك بحاجتك إلي
سالت دموعها وهي تهز رأسها هامسة :- توقف .. أرجوك .. لا أريد سماع المزيد
قال بخشونة :- ما الذي تريدينه إذن ؟ أن أقف جانبا .. وأراقبك ترحلين .. لا والله لن أسمح لك بالرحيل .. ليس بعد أن أخبرتني في زلة غضب بأنك قد أحببتني يوما .. كنت أكاد اموت خوفا عليك بعد ان اخبرني ماهر عن السيارة التي حاولت صدمك .. إلا أنني بعد أن أسمعتني بعد عناء طويل الكلمة التي انتظرتها طويلا .. لم أفكر إلا بالوصول إليك .. وقد عرفت باننا سنجد في النهاية حلا لكل مشاكلنا ما دام الحب موجودا بيننا .. وها اننا قد تعادلنا الآن إذ أنني انا الآخر قد أصبحت ابن اخ مجرم وقاتل في نظر القانون والناس .. لم تعد هناك لي أي أفضلية عليك .. لقد أحببتني يوما يا نانسي .. وأنا قادر على استعادة ذلك الحب إن سمحت لي بالمحاولة فقط
اقترب منها فابتعدت وه يتقول بانفعال :- لا يا محمود .. لا أستطيع ان احبك .. لا أريد أن احبك فأتألم أكثر.. لا أريد أن أكون واحدة من كثيرات في حياتك .. هذا ليس كافيا بالنسبة إلي .. أنت لا تعرف أبدا كيف تكون مخلصا .. وانا لن أحتمل المزيد من خياناتك لي
تجمد مكانه وهو يقول بتوتر :- ما الذي تتحدثين عنه يا نانسي ؟ أنا لم أخنك يوما
قالت بوحشية :- لا تكذب يا محمود .. أعرف تماما تاريخك الحافل مع النساء .. وأعرف أيضا بأنك لا تستطيع الاستغناء عن حاجتك للتنويع .. وتنقلك من زهرة إلى اخرى ذات نكهة مختلفة
برقت عيناه بغضب وهو يقول:- أنت تهذين .. لا أنكر بانني عرفت عددا من النساء قبلك .. فأنا لست شابا صغيرا .. كلها كانت علاقات عابرة لم تعن لي شيئا .. وقد توقفت تماما فور ان عرفت بمشاعري نحوك .. ورغبت بالزواج بك
هتفت بعنف :- علاقات عابرة !.. هل تسمي إشرافك على الزواج من نسرين علاقة عابرة ..؟ حتى أنك تركتها دون أي إنذار وتزوجتني دون حتى ان تفسخ خطبتك اولا
قال مذهولا :- من أين جئت بهذا الكلام ؟ انا ونسرين لم نكن يوما خطيبين .. كانت تربطنا علاقة سطحية لا أكثر .. أحبت هي أن توهم أصدقائها بان الامر جدي وأن مشروع زواج سيجمعنا قريبا فلم أبالي .. نسرين كانت دائما فتاة مدللة وسريعة الملل .. عرف كل منا بان علاقتنا لن تنتهي إلى أي شيء .. أي مشاعر كنت احملها اتجاه نسرين انتهت منذ فترة طويلة
هتفت به بثورة :- انت تكذب .. انت حتى لم تنفي رغبتك بها في تلك الحفلة .. لقد أردتها .. اشتهيتها ثم جئت إلي راغبا في معاشرتها من خلالي
بشاعة كلماتها جعلته يشحب من جديد .. جلس على الأريكة .. وأخفى رأسه بين يديه .. وبدا وكان حملا ثقيلا يجثم فوق ظهره .. مما جعلها تفقد شيئا من حدتها وتنظر إليه بقلق .. وقد تذكرت جراحه .. وقبل ان تسأله عن حاله تمتم :- لقد كذبت عليك تلك الليلة يا نانسي .. الرغبة التي وجدتها في عيني أثناء حديثي مع نسرين لم تكن موجهة نحوها .. لقد كانت تسألني عنك .. إن كنت أحبك ... وإن كنت ترضينني بما يكفي .. وإن كنت أشعر نحوك كما كنت أشعر نحوها .. كانت تعاتبني وتحاول تذكيري بعلاقتنا القديمة .. ونعم كانت تلفت نظري إلى ما تمتلكه وكان يفتنني يوما .. إلا انني في تلك اللحظة .. كل ما كنت أفكر به هو انت .. رغم جمود علاقتنا في ذلك الوقت وبعدها عن الحميمية .. تذكرت الساعات التي كنت أقضيها ليلا في النظر إليك أثناء نومك .. تذكرت المتعة التي كنت أجدها حتى في لمس يدك والنظر إلى عينيك .. لقد كنت أراك امام عيني وانا اكلمها وأقارنها بك .. فسقطت على الفور في المقارنة .. أدركت بأن امرأة أخرى لن ترضي قلبي وروحي وجسدي .. عرفت بانني ساعود تلك الليلة وأسعى إلى حبك من جديد .. أجبتها في تلك اللحظة بأنني لم أشعر اتجاه امرأة كما أشعر اتجاهك .. وانك ترضينني بكل طريقة ترضي بها المرأة الرجل
هزتها كلماته .. وصدمتها .. وجعلتها تساله باضطراب :- لماذا كذبت علي إذن ؟ لماذا جرحتني بتلك الطريقة تلك الليلة ؟
رفع رأسه وهو يقول متهكما :- ماذا تظنين ؟ لقد كنت احاول إثارة غيرتك .. كنت قد يئست حتى من النجاح في تحريك مشاعرك .. تلك الليلة رفضتني بعنف جعل إحباطي وغضبي يدفعانني لاستعمال سلاح آخر أعرف بأنه من أشد الأسلحة فتكا بالمرأة .. وهو سلاح الغيرة .. هل رأيت إلى أي حد كنت يائسا ؟ نسرين لم تكن تعني لي شيئا إلا أنني استعملتها بلا ضمير مي احصل عليها
قالت بمرارة :- وقد نجحت .. أليس كذلك ؟ أنا كالبلهاء قدمت لك نفسي على طبق من ذهب .. وتركتك تأخذني إلى عش الغرام الذي اعتدت أخذ عشيقاتك إليه .. ذلك المكان الذي شهد علاقتك الفاضحة والمخزية بريم
نهض قائلا بانزعاج :- ما الذي تقولينه بحق الله ؟ أما زلت تشيرين إلى علاقتي الوهمية بريم ؟ لقد سبق وأخبرتك بأن ريم لم تعني لي شيئا سوى كونها ابنة عمي والاخت التي لم أحظ بها .. نعم .. فكرت يوما في الزواج بها ولكنني لم أستطع لانني لم أحبها يوما
هتفت بانفعال :- لقد أخبرتني بنفسها يا محمود .. أخبرتني عن استغلالك لها .. ولقائك بها بعيدا عن اعين والديها ثم تخليك عنها فور أخذك ما أردته منها .. لماذا قد تكذب أي فتاة وتهين نفسها وتسيء إلى شرفها إن لم يكن ما تقوله صحيح .. بحق الله لقد عرفت تفاصيل كل ما حدث بيننا هناك .. عرفت كل شيء عن العشاء والشموع والازهار .. عرفت لأنك كنت تفعل لها المثل عندما كنت تأخذها إلى هناك .. انت كنت حبيبها ومازلت حتى الآن .. فانت لم تنكر حتى بانك قد أخذتها إلى البيت الجبلي بعد شجارنا .. بعد ليلتنا الأولى .. كيف استطعت فعل هذا . كيف ؟
خنقتها الدموع مما جعل عبارتها الاخيرة ترتجف .. أمسك محمود بذراعيها .. وهزها بقوة وهو ينظر إلى وجهها صائحا بغضب :- ريم كاذبة يا نانسي .. كاذبة .. لقد كنت وحدي في البيت الجبلي حتى جاءت برفقة فراس وقد خمنا وجودي هناك وعرفا بشجارنا بطريقة ما .. قضيا بعض الوقت قبل أن أطلب منهما المغادرة بعد أن حذرتهما من البوح بمكان وجودي لأحد .. لا اعرف كيف عرفت ريم بتفاصيل ما حدث بيننا .. ربما كان تخمينا صائبا منها .. أو ربما سألت العائلة التي طلبت منها تجهيز الكوخ لنا .. إلا انها كاذبة لعينة وانا لم ألمسها يوما
صرخت به بجنون :- لقد رأيتك يا محمود .. رأيتك تقبلها ذلك الصباح .. هنا .. في هذه الغرفة وعلى ذلك المقعد .. فتوقف عن الكذب علي لأنني لا أستطيع احتمال المزيد .. لن أحتمل المزيد أرجوك
انهارت باكية بعنف وقوة هزت كيانه .. فسحبها إليه يضمها إلى صدره ..ويرفع رأسها لتنظر إلى وجهه وهو يقول لها بحزم :- ذلك الصباح .. انا لم أقبلها يا نانسي .. لقد دخلت المكتب أثناء وجودي فيه .. وتظاهرت بالرغبة في سؤالي عن شيء ما .. وتعثرت فجأة وسقطت فوقي .. ثم قبلتني دون إنذار .. لو كنت انتظرت للحظات فقط قبل أن تهرعي إلى غرفتك وتبدأي بتوضيب حاجياتك لرأيتني أدفعها عني وأصفعها معنفا وموجها لها الكلمات القاسية .. ثم صعدت إلى غرفتنا وقلبي موقن بان المرأة الوحيدة التي أرغب بتقبيلها نائمة هناك .. كنت اهم بمصالحتك .. وإيقاظك بنفسي عارضا عليك بداية جديدة لحياتنا لأجدك في تلك اللحظة ترمين أغراضك في الحقيبة الكبيرة بنية الرحيل .. لقد انتابني الجنون وأنا أفكر بتركك لي .. فحاولت منعك .. أعرف بانني قد وجهت إليك الكثير من الكلمات البشعة .. إلا انني كنت يائسا عندما وجدتك تضيعين مني .. عرفت بأنك وبسبب معاملتي السيئة لك قد ترحلين إلى الأبد .. وعندما فقدت الوعي بين ذراعي.. وأشار الطبيب إلى امكانية الحمل .. تجدد الأمل داخلي وعرفت بأن هذا الطفل هو فرصتنا لنصحح جميع أخطائنا ونبدأ من جديد .. لأجدك قد رحلت فجأة دون أي كلمة عن مكانك
ارتسمت التعاسة التامة في عينيه وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين الشاخصتين إليه بعدم تصديق .. فأحاط وجهها بيديه وقال بصوت أجش :- قولي بأنك تصدقينني يا نانسي .. وأنك ترفضين تصديق أكاذيب ريم .. قولي بانك لا تصدقين بانني ذلك السافل المستعد لاستباحة عرض ابنة عمه .. وخيانة زوجته تحت سقف بيتها .. أخبريني بأنك لا ترينني حقيرا إلى ذلك الحد
احتاجت نانسي إلى لحظات قليلة كي تدرك الحقيقة .. كي تدرك بان محمود الذي عرفته لأشهر .. محمود الذي جماها وحمى عائلتها .. والذي اعتنى بأمها وشقيقتها .. الذي منحها حبه وحنانه وصبره .. لا يمكن أن يكون كما وصفته ريم .. عرفت بانها قد أساءت الظن به .. وأنها لم تمنحه أي شيء من الثقة في الوقت الذي منحها الكثير .. عرفت بانها تحبه إلى حد يدفعها لمسامحته على كل أخطاءه معها ومنحه فرصة جديدة لبناء ثقتها به من جديد .. عرفت بانها لو تجرأت منذ البداية على البوح له بشكوكها ومخاوفها .. لوفرت على كليهما كل هذا العذاب والالم ..والشعور بالوحدة .. عرفت بأنها قد فضلت تصديق فتاة مريضة وغير متزنة كريم على تصديق الرجل الذي تحب وتحتاج .. فلم تحتمل كل هذه الحقائق .. سالت دموعها بغزارة سرعان ما تبعها نشيج عنيف .. بكت هذه المرة حزنا على ما سببه كل منهما للآخر من ألم دون أن يدرك .. سحبها إلى الأريكة الجلدية ..وأجلسها عليها وهو يضمها بقوة تاركا إياها تذرف الدموع على صدره .. ربت على شعرها وهو يهمس :- لماذا لم تخبرينني بكل هذه الشكوك والوساوس التي كانت تثقل قلبك يا حبيبتي .. لماذا لم تواجهيني بالحقيقة ولو لمرة وتسأليني عنها .. لماذا تركت نفسك تتألمين بصمت بسبب أكاذيب ريم ؟
قالت دون أن ترفع رأسها .. ودون ان تتوقف عن البكاء :- لقد خفت .. خفت ان تؤكد لي كلامها وأنا ما كنت لأحتما هذا .. لم أستطع أن اصدق بأنك تحبني حقا وقد أظهرت لي مرارا امتعاضك مني واحتقارك للشخص الذي كنته لسنوات طويلة
أجبرها على النظر إليه .. وقال لها مجددا بصوت حازم :- أنا أحبك .. أحبك يا نانسي .. أحبك بكل عيوبك ومزاياك .. لا .. أظنني احبك لعيوبك فقط .. فما كنت لأجد على الإطلاق فتاة تجتمع فيها وفي آن واحد صفات رائعة كالقوة والصلابة والانوثة والضعف .. أحبك بكبريائك وتكبرك .. بغرورك وغيرتك .. بعنادك وتطرفك .. احبك .. ولا أريد أن اغير شعرة واحدة منك .. لأنني أدركت بانني لا يمكن أن أعيش لحظة واحدة بدونك
تغلغلت كلماته القوية إلى داخل كيانها وهزتها حتى الاعماق .. نظرت إلى وجهه الوسيم الحبيب .. إلى عينيه الصادقتين .. وعرفت بانه يقول الحقيقة .. فتجرأت أخيرا على ان تنطق بالكلمة السحرية التي طال شوقه إليها .. وهمست :- أحبك
ترقرقت الدموع في عينيه هذه المرة وهو يسحبها .. ويقبلها بحرارة ولهفة أنستها تماما واقعهما .. لفترة طويلة .. لم يستطع احدهما ترك الآخر .. حتى همس لها بصوت محموم :- لنصعد إلى غرفتنا
نظرت إليه وقد أعماها شوقها إليه .. وتلهفها الذي فاق تلهفه .. إلا انها تذكرت شيئا جعلها تغمغم بقلق :- ماذا عن جراحك ؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة لعوب وهو يقول :- لن يوقفني شيء وقد احتويت بين ذراعي أغلى ما اتمنى
تورد وجهها عندما عاد يقبل وجنتها الناعمة وعنقها الغض فتمتمت :- ربما .. ربما علينا المرور على جدتك اولا .. إن رأتنا معا فستطمئن إلى اننا قد تصالحنا أخيرا .. أنت لم تظن حقا بانها قد صدقت قصصك الملفقة بغريزتها المتيقظة
أطل التقدير من عينيه لاهتمامها بمشاعر جدته وقال :- عرفت بانني لم أخدعها
عندما فتح الباب فجأة .. سقطت عند أقدامهما كل من نجوى وحنان اللتين كانتا تحاولان استراق السمع .. ومن خلفهما ظهر باقي الخدم وقد بدوا كمن ضبط متلبسا .. لوى محمود فمه بامتعاض وهو يغمغم :- أحيانا أفكر بان المستخدمين لدي بحاجة إلى التأديب من حين إلى آخر
ثم رفع صوته قائلا بصرامة :- الكل مفصول من العمل لمدة ثلاثة ايام
تراجع الجميع وقد علت ابتسامة هي مزيج من الرضا والخبث وجوههم .. وقد عرفوا بأن رئيسهم لم يقصد طردهم حقا .. إنما هو يرغب فقط بأن ينفرد بزوجته الصغيرة والجميلة لأكبر وقت ممكن .. زوجته التي يحبها بجنون







النــــهايــــة




__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #30  
قديم 02-19-2017, 11:41 PM
 
تم نقل الرواية كاملة أرجو نقلها للقسم الخاص بالمنقول أو المكتمل







__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بودنج الشوكلاتة مقادير بودنج الشوكلاتة2013 حلى بودنج الشوكلاتة2013 هبه العمر أطباق شهية 0 04-04-2012 10:48 PM
تورتة بودنج الشكولاتة entsaar أطباق شهية 4 04-18-2007 04:35 PM


الساعة الآن 08:11 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011