تشعُرُ بالموجِ الضعيفِ ملامسًا جذعهَا السُفلِيّ روحةً وإيابًا، الرملُ المُبللُ يُثقِلُ جسدهَا المُنهَك، هِي تغوصُ فِي غياهِبِ نفسِهَا، ومِن بينِ حُلكةِ أفكارِهَا فتحتْ عينيهَا بهِدُوء مُرهَق، تُحاوِل التركِيز، تحاوِلُ أن تكوِّن معلومةً واحِدَة عن مكانِهَا الحَالِي، استطاعَت أن تُدركَ الضفة التي رستْ عليهَا، واستطاعَتْ أن تُميَّز السماءَ الزرقَاءَ للصبَاحِ البَاكِر.
صوتُ الموجِ الهادِئ داعبَ طبلتِيهَا، حرّكتْ رأسهَا قليلًا إلى يُمناهَا باحِثةً عن شيءٍ - أو شخصٍ ما -تستنْجِدُ بِه، لكِن لاشيء غيرَ الرمَالِ والبحر على مسافةٍ واسِعةٍ كَان. كيفَ وصَلتْ إلى هذا المكان؟ وأينَ هي أصلًا؟ آخِرُ ما تذكرهُ أنّها كانتْ على الباخِرة " سيفيت " المُتجِهَةِ صوب مملكَةِ (آناماريا) ويحلُ الضبَابُ مكانَ باقِي الذكرياتْ.
جاهَدتْ كي تتحرّك، ولما فعلت ووقعتْ على وجهِهَا صمّمتْ أكثر على الوقوفِ والسيرْ فباتتْ تسيرُ مُبتعِدةً عن الشاطِئ قدرَ استِطاعتِهَا. لا تعلمُ لكَمْ مِن الوقتِ سَارتْ لكِنها مُتأكِدةٌ فقطْ مِن كونِ قدميهَا ممزقتَين مِن السير حافيتين. استكانتْ قُربَ شجرةٍ ضخمَة تحتمِي من حرِّ الشمس التِي وصلتْ لفترةِ الظُهر.
( غريبٌ شعُورُ الغربةِ هذا.. ) حدّثتْ نفسهَا مُهمْهِمَة، ( هل غرِقَت الباخِرَة ؟ ) تساءلتْ بعد ثوان. تنهدتْ وهي تعرفُ أن ما جرَى لهو طيُ النسيان للوقتِ الحالِي وليس أكبر مخاوِفهَا حقًا، فأكبرُ مخاوِفَهَا هو أنّها ضائِعَة في مكانِ لا يعرفهُ إلا الربُ، تحاورت شياطِينهُا موسوسًة ومُرعِبةً إياهَا بالتناوب، طردتهم مِن أفكارِهَا وتابعَتِ السير.
رفعتْ عينيهَا فجأةً نحو الطريق ( أصواتُ أقدام! )، فرحِت لهذا، سارت قُرب الطريق إلا أن شيئًا ما أخبرهَا أن عليها البقاءَ مخفيةً خلفَ الشجيراتْ، شعُورٌ ما أشبهُ بالحدس.. أو الهمسْ، انصاعَتْ إليهِ وبقيتْ خلفَ شجيراتٍ كثيفَة ترمقُ القافِلَة العابِرة.
- هل وجدتَ أحدًا آخر؟
تبادَر السُؤالُ مِن فاهِ شخصٍ بدى لهَا كالمسؤولِ عنهُم، أتَى مَن وجِه إليهِ السؤالُ مُجيبًا بخيبة: كلا، يبدو أن صيد اليوم الخمسةُ فقط، تبًا لسوءِ الحظ. تبسّم المسؤول بهدوءٍ ناظِرًا إلى القفصِ الكبير الذي تجرّهُ ثلاثةُ خيولٍ بيضاءَ، تقدّم مِنهُ قليلًا لتتضِحَ الرؤيةُ لها بعدمَا تقدّمتْ هي الأخرى
القفصُ يحوِي بشرًا، خمسة، ثلاث فتياتٍ والباقيان شابّان، كلهمُ في ريعانِ شبابِهِم، ما أودى بهِم إلى هذا المصير؟ سرتْ قشعريرةٌ في جسدِهَا وهي تتذكّر الإحتفالَ الضخمَ الذي أجْري في مملكتِهَا قبل ستِ سنواتٍ حينمَا أُعْلِن أخيرًا تحريمُ تجارةِ البشر مِن الكنِيسةِ الكُبرى، أغلقَتْ أسواقُ العبيدَ وثاروا على أسيادِهم مُباشَرةً، اضطرتِ المملكة لتوفِير الحرسِ فِي كُلِ مكانٍ لمدةِ ستةِ أشهُر حتى هدأ الوضعُ وبات آمِنًا مجددًا.
- يبدو أنِّي في مكانِ لا يدعمُ القضايَا الإنسانية.
همستْ بحذرٍ شديدْ، جرّ المسؤولُ ذو الشعرِ الأشقرِ الغامِق شعر إحدى الفتياتْ مُبتسِمًا، تحدّث بنبرةٍ ساكِنَة موجهًا حديثهُ نحو صاحِبِه: ( السيرفايفر ) قد عادُوا للظهُور بعد عشرةِ آلافِ سنَة، كما تنبأتْ الكاهِنَةُ العُليا ( فايوليت – ساما )، علينا إستغلالُ عطايا الربِ بشكلٍ جيّد وإلا عُوقبنَا عقابًا شديدًا مِن قِبلِه. تركَ شعرهَا حالمَا شعرَ أنهَا أصيبَت بالدوار، اقتربَ مِنهُ صاحِبُهُ سعيدًا مُعلنًا عن رغبته: أتمنَى أن نبيعهم بسعرٍ جيّد في السوق! لا أطيقُ الإنتظار!
قرّرتْ أن الهربَ فريضةٌ الآن! لذا تحرّكتْ بحذرٍ لم يكنُ كافيًا فأصدرتْ صوتًا شدّ إنتباههُم إليهَا، تقدّم ذو الشعرِ الأشقرِ مُمسِكًا إياهَا بسهولةٍ قصوى، إلا أن صوتَ صدمتِهِ شدّ انتباهَ صاحِبهِ، تراجعَ إلى الخلفِ بسرعةِ وإماراتُ القلقِ تلوحُ على وجهه، تقدّم صاحِبهُ قلقًا فسأله: ما الأمر؟
- ش-شعرٌ أسود!
- ما الذي قلته ؟
صرخ بغضبٍ في وجهه: إن لهَا شعرًا أسود أيهَا اللعين!! إنظُر جيدًا! اللعنةُ علي!
باتَ الآخرُ ذو الشعرِ الرمادِي ينظرُ إليهَا مشدُوهًا، شعر أسود وفِي ( راينهارت ) أيُ رعبُ قرّرتهُ آلِهةُ السماء؟ شجّع نفسهُ فأمسكَ بهَا بقوةٍ مُقيدًا إياهَا بالأصفاد، هي كانت ضعيفةً جدًا للمقاومَة فلم تقدِرْ عليهَا أصلًا، باتت يردِدُ بقلقٍ واضح: أسودٌ أم لا وجدنا طريدةً ستجني علينا مِن الأموال ما يكفي لألفِ عامٍ قادِم وهذا ما يهُم!
تنهّد الأشقرُ موقفًا إياه، أخبرهُ بهدوء: تأكّد من جودةِ وجههَا أولًا، لا نريد فئرانًا. ضحَك صاحِبهُ بخفةٍ رافعًا وجههَا، ربمَا كان يتوقعُ كثيرًا، إلا أن رؤيةَ العيونُ الفضيّة التي ترمقهُ بهدوءِ ذئبٍ كاسِر قد اخرستهُ بعض الشيء، تمتمَ جارًّا إياهَا نحو العربة: عيونٌ فضية وشعرٌ أسود، لتكنْ إلهةٍ السلامِ معنَا!
رماهَا بقوةٍ في القفَص وشدّ الرِحَال نحو السوق، حيثُ تُدّرُ الأموال على من يتصيدون العبيد وتدّرُ المصائِب على مَن ينباعُ هناك.
يتبع..