ـ أيها الركاب الكرام ..تبقت خمس دقائق لنصل الى المحطة.
كان تنبيهاً لركاب القطار مخطِرهم بالإستعداد, تكررّ للمرة الثانية ليسري
الى أذني شاب في العشرينيات من العمر فأيغظه من ثباته,
حيث كان يسند بظهره على الكرسي مبحرا في بحر من الذكريات , ذكريات من الماضي.
أوحى منظره بالثراء, او ربما رجل أعمال شهير لكونه يرتدى بدلة رسمية سوداء اللون,
شقتها ربطة عنقه الحمراء لتزيد أناقته بهاءً, حجبت نظارته الشمسية من ملامحه,
فتساقطت عليها بعض من خصلات شعره الفحمي المتموج.
تجلّى التعب من ردة فعله البطئة, فقد إستغرق الأمر منه ثواني عدة, حتى تدارك نفسه,
ثم رفع ظهره تاركا الإستناد جانبا وإلتفت يمينه صوب نافذة القطار, فتحها لتندفع إليه الريح المتسابقة بسرعة القطار,
فطيّرت شعره بقوة, كأنها تدعوه للتحليق عالياً , أطلق تحديقه من خلف نظارته الداكنة بتلك المروج الشاسعة,
ذات البساط المخضّر والمكسو بزهر تعددت ألوانه, فإختلط الهواءُ بعبيره الفواح ,
شهق بعمق يجّرُ عطره المتخلخل بنسائم الريح لرئتيه متنعما بإنفرادته, إنفرادة هواء بلده,
ولم تخفى عنه تلك الجبال الشمّاء المنتصبة وراء المرج, حتى السماء صافية الزرقة راح يتأملها,
كما لو انه لم يبصرها قبلا.
أسّرته زُمرةٌ الجمال الأشبه بالخيالِ , فبقيّ يحدق به بهدوء يرتسم عليه ,
لكن تزعّزَع هدوئه بصور مبهمة من الماضي إقتحمت عقله فجأةً , فحاول تذكر ما خلّفه من قبل في بلدته ,
الا انه حال دون ذلك ظناً منه انّ الماضي سيؤخره , فمن نظر الى الوراء لن يتقدم , هكذا كان تفكيره ,
ثم حرك شفاه لينطق بهدوء يعلن فيه حنيناً كبيرا:
ـ ها قد عدتْ أخيراً...
لحظات فقط أكفت بوصول القطار الى المحطة, فتفرغ ركابه جميعا, حتى هو سار بخطى هادئة رغم هيجان قلبه,
مرّ بحقول الارز المختنقة بالمياه, فتوقف ينظر إليها نظرة مشتاق مفتقد لروعتها,
إستكان لفترة بمشاعر عدة إختلجت فؤاده, حنين, شوق, حزن, وربما فرح للعودته شبيهة الخيال,
تمنى التمتع أكثر بما أحاطه من جمال طبيعة باهرة, أراضي مخضرة ونهر شفاف ينّصِف القرية,
ولن ينسى متعة أحبها سماء فوقه ممتدة, للأسف عليه ترك مشاعره جانبا لأمر في القلب له تأثيرا شاغلا,
فتتابعت خطواته مقتحمة القرية الريفية , ذات البيوت البسيطة التقليدية, طرازها الأثري ذو القوام الخشبي,
إصتفت جنبا بجنب معلنة تعاون قاطنيها.
غدته السكينة بسماع ضحكات الأطفال وهم يلعبون بإطمئنان , تمعّن بساطتهم ولطافتهم, فتبسّم برضى,
سار يشقهم حيث توسطوا الطريق بألاعيبهم المسلية لهم, لم يخطو غير خطوات قليلة حتي سمع صوتا مزهولا لرجلِ :
ـ كورساكي ..أهذا أنت حقا! !
توقف ملتفتا له , فأبصره يقف قرب بابِ لاحد المنازل, كان رجلا في الخمسينيات,
زال شعره من معظم رأسه وما تبقّى على أطرافه إشتعل شيّبا,
تجسّد الوقار على وجهه ذو الحواجب والشوارب الكثيفين, و أثار الطيبة لمعت في عينيه البنيتين,
سرت لحظة من الصمت ببنهما, الى ان نطق كورساكي بزهل مثله وهو يخلع نظارته ببطّ مندهش :
- عمـاه!
إشتشاط التأثر بكليها , فأقبل عمه اليه أخذه بعناق شوق وحنين, إهتزت تلكما العينان الرماديتان قليلا,
رغم سعادة قلب صاحبها, ثواني معدودة دون حسه وجد نفسه محاطاً بأحشدةٍ من الناس, رجال ونساء,
جميعهم يرحبون به ويعبرون عن مدى سعادتهم بعودته الى بلده الذي هجره لسنين عدة, فرحُ غامرُ أخذه ,
فبادر بالرد عليهم بإبتسامة زينته رغم علو حزن لقلبه بتساؤلاتِ جلبت الهم له,
لم تدمْ إبتسامته غير لحظات بعد ان ترك جمع أهالي بلدته, و شق طريقه نحو فسحة خالية تبعد قليلا عن الأبنية,
فتوقفت أقدامه بزهل حين لمح بتلات الكرز الزهرية تتطاير أمامه لتهزّ ذكرى في عقله,
تردد قليلا وبعد جهد منه تمكن من إجبار أقدامه لتتابع سيرها, فلاحت له تلك الشجرة الكبيرة المبهجة,
سحَرَه تراقصها بتناغم مع عزف الرياح, لتنشر بهاء لونها عامة المكان ببتلاتها الزهرية, فتجمّد حيث هو ليس بسحرها,
بل بما تيقنته عيناه الرماديتان الهادئتان عن ما كانت تتوق لرؤيته,
فتاه إتخذت مجلسها تحت ظل الشجرة المتراقص على مقعد خشبي قديم, تأملها من بعيد ,
فتاة العشرين عاما كما بدى من مظهرها الذي جمّلته بزِيّ الكيمونو التقليدي الخاص ببلدها اليابان,
توزعت عليه زهور مشكلة بألوان زاهية ,لتعكس بياضه بطلة ملفتة,
كما انّ الرياح لم تكفْ عن العبث بشعرها المسود كليلٍ حالك ظلامه,
إستجمعت خصلاته الطويلة ربطة زهرية تكفلت بإبقائه مسترسلا على ظهرها,
عدا القليل من تلك الخصلات نزلت على جببنها لتضيف جمالا رقيقا عليها.
لم تلحظْ وجوده بسبب إنحناء رأسها, فحُجِبت ملامحها بتدلي خصلها,
حرك خطاه بصمت الى أن توقف أمامهما, أحست به فرفعت وجهها ثلجي البشرة النضرة,
وذو العينين الزمرديتين البرئتين , ناظرة إليه
فتزعّزع كورساكي كثيرا, شعر كما لو أن الزمن توقف حينما إلتقت أعينهما,
هموم شتى راودته, كيف سيشرح لها, بل كيف ستقبل عذره, وإن قبلته هل يستحق منها ذلك,
فإستدامت لحظة صمت مربكة الى أن كسرتها الفتاة بصوتها الهادئ قاطعة حبال همومه:
ـ من هنا?..من يقف أمامي?
توغلت الصدمة عينيه بسرعة لترجمة عقله ما فهمه من كلماتها, اراد اللفظ لكن شل لسانه ,
فأردفت الفتاة ببراءة :
ـ أعلم ان هناك من يقف أمامي ..فلِما لاترد.. من أنت?
فنطق بتردد دون وعيه من أثر صدمته:
ـ مسـ مستحيل ..هل فقدتِ بصرك ساساميه!
صوته المصدوم تسرب لقلبها قبل أذنيها, إنه الصوت الذي إنتظرت سماعه طويلا, فإهتزّت عيناها كثيرا,
لم تصدقه لوهلة رغم إندفاع دموعها معلنة أساها, فهمست بحزن متألم:
ـ كـ كورساكي.. اهذا أنت حقا!
تشتت مشاعره بفوضى, ليعلوه بعض من الغضب لأجلها, فنطق بما إعتراه:
ـ مالذي أصاب بصرك ?..كيف صرتي ضريرة?
أجابته بعتب إتضح في صوتها الأشبه بالباكي:
ـ بل أنت ماالذي أخرك هكذا?..لماذا أخلفت وعدك لي?
تبكم لثواني من زهله , ثم تمكن من الرد بتردد:
أخلفت وعدي!
أجابته بنبرة جادة متناسية حلول لحظة إنتظرتها:
ـ نعم أخلفت وعدك الذي قطعته حينها وشجرة الكرز تشهد عليه.
صعُبَ عليه إتهامها, تمنى ان تعرف ما قاساه حتى آل الى ما هو عليه الان,
علما ان كل هذا من أجلها فقط و لا أحد غيرها, كما أنه مدرك لحجم الألم الذي آذى قلبها به,
فلم يكن ليلمها, فسكن غير قادر عن إفصاح فحواه , ليغوص في ذكرى أحيتها بتلات الكرز المتراقصة أمامه.
تذكر ماضي قديم في ليلة الأحتفال السنوي لقريتهما, تزاحم فيه الناس يتسلون ويمرحون, يرقصون ويتسابقون,
جميعهم في شغل شاغلهم, الا انهم تميزوا بلباسهم التقليدي, و هما لم يختلفا عن غيرهما,
لم تزل البسمة والضحكة عن ثغريهما ,حتى عندما تلوث ثوب كورساكي بالحلوى حين أصطدم به أحد الأطفال الراكضون بمرح,
كان سيتذمر لولا ضحكات ساساميه عليه, فنسيّ منظره الملوث ليشاركها الضحك,
تذكر كيف إنتهى بهما المطاف عند شجرة الذكرى, جلسا تحتها كما إعتادا,
ظلمة الليل أضافت لمسة هادئة على ماحولهما ,فتسامرا طويلا بأحاديث مختلفة, ليتنصت البدر البازغ توا لحديثهما ,
وفجأة حل الصمت الحزين على ساساميه, فرددت مقولته الأخيرة بحزن واضح:
ـ قلت ستسافر!
أجابها بإبتسامة تواري حزنه ايضا:
- سأذهب الى بريطانيا لأغدو من كبار رجال الأعمال .
- BrB - |
التعديل الأخير تم بواسطة نبعُ الأنوار ; 02-24-2018 الساعة 02:11 PM |