ابن كثير
وقوله: { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا } أي: بين العذب والمالح { برزخا } أي: حاجزاً، وهو اليَبَس من الأرض، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أي: مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر، كما قال: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 19 -21] ، وقال تعالى: { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61] .
وقوله: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال ابن عباس: أي أرسلهما.
وقوله: { يلتقيان } قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
الرازي
{ بينهما برزخ } أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط ، وقال ابن برجان : البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا ، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف ، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً ، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما ، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره ، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان .
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال : { لا يبغيان * } أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام ، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة ، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن ، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب ، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى ، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة ، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك ، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء .
ولما كان هذا أمراً باهراً دالاً دلالة ظاهرة على تمام قدرته لا سيما على الآخرة ، قال مسبباً عنه : { فبأيَّ آلاء ربكما } أي الموجد لكما والمربي { تكذبان * } أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أو غيره ، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار ، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعاً في جميع الأكوان .