المتكلمون بالدين
-5-
التناقض بين القول والعمل أول أسباب الفجوة بين الشباب والعلماء
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
وليس سراً أن هناك هوة عميقة بين الشباب من جهة وعلماء الدين –أو أكثرهم على الأصح- من جهة ثانية، والسبب الأول لوجود هذه الهوة ، هو ما يردده أولئك الشباب من أن أقوال أكثر علماء الدين تناقض أعمالهم، فهم يقولون قولاً حسناً، ويرددون مبادئ سامية، ولكنهم لا يعملون بما يقولون، ولا يلتزمون بما يرددون.
وبالطبع فان الأيدي الخفية التي تعادي الدين تبالغ في وصف بعض علماء الدين لتبعد الشباب عنه وتصرفهم عن أماكنهم، ومع ذلك فلا تزال حقيقة واقعية يلمسها الناس هي أن الأعمال لا تناسب مع الأقوال وأن الأعمال هي دون المستوى المطلوب الذي لا يمكن السكوت عن تيسير على أسوأ الأحوال!!.
إن هذه الهوة السحيقة موجودة بدون ريب، وهي خطرة على مستقبل هذه الأمة. وضع الرؤوس في الرمال –كالنعامة حين يداهمها عدو لا طاقة لها به- والتعلل بالأماني والأوهام لا يجدي فتيلاً ولا يصلح خللاً.
إن العمل الصالح وحده وتطبيق تعاليم الدين الحنيف عملياً هي الجسور السليمة القوية الصالحة التي تربط بين جانبي الهوة السحيقة التي تفصل بين الشباب وقسم من علماء الدين، وبالتالي بين الشباب والدين نفسه.
إن هذه الجسور وحدها هي التي تربط بين جانبي الهوة وتجعل الشباب يعبرون عليها إلى سواحل الأمان ، ساحل النور، ساحل الدين، بأمن وسلام واطمئنان وهذه الجسور هي (الأعمال)، أما (الأقوال) وحدها فتزيد الهوة عمقاً، والشقة بعداً، ولا تؤدي أبداً إلى خير.
وقد كان النبي e من أقل الناس (كلاما)، ولكنه كان من أكثرهم (عملا) ، ولذلك جمع الناس ووحد القلوب ورصّ الصفوف على كلمة الله. وكان e إذا قال أوجز، ولكن قوله فصل الخطاب، ثم يبدأ بنفسه وأهل بيته وبالأقربين فيطبق أقواله عليهمن ويشتد هو على نفسه فتكون أقواله بالنسبة إلى أعماله شيئاً يسيراً، إذ إن أعماله e كانت تفوق أقواله، وكثيراً ما كان يرأف بأمته فيخفف عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولكنه مع نفسه كان يعمل ويعمل، حتى يصوم فلا يكاد يفطر، وحتى يقوم الليل فتتورم قدماه من القيام، وحتى يعيش وأهله لا يستوقد بنارٍ الشهر والشهر إن هما إلا الأسودان: التمر والماء.
والعلماء ورثة الأنبياء، والعالم يستطيع أن يقدم خدمات لأبناء عقيدته ولغيرهم أيضاً لا تقدر بثمن، وتكون خدماته بمقدار عمله أو أعماله. وليس من شك في أن المادية قد طغت على هذا العصر، ولكن هذه المادية وحدها لم تصرف الشباب عن الدين، بل هي إحدى الأسباب، وتقصير العلماء غير العاملين من الأسباب الحيوية أيضاً.
***
المتكلمون بالدين
-6-
الشيخ محمد الرضواني آية في العلم والورع
كان في الموصل عالم عامل هو المرحوم الشيخ الحاج محمد الرضواني، وكان آية من آيات الله في العلم والورع، وكان هذا العالم العامل موضع ثقة الناس على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم، فقد كان يلجأ إليه الخصوم ومنهم النصارى، ويرضون بحكمه ويخضعون لتوجيهاته. وكان مقصوداً من المسلمين للتبرك به وطلب الرقية منه وهذا أمر طبيعي ، ولكن الأمر غير طبيعي هو أن يكون مقصودا من النصارى أيضاً للتبرك به وطلب الرقية منه. لماذا أصبح هذا الشيخ الورع موضع ثقة المسلمين وغير المسلمين؟.
لقد كان في الموصل شيوخ لا يقلون علماً من الشيخ الرضواني، ولكن لم يقف أحد على بابهم ولم يلجأ إليهم أحد إلا نادراً، طبعاً أصبح الرضواني عليه رحمه الله تعالى موضع ثقة الناس، لأنه لم يقتصر على العلم وحده، بل كان عاملاً بعلمه إلى أبعد الحدود. ولست أنسى يوم مات المرحوم الرضواني، فقد خرجت الموصل عن بكرة أبيها لتشييعه، وأقفلت الأسواق وتعطلت المصالح، وشارك في تشييعه المسلمون وغير المسلمين بنفس اللوعة والحزن والأسى. وقد ظهر الفقر بعد موته على أكثر من 200 عائلة كان يمدها بما يكفيها من المال سنوياً، دون أن يعرف أحد من الناس من أمرها وأمره شيئاً.
ولم أر في حياتي رجلاً متواضعاً وعلى عظيم من الخلق الرفيع كالرضواني عليه رحمة الله. كان يفرّ من الشرف والشرف يتبعه.
لقد كان عالماً عاملاً بكل معنى الكلمة، لذلك كان إذا قال سمع الناس، وإذا أمر سارع الناس إلى تنفيذ أوامره، وكانت إشارته العابرة تعتبر أمراً لا يخالف، وكان إذا حكم بين خصمين، تقبلا حكمه برحابة صدر، وكانت قوة حكمه أقوى من قوة حكم المحاكم العسكرية والمدنية في وقته، فحمم تلك المحاكم خاضع للاستئناف والتمييز، وحكمه غير خاضع لسلطات غيره، فهو قطعي. والغريب أ المحكوم عليه يتقبل حكمه بنفس الحماس والقناعة التي يتقبل بهما حكمه المحكوم له !.