فاعلم أنه لا إله إلا الله …
-2-
3- الأدلة العقلية: إن للعقل أدلة قاطعة يحسم بها ما يعرض عليه من القضايا، ويرد بها على الشبهات الزائفة، ذلك لأن الله فطر العقل على موازين ومقاييس وأحكام جلية يقرر بها الإيمان، ويدفع بها الباطل، كما في قوله تعالى:﴿أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون *أم خلقوا السموات والأرض بل لايوقنون﴾ (الطور:35-36). وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(الأنبياء:22). وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:17). وتعد الأدلة العقلية بهذا مصدراً من مصادر العلم بالله سبحانه وتعالى وحجة قائمة على الناس. 4- الدعاء والإجابة: إن هناك صلة عملية مشاهدة قائمة بين الله وعباده، تتجلى آثارها في دعاء المؤمنين والمضطرين لله وإجابته لهم سبحانه وتعالى، كما قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البقرة:186). فالله يرد على الذين يسألون عنه بأنه قريب منهم، والدليل على ذلك أنه يسمع دعاءهم ونداءهم ثم يستجيب لهم، وهم يشاهدون بأعينهم أثر تلك الاستجابة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع أصحابه يجهرون بالتكبير كلما علوا مرتفعاً فقال: (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا)(11). والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصر العبادة في الدعاء إلا لأنه إقبال على الله واعتراف بحق العبودية له، وتجديد لعهد التوحيد، ونفي للشرك الخفي والجلي على السواء. قال صلى الله عليه وسلم: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَقَرَأَ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ …)(12). ومشروعية الدعاء تدل على ثبوت صفات الغنى، والسمع، والكرم، والرحمة، والقدرة لله سبحانه وتعالى، قال ابن عقيل(13): قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى . الثاني: الغني، فإن الفقير لا يدعى . الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى . الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى . الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى . السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى(14). وهكذا دلت الإجابة للدعاء على بعض صفات الله فكان مصدراً عملياً محسوساً على الإيمان بالله . 5- الفطرة: للإنسان إحساس فطري عميق بأن له خالقاً يلجأ إليه عند إحساسه بالخطر والشدائد. قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾(لقمان:32). فالفطرة تحمل المخلوقين على الاتجاه إلى خالقهم والاستغاثة به عند إحداق المخاطر بهم وانقطاع كل الأسباب . فالإيمان بالله فطري في النفوس السليمة، مستقر في الأذهان الصافية، ويكاد يكون من بديهيات المعلومات. قال تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30). إن الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، أودعها الخالق في البشر وشهدوا بها على أنفسهم. قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(الأعراف:172). والنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالألوهية محبة له تعبده ولا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها وينحرف بها الشياطين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى َإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ )(15). وتتأثر الفطرة أيضاً بتأثير الآباء المنحرفين عن الفطرة. فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ...)(16). وبهذا تكون الفطرة السليمة مصدراً من مصادر العلم بالله . 6- النور الإلهي: إن الله العليم بعباده، يقذف نور الإيمان في قلب من يشاء من عباده، فبعلمه وحكمته تنور القلوب بعد أن كانت مظلمة، أو تزداد إيماناً بما جاءها من نور، قال تعالى:﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾(الأنعام:122)، وقال تعالى:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(النور:35) . ----------------------------- (11) أخرجه البخاري ك/ التوحيد ب/ وكان الله سميعاً بصيراً ، ومسلم/ في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، ب/ استحباب خفض الصوت بالذكر ، وأخرجه الترمذي/ في الدعوات ، ب/ ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد صحيح سنن الترمذي3/159 ، وأخرجه أبو داود ك/ الصلاة ب/ في الاستغفار، وأخرجه ابن ماجة في الأدب ب/ماجاء في لاحول ولا قوة إلا بالله ، وأخرجه أحمد في مسند الكوفيين، واللفظ للبخاري . (12) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن في سورة المؤمن، وقال: حسن صحيح ، وأخرجه ابن ماجة/ في الدعاء ب/ فضل الدعاء ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 3/172 والحاكم في المستدرك 1/667 ، والنسائي في السنن الكبرى 6/450 وأبو داود ك/الصلاة ب/ الدعاء ، وأحمد في المسند 4/267 والطبراني في المعجم الصغير 2/208 والطيالسي في مسنده 1/108 وهو في مسند الشهاب 1/51 ، وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي3/101 ، والآية المذكورة في الحديث في سورة غافر:60.
(13) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي أبو الوفاء الحنبلي ، عالم له تصانيف ومن مؤلفاته كتاب الفنون وهو كبير وبقيت منه أجزاء مولده سنة 431ه وتوفي سنة 513 ه .
(14) "تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي ، خالد فوزي عبد الحميد حمزة ج1 ، 57-358 ، ط دار التربية والتراث مكة المكرمة .
(15) أخرجه مسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها ب/ الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ، وابن حبان في صحيحه 2/422، والنسائي في السنن الكبرى 5/26 ، وأخرجه أحمد في مسند الشاميين ، مسند الكوفيين، والطبراني في المعجم الأوسط 3/ 206 و الكبير 17/361 ، والطيالسي في مسنده 1/145.
(16)سبق تخريجه .