فيكتور هيجو رجلاً قوي الإرادة, موفور الصبر, كبير القلب, واسع الأمل, عظيم الجلد, بعيد الطموح, ناشط الهمّة, جادّاً لا يعرف الهزل, متحمّساً لا يعرف الكسل. كانت أعز مناه أن يصبح مثل شاتوبريان, وما هي إلا أن بلغ العشرين من عمره حتى كان لويس الثامن عشر ملك فرنسه يقبل بشراهة على قراءة ديوان الشاب هيجو (قصائد وأشعار جديدة), ويأمر بصرف مرتب سنوي أبدي له قدره ألف فرنك. وقد بلغ من التقدير عند أمته أن خرج إليه الجمهور الباريسي إثر رجوعه إلى البلاد بعد خلاف مرير طويل مع زعيم البلاد نابليون الثالث.إنه فيكتور هيجو أحد أعمدة الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر والذي خلد ذكراه برائعته الملحمة الخالدة الشعرية (أساطير القرون).
كانت بداية الرحلة في السابع والعشرين من فبراير سنة 1802 حيث ولد فيكتور هيجو في مدينة بيزانسون في منزل ضم والد فيكتور وهو الرجل العسكري المقاتل ذو الحزم والعزم ووالدة الشاعر المرأة الرضية, طيبة القلب, حسنة السيرة, والتي أنجبت على فراش الزوجية شاعرنا وأخويه الشقيقين هابيل وأوجين, كان والد فيكتور جنديا مقداما في جيش نابليون بونابرت, وقد اضطره عمله للسفر مع أسرته إلى جزيرة كورسيكا سنة 1805 وإلى إيطاليا سنة 1806 التي استقى من تاريخها شاعرنا مسرحيته (لوكريزيا بورجيا), ولعل أهم رحلة لأسرة فيكتور هيجو هي الرحلة إلى ربوع الأندلس سنة 1811 التي أوحت إليه بعدد من أعماله الأدبية مثل مسرحيته هرناني ومسرحيته كويمادا. وقد أدخله والده إلى مدرسة الأشراف حيث كان يوقظ الطلاب بقسوة وعنف رجل أحدب الظهر, مرعب المنظر وصفه أبلغ وصف في قصته (أحدب نوتردام) ونحله في القصة اسم كوازيمودو ورسمه أيضاً في مسرحيته (الملك يلهو), وقد عانى الصبي من شراسة طالبين من أبناء الإسبان أحدهما ألسبورو وقد صوّره هيجو في مسرحية (كرومويل) بالاسم نفسه, وثانيهما فراسكو, وقد صوّره هيجو في مسرحية لوكريس بورجيا دون تغيير اسمه.
على خطى شاتوبريان
عاد ابن العاشرة فيكتور مع أسرته إلى ربوع بلاده فرنسا. وقرر أبوه بعد سنوات أن يلحقه بكلية الهندسة في باريس, وألقى الشاب عصا التسيار في جامعة باريس وحاول يائساً النجاح فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً, واختلف كتّاب تراجم حياته في سبب فشله. فمنهم مَن عزا ذلك إلى عدم تعلقه بالهندسة وشدة ولعه وانشغاله بالشعر والأدب, ومنهم من نسب فشله إلى عبقريته حيث كان فيكتور هيجو يستحدث حلولاً مبتكرة للمسائل الرياضية التي تكون صواباً أحياناً ومجانبة للصواب أحياناً أخرى. إلا أنه لا خلاف بين مؤرخي حياته أن الرجل في هذه الفترة من حياته العريضة الطويلة قد أقبل على عيون الشعر الفرنسي, وقرأ ما أنتجته قرائح الأدباء قراءة فاحص متأمل ناقد. ثم قال قولته الشهيرة (إما أن أكون مثل شاتوبريان... وإلا فلا), في الوقت الذي كانت والدته تسعى لتفك رباط الزوجة مع والده الضابط.
وأقدم فيكتور هيجو مع أخيه هابيل على خطوة أدبية جريئة ألا وهي إصدار صحيفة أسبوعية سمياها الأدب الأصيل كتب فيها هيجو سيلا من المقالات التي أثنى فيها على راسين وكورني وشكسبير وشلر. وتوطدت بينه وبين لامرتين وألفرد دي فيني صداقة متينة. رآه في تلك الفترة وهو في التاسعة عشرة من عمره الفرد دي فيني فوصفه قائلاً (وسيم الطلعة آية في الجمال, له جبهة عريضة بيضاء تلفت سعتها الأنظار, وعينان واسعتان عميقتان تنعكس فيهما عبقريته ونبوغه, دقيق الأنف ترى في وجهه قوة إرادته وشدة شكيمته, يكلل رأسه شعر كستنائي ناعم طويل القامة حسن الهندام).
وقد أصدر هيجو سنة 1822 أول ديوان له سماه (أغاني وقصائد مختلفة Odes et Poesies diverse) ويقول في أولى قصائده:
(مصر... أيتها الشقراء الفاتنة... ما أجمل سنابل قمحك الذهبية وحقولك البهية تمتد كأنها وسائد ثمينة... سهل تلو سهل, يقتتل عليك من الشمال برد قارس... ومن الجنوب رمل جائر ساخن, وكلما اقتربا نحوك وأحكما أضراسهما ليؤلماك... ابتسمت يا مصر الشقراء...).
وفي العشرين, ابتسم الحظ له وجاءته الشهرة تسعى, ووجد الديوان طريقه إلى لويس الثامن عشر الذي كان يعشق القراءة, وأصدر الزعيم قراراً غيّر مسيرة حياة الشاعر وجعله متفرّغاً للأدب. ويقضي القرار للشاعر بمعاش سنوي كبير مدى الحياة.
وقد تزوج هيجو بعد هذا القرار بزوجته أديل فوشيه في 14 أكتوبر سنة 1823م.
وبعد عام من زواج هيجو توفى لويس الثامن عشر وولى إمرة البلاد شارل العاشر فأنشد شاعرنا فيكتور قصيدة عصماء في مدح الحاكم الجديد سمّاها (تتويج شارل العاشر). ثم أصدر مسرحيته (كرومويل) عن الزعيم الإنجليزي الثائر.
ميول شرقية
بدأ هيجو بالتأثر بالشرق, فقد قرأ التوراة والإنجيل وترجمة فرنسية للقرآن الكريم وترجمة لألف ليلة وليلة, ثم قرأ تاريخ الإسلام وحياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, فتأثر بذلك كله وأصدر ديواناً سمّاه (الشرقيات), وقد احتوى هذا الديوان البديع على 22 قصيدة منها (ضوء القمر) وقد ترجمها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة و (السلطانة المفضلة) و (نور الصهباء) و (وداع الفاتنة العربية) و(من ربوع الأندلس) و (كناريس) و (نوار) و (رءوس السراي).
يقول هيجو في قصيدة (ضوء القمر):
(كان البدر مشرق الجبين يتنقل على ذرى الأمواج
وقد فتحت النافذة ذراعيها لخطرات النسيم
فجعلت الملكة ترنو إلى البحر وهو يتكسر
ويطرز مطارف جزائره السوداء بنقوش أمواجه المفضضة
فهوى العود من يدها وهو يرن... فأصغت فسمعت صوتاً أبح يردده الصدى:
أتراها سفينة تركية قادمة من مياه الدردنيل
تضرب جزر اليونان بسيوف الحقيقة)
وأخرج هيجو بعد هذا الديوان أروع مسرحياته, مسرحية (هرناني) التي قام النقاش حولها فرأى فيها البعض درة رائعة وانتقد البعض الآخر ومنهم الناقد هيبوليت تين عدم الترابط بين الجزء الأول والنهاية. وتدور أحداث هذه المسرحية في ربوع الأندلس حيث يصف لنا هيجو فاتنة الإسبان دوينا سول التي حوّل قلبها وجمالها ثلاثة من العشاق أولهم شيخ متصاب هو دي سيلفا, والثاني دون كارلوس ملك الإسبان, والثالث هرناني الثائر الشاب. والمسرحية مليئة بالأحداث, منتهية باتفاق يساعد بموجبه الشيخ المتصابي هرناني على الزواج شريطة أن يحق للشيخ أن يأمر الشاب هرناني بالانتحار متى شاء. ويتم زواج هرناني, وفي لحظة اقتراب الحبيبين ينفخ الشيخ المتصابي في بوقه فينتحر هرناني ومعشوقته, ولا يلبث الحاسد الثاني أن يلحق بهما نادماً حسيراً منتحراً.
من الشعر إلى الرواية
وفيما كان شاعرنا ينعم بصداقة ومجالسة الفريد دي فيني والفريد دي موسيه والكسندر دوماس الكبير, إذ هو يتردد كل صباح على كنيسة نوتردام سارحاً بخياله في عصر الملك لويس الحادي عشر, وما إن أطل يوم الخامس عشر من يناير سنة 1831 حتى كان القراء على موعد مع رائعته الجديدة (أحدب نوتردام). كانت الرواية من خيال وإبداع الكاتب, فليس في الكتابات التاريخية ما يثبت وجود الشخصية, وتتناول الرواية هيام القسيس كلود فرولو والأحدب كوازيمودو بالفاتنة الغجرية أسميرالدا منتهية بسعي القسيس لإعدام الفاتنة لرفضها تقرّبه لها. فينتقم الأحدب ويقتل سيده القسيس. ثم يحمل الأحدب الحسناء أسميرالدا ويرمي بنفسه معها إلى قاعة الكنيسة.
وألّف هيجو بعد ذلك مسرحية (الملك يلهو) سنة 1833 متناولاً ملك فرنسا فرنسوا الأول وهو من الشخصيات اللامعة التي لم يستطع هيجو أن يجليها, وأبرز فقط الجانب الشهواني في عشق الملك فرنسوا لابنة نديمه في البلاط.
ثم أتبع تلك المسرحية بمسرحية نثرية هي (لوكريزيا بورجيا) تروي قصة حياة شقيقه سيزاري بورجيا الشهير بقسوته وظلمه.
وعندما دعا الملك لويس فيليب عام 1837 أعلام الأدب في فرنسا من أمثال لامرتين وسانت بيف وميشيليه, لبى هيجو الدعوة وحضر متأخراً, فقدمه الملك إلى دوقة أوليان زوجة ابنه. وكانت حفيدة لأوجست أمير فيمار الذي اشتهر بحبّه للأدب, وكانت حاشيته تضم هردر وجدته وشلر وكلايست.
واستمرت هذه العلاقة بينهما, إعجابا متبادلا عن بعد, وتقديرا ومحبة صافية.
وأصدر هيجو عام 1837 ديوانه (المفاجأة القلبية), يقول في إحدى قصائد هذا الديوان:
(بما أني نهلت من روحك الصافية الفيّاضة
وألقيت بين يديك جبيني الشاحب
واستنشقت عطر الزهور وأنا أمشي بجوارك
وبما أنه أتيح لي أن أصغى إليك وأنت تقولين لي
الكلمات التي تنشر ما طواه القلب من الأسرار
ولما رأيت ثغرك البسّام يفتر على ثغري
وعينيك تذرفان الدمع فوق عيني
قلت للسنين التي تمر مر السحاب أسرعي... أسرعي ولا تتمهلي
وانقضى سراعاً فلا آبه بالمشيب... ولتذهب أزهارك الذابلة
ففي قلبي زهرة لا يستطيع أحد أن يقطفها)
هيجو... وأسطورة القرون
واستولى نابليون الثالث عام 1851 على الحكم في فرنسا فقاومه هيجو منافحاً عن الحرية والديمقراطية. ولم يكتف بالقلم, بل خرج إلى الشارع طالباً من الشعب أن يثور ضد من سمّاه بالطاغية. فجد الحاكم في طلب الشاعر, فهرب هيجو إلى جزيرة جيرسي في المحيط, وهناك في المنفى محاطاً بزوجته وأبنائه, نظم هيجو أعظم أعماله وأبقاها أثراً وأكثر تمثيلاً لمواهبه ألا وهي رائعته الشعرية الخالدة: (أسطورة القرون) التي قدمها بقوله:
(وحينما أكتب وأنا أفكر في شرفتي
أرى الأمواج تولد وتموت... ثم تولد لتموت
وأرى الطيور البيض تسبح في الهواء... والسفن تنشر أشرعتها للريح
كأنها عن بعد... وجوه كبيرة تتنزه على البحر).
وأسطورة القرون ملحمة شعرية مطوّلة تسرد سير الأبطال, وقد بعث فيها ما اندثر من عصور الإنسانية الأولى معتمداً على الروايات التاريخية, فهو يطوف بالقارئ في هذا العالم الساحر. فيصف في القصيدة الأولى الأرض في العصور الأولى مبتسمة سعيدة تُخرج من أحشائها ما أودعه الله للبشر فيها من أزهار وثمار.
ثم ينتقل بعد ذلك من قصة آدم وحواء إلى المسيح عليه السلام واصفاً المرأة الأولى وجمال بشرتها ورشاقتها وصوت الضمير الذي أنّب قابيل. ثم يتناول خرافات الإغريق وقصص رولان وشارلمان.ويصف بشعره الرائع أيام لذريق وفيليب الثاني. ويفرد القصيدة الرابعة عن دين الإسلام, فيثني على تعاليم الدين الإسلامي وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتحدث أيضاً بثناء عاطر على عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب.
وصوّر لنا هيجو أيضاً في أسطورة القرون السلطان العثماني مراد, وكذلك محمداً الثاني وكثيرا من سلاطين المماليك, وخاصة الظاهر بيبرس. أما القصيدة العشرون, فيتحدث فيها عن عصر النهضة وأعلامها وأمرائها. وهناك قصيدة مطوّلة عن الثورة الفرنسية وأخرى عن نابليون بونابرت.
وكان المنفى خيراً لإنتاج هيجو, فأخرج في منفاه أيضاً رواية البؤساء التي ترجمت في العشرينيات بقلم الشاعر حافظ إبراهيم, ثم ترجمت في الخمسينيات بقلم الأستاذ منير البعلبكي, ووصل هيجو إلى قمة المجد فراسله زعماء العالم وأنعم عليه حاكم فلورنسه بوسام دانتي عام 1865 وراسله رئيس وزراء البرتغال.
واندلعت الحرب عام 1870 بين نابليون الثالث وبسمارك, وانتهت بهزيمة نابليون عدو شاعرنا, فعاد هيجو إلى باريس, وفي أثناء رجوعه توفى ابنه شارل, ثم فجع بوفاة ولده الثاني وأصاب داء الخبال ابنته الوحيدة الباقية, فانحطت معنوياته. وتتابع سيل إنتاجه فألف (السنوات المشئومة) و (الباقة الأخيرة). ولما بلغ الثمانين من عمره, أقامت له فرنسا احتفالاً عظيماً وخرجت المظاهرات سنة 1882 محتشدة حول داره تحيّيه وتجل مقامه.
وفي 18 مايو 1885 أصيب هيجو بالتهاب رئوي. ولما زادت وطأة المرض, شعر بدنو الأجل, فودّع أصدقاءه قائلاً آخر بيت من الشعر: (ها هنا يقتتل الليل والنهار) ثم طلب حفيديه وضمّهما إلى صدره يقبّلهما وهو يبكي, وقال: (اقتربا مني يا ولديّ, كونا سعيدين وأقيما على حبي) ولما أخذ يعالج سكرات الموت, قال له صديقه بول موريس: أنت لن تموت يا سيد فيكتور. قال هيجو:
(كلا... ها هو الموت فمرحبا به... الوداع).
وأسلم فيكتور هيجو الروح في يوم الجمعة 22 مايو 1885 وتوقف بموته القلم السيّال الذي بهر العقول والقلوب والألباب