عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-13-2008, 06:21 PM
 
Post الجهل فوق المركب

الجهل فوق المركب





الدكتور : عماد عطا البياتي
اخصائي طب المجتمع


"الجهل المركب" عبارة تشخيصية عظيمة جدا تصف داءاً مهلكا يقع فيه كثيراً من المسلمين وغير المسلمين ؛ والمشكلة في هذا المرض الخطير هو أن صاحبه لا يرى نفسه مريضا ولا يعترف بمرضه، بل على العكس يشعر بأنه في أتم صحة وعافية، بل هو الطبيب الذي يستطيع أن يداوي غيره من "العامة"، فهم مرضى يشفق عليهم "ويدعوهم" لعلاجاته "العبقرية"!!.
سمعت هذه العبارة منذ وقت ليس بالقصير وفهمتها وتأثرت بها، وعالجت نفسي وعولجت من هذا الداء الخطير على يد طبيب حاذق حبيب جزاه الله عنا كل خير؛ فكنت أقول له: أنا الآن أدرس المنطلق، فيقول لي بابتسامة حنونة جميلة جدا: أنشغل بالعوائق أولا قبل أن تنطلق!!، حتى تكون انطلاقتك صادقة وعلى أسس راسخة ومتينة وتكسب معها تأييد الإله. وكنت أرى هؤلاء المرضى المبتلين المنطلقين التائهين وأشفق عليهم وأرغب أن أعرفهم بالذي فهمته وتوصلت إليه من تشخيص دقيق ومن علاجات ناجعة تعالج وتصلح وتصحح المسير، وذلك بحكم المودة والعشرة السابقة، ولكن هيهات هيهات فأنا في نظرهم هو المريض المنشق عن وحدة الصف، صف مرضى الجهل المركب لو كانوا يفقهون!!!.

ثم نأيت بعيدا عنهم وانشغلت بحالي وبأمراضي المستعصية الأخرى باعتباري شفيت من مرض الجهل المركب ، فانغمرت في التربية الروحية، وبدأت استخلص المعاني العظيمة لتزكية نفسي، واسترشدت بارشادات المحاسبي رحمه الله مع تعليقات (العلامة أبي غدة)(1)، وتفقهت بالمهلكات ثم المنجيات(2) ، ثم بعد جولة إيمانية عظيمة جدا في ظلال القرآن (3) تنورت بنور النورسي (4) وسررت بسروره الإيماني العظيم وشددت زندي بإيمانيات الزنداني(5)، ثم أخيراً وليس آخراً كتبت على صفحات عقلي وقلبي وكل كياني مذكرات رائعة في منازل (6) الصديقين والربانيين .
ثم في الطريق إلى المدينة (7) وبعد ارتشافي لكأس الشفا(8) من القاضي عياض أحسست بحال غير الحال، وهكذا يكون الحال، فقد حيزت لي الدنيا وما فيها!!!.

أنا الآن أجلس فوق غيمة عظيمة أركع وأسجد وأسبّح وأقرأ القرآن. ترفعني عاليا فوق الغيمة المعاني الإيمانية العظيمة والصحبة الصالحة الذكية المتجددة بالإيمان، أعيش وأتنعم من الله وبالله ولله.
لكن الحال لم يدم، ويا ليته دام وترقّى كنت عندئذ قد تجولت عالياً بين الكواكب والنجوم والمجرات!، وهاجمتني الدنيا بأنيابها الجارحة وحبالها الغليظة فقيدتني وأنزلتني من السماء العالية إلى الأرض حيث الزوجة والأولاد والدراسة والعمل والسعي لكسب الرزق في الأيام العجاف، وفي هذه الحياة فرصة للترقي أيضا للحاذق الفطن ولكني لم أعرف كيف ولم أطيقه فانتكست مرة أخرى .

فوصف لي الطبيب علاج التركيز على المعاني العلمية الإيمانية والكتابة فيها فأطعت أمر الطبيب بجندية عالية ساعيا للتوازن بين واجبات الدنيا الضرورية لاستقامة العيش وواجب نصرة الإيمان المقدس، ومسكت القلم نقلا وبحثاً وتلخيصاً وابداعاً لمعاني علمية إيمانية جديدة في أحيان قليلة فكانت لي كرشفات الماء القليلة التي تنهال فوق النبتة الذابلة لتعطيها الأمل في الحياة من جديد لكن ليس بالكمية الكافية لتخضر وتزدهر وتثمر!!.

وهكذا بين رفع وخفض وبسط وقبض مرت سنين قليلة متوسطة الحال. وكنت أنظر في هذه الأثناء إلى مرضى الجهل المركب بين الحين والآخر لعل شيئاً قد تغير أو تبدل أو تحول!، لكن الحال هو الحال!، ولا أستطيع أن أفعل لهم شيئاً فأنا الآبق الصابيء!! في نظرهم، فمن يستمع لي؟، مع أنني أضمر كل الخير لهم وأرى بوضوح دائهم ودوائهم.. ثم أقول في قرارة نفسي: انشغل بحالك وبأمراضك من باب الأولى وحافظ على خيوط غير مباشرة، أوصل من خلالها ما أكتبه على قلته وضعفه وفتوره.

وبعد أحداث خطيرة جسيمة مرت بالبلد وتحولات جذرية في الأمور الدنيوية وترتيبات المعاش وفي جو من الأخطار والأهوال الدنيوية اخترت طريق الهجرة أخيراً بعد صمود طويل ومكوث جميل وكأني نسيت.. أو تناسيت.. حكمة الصادقين والصديقين التي تقول: "أقم حيث أقامك الله"!!، فوضعت زوادتي فوق ظهري وألقيت السلام على الأرض والأهل والأصدقاء.. والطبيب الحاذق!!!، على غفلة من الناس وتحت علم الله.
وحيث الهدوء والاطمئنان الدنيوي، وحيث البرد والانجماد المادي والمعنوي تنبهت قليلا وحاولت مستدركا أن أعود فانقدحت في ذهني الخاطرة التالية:

أنا الآن مصاب بمرض أستطيع أن أسميه مرض "الجهل فوق المركب"!!، فأنا أعلم حالي جيدا (حسب ما أعتقد) وأعلم ما يصلحني ويرفعني فوق الغيمة من جديد بل إلى أعلى من ذلك، وأعلم ما يفسدني ويكبلني إلى الأرض بل إلى ما تحتها، فأنا لا أعاني من الجهل المركب، ولكني لا أستطيع أن آخذ بأسباب الارتفاع بتمامها ولا أستطيع أن أقطع حبال الأرض والانتكاس بتمامها، مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. ولتلك الأسباب التي ذكرتها عزمت أن أرجع مؤخراً إلى الطبيب الحاذق وأطيع وأكتب لكن بنمط جديد وصادق وعميق وواضح، كما أراه وأعتقده، وعزمت أن أقطع الحبال بخطة إيمانية مرحلية مدروسة على أمداد معلومة مقدرة وأمسك بأسباب الارتفاع بخطة إيمانية مرحلية مدروسة على أمداد معلومة ومقدرة..

فمسكت القلم من جديد وشمرت وتفكرت ثم كتبت، تحت ظلال المدح والتشجيع الحنون المخلص الجميل..
لكن بالرغم من هذا كله، وبدون أدنى شك، أنا الآن وفي هذه اللحظة ما زلت أعاني من مرض "الجهل فوق المركب" على أمل الشفاء منه في المستقبل القريب.. البعيد.. عافنا وعافاكم الله من شرور الأمراض القلبية والجسمية.. والترتيب جاء حسب الأهمية والخطورة لتلك الأمراض!!.



-------------------------------------------------
(1) رسالة المسترشدين (تعليق وتحقيق العلامة الشيخ عبد الفتاح ابي غدة) وهذه الرسالة مع التعليقات من خيرة الكتب التربوية النافعة بلا ريب .
(2) المهلكات والمنجيات موجودة في كتاب المستخلص في تزكية الأنفس للاستاذ (سعيد حوى) وكذلك في كتاب مختصر منهاج القاصدين للمقدسي ، وهي من الكتب الضرورية جدا التي ينبغي للمسلم أن يطلع عليها كي يصحح مسيرته .
(3) ظلال القران تفسير للقرآن الكريم للاستاذ سيد قطب يرحمه الله وهو من التفاسير المعاصرة النافعة جداً .
(4) رسائل النور تأليف المجدد العظيم الاستاذ سعيد النورسي رائد الصحوة الاسلامية في تركيا ومن أعلام التجديد في العصر ، ورسائل النور رسائل عقائدية تربوية نافعة جدا وباعتقادي ان فيها فصول تخسر البشرية إذا لم تطلع عليها .
(5) كتب الشيخ الزنداني التوحيد و توحيد الخالق و الايمان ... وغيرها من الكتب النافعة ، والزنداني رائد الصحوة الاسلامية في اليمن السعيد حفظه الله ورعاه .
(6) مذكرات في منازل الصديقين والربانيين وهو شرح لحكم ابن عطاء شرحه الاستاذ سعيد حوى يرحمه الله .
(7) الطريق إلى المدينة تأليف العلامة الحكيم الداعية الرباني الاستاذ (أبي الحسن الندوي) يرحمه الله ، وهو كتاب يبحث في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكتاب ضروري جدا في هذا العصر المادي الجاف .
(8) الشفا للقاضي عياض وهو من الكتب المهمة التي ينغي دراستها كي ترتفع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب الانسان المسلم .
رد مع اقتباس