عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-13-2008, 11:30 PM
 
نحو حياة آمنة للأرامل

الترمل سنة من سنن الله تعالى التي كتبها على بعض خلقه؛ رجالا ونساء، ففقد شريك العمر نوع من ابتلاء الله تعالى للخلق، غير أن هذا لا يعني توقف قطار الحياة، بل لا بد أن يؤخذ في إطار السنن الاجتماعية لله تعالى في كونه، وأن "الترمل" ليس وحده من السنن الاستثنائية في حياة الناس. وتختلف نظرة المجتمع تجاه الأرملة باختلاف أفكار المجموعة البشرية؛ شرقا وغربا، والتي تتحدد من خلال عدد من العوامل الاجتماعية والنفسية والدينية، ما يعني أن المشكلات التي تقابلها يجب أن تخضع للاحتياجات النفسية، ولقوانين الله تعالى في كونه، وهو ما يعرف بالنظرة الاجتماعية المبنية على الفطرة، كما أنها يجب أن تكون منبثقة من نظرة الشرع الحكيم لتلك الطائفة من المجتمع، لا أن تكون خاضعة للعوائد والأعراف الزائفة التي لا تراعي حقوق المرأة الأرملة، وتصب عليها – أحيانا – جام غضبها بدعاوى هامشية تضر ولا تنفع، وتنذر بالخطر والشرر إن لم تقاوم بإثبات حق الأرملة في الحياة كباقي النساء.
عطف.. طمع.. ازدراء
ومن أهم الإشكاليات التي تقابل الأرملة في حياتها: الإعالة والكفالة، فمن الذي ينفق على امرأة مات زوجها، وخاصة أن غالب الأرامل يلجأن إلى النزول في سوق العمل؛ ليجدن لقمة العيش لهن ولأبنائهن.
وثانيها: الحاجة إلى الأنس والسكن، مع رفيق للحياة بعد موت الرفيق، ونظرة المجتمع الشرقي إلى الأرملة ذات الولد التي ترغب في الحياة الزوجية مرة أخرى.
وثالثها: طبيعة التعامل الاجتماعي من طوائف المجتمع مع تلك المرأة؛ عطفا أو طمعا، أو ازدراء ونحو ذلك.
أما عن الأمر الأول، وهو حاجة الأرملة إلى الطعام والشراب والإعالة، فنظرة الإسلام تعد من أشمل النظريات التي راعت حق الأرملة في الحياة، فالإسلام يوجب على الوالد إن ترملت ابنته أن يقوم بكفالتها إن لم يكن لزوجها ميراث تركه لها، فإن لم يكن لها والد، كان حقا على إخوتها أن يعينوها في النفقة، فإن لم يكن لها إخوة، أو كان لها إخوة غير قادرين، كان واجبا على ولي الأمر، ممثلا في بيت مال المسلمين، أو "لجان الزكاة" ونحوها، حتى لا تحتاج المرأة المسلمة إلى ما يضطرها للخروج وترك الأولاد، إلا أن يكون عندها سعة، أو كانت ترغب في هذا.
بل كانت نظرة الإسلام أشمل وأبعد، ففي نصوص السنة نجد إشارة إلى قيام المجتمع المدني بتلك الوظيفة، وكأنها إشارة إلى وجوب مراعاة حق الأرملة في الحياة إن تخلى عنها أقاربها، أو تخلت عنها الدولة بمؤسساتها، فليكن المجتمع المدني هو القائم على رعايتها، فقد وردت نصوص عديدة، تحث المسلمين إلى التسابق والتسارع في كفالة الأرملة، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثواب كفالة الأرملة أن يكون صاحبها في ظل الله تعالى يوم القيامة، فروي عنه أنه قال: "من كفل يتيما أو أرملة أظله الله في ظله يوم القيامة"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال داود عليه السلام يا رب ما جزاء من عال أرملة أو يتيما ابتغاء مرضاتك؟ قال: أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.
بل حث النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أول نتاج مما تلد الأنعام أن يكون في سبيل الله تعالى، أو أن يعطى للأرملة حتى يعينها على حياتها، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر وكذا في رواية الحاكم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع. قال: الفرع حق، وإن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو بن لبون فتحمل عليه في سبيل الله أو تعطيه أرملة خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبر.
وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينفق على الأرملة أن يخلفه الله تعالى خيرا مما أنفق، حتى لا يبخل الشيطان من أقدم على الإنفاق على الأرملة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحسن الصدقة في الدنيا جاز على الصراط ألا ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته هذا.
على مشارف الجنة
ويفتح النبي صلى الله عليه وسلم بابا من أبواب الجنة للساعي على الأرملة فيما ورد عن أبي هريرة،قال: قَالَ النَّبِى -صلى الله عليه وسلم-: (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أو كَالَّذِى يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.
فيقرن النبي صلى الله عليه وسلم الساعي على الأرملة بعملين جليلين، أحدهما: الجهاد في سبيل الله، والآخر:العبادة بأشق أنواعها؛ صياما بالنهار، وقياما بالليل، حتى قال ابن بطال في شرحه على البخاري في هذا الحديث:" من عجز عن الجهاد في سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث وليسع على الأرامل والمساكين ليحشر يوم القيامة في جملة المجاهدين في سبيل الله دون أن يخطو في ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًّا يرتاع بلقائه، أو ليحشر في زمرة الصائمين والقائمين، وينال درجتهم وهو طاعم نهاره نائم ليلة أيام حياته، فينبغي لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التي لا تبور، ويسعى على أرملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح في تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولانصب، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن دلائل الإعجاز أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم الأرملة بالضعيفة؛ حتى يستثير اهتمام الناس بها؛ كفالة ورعاية لحقها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في الضعيفين: الأرملة واليتيم".
خلفاء في خدمة الأرامل
قال الإمام المناوي في فيض القدير: أي اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية بالمواظبة على إيفاء حق الضعيفين أي اللذين لا حول لهما ولا قوة أو الضعيفين عن التكبر وعن أذى الناس بمال أو جاه أو قوة بدن.. بأن تعاملوهما برفق وشفقة ولا تكلفوهما ما لا يطيقانه ولا تقصروا في حقهما الواجب والمندوب ووصفهما بالضعف استعطافا وزيادة في التحذير والتنفير فإن الإنسان كلما كان أضعف كانت عناية الله به أتم وانتقامه من ظالمه أشد.
بل كان حال خلفاء المسلمين من الراشدين السعي بأنفسهم على خدمة الأرامل، فقد كان الصديق -رضي الله عنه- يحلب الإبل لبعض الضعفاء، فلما نصب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت جويرية من الحي إذن لا يحلب لنا منائحنا فسمعها أبو بكر، فقال: يا بنية إني لأرجو أن يمنعني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه فكان يحلب للقوم شياههم.
وروي أن الفاروق حمل حال خلافته قربة إلى بيت امرأة أرملة أنصارية ومر بها في المجامع. فيتخيل أن حاكم البلاد يحمل قربة من ماء لأرملة أمام الناس؛ فما بال عوام الناس أن يفعلوا إن رأوا حكامهم ورؤساءهم يهتمون بأمر الأرامل، فيكونوا قدوة لغيرهم، ولهم الأجر والمثوبة عند الله ثم عند الناس.
ولما استعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سعيد بن عامر على أهل حمص، واشتكوا منه، فجمعه بهم، وكان فراسة عمر لا تخطئ، فلما أجابهم أنه كان مشغولا عنهم بأنه كان يغسل لنفسه، وأنه لا خادم له وهو أميرهم، وأنه كان لا يخرج بالليل؛ لانشغاله بالعبادة، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيل فراستي فبعث إليه بألف دينار فقال استعن بها على أمرك. فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك. فقال لها فهل لك من خير من ذاك؟ نرفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها. قالت: نعم. فدعا رجلا من أهله يثق به فصررها صررا ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان وإلى مسكين آل فلان وإلى مبتلى آل فلان. فبقيت منها ذهبية فقال: أنفقي هذه ثم عاد إلى عمله فقالت: ألا تشتري لنا خادما ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين إليه. يعني يوم القيامة.
ثقافة إسلامية
وهكذا نرى أن ثقافة المجتمع المسلم تحض على رعاية الأرامل والمساكين واليتامى، حتى إن أحدهم ليرى أخاه بعد الموت في المنام، ويعرف مكانته عند الله، لما كان يقوم به من رعاية الأرامل، فقد نقل عن البندنيجي أنه قال رأيت صدقة (وهو أحد السلف الصالح) في حالة حسنة فسألته عن حاله فقال: غفر لي بتميرات تصدقت بها على أرملة.
وإن كان هذا ثواب الساعي على الأرملة في شريعة الله، فإن الأرملة الصابرة لا يقل ثوابها عن الساعي عليها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أنه تأتي امرأة تبادرني فأقول لها مالك ومن أنت فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي.
فتلك النصوص والروايات يتضح رعاية الإسلام للأرملة، وأنه ما تركها فريسة للأهواء الضائعة، والعيون الزائغة، والأنانية الحاقدة، بل جعل من المجتمع الأول مجتمعا يتسابق إلى رعايتها وكفالتها.
أما عن نظرة المجتمع للمرأة الأرمل، فيجب أن تكون مرتبطة بشرع الله تعالى، من كون الأرملة امرأة ضعيفة؛ وجب على المجتمع عونها، والأخذ بيدها دون طمع فيها، وإنما عونها طاعة لله، وابتغاء للأجر والثواب من عند الله تعالى، فتتحقق الأخوة التي وصف الله تعالى بها المجتمع المسلم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، ومن أعجبته امرأة من الأرامل فالباب مفتوح لزواجها، بما أحله الله تعالى.
منقول
__________________
لولاك رب ما اهتدينا ولاصمنا ولا صلينا