دراسة مثيرة عن الدور الصهيوني في الحرب على العراق إنها دراسة بالغة الأهمية؛ أولاً لأنها صدرت عن واحدة من أهم المراكز الأكاديمية تأثيراً واحتراماً في العالم (جامعة هارفارد)، وثانياً لأن كاتبيها أستاذان بارزان في العلوم السياسية، يتمتعان بقدر كبير من الاحترام والمصداقية أيضاً، وهما جون ميرزهايمر من جامعة شيكاغو ودين والت، عميد كلية كينيدي في جامعة هارفارد، حتى أن شلومو غازيت، نائب رئيس الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي سابقاً لم يجد بداً من القول إنهما أستاذان جليلان، وذلك في سياق تعليق له حول الدراسة نشرها في صحيفة معاريف الإسرائيلية، وثالثاً لأن ردود الفعل عليها كانت عاصفة إلى درجة اضطرت جامعة هارفارد إلى سحب اسمها عن الدراسة، كما فصل والت من عمادة كلية كينيدي. بحسب غازيت، تتبنى الدراسة التي جاءت في ثمانين صفحة أربعة ''مزاعم رئيسية''، أولها تمتع الدولة العبرية منذ عام 73 بمساعدة اقتصادية وعسكرية ليس لها مثيل في حجمها وشروطها. ثانيها، دعم دائم وتام وشبه تلقائي لجميع أفعال ومواقف الدولة العبرية في الأروقة الدولية. الثالث، أن الدعم والتأييد المفرط للدولة العبرية يناقض المصالح الحقيقية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم العربي. وهنا تحديداً تكمن الجوانب الأكثر أهمية في الدراسة، وعلى رأسها حقيقة أن النفوذ اليهودي في الأروقة السياسية والاقتصادية والإعلامية الأمريكية هو الذي دفع الإدارة الأمريكية نحو الحرب على العراق، وأن ذلك النفوذ هو الذي يتحكم بالسياسة الخارجية الأمريكية، ويحولها إلى ''سياسة معادية لمصالح الولايات المتحدة''. وتؤكد الدراسة أن ''إسرائيل هي التي تشكل عقبة في وجه الحرب على الإرهاب والجهد الذي تبذله أمريكا للتعامل مع الدول المارقة''. وتقول أيضاً ''إن مشكلة أمريكا مع الإرهاب تعود في قسم كبير منها إلى تعاونها الوثيق مع إسرائيل وليس العكس''، مضيفة أنه لم يكن هناك أي مبرر لقلق أمريكا حيال إيران أو العراق أو سورية لو لم يكن لذلك صلة بعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل. يبقى الزعم الرابع، بحسب شلومو غازيت، والذي يحاول إظهار الحياد في الدراسة، ويقول إن إنجازات جماعات الضغط اليهودية تضر بمصالح الدولة العبرية لأنها تحول بينها وبين تحقيق السلام مع الفلسطينيين وسوريا. من المؤكد أننا إزاء دراسة بالغة الأهمية، ليس لأنها تصدر عن مؤسسة ذات صدقية، وباحثين يتمتعان بالاحترام فحسب، وإنما أيضاً لأنها تعزف على وتر نظرية سبق أن رددها غير واحد من السياسيين الأمريكيين الكبار مثل رالف نادر وبول فندلي والعديد من رجال السياسة والدين داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهي النظرية التي تقول إن اليهود هم الذين فرضوا مسار الحرب على العراق، ولولاهم لما كانت. فيما يدرك الجميع هذه الأيام أيضاً أن السلاح النووي الإيراني الذي يحتل أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية لا يهدد الولايات المتحدة بقدر ما يكسر التوازن العسكري مع الدولة العبرية. ما يزيد في أهمية الدراسة أيضاً هو مجيئها، خلافاً للأحاديث والتصريحات السابقة، في ظل فشل أمريكي واضح في العراق، وهو ما يدفع رجل مثل شلومو غازيت إلى التحذير من الأسوأ القادم، ممثلاً فيما يقول إنه ''احتمال لا يستهان به يتمثل في أن تنتهي المعركة العسكرية إلى فشل المحاولة الأمريكية لإقامة نظام حكم مستقر وديمقراطي في العراق''، ما سيترك آثاراً صعبة ''على مكانة أمريكا في المنطقة عامة، وعندها ستبدأ نقاشات لاذعة: من الذي يتحمل مسؤولية توريط أمريكا في الحرب التي لا داعي لها، وسيكون من السهل جعل إسرائيل كبش فداء''. والكلام ما يزال للخبير الأمني الإسرائيلي. والواقع أن الدولة العبرية ليست كبش فداء، اللهم إلا إذا كان أنصارها في الولايات المتحدة يتصرفون من تلقاء أنفسهم، وبتعبير أدق، خلافاً لرغبتهم، الأمر الذي لا يبدو صحيحاً. وفي أي حال فإن ما جرى وسيجري سيؤثر تأثيراً جوهرياً على النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة، وحين يتأثر ذلك النفوذ فإن آثاره ستنعكس على السياسات الأمريكية في منطقتنا. لا نتحدث عن وضع سيتبلور بعد عام أو اثنين، ولكنها متوالية لا بد أن تنطلق، بصرف النظر عن الزمن الذي ستستغرقه وصولاً إلى إدراك الأمريكيين لحقيقة التأثير السلبي لليهود والدولة العبرية على مصالحهم ومصالح بلادهم. نفرح بهذه التحولات ونتمنى، بل نتوقع المزيد منها خلال المرحلة المقبلة بعد الفشل الأمريكي في العراق، والذي قد يتطور ليغدو مأزقاً أكبر يساهم في تراجع نفوذ الولايات المتحدة على مستوى العالم، كما يساهم في ضرب الاقتصاد الأمريكي الذي تستنزفه الحرب، ما يؤثر على كل فرد في الولايات المتحدة. وعندما يتحجم النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة ويتراجع الدعم الأمريكي للدولة العبرية ستكون المعركة معها أسهل بكل المقاييس. هذا إذا لم يتطور الموقف نحو نكبة لليهود في الولايات المتحدة، تشبه نكبة البرامكة في بلاط هارون الرشيد، الأمر الذي يبدو طبيعياً وفق منطق التاريخ والاجتماع البشري. فحين يتجاوز نفوذ أقلية لا تتجاوز نسبتها 2% من السكان حدود المنطق على نحو لا يطيقه أهل البلاد، فإن الانقلاب عليهم يغدو أكثر من متوقع، فكيف حين يؤثروا بشكل سلبي واضح على مصالح البلد وعموم أفراده؟ في ختام قراءته لدراسة هارفارد، وبعد أن يطالب بالاستعداد لمرحلة ما بعد حرب العراق فيما يتصل بالعلاقة مع الولايات المتحدة، يقول شلومو غازيت: ''على القدس أن توجه جماعة الضغط اليهودية التي تعمل في الكونغرس الأمريكي إلى أن تفهم أنها لن تظل منيعة إلى الأبد، وأنه ينبغي أن تأخذ بشعار المدرسة العلمية في حيفا: تواضع''. ولكن هل يمكن للقوم أن يتواضعوا بالفعل؟ تجربة العقدين الماضيين تقول بكل وضوح: لا. لن يحدث ذلك. بقي أن نشير إلى حجم ردة الفعل الصهيونية على الدراسة، والتي تتوالى يوماً إثر آخر، وهو ما يشير إلى حقيقة معروفة في الوضع الداخلي الأمريكي تتمثل في أن حرية التعبير تتوقف عند حدود الدولة العبرية ومصالحها. ==========> الموضوع منقول |