قصص للفتيان والفتيات
عبد الكريم عبد الله رفعت
-2- الصديق المريض
لم يكن في المدرسة طفل أضخم ولا أكبر من " أحمد " ، ولم يكن هناك من يستطيع منازلته في المصارعة ، وكان أحمد في الصف الرابع إلا أن جسمه وعمره يوحي بأنه أكبر من أن يكون في هذه المرحلة .
وفي أحد الأيام ، وبينما هو عائد إلى بيته ، رأى اثنين من التلاميذ يتطاولان على " كمال " بالضرب ، فغضب عليهم و أسرع إليهم ، إلا أن التلميذين المعتديين ما أن رأيا أحمد حتى لاذا بالهرب ، لينجوا بأنفسهما .
ولكن كان "كمال" على عكس "احمد" .. هزيل الجسم ، وقصير القامة ويبدو معتل البدن . كما أن ملابسه توحي بأنه من عائلة فقيرة .
لم يكن "أحمد" صديقا ل "كمال" إلا أنه كان يعرفه عن بعد سقط كمال على الأرض والدم يسيل من أنفه ، فأمسك احمد بيده وساعده على النهوض وسأله : لماذا كانوا يضربونك ؟
أجاب كمال باكيا : كُسرت زجاجة إحدى نوافذ الصف ، ولما سأل المعلم عن الفاعل ، اتهموني وكنت قد رأيت الذي كسرها ، فأخبرت المعلم بالحقيقة ، لكي انجوا من العقاب ، فعاقبهم المعلم مرتين: مرة لأنهم كسروا الزجاجة ، ومرة لأنهم كذبوا عليه .. وقد نالوا مني الآن ما نالوا انتقاما لذلك .
أخرج أحمد منديله ومسح به عيني كمال وقال :
لا تبك يا كمال فلن ينال منك أحد بعد اليوم ، وسنكون أصدقاء .
منذ ذلك اليوم ، كان الصديقان متلازمين
دائما ، وحينما عرف الأولاد بذلك لم يجرؤ أحدهم التقرب من كمال ، لأن الجميع كانوا يخافون من أحمد .
كان كمال تلميذا ذكيا ومتفوقا في دروسه ، فاقتدى به أحمد وأصبح هو الآخر من التلاميذ الذين يشار إليهم بالبنان ، لتفوقه على الآخرين بحق وجدارة .
وفي أحد الأيام ، غاب كمال عن المدرسة ففتش عنه احمد فلم يجده ، وفي اليوم الثاني لم يحضر كمال أيضا وطال غيابه أسبوعا كاملا . وعندها لم يستطع احمد أن يكتم قلقه على كمال ، فذهب إلى إدارة المدرسة وسأل عن عنوان صديقه " كمال" فأعطاه المدير العنوان برحابة صدر وبارك شعوره النبيل تجاه صديقه .
وبعد انتهاء الدوام ، ذهب احمد لزيارة كمال في منزله ، وكان في أحد الأحياء القديمة .
طرق الباب فخرجت إليه امرأة عجوز كانت تبكي ثم قدّم أحمد نفسه لها واخبرها عن شوقه لصديقه الغائب ، فتنحت العجوز جانبا وقالت :
ادخل يا بني .
دخل أحمد البيت ، ورأى الغرفة الوحيدة فدخلها ، كانت الغرفة تكاد تكون مظلمة لولا المصباح النفطي الذي كان يتوسط الغرفة ، تنير به أطرافها ما شاء له أن ينير .
وفي إحدى زوايا الغرفة رأى كمالا طريح الفراش وقد غطيّ بأغطية بالية .. وكان الإعياء يبدو عليه واضحا ، بيد انه كان يحاول أن يتصنع الابتسامة معبرا بذلك عن ترحيبه بصديقه الوفي .
تقدم احمد وقبل وجنتيه وقال : لم اكن اعرف انك مريض .
أشار كمال بعينيه أن : نعم .
- إذا كان المرض وراء غيابك عن المدرسة .. ولكن هل راجعت الطبيب ؟
أدار كمال رأسه نحو الحائط وقال بصوت خافت : لا
- ولكن لماذا ؟
لم يجبه ، وقد أدرك احمد كل شئ ، فلم يكن والد كمال على قيد الحياة ، أما أمه فهي تعمل غسالة في البيوت ، وما تحصل عليه من أجر ، فقليل ولا يكفي مصاريف الطبيب والعلاج .
وبعد أن جلس احمد عند صديقه بقدر ما يجلس عائد المريض ، استأذن من كمال وانصرف ...
وكان يفكر طوال الطريق في حال صديقه ، وكيف السبيل إلى مساعدته ؟
وعندما وصل إلى البيت ، ذهب مباشرة إلى غرفته واحضر صندوق توفيره وافرغ ما فيه .
وبدأ يعده وكان اثني عشر دينارا وسبعمائة فلسا ، جمع النقود ووضعها في جيبه فرحا .
ترك البيت واتجه نحو شارع الأطباء ، وذهب إلى طبيب ماهر من أصدقاء والده ، وأخبره بالقصة كاملة وطلب منه أن يصنع له جميلا ويأتي معه ليفحص صديقه . فقال له الطبيب :
سآتي معك حالا .
فذهبا إلى منزل كمال ، وكان حاله يزداد سوءا ، وعندما رأت " أم كمال " الطبيب احمر وجهها خجلا وقالت بصوت متلعثم : لسنا بحاجة إلى طبيب ! إننا لم نستدع طبيبا .
لم يعر الطبيب اهتمام بقولها وبدأ يفحص المريض جيدا واخرج من حقيبته ورقة وكتب وصفة طبية و أعطاها لأحمد وقال له : احضر هذا حالا .
ذهب احمد مسرعا ولم تمض دقائق حتى رجع ومعه الدواء الموصوف . فرّكب الطبيب ابرة و زرقها في فخذ (كمال) و أعطاه بعض الحبوب والشراب بيده ووصف له بقية الوصفة ومواعيد تناولها .
ترك " أحمد " والطبيب معا بيت المريض ، وفي الطريق أراد " احمد " أن يدفع إلى الطبيب أجرة الفحص ، فرد يده ونظر إليه نظرة عتاب وقال :
- أتضن أننا لسنا أهلا للمساعدة كذلك ؟ السنا مؤمنين مثلك ، ومذعنين لقول الله سبحانه وتعالى ؟ ألم يأمرنا بمساعدة إخواننا المؤمنين بقولهالكريم : " إنما المؤمنون إخوة " ؟ وأنا جد سعيد الآن ، لأنني ساعدت أخا لي .. ولك . هيا إذن اذهب إلى البيت وبلغ والدك عني السلام .
رجع احمد إلى البيت ولم يشعر بسعادة في حياته قط مثلما شعر بها الآن . جلس مع عائلته واخبرهم قائلا :
أن النقود التي كانت في صندوق توفيري قد أفادتني اليوم كثيرا .. جدا . وتابع كلامه واخبر والديه بالقصة كاملة فشكراه على حسن صنيعه ، أما هو فقد كان يشعر بأنه اليوم اقرب ما يكون إلى الله !