قصص للفتيان والفتيات
عبد الكريم عبد الله رفعت
-6- الحصان الطائر
منذ أيام أقيم السيرك (مدينة الألعاب المتجولة) في قريتنا ، وبدأ الكل يتحدثون عنه ويصفون ما فيه من ألعاب مسلية ، وبالأخص ذلك "الحصان الطائر" الذي بالغوا في وصفه ومتعته .
لم أر السيرك في حياتي قط ولم أركب مثل هذه اللعب حتى إنني لم أبتعد عن القرية طوال حياتي إلا مرة واحدة ، وذلك عندما أخذني فيها والدي إلى المدينة ليقلع سني - التي كانت تؤلمني - عند الطبيب ، ومن فرط الألم لم أستطع أن أرى شيئاً من جمال المدن ومظاهر الحضارة التي كانوا يتكلمون عنها .
كانت رغبتي في دخول السيرك وركوب الحصان الطائر لا توصف . حتى أنني كثيرا ما أسرح وأتخيل أنني راكب الحصان ، ولكنه سرعان ما يسكن عندما أفيق وأعرف أنه مجرد خيال وليس حقيقة .
كان علي أن لا أدع هذه الفرصة تفوتني دون أن أغتنمها وأحظى بزيارة السيرك وركوب ألعابه !
لذلك أسرعت إلى أمي ووصفت لها شوقي ورغبتي في دخول السيرك .
سكتت والدتي قليلاً ثم قالت لي - وعلامات الحزن تبدو واضحة في عينيها - : - اسأل أباك عن ذلك يا ابني .
سكت و أنتظرت والدي على أحر من الجمر - وما أقسى الإنتظار - وأخيرا جاء المساء وجاء معه والدي .
ترددت في الكلام .. ولكن شوقي في ركوب الحصان الطائر أنطقني رغماً عني .
قلت له بعد أن أخذ قسطاً من راحته :
- والدي العزيز ، لقد أقيم في قريتنا سيرك و ....
أجاب والدي مقاطعا:
- وما شأننا نحن .؟! ومن أين لنا .. وهل ما نحصل عليه يكفينا ؟ إنها ملهى الأغنياء ، فهم وحدهم الذين يستطيعون الذهاب إلى هذه الأماكن.
لم ينبس لي بنت شفة ولذت بالصمت ، لأنني أعلم إن والدي على حق ، فهو عامل بناء يعمل حينا ويبقى أحيانا دون عمل ، ومن هنا فما يحصل عليه من أجر يكاد لا يسد رمقنا .
سكت ولكني لم أنس السيرك ، وظل الحصان الطائر يلازم خيالي طوال الليل .
وفي الصباح جاءني صديقي "محمد" وعليه بدلة أنيقة وقال :
- هيا يا "علي" لنذهب إلى السيرك .
قلت : معذرة لا أستطيع الذهاب .
- ولكن لماذا ؟ فليس هناك أمتع من ركوب الحصان الطائر .
- اعرف ذلك ، لكني الآن مشغول ، اذهب أنت وربما سألحق بك بعد حين.
كانت والدتي تسمعنا وترانا ، وكانت تعرف أنني أتحرق شوقاً إلى للذهاب إلى هناك .
نظرت إلي وكانت تحبس الدموع في عينيها ، أرادت أن تقول لي شيئاً ولكن يبدو أن الكلمات لم تسعفها فانهمرت الدموع تسيل من عينيها وتحررت من سجنها لتوميء إلي ما كانت أمي تنوي قولها "آه يا أمي العزيزة ، كم تفكر فيّ ، لكن ماذا عساها أن تفعل ، فليس بيدها حيلة" .
ذهب "محمد" وجاء "عثمان" من بعده ، سألني في الذهاب فأجبته بأنني لا أرغب في ذلك . وكان هو الآخر يلبس أجمل ما لديه من الثياب .
أدخل يده في جيبه وأخرج ما فيه من النقود وكانت ملء كفه ، مدها إلى وجهي وكأنه يريد إدخاله في عيني وقال :
- أنا ذاهب إلى السيرك ، ألا تأتي معي ؟!
كنت أعرف "عثمان" منذ مدة ولكنني لا أرغب في مصاحبته ، فهو ولد مغرور لكونه ابن أحد الأثرياء فضلا عن ذلك ، فهو بليد وسفيه ، لذا صرخت في وجهه بلهجة جافة :
- كلا .
- البارحة كنت هناك ، وركبت الحصان الطائر ، وسأركبه اليوم أيضاً ، أنظر لقد أعطاني والدي كل هذه النقاد ، سأصرفها كلها هناك .
- وما شأني أنا بذلك - افعل ما تشاء - فلن تغيظني .
و أخيرا ذهب .. آه .. الحمد لله ، لقد أرتحت من ثرثرته .. ساعدت أمي حتى الظهر ، جلبت لها الماء من البئر ، و أحضرت لها الحطب ، وبعد الظهر خرجت إلى الزقاق ، من حيث لا أشعر قادتني رجلاي إلى المكان الذي أقيم فيه السيرك .
وهناك كانت الخيام الكبيرة قد نصبت وزينت بألوان من الأعلام ، وأمام باب الدخول ، وقف مهرج وفي يده مكبرة صوت يصيح فيها بأعلى صوته :
- هلموا .. هلموا أيها الصغار فلا تفوتكم الفرصة ، أدخلوا وانظروا ما فيه: الحصان الطائر ..الأسود الأفريقية المتوحشة .. القرود الهندية .. لاعب الاوكروبات .. المهرجون ، وأشياء أخرى كثيرة .. فلا تفوتكم الفرصة .
- آه .. كم أنا مشتاق لرؤية ما في هذه الخيام الكبيرة ...!
وقفت أمام السيرك دون حراك ، كان كل شئ يدعوني إلى الدخول: قلبي .. نفسي .. شوقي .. إلا جيبي لم يوافق .
وعندما رآني المهرج شعر برغبتي فقرب مكبرة الصوت من فمه ، ونظر إلي وصاح :
- هيا أيها الصبي . ادخل ، فلن يكلفك ذلك أكثر من خمسين فلساً ، أجل بخمسين فلس فقط تدخل السيرك .
بعدت عنه وكلي خجل اذ لم يكن في جيبي فلس واحد ، بدأت أدور حول السيرك .. فرأيت محفظة جلدية ملقاة على قارعة الطريق .. أسرعت بالتقاطها دون أن يراني أحد ، وفتحتها ، ونظرت إلى ما فيها فإذا هي مليئة بالأوراق النقدية .
-الآن أستطيع الذهاب إلى السيرك فأنا صاحب كل هذه النقود ، سأتمتع بها كيفما طاب لي .
وفي الحال هتف بي هاتف وهو - صوت الضمير- وقال : " كلا .. أنها ليست لك . ستعيد المحفظة إلى صاحبها " .
وقفت حوالي نصف ساعة أنتظر نتيجة الصراع القائم بين" نفسي الأمارة وضميري" .. وفي أثنائها عددت النقود فكانت خمسمئة دينار . إنها تكفي لإعاشة عائلتي الفقيرة لمدة سنة كاملة .
وأخيراً انتصر الضمير على النفس.
أخذت المحفظة وأسرعت بها إلى مخفر الشرطة ، وأخبرتهم بالأمر .
وبعد حوالي عشر دقائق ، دخل رجل مضطرب الأنفاس عرف نفسه وكان صاحب السيرك وأخبر مسؤول المخفر عن فقدان محفظته ووصف ما فيها بكل دقة سلمت له المحفظة .
فشكروني كثيراً وقال وهو يربت على كتفي :
- بارك الله فيك ، لقد أعجبتني إستقامتك ، وأريد أن أرد لك جميلك بمكافأة ، فاطلب ما تشاء .
قلت له :
- لا أريد شيئا سوى ركوب الحصان الطائر.
فابتسم لي وقال :
- تستطيع أن تدخل السيرك متى شئت ، وتركب الحصان وتتجول في أقسام السيرك متى أحببت .
وبعدها أصبحت أركب الحصان الطائر يومياً طوال أقامة السيرك في قريتنا.