عرض مشاركة واحدة
  #82  
قديم 05-16-2009, 02:56 PM
 
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

خطبَةُ الزّهرَاء في نِساء المُهاجِرِينَ وَالأنصَار
قال سويد بن غفلة:
لما مرضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي توفّيت فيها
اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها
فقلن لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا ابنة رسول الله؟
فحمدت الله، وصلّت على أبيها، ثم قالت
:
أصبحتُ - والله - عائفةً لدنياكنَّ
(1)
قاليةً لرجالكن(2)
لفظتُهم بعد أن عجمتهم(3)
وشنئتهم بعد أن سَبَرتهم(4)
فقبحاً لفلول الحد(5)
واللعب بعد الجدّ(6)
وقرع الصفاة، وصدع القناة(7)
وخطل الآراء، وزلل الأهواء(8)
وبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم
أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون
(9)
لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتها(10)
وحمّلتهم أوقتها(11)
وشننت عليهم عارها(12)
فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين(13).
ويحهم!!
أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة
(14)
وقواعد النبوة والدلالة(15)
ومَهبط الروح الأمين(16)
والطبين بأُمور الدنيا والدين(17)
إلا: ذلك هو الخسران المبين
وما الذي نقموا من أبي الحسن
(18)
نقموا منه - والله - نكير سيفه(19)
وقلَّة مبالاته بحتفه(20)
وشدّة وطأته ونكال وقعته(21)
وتنمّره في ذات الله عز وجل(22)
والله لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول الله إليه لاعتلقه(23)
ولَسارَ بهم سيراً سُجُحاً(24)
لا يكلم خشاشُه(25)
ولا يتعتع راكبه(26)
ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً روّياً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه(27)
ولأصدرهم بِطاناً(28)
ونصح لهم سرّاً وإعلاناً
ولم يكن يحلى من الغنى بطائل
(29)
ولا يحظى من الدنيا بنائل(30)
غير ريِّ الناهل(31)
وشبعة الكافل(32)
ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب
والصادق من الكاذب
(ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
(33).
(
والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)
(34).
إلا: هلمَّ واستمع.
وما عشتَ أراك الدهر عجباً!
وإن تعجب فعجبٌ قولهم!!
ليت شعري إلى أيّ سِناد استندوا؟
(35)
وعلى أي عماد اعتمدوا؟
وبأيَّة عروة تمسَّكوا؟
وعلى أيَّة ذريَّة أقدموا واحتنكوا؟
(36)
لبئس المولى ولبئس العشير.
وبئس للظالمين بَدَلاً.
استبدلوا - والله - الذُّنابا بالقوادم
(37)
والعَجُز بالكاهل(38)
فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً(39)
ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون
ويحهم
!!
(
أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبَع أم من لا يَهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون؟)
(40)
أما: لعمري! لقد لقحتْ(41)
فَنَظِرة ريثما تُنتج(42)
ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً(43)
وذعافاً مبيداً(44)
هنالك يخسر المبطلون
ويعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولون
(45)
ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً(46)
واطمئنوا للفتنة جاشا(47)
وأبشروا بسيف صارم
وسطوةِ معتد غاشم
(48)
وهرج شامل(49)
واستبداد من الظالمين(50)
يَدَع فيئكم زهيداً(51)
وجمعكم حصيداً(52)
فيا حسرةً لكم(53)
وأنّى بكم؟(54)
وقد عميت عليكم(55)
أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون؟؟
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن
.
فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء.
لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد
(56)
ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!!!
فقالت: إليكم عني!
فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم
(57).
عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراء (عليها السلام
)

لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟
أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟
أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟
خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ
.
وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به.
فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة.
والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر.
فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في هذا الاجتماع ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرفين؟
(قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أن العائد يسأل المريض عن صحته وعّلته، فيجيبه المريض عما يشعر به من المرض والألم، ولكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية فالتحدث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدث عن أحوالها الصحية لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحة، فالتحدث عن السبب أولى من التحدث عن المسبب والإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول.
وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال، لا تتعجب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحتها بل قالت:
فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف
(أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنها تبدي تنفرّها عن الحياة الدنيا وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.
(
قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيب، فلقد مرَّ عليك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها.
(
لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها.
(
وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم.
(
فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إياها، فكأنها (عليها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جرى على بنت نبيهم من الظلم والاضطهاد.
(
واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنهم يلعبون ألعاباً سياسية.
(
وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم:
(
وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به.
(
وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية.
أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.
(
وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس.
(
ولَبئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) إنها (عليها السلام) أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين.
(
لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) أنها (عليها السلام) تلقي المسؤولية مسؤولية الأجيال كلها على أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمت الحجة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقهم، وحيث أنهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ.
(
وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها.
(
وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أن عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت.
(
فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة وهناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم.
ويستحق الظالمون أن يدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاهم وجرح الله أبدانهم.
(
ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، وقد يكون معناها الويل.
(
أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجب (عليها السلام) من سوء اختيارهم، أي كيف نحوّا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب.
(
وقواعد النبوة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها.
(
ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين.
(
والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلقة بالحياة وكذلك القضايا المتعلقة بالدين في جميع المجالات وشتى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسول (عليهم السلام) وتخص زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
(
ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأمة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأخروية.
كل ذلك حين سلبت الأمةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر.
فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء.
والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب.
إن المآسي التي شملت الأمة الإِسلامية (عبر التاريخ) مما تقشعرّ منها الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة.
وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمين على مر التاريخ الإِسلامي.
فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البريئة التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيهم ومناصبهم وملذاتهم وأما الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج.
نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم.
(
وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ أي: أيَ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟
أنقصاً في العلم؟
أو جهلاً في الفتيا؟
أو سوءاً في الخلق؟
أو عاراً في الحسب؟
أو ضعفاً في الدين؟
أو عدم كفاءة في الأمور؟
أو جبناً في النفس؟
أو خِسّةً في النسب؟
أو قلّة في الشرف؟
أو بخلاً بالمال؟
أو أي عيب في مؤهلاته وكفاءاته؟
كل ذلك لم يكن، بل كان علي (عليه السَّلاَم) أعلم هذه الأمة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول وأقضاهم في الفتوى
.
وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خلق عظيم.
وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش.
وأعبد الناس في هذه الأمة.
وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً.
وكتلة من الفضائل.
وفي أوج الشرف والعظمة.
وأسخاهم كفاً، وأبذلهم للمال.
إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟
إن السيدة فاطمة (عليها السلام) تجيب على هذا السؤال، وتقول
:
(
نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود أن علياً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصياتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح.
(
وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنه يَقتل كذلك بُقتل، وكان علي (عليه السلام) يقول: واللَّه لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه.
(
وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذَّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين.
(
وتنمّره في ذات اللَّه عز وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام.
لقد تخلص من كلامها (عليها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (عليه السلام) كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصلة في قلوبهم.
فلقد قتل علي (عليه السلام) يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف علي (عليه السلام).
وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم.
والنجاح الكبير الذي أحرزه علي (عليه السلام) في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدم الباهر الذي كان من نصيب علي (عليه السلام) في شتى الميادين كان في قمّة فضائله.
فالآيات القرآنية التي نزلت في حقه.
والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره.
والموفّقية التي حازها علي (عليه السلام) وحده.
وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين.
كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المريضة.
وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلا الجو، وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل.
بالله عليك انظر:
لقد مرّ عليك أن جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن.
أليس هذا مما يهيج الحسد في النفوس؟
ويأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أن يذهب إلى مكة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إن ربك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علياً أن يتوجه نحو مكة، ويتولى قراءة السورة على أهل مكة، ويأمر أبا بكر بالرجوع
.
أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب.
وهكذا وهلم جرّاً، سِر مع علي (عليه السلام) عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته.
والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين.
ومن العجيب: أن علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً ومتجسدّاً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون علياً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟‍‍‍‍‍!
في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علياً (عليه السلام) وقُرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟
فقال: بَهَر والله نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول
:
وكل شكلٍ لشكله ألفُ***أما ترى الفيل يألف الفيلا
وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف
:
وقائل كيف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فيه إنصاف
:

لم يك من شكلي فهاجرته***والناس أشكال وأُلاّف
وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام
):
ما تركت بدر لنت مذيقاً***ولا لنا من خلقنا طريقاً
ومن الواضح أن الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس علياً بسببها ومعنى كلام الزهراء (عليها السلام): (نقموا منه والله نكير سيفه) من باب قول الشاعر
:
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم***بهنَّ فلول من قراع الكتائب
والمقصود: أنهم عابوا علياً على فضائله ومناقبه، وعلى انجازته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها
.
هذا ومن المؤسف أن الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من هذا ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلى فرصة أخرى أو كتاب آخر.
(
والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه لاعتلقه) شبهت السيدة فاطمة (عليها السلام) المجتمع الإِسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت علياً (عليه السلام) بالدليل الذي يتقدم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة.
ولم تنس السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إن القيادة الإِسلامية إنما صارت لعلي (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قام في الناس رافعاً صوته: (من كنت مولاه فعلي مولاه).
وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها.
(
لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق علي (عليه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصور، وأفضل ما يرام.
ثم وصفت (عليها السلام) نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت:
(
ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإن البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأن الراكب يتأذى من الحركة العنيفة، وتتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق.
ثم البعير نفسه يتألم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذى الراكب والمركوب، ولكن السيدة فاطمة تقول:
(
لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكل سائره ولا يمل راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السير.
(
ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً روياً) إن الدليل الذي يتقدم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك.
تقول السيدة فاطمة (عليها السلام): كان علي (عليه السلام) يقود المسيرة إلى منهل نمير والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها. والفضفاض: الواسع.
(
تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) النهر إذا كان ممتلئ يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر.
فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء.
وكلها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض والعدل يسود المجتمع والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية (بمعناها المعقول) والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع.
(
ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالبشع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة.
(
ونصح لهم سراً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أن علياً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرية وعلنية، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه.
(
ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامة.
وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أن في العالم أفراداً يحبون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبون ليحكموا على الناس، ويتصرفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبون الرئاسة لأنها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة.
وهناك أفراد (وقليل ما هم) يحبون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم.
إن هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكملوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت بل إنهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها.
وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل.
بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمة (عليها السلام) حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق.
تقول: (ولم لم يكن يحلى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً.
(
ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع.
احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة، ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما!؟؟
كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب، نعم، إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيد ادعائها
.
فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة، فلقد كتب (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنيا بطمرية، ومن طعمه بِقُرصية.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين..) الخ.
بقيت هنا كلمة لا ينبغي ترك ذكرها، وهي:
ربما يتصور البعض أو يتبادر إلى ذهنه أن علياً الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بأنه لو كان يقود المسيرة لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه (إلى آخر أوصافه) فلماذا حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصة الخلافة حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأمة الإِسلامية في عهده؟؟
نجيب على هذا بما يلي
:
لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرفات غير مرضية، ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً لرأيت كمية وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا.
ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام، ولكننا نكتفي هنا بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقية الأمثلة:
خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته.
وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أي عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، والرجل لم يتزوج بها.
هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدراتهم؟ وكم تتبدل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟
وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)؟
إن الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد علي (عليه السلام) وهي مفككة العرى محطمة الجوانب، مشوهة السمعة
.
ولما أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدم وساق، وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأول والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة، وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار.
نحن لا زلنا في شرح الخطبة:
(
ولبان لهم الزاهد من الراغب) إن السيدة فاطمة (عليها السلام) لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، ويظهر الراغب الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله.
(
والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرفاته.
ثم إنها (عليها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمة، فقالت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
(58). ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟
وتقصد السيدة فاطمة أن الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنة نعيم، ولكنهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم، وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين
)
(59)وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأمة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذة ومضاعفاتها.
(
ألا هلم واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة الأولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها.
(
وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر.
(
وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمة (عليها السلام) هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة والأمر العجيب هو ما يلي:
(
ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟ وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟) إن الناس كانوا يستندون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره، لأنه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) تنازلوا إلى مستوى نازل جداً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهلات.
فالذي كان يستند ويعتمد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يتمسك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.
تتعجب السيدة فاطمة (عليها السلام) ويتعجب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحية والنفوس المعتدلة والقلوب السلمية من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.
(
وبأية عروة تمسكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما) ومعنى الحديث أن الرسول أمر المسلمين أن يتمسكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأية عروة تمسكوا وتعلقوا واعتصموا.
(
وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أسرة على وجه الأرض؟
أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟
الذين أمرهم الله بمودتهم بقوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى
).
الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك، الذين مَن أحبّهم فقد أحب الله، ومن آذاهم فقد آذى الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله.
فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذرية رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّأوا الناس على إيذائهم، وقد حكم الله تعالى بين عباده.
بأي دين؟ وبأية شريعة؟ وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
أنا لا أدري، ولعل القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات
.
(
ولبئس المولى ولبئس العشير) اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الحج آية 13: (يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) أي أن الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.
(
وبئس للظالمين بدلاً) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً).
(
استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل) من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقية العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو قوتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.
ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طائفتان من أُمتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.
وإننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما وصلوا إلى القمة وحازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجعتهم على العمل.
وهكذا نجد الشعوب المتأخرة والمتفسخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).
وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:
(
استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم) إن التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.
شبّهت السيدة فاطمة (عليها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركب من عشر ريشات كبار، ويقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).
فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القوية في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.
فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.
(
والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.
والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أن القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى من لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأمورها لعدم توفر الإمكانيات فيه، وعجزه عما يتطلبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.
إنهم باعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وباختيار منهما، ولكنهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يقاس بعليّ (عليه السلام) علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.
(
فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) إنها تدعو على أقوام الذل والهوان، وهو إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرفاتهم.
والحال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهل يشعر المنحرف أنه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنه على الحق وأن غيره على الباطل، ولا يؤثر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.
وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:
(
قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)
(60)ومن قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)(61).
ثم أدمجت آية أخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:
ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)
(62).
هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمة؟
وهنا تقصد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من هذه المقارنة أن علياً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهب، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا كاملين في العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة، والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره
.
(
أما لعمري! لقد لقحتْ) إن الميكروبات التي تتكون في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثر على الكريات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كله.
تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسع والانتشار.
(
فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلها.
وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصية متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام وهكذا تتبدل المفاهيم، وتتغير المقاييس.
(
ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً) الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكن الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.
انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء.
تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.
وتجد التلال التي تكونت من جثثهم.
فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوة معهم ضرباً وسباً وتبعيداً وتهديداً.
وأخيراً أورثت أعماله في المسلمين هياجاً عاماً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وهكذا طلحة وابن العاص، وأخيراً قتلوا عثمان.
وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضده خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.
ثم نهض معاوية زاعماً أنه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صفين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.
ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.
ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة عليّ في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل.
خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:
25.000 + 90.000 + 4000 + 30.000 = 149000.
هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء، وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات.
وهل انتهت المأساة هنا؟ لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعر منها الجلود، وسوف نذكر بعضها.
نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.
ليس هذا التنبؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أصول الصحة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارة فإن الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة.
وكذلك السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيئة التي يؤول إليها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.
تقول: (ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.
(
وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.
(
هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.
(
ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.
(
ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً) يقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك وأمثالها من الكلمات التي يراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.
(
واطمأنوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يراد به العكس، فإن القلب لا يسكن للفتنة وإنما يسكن للأمان والسلامة.
(
وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.
(
وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.
(
واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.
(
يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج حقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أن السلطة التي تحكم عليكم يتصرفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.
وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.
ولقد تحقّق كل هذا. وهذا كله، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فوالله أنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:
لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:
لو أردنا أن نذكر - هنا ما جرى على الأمة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.
ولكننا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدث عما أخبرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلبوهم القدرة والإمكانية.
نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس.
وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:
من الصحيح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم ولا السّنّة النبوية ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية ولا نظام العدل ولا تعاليم الإسلام.
بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.
فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.
ولعلك - أيها القارئ تتصور وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعباسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل واعتبرت كلامي هذا أقل من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!.
إنهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.
وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:
رد مع اقتباس