دراسة عن " ابن الونان " المشهور بأبي الشمقمق
هو أبو العباس احمد بن محمد بن الونان الملوكي الحميري النسب التواتي الاصل الفاسي الدار كان والده من ندماء السلطان "سيدي" محمد بن عبد الله وهو مشهور عند عموم الشعراء
ابن الونان شخص يكاد لا يجهله احد من مختلف طبقات المثقفين عندنا، صغارا و كبارا، فهو قد احرز شهرة واسعة،بحيث لا تسأل عنه متأدبا ولو ناشئا إلا وجدت عنده من أمره خبرا
ولا مبالغة اذا قلنا انه مع ذلك يعتبر شخصا يكاد لا يعرف أحد من حياته قليلا و لا كثيرا
وحسبك من الجهل به أننا لا نعرف تاريخ ولادته ولا تاريخ وفاته، الا ما ذكره النميشي في انه ظفر بتاريخ وفاته في كناش بفاس وقال انه توفى سنة 1187، وقد اكتفى العلامة عبد الله كنون بالوثوق بالنميشي بنقل هذا التاريخ عن الاستقصاء بنفسه.
رغم انه ليس ببعيد العهد منا جدا كبعد عهد الاندلسيين و العباسيين الذين قد نظفر بصفحات غير يسير من تاريخهم.
وذلك يدل على اهمال المتأخرين لأدبائهم، وساعدهم في ذلك ما كان قد فشا فيهم من التحاسد و التباغض وصل حد الاطماس.
لذلك فان معرفته تتأتى من أرجوزته الشمقمقية ( سنتحدث عنها لاحقاً )
أما نسبه فحميري من سلالة بني معقل من بني كهلان بن سبأ أخي حمير
وأما أصله فتواتي من توات قرب زناتة، وهي قبيلة تملكها عرب الصحراء الحمييرين الذي وفدوا المغرب بعد الفتح على الارجح.
واما داره فكانت عدوة فاس التي حوت معلمة التاريخ وأول جامعة في العالم بأسره "جامع القرويين" الذي بنته فاطمة الفهرية نفعها الله به.
كان والده من ندماء السلطان، وكان أديبا ظريفا خفيف الروح، لطيف الحس، صاحب نوادر و ملح،وكاد شديد الصمم،ثم زال سمعه كلية،ومن رهافة حسه انه كان يفهم ما يقال له بقراءة الشفتين.
وكان من آثار السلطان به أن كناه بأبي الشمقمق تشبيها له بالشاعر الكوفي الماجن المعروف بابي الشمقمق، فلزمته هذه الكنية حتى انسحبت على ابنه ..
ولما مات الوالد انقطع الولد عن مجالس السلطان ووقف في طريق الوصول اليه وزير كان يحسده.
فكان ان ارتقى من الارض تلة فنادى باعلى صوته
يا سيدي سبط النبي *** أبو الشمقمق أبي
فعرفه السلطان ثم قربه
إلى هنا ينسدل الستار عن حياة الشاعر فلا نعرف عنه اكثر..
القصيدة الشمقمقية :
مَهْلًا عَلَى رِسْلِكَ حَادِي الْأَيْنُقِ ** وَلَا تُكَلِّفْهَا بِمَا لَمْ تُطِق
فطالما كلفتها وسُقْتَها ** سَوْقَ فتًى من حالها لم يُشفِق
ولم تزل ترمي بها يَدُ النوى ** بكل فَجّ وفَلَاةٍسَمْلَق
وما ائْتَلَتْ تَذْرَعُ كل فَدْفَدٍ ** أَذرعُها وكل قاع قَرِق
وكلَّ أبطحَ وأجزعَ وجَزْ ** عٍ وصرِيمَة وكل أبْرَق
مجاهلٌ تَحارُ فِيهِنَّ الْقَطَا ** لا دمنةٌ لا رسمُ دارٍ قد بقي
ليس بها غيرُ السَّوَافِي والحَوَا *صِبِ الحَرَاجِيجِ وَكُلِّ زِحْلِق
القصيدة الشمقمقية هي من أعظم آثار ابن الونان، وهي ديوان أدبه، ونموذج شاعريته،ومثال نظمه،ولكثير من الادباء إعجاب بها يجاوز حد ما تستحق،وهي على روي القاف، وعدد أبياتها 275 ، وتنقسم بحسب الاغراض الشعرية الى ثمانية أقسام:
-النسب بذكر رحيل الاحبة،ووصف الابل التي تحملوا عليها،والبيد التي تعسفوها،ولوم الحادي على جده في السير ليل نهار حتى اضر بالابل......
- التغزل بصفات محبوبته،وماهي عليه من فنون المحاسن وضروب المفاتن.
- الحماسة والفخر
- مخاطبة الحسود
- الحكم و الامثال و الوصايا.
- مدح الشعر.
- مدح السلطان.
- مدح الارجوزة،حيث تحدى الشعراء ان ياتوا بمثلها..
أما قيمتها الادبية:
يتفاوت فيها الطبع بين الحسن و القبح، ففيها ما يسمو بها الى درجة ابي نواس، وفيها ما يسفل بها الى درجة "الالفيات".
وغالب ذلك يوجد في القسم الاول الذي يصف فيه البيد و القفار،والنباتات والاشجار وغير ذلك،وفي القسم الثاني الذي يذكر فيه الحكم و الامثال و الوصايا.
أما الاول فلانه حشر فيه من الالفاظ الغريبة والكلمات الحوشية مما يتعلق بوصف تلك الامور المشار اليها، ما جعله كانه من متون اللغة.
وأما القسم الثاني فانه أراد أن يسلك في ضرب الامثال طريقة ابن دريد في "مقصورته" من الاشارة الى مواردها، والتزم ذلم التزاما كليا،حتى غاب فيها على القارئ انباء ذلك فصار احوج الى شيخ بجانبه يفسر له، ان لم نقل بحاجة الى ابن الونان نفسه ليشرح أرجوزته.
وعلى الجملة،فانها ارجوزة ظريفة جامعة لكثير من فنون الادب و أخبارالعرب،وهي على عالمية صاحبها أدل منها على شاعريته.
ولمكانتها عند الادباء،فقد عارضها ابن عمر الرباطي من ادباء القرن الثالث عشر،واعتنى بشرحها جماعة منهم :
1- العلامة ابو عبد الله الناصري في شرح حافل
2- العلامة ابو حامد البطاوري
3- العلامة عبد الله كنون الحسني دفين طنجة في اعذب شرح مختصر... وغيرهم .
الذي يبدو من القصيدة و الله اعلم انه كتبها بعد ان ظفر بمقام السلطان لينفس عن نفسه و ليبكت بعدوه الذي فشل في صده عن لقاء السلطان.
وان الشعر الذي كان قد كتبه في السلطان مادحا، كتبه يتقصد به لقاءه، وعلى هذا يكون قد كتبه من زمن بعيد عن زمن لقائه،
ولم يمنعه من ذلك قلة شعره، فهو يعلم ان السلطان محمد بن عبد الله كان اعلم اهل زمانه بالعربية، حتى كتب فيها مصنفا بدأه في شرح المغني، ولعله نفسه المصنف الذي انهاه السلطان مولاي حفيظ الموسوم ب "السبك العجيب"
وهو يعلم ايضا ان السلطان سينقد عليه قيمة شعره، فلم يقدم له هذه الارجوزة: لانه جمعت الغث و السمين.
والذي يبدوا ايضا انه كتبها في نفس واحد ولم يجلس لتنقيحها، وهذا طبعه، فقد كان من المكثيرين، سيال القلم،
غير ان افضل ما ولنا من آثاره نظم رصين لمسائل ابن خميس، وهو احسن الانظام.
وخلاصة القول انه خلال استقرائنا للارجوزة الشمقمقية يتبين لنا تشفي ابن الونان في الحسود و تلظيه منه، حتى لا يكاد ينساه في جل قصيدته، فكان استقصاؤه في ذكر المرادفات التي هي بمعنى واحد انما كان لاظهار مخزونه اللغوي، وسعة اطلاعه على تاريخ العرب وايامه.
وهل الاديب الا الذي اغترف من القاموس و اطلع على اخبار العرب و ايامهم؟
وهذا جهد المقل فيما ظنناه والله اعلم
نحتسب بها عند الله افادتكم بنهج الرواية،علها تكون لنا و لكم عونا في اكتساب المنهج الادبي الصرف الخالي من كل شائبة.
النص قطعة من بحر الرجز،يغلب عليه الكثير من الزحافات، استهل بمصدر قصد به الامر،وذلك لارادة مقام العلو وحقيقة الاستعلاء.
استعمل النص الكثير من المفردات الغريبة، وتكرار المفردات التي تؤدي المعنى الواحد ظاهرة جدا،
وردت في النص صور بلاغية كالاستعارة و ما يشبه الاستعارة
كل الابيات وردت فيها سلاسة في النطق الا البيت الخامس، ومنعه من ذلك ذكر كلام متنافر الوحدات،وكذالك شطر الكلمة لاخراجها من الضرب الى صدر عجز البيت.
أبلغ عبارة وردت في النص هي :"ولم تزل ترمي بها يد النوى"
أسهل بيت على النطق هو:" مجاهل تحار فيهن القطا......."
يبدو من المطلع ان الشاعر حينما بدا الكتابة كان قلبه ممتلئا بالغيظ، فما صدق ان حمل القلم حتى افرغ جام غضبه على الورق، لذلك اتى باكثر من ست هنات"اي سقطات" في مطلعه قصيدته وهي كما يلي:
قال: "مهلا على رسلك" وهو تكرار دون موجب التأكيد، لان قولنا مهلا ليس فيه استعلاء ليضطر الى تأكيده.. وانما هو محض استعاء للانتباء الى ما نريد توضيحه.
قال: "حادي الاينق": حادي اخفى حركتها من الظهور لغير علة الا علت النظم، وكان الاولى ان ينتقي ما يصلح من اللفظ لتجاوز ذلك. و"الاينق" عبر بوزن القلة على الكثرة، وذلك مخالف لتسوية البلاغة.
قال: "ولا تكلفها" جاء بالواو لغير عطف ولا استئناف، وارادت الوزن فقط تفيد ضعف الشاعر .
قال : "بما لم تطق" جاء ب"الباء" لارادة التعدية، وفعل "كلف يتعدى بنفسه بحيث لا يحتاج الى حرف يتعدى به، فكان مجيئ الباء حشو لا فائدة منه. "لم تطق" هو يريد النهي لا النفي، ومقتضى النهي ان يقول: "لا تطق" لانه نهي على ما هو مفعول في الحاضر.اما قول "لم" فيدل على القلب للماضي. وهذا ايضا حط من قد المطلع عند شاعرنا.
وغير هذا كثير.
البيت الثاني و الثالث أديا معنى واحد فلو استغنى بواحد منهما عن الاخر بحيث يقتبس من احدهما للاخر لكفاه ذلك.
ابتداء من البيت الرابع تكلف الشاعر سرد مفردات لغوية سرعا يشبه ان يكون تعريفيا بحيث يخيل اليك انه بصدد سرد قاموس منظوم، وذلك خرج به عن حد الشاعرية فصار مجرد نظم. ولكن في ذلك تعبير عن ان الشاعر كان عالما باللغة متضلعا فيها.
والله المستعان
. أرجو أن تكون الفائدة قد وصلت ... وبانتظار أقلامكم
مجد
.