عن السعادة
إن السعادة في معناها الوحيد الممكن هي حالة الصلح بين الإنسان
و نفسه و بين الإنسان الآخرين و بين الإنسان و بين الله
أما الصورة الدارجة للسعادة التي تتداولها الألسن
عن " شلة الأنس" التي تكرع الخمر في عوامة و حولها باقة
من النساء العاريات و أفواه تتنفس" الحشيش" في تلذذ
هذه الصورة هي حالة شقاء و ليست حالة سعادة فنحن مع نفوس
تركت قيادها للحيوان الذي يسكنها و كرست حياتها لإرضاء خنزير
كل همه أن يأكل و يضاجع
و مثلها حالة السعداء الآخرين الذين يتسلقون على بعضهم بعضا جريا
وراء المناصب و الآخرين الذين يكدسون المال و الطين و العقار
و يلتمسون السلطة و القوة بكل السبل
فالسعادة لا يمكن أن تكون في المال أو القوة أو السلطة
بل هي في ماذا نفعل بالمال و القوة و السلطة
وهى في النفس التي تستخدم المال و القوة و السلطة
السعادة ليست في البيت المفروش بالسجاجيد العجمي
و الكريستال و لكن في النفس التي تسكنه
و (( الخارج)) لا يستطيع أن يقدم لنا شيئا إذا كنا نحن
من (( الداخل)).. من نفوسنا غير معدين للانتفاع بهذه المنحة الخارجية
السخية.. و إذا لم نكن في صلح مع هذا الخارج و في تكييف معه
و في قصة لتولستوي يقول الإقطاعي للفلاح الطامع في أرضه سوف
أعطيك ما تشاء من أرضي تريد عشرة فدادين.. مائة فدان.. ألفا
لك أن تنطلق من الآن جريا في دائرة تعود بعدها إلى مكانك قبل أن
تغرب الشمس فتكون لك الدائرة التي رسمتها بكل ما اشتملت عليه من
أرض.. شريطة أن تعود إلى نقطة البدء قبل غروب الشمس
أما إذا غربت الشمس و لم تعد فقد ضاعت عليك الصفقة و يفكر الفلاح
الطماع في دائرة كبيرة تشمل كل أرض الإقطاعي.. و هو مطمع يحتاج
منه إلى همة و سرعة قصوى في الجري حتى يحيط بها كلها
في الساعات القليلة الباقية على الغروب
و يبدأ في الجري و كلما تقدم الوقت كلما وسع من دائرته اغترارا
بقوته و طمعا في المزيد و تكون النتيجة أن تتقطع أنفاسه
و يسقط ميتا قبل ثوان من بلوغ هدفه.. ثم لا يحصل من الأرض
إلا على متر في متر يدفن فيه
و هذه هي حاجة الإنسان الحقيقية من الأرضبضعة أشبار يرقد فيها
و هو ينسى هذه الحقيقة فيعيش عبدا لأهواء و أطماع و أوهام تضيع
عليه حياته
و يقول طالوت لجنوده في القرآن: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه
فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني
و ذلك إشارة للحقيقة
فنحن لم نوهب الشهوة لنشبعها أكلا و شربا و مضاجعة
و تكديسا للمطامع و الثروات.. و إنما وهبنا الشهوة لنقمعها
و نكبحها و نصعد عليها كما نصعد على درج السلم
فالجسد هو الضد الذي تؤكد الروح وجودها بقمعه و كبحه
و ردعه و التسلق عليه
و بقمع الجسد و ردعه و كبحه تسترد الروح هويتها كأميرة حاكمة
و تعبر عن وجودها و تثبت نفسها و تستخلص ذاتها من قبضة الطين و
تصبح جديرة بجنتها و ميراثها.. و ميراثها السماء كلها،
و مقعد الصدق إلى جوار الله.. و هذه هي السعادة الحقة
مقتطف بتصرف قليل جداً
من كتاب الروح والجسد
للدكتور مصطفى محمود
----------------------------
منقول من مجموعة الفجر البريدية