من تجنب التعالم فهو سالم
للشيخ بدر العتيبي .. أبو ريان الطائفي
قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33)
وقال تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ) (الإسراء:36)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) .
إن من شر الأسقام ، وأقبح صفات الأنام ، وخاصة طالب العلم : التعالم ! ، في مظهره ، ولسان حاله ومقاله ! ، ولا يُشك أن مبدأ ( التعالم ) وإدعاء العلم لمن لا يعلم ممقوت عند كل عاقل ، وهذا لا خلاف فيه ، كما لا يخفى .
ولكن الأمر الأدق : صور هذا التعالم ! ، فإنه صفة نفسية تحمل صاحبها على تجشم ما ليس كفوا له ، وتقمص شخصية من هم أجل منه ، والتكلم بلسانهم حالاً ومقالاً .
فإن زاد على ذلك تمجيد الذات ، ومدح القدرات ، ودعوى العلم والتحقيق كان أوضح بيانٍ لهذه الصفة الدنية .
وروي عن علي بن أبي المديني أنه قال : ( إذا رأيت الحدث يتعالم فاختم على قفاه : لا يفلح ) .
وما قاله عين الصواب والعقل والواقع ! ، وذلك لأن من ادعى بلوغ منزلة العلماء ، وتمام العلم ، فقد قال لنفسه - الخائبة - : استريحي فقد بلغتِ المنزلة ! ، لأنه يعتقد أنه قد حوى العلم كله ! ، وكمل !! ، وليس بعد الكمال إلاّ النقصان ، فيسري إلى ( علمه القليل ) النقص ، فماذا يبقى عنده بعد .
وقد شوهد الكثير من أمثال هذا الصنف ما إن يلازم حلقات العلم السنة والسنتين ، ثم يتصدر للتدريس ، إلاّ ويكف عن مجالس مشايخه ، وعن مجالس العلماء عموماً ، بل يستشرف للناس ويدعوهم إلى حضور مجلسه في وقت مجلس شيخه ؟! ، بل ربما عرّض برأي شيخه وانتقده علانية واستنقص علمه !! ، فما تبرح الأيام والليالي إلاّ وتحل عليه ( معرة العقوق ) و ( آفة المتكبرين ) حيث يقصمهم الله تعالى ، ويهون على الناس ، ويُنسى علمه ، ويصبح من الهمج الرعاع .
وإن من صور التعالم - وهي كثير - :
[ 1 ] دعوى أنه لم يسبق إلى إيضاح هذه المسألة أحدٌ قبله ! .
[ 2 ] ومنها : التكلم ب ( نا ) الفاعلين ، ب ( كنا ) و ( رأينا ) و ( ذهبنا ) و ( زارنا ) ، ويزداد القبح إذا كان التعبير في مسائل الاجتهاد - مقام العلماء - بقوله : مذهبنا ، واختيارنا ، وترجيحنا ، وعندنا !!! .
[ 3 ] ومن صوره : لوك اللسان على غير عبارته محاكاة لبعض أهل العلم في طرحه للفتوى ! ، فتجد من يقلد جماعة من أكابر العلماء في أصواتهم ، بل في بعض الحركات العادية والجبلية من هز الرأس ، وخفضه ورفعه ، وتحريك اليد ونحوها .
[ 4 ] ومن صوره : الحرص على الإخبار بسابق بحوثه وتقريراته في محضر شيخه ، بل ومنهم من يصدم قول الشيخ إذا منحه بالفائدة فيقول : هذا معروف ، أو قد قرأته قبل ذلك في الكتاب الفلاني !! ، وكان من الأدب أن يظهر للشيخ فرحه بالفائدة ، وجلالتها ، والدعاء له .
[ 5 ] ومن صور التعالم : تنصيب الشخص نفسه للكلام في معضلات الأمور ، ومحدثات النوازل ، وقد وقاه الله حرارة الفتيا ، والظهور للأمة بالتحليل والتحريم ، فتجد اليوم ( أنصاف المتعلمين ) يتجادلون في ( موطن نزهتهم ) أو بجانب ( ملعب كرتهم !!! ) عن مسألة
نسائيه : كفر المعين ، والعذر بالجهل ، ومولاة الكفار ، والحكم بغير ما أنزل الله ، وحل الإسقاط ، وإباحة التأمين ، وطلاق الثلاث ، وسباق الرهان ، بل ربما تباهلوا على ما يقولون !! .
وهم لم يعرفوا ما أوجب الله من أصول التوحيد ، وفروض الدين ، وآداب المسلم مع نفسه و والديه وإخوانه ومشايخه وسائر المسلمين ! .
[ 6 ] ومن صور التعالم : لف الفتيا ، والهروب من : لا أدري ؟! ، وهذه بلية قد ذكر صوراً منها ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " .
فعندما يأتيه العامي الجاهل ، ويسأل عن مسألةٍ يجهل هذا المفتي جوابها ! ، تتعاظم نفسه أن يقول بصوت المعتذر الخجول : والله لا أدري ، لعلي أراجع لك ونحو هذا .
وإنما يجيبه عن مسألة أخرى شبيهة أو قريبة لمسألته ، ويكل الفهم إلى هذا المستفتي - الجاهل - فيدبر ويظن بأنه أفتاه ؟! .
[ 7 ] ومن صور التعالم : سوء الأدب مع أكابر العلماء في الخطاب ! ، وتجريدهم عن صفة العلم والديانة والمشيخة ، و وصفهم بما يليق بهم ، فيجرد اسمه ويقول : فلان ، أو ابن فلان - من غير أن يشتهر به - ويزداد الطين بِلّة إذا قال : أخونا فلان ، وفلان من أصحابنا .
ومن ذلك - وهو خفي - إرداف ذكره مع ذكرهم !! ، فيقول : هو قول الأئمة الأربعة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن باز ، وهو قولي !!!!!! ، وكان الأدب أن يقول : وهو الصواب .
[ 8 ] ومن صور التعالم : ما ينطق به بعض طلاب العلم في بعض التصانيف الفقهية بقولهم : أفتى به الأصحاب ، ويعني المذهب الفقيه المنتَسب إليه ، وهذه العبارة في أي مذاهب من المذاهب المتبوعة لا يطلقها إلاّ من بلغ رتبة عليّة في الفقيه حتى ( يصحب ) بها أولئك القوم ، وإلاّ فليقل : أفتى بها مشايخنا وأئمتنا ، أو مشايخ المذهب وأئمته ، ونحوه .
[ 9 ] ومن صور التعالم : - وقد سبق الإشارة إلى مثلها - عقوق الشيخ ! ، فقد ينشأ طالب العلم على يد شيخ أو طالب علمٍ متوسط ، فيعلمه
صور العلوم ، وأصول الدين ، ثم تذهب الأيام والليالي ، فيشب الطالب ، ويقوى عوده ، فيتجلى له قصور ذلك الشيخ المعلم ، وربما جهله في بعض جوانب العلم ، فيتعاظم عليه ، ويتكبر ، وربما يستهجنه ، ويستثقل احترامه ، وهذا من صميم عقوق المشايخ ، ومقابلة الإحسان بالإساءة ، ويكفي ذلك الشيخ فخراً أن هذا المسكين المتعالم كان في يومٍ من الأيام : منكسراً بين يديه يعلمه ويربيه ، وكان الواجب عليه أن يتواضع له ، ويكرمه ، ويجله ، ويظهر فضله أمام الناس ، ويقول : اعلموا أن هذا الشيخ معلمي ، وإذا دخل المجلس قام له بالترحيب والتبجيل ، ويصدره في المجلس ، كما يصنع الابن مع والده .
[ 10 ] من صور التعالم : حضور الممتحن ، وجلوس المترصد ، واللامبالاة ! عندما يجلس عند من ذُكر بالفضل وهو لا يعرفه ، فإن هذا يحرم بركة هذا الشيخ بنيل الفائدة منه .
ولو جلس عنده جلوس المستجدي ، وحضور طالب الفائدة مع نظرة الإكبار والإجلال : لفُتح عليه من ذلك الباب العظيم ، وهذا مجرّب أكيد : فقد ذكر لي مسنٌّ في بعض أحياء الرياض ممن أدرك سماحة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله وقرأ عليه ، فزرته واستأذنته في قراءة مسموعاته على الشيخ محمد بن إبراهيم ، فأذن لي ، فلما بدأت في القراءة لم يظهر لي منه كبير فائدة ، فراجعت نفسي ، وقلت : شيخ مسنٌ سابق بالهجرة والإسلام ، لازم مجالس الأئمة ، لماذا لا أكثر من إجلاله واحترامه ، فاستحضرت ذلك في قلبي ، وألقيت بين يديه جسدي ولبّي ، ونظرت إليه نظرة التلميذ المستجدي من شيخه ، وأكثرت من قولي : ( سم أحسن الله عملكم ) ( نعم بارك الله فيكم ) ( كيف حالكم شيخنا ) ( كيف أصبحت الله يرعاكم ) ، وقدمت له من خدمة الطالب لشيخه ما قدمت ، فوالله لقد سجلت منه بعد ذلك من الدرر والفوائد ما لم أجدها عند غيره ، وهو حي يرزق - بارك الله في عمره - .
[ 11 ] ومن صور التعالم : التبرئة المبطَّنة !! ، فعندما يحضر ( الطالب الناشئ ) فيُثنى عليه بما ليس فيه ، فيتكلم في تبرئة نفسه بأسلوب ( أهل الورع ) وكأن لسان حاله أقول هذا حتى يقول الناس : ما أجلّه يتواضع !! ، بينما ربما تكون حقيقة حاله خلاف ذلك تماماً !! ، إذ التواضع يكون عن أصل موجود من الخلق الحسن ، فيكره إظهاره ، وهذا لا وجود لهذا الخلق فيه أصلاً .
فوجب عليه أن لا يكتفي بمثل هذه التبرئة المبطنة !! ، وإنما يغلظ النكير على صاحب الإطراء ، ويقول للناس : والله لستُ كذلك ، وأنا أعرف بنفسي من غيري ، ولو ذكر بعض ما ينقصه من العلم لكان أتم ، كما حصل في قصة حصين بن عبدالرحمن مع سعيد بن جبير عندما قال له : إنني لدغت البارحة ، ثم قال : أما إني لم أكن في صلاة .
[ 12 ] ومن صور التعالم : التساهل في تقديم الرؤوس للتقبيل ، بغض النظر عن أصل مشروعيته ، بل ربما من البعض من يطأطئ رأسه لذلك .
[ 13 ] ومن صور التعالم : محبة الإلتفاف من حوله في المساجد ، وخاصة في ساحات الحرم !!! ، وكان من السلف من كان إذا جلس إليه أكثر من اثنين قام وتركهم .
[ 14 ] ومن صور التعالم : السير بين مجموعة من ( طلابه !! ) يكتنفونه يميناً وشمالاً ومن خلفه !! ، وقد كره جماعة من السلف أن توطأ أعقابهم ، وقالوا بأنها : ذلة للتابع فتنة للمتبوع .
[ 15 ] ومن صوره التعالم : قول طالب العلم المتصدر للتدريس : فلان من طلابي !!! ، ويزيد الأمر قبحاً إذا قال : من طلابنا ، أو من تلاميذنا !! ، والأولى أن يقول : من إخواني ، أو من جملة أصحابي ، أو من المواظبين على حضور دروسي ونحو هذا ؟! .
إخواني
هذه خواطر وردت على البال ، فرقمتها لكم ها هنا ، فأسأل الله تعالى أن يكتب بها النفع للجميع ، وأن يلهمنا رشدنا ، وأن يقينا شرور أنفسنا ، وأن يعيذنا من الكبر ، ومساوئ الأخلاق .
منقول