سقوط غرناطة
كان بقاء مملكة غرناطة الإسلامية في الأندلس قرنين من الزمان معجزةمن معجزات الإسلام .
فهذه الجزيرة الإسلامية العائمة فوق بحر الصليبية المتلاطم الأمواجوالطافح بالحقد والمكر التاريخيين .. هذه الجزيرة ما كان لها أن تصمد صمودهاالمشهور إلا لأن طبيعة الصمود كامنة في العقيدة والمبادئ الإسلامية . وبدونالعقيدة الإسلامية .. ما كان لهذه الجزيرة أن تصمد وحدها في الأندلس بعد أنسقطت كل المدن والقلاع الإسلامية منذ قرنين من الزمان .
كان قانون " الاستجابة للتحدي " هو الذي أبقى غرناطة حية زاخرةبالفكر الإسلامي والرقي الحضاري هذين القرنين .. وكان شعور الغرناطيين بأنهمأمام عدو محيط بهم من كل جانب ، ينتظر الفرصة لالتهامهم ، وبأنه لا أمل لهم فياستيراد النصر من العالم الإسلامي ، وبأنه لا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم ..كان هذا الشعور باعثهم الأكبر على الاستعداد الدائم .؟ ورفع راية الجهادوالتمسك بإسلامهم .
وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة 1492م ( 897 ه) سيدةالأندلس الإسلامي ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الإسلامية الباقية في أوربا .
لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية.. فعلى المستوى النصراني بدأ " اتحاد " كبير يضم أكبر مملكتين مسيحيتينمناوئتين للإسلام .. وهما مملكتا أرجوان وقشتالة ، وقد اندمج الاثنان في اتحادتوجاه بزواج " إيزابيلا " ملكة قشتالة من " فرناند " ملك أرجوان ..وكان الحلم الذي يراود الزوجين الملكين الكاثوليكيين ليلة زفافهما هو دخول غرناطة.. وقضاء شهر عسلهما في الحمراء ، ورفع الصليب فوق برج الحراسة في غرناطة - أكبر أبراجها - وعلى المستوى الإسلامي .. كان " خلاف " كبير قد دب داخلمملكة غرناطة ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة ، وتم تقسيم مملكة غرناطة المحدودةقسمين ، يهدد كل قسم منهما الآخر ويقف له بالمرصاد .. قسم في العاصمة الكبيرة( غرناطة ) يحكمه أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري ( آخر ملوك غرناطة) وقسم في ( وادي آش ) وأعمالها يحكمه عمه أبو عبد الله محمد المعروف بالزغل.
وقد بدأ الملكان الكوثوليكيان هجومهما على ( وادي آش ) سنة 894ه ، ونجحا في الاستيلاء على وادي آش وألمرية وبسطة .. وغيرها ، بحيث أصبحا علىمشارف مدينة غرناطة .
وقد أرسلا إلى السلطان أبي عبد الله النصري يطلبان منه تسليم مدينةالحمراء الزاهرة ، وأن يبقى هو حيا في غرناطة تحت حمايتها .. وكما هي العادة فيالملوك الذين يركبهم التاريخ وهو يدور إحدى دوراته ، كان هذا الملك ضعيفا .. لميحسب حسابا لذلك اليوم .. ولقد عرف أن هذا الطلب إنما يعني الاستسلام بالنسبةلآخر ممالك الإسلام في الأندلس فرفض الطلب ودارت الحرب بين المسلمين والنصارىواستمرت عامين .. يقودها ويشعل الحمية في نفوس المقاتلين فيها فارس إسلامي منهؤلاء الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب " موسى بن أبي الغسان " .
وبفضل هذا الفارس وأمثاله وقفت غرناطة في وجه الملكين الكاثوليكيينعامين وتحملت حصارهما سبعة أشهر ..
لكن مع ذلك .. لم يكن ثمة شك في نهاية الصراع .. فأبو عبدالله الذي لم يحفظ ملكه حفظ الرجال . والانقسام العائلي والخلاف الداخلي فيالمملكة في مقابل اتحاد تام في الجبهة المسيحية .. مضافا إلى ذلك حصاد تاريخطويل من الضياع والقومية الجاهلية والصراع بعيدا عن الإسلام .. عاشته غرناطةوورثته مما ورثته عن الممالك الإسلامية الإسبانية الساقطة .
كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر شمعة إسلامية في الأندلس .
وعندما كان أبو عبد الله ( آخر ملوك غرناطة هذا ) يركب سفينتهمقلعا عن غرناطة الإسلامية ، مودعا آخر أرض تنفست في مناخ إسلامي في أوروبا بعدثمانية قرون عاشتها في ظلال الإسلام ...
في هذا الموقف الدرامي العنيف .. بكى أبو عبد الله ملكه "وملك الإسلام المضاع، وتلقى من أمه الكلمات التي حفظها التاريخ ( ابك مثل النساءملكا لم تحفظه حفظ الرجال ) .
والحق أن أمه بكلمتها تلك ، إنما كانت تلطمه وتلطم حكاما في الإسلامكثيرين .. بكوا مثل النساء ملكا لم يحفظوه حفظ الرجال !!! .
سقوط خلافات ودول شرقية الخلفاء الأمويون :
1 - كان معاوية أول الخلفاء الأمويين ومؤسس دولتهم ، وكان مولده بالخيف من منى قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وأمه هند بنت عتبة، وأبوه أبو سفيان ، وقدأسلموا جميعا في فتح مكة .
وأصبح معاوية من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشترك في حروب الردة مع أخيه وأبيه ، ثم ولاه عمر جزءا من بلاد الشام ، فلما جاء عثمان رضي الله عنه جمع الشام كلها تحت حكمه .
2 - وبموت معاوية سنة 60ه بايع المسلمون ابنه يزيد ، ما عدا الحسينبن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر ، وقد وقف الأولان منه موقف العداء ،وقتل في عهده الحسين ، في كربلاء ، وحكم ثلاث سنوات ثم مات سنة 64ه ، وعمره ثمانية وثلاثون عاما .
3 - ثم تولى معاوية بن يزيد ، بوصاية أبيه ، لكنه كان ورعا زاهدافتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة أشهر .
4 - وقد وقعت حروب انتهت في ( مرج راهط ) بين الأمويين وعبدالله بن الزبير ، وأصبح مروان بن الحكم خليفة على الشام وحدها ، وبقي ابن الزبيرخليفة على سائر الأمصار ، حتى ظهر عبد الملك بن مروان ، فتمكن من توحيد العالم الإسلامي الشرقي تحت إمرته ، ولذا اعتبر المؤسس الثاني للدولة الأموية .
5 - وكانت لعبد الملك أياد عظيمة ، فقد عرب الدواوين وضرب العملة ،وبقي في الحكم اثنين وعشرين عاما ، وتوفي سنة 86ه ، فتولى بعده ابنه الوليد بن عبدالملك ، الذي حكم عشرة أعوام ، وتمت في عهده إصلاحات داخلية عظيمة وفتوحات إسلامية كبرى على يد قادة عظام مثل محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند، وموسى بن نصير فاتح الأندلس .
6 - ثم جاء بعده أخوه سليمان بن عبد الملك فحكم ثلاثة أعوام لمتتقدم فيها الدولة شيئا ، لا من الداخل ولا من الخارج ، ومات سنة 99ه ، فوسد الأمرلأعظم شخصية في تاريخ بني أمية ، على الرغم من أنه لم يحكم إلا عامين ، وهو عمر بنعبد العزيز ، الذي اعتبره البعض (خامس الخلفاء الراشدين ) لكثرة ما عمل من إصلاحات خلال الفترة الوجيزة التي حكم فيها .لقد راقب عمر الولاة بحذر ، وأخذ على أيديهم وطرد القساة منهم ،وانتشر الإسلام في عهده انتشارا كبيرا لأنه وضع الجزية عمن يعتنق الإسلام ، وكان ولاة السوء لا يفعلون ذلك ، ويروي ابن عبد الحكم ، ملخصا عهد عمر بن عبد العزيز ،في قوله الوجيز " إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا فذلك ثلاثون شهرا ، فمامات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده ، فقد أغنى عمر بن عبدالعزيز الناس " .
7 - ثم ولي الأمر بعده يزيد بن عبد الملك ، بعهد من أخيه سليمان بعدابن عمه عمر بن عبد العزيز ، وهو ابن تسع وعشرين سنة . فدامت خلافته أربع سنوات وشهرا ، ثم مات بعدها دون أن يترك أثرا ذا بال اللهم إلا إخماده لفتنة يزيد بن المهلب .
8 - وولي بعده هشام بن عبد الملك ، فمكث في الخلافة عشرين عاما حاول فيها تقليد عمر بن عبد العزيز ، ولم ينجح في ذلك نجاحا كبيرا ، وإن كانت الدولة قد اتسعت في عهده ، ففتحت قيسارية وبلاد الخزر ، وأرمينية ، وشمال آسيا الصغرى ، وجزءاكبيرا من بلاد الروم .
لكن الأحوال الداخلية لم تكن مستقرة على عهده وتوفي في عام 125ه ،وترك الحكم للوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يعتبر عهده - الذي لم يدم أكثر من عام إلا قليلا - من أسوأ عهود الدولة الأموية ، ظلما وانتقاما من أبناء سلفه هشام فضلاعن عنصريته وخلاعته .
9 - ولم يكن للخليفتين اللذين وليا بعده يزيد بن الوليد بن عبدالملك ، وإبراهيم ابن الوليد أثر يذكر ، ولم يدم حكم كل منهما إلا ثلاثة أشهر ، ولم تستقم لهما الأمور ، وكانت أيامهما ، وأيام سابقهما الوليد بن يزيد ، فرصة ذهبية نجح فيها العباسيون في تعبئة النفوس وتنظيم الصفوف ، للانقضاض على الدولة .
10 - فلما آلت الخلافة لمروان بن محمد - آخر خلفاء بني أمية في المشرق لم يستطع أن يقر قواعد الدولة ، على الرغم من أنه " كان أشجع بني أمية وأقدرهم على تحمل الأخطار " .. فسقطت الدولة في عهده ، بعد فتنة واضطراباتدامت خمس سنوات ، وكان سقوطها في سنة 132ه .
وكانت دولة بني أمية دولة عربية تتعصب للعرب وللتقاليد العربية ،وللغة العربية ، ولم يستطع معظم خلفائها أن يرتفعوا على مستوى المساواة والعدل فيالإسلام .
فتوحات الدولة الأموية:
اتسعت فتوحات الدولة الأموية اتساعا عظيما ، منذ عهد معاوية الذي لمتكد تستقر له الأوضاع حتى جهز الجيوش وأنشأ الأساطيل ، وأرسل قواده إلى أطرافالدولة لتثبيت دعائمها ، بعد أن حاول الفرس والروم استغلال فترة الفتنة بين عليومعاوية رضي الله عنهما .
*وقد أخضعت هذه الجيوش ثورة فارسية هدفت إلى الامتناع عن دفع الجزية. ثم توغلت جيوشه شرقا ، فعبرت نهر جيحون ، وفتحت بخارى وسمرقند وترمذ .
*ومن الجهة الرومانية ، كان الرومان قد أكثروا من الغارات على حدودالدولة الإسلامية في الناحية الشمالية الغربية ، فأعد معاوية لهم الجيوش ، وانتصرعليهم في مواقع كثيرة .
وبأسطوله الذي بلغت عدته (1700) سفينة ، استولى على قبرص ورودسوغيرهما من جزر الروم - كما قام بالمحاولة الأولى لفتح القسطنطينية عاصمة الدولةالرومانية الشرقية سنة 48ه ، فأرسل جيشا بإمرة ابنه يزيد ، وجعل تحت إمرته عددا منخيرة الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأبي أيوبالأنصاري ، لكن المحاولة لم تنجح !!
ومن الشمال الإفريقي ( تونس والجزائر والمغرب الأقصى ) امتدالفتح الإسلامي، فأرسل (معاوية ) عقبة بن ابن نافع سنة (50ه) في عشرة آلافمقاتل ، لتثبيت فتحها، وقد عمل عقبة على نشر الإسلام بين البربر ثم بنى مدينة القيروان ، وفي عهد ابنه الخليفة (يزيد) وصل عقبة في اكتساحه للشمال الإفريقيحتى المحيط الأطلسي غربا ، وقال هناك كلمته المأثورة " والله لولا هذا البحرلمضيت في سبيل الله مجاهدا " .
وفي الشرق اتجهت جيوش عبد الملك بن مروان - الخليفة الأموي الخامس - إلى التوسع في بلاد ما وراء النهر ، وكانت القيادة في هذا الركن للمهلب بن أبي صفرة وليزيد بن عبد الملك . وكان من أبرز الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك فتح بلغ، والصفد ، ومرو ، وبخارى ، وسمرقند ، وذلك كله على يدي قتيبة بن مسلم .
أما محمد بن القاسم الثقفي فقد فتح السند ( باكستان ) . وفتح مسلمة بن عبد الملك فتوحات كثيرة في آسيا الصغرى ، منها فتحه لحصن طوالة وحصن عمورية ، وهرقلة ، وسبيطة ، وقمونية ، وطرسوس .. كما حاصر القسطنطينية أيامسليمان بن عبد الملك .
وفي أوربا فتح موسى بن نصير الأندلس ، وبقيت في حوزة المسلمينثمانية قرون ( 92-898 .. ه ) وكان جزاؤه من بني أمية جزاء سنمار !!
وقد حاول عنبسة بن سحيم الكلبي غزو جنوب فرنسا وفتح سبتماية ،وبرغونية ، وليون - ونجح المسلمون في ذلك نجاحا مؤقتا ، حتى انتهت هذه المحاولاتبعيد موقعة بلاط الشهداء التي قادها عبد الرحمن الغافقي - بقليل . ولم يكن لهذه الفتوحات صدى حقيقي ، لأنها كانت أشبه بحملات جهادية فردية .
ولماذا سقط هؤلاء العظماء ؟
كان معاوية رضي الله عنه - بلا ريب - أحد دهاة العرب القلائل ، وكان رجل دولة وخبير سياسة بمعنى الكلمة .. بيد أنه كانت هناك حقيقة حضارية ينبغي عليه إدراكها وهي : أن الحضارة حين ينفصل جسدها عن دماغها لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء .. حين يحدث انشقاق بين روح الأمة وجهاز عملها المادي تحدث الآلية القاتلة وتسير القافلة بلا روح .. تماما كما يسير الذي قطع رأسه من جسده..إنه لا بد من أن يسقط بعد خطوات !!
ومنذ قامت الدولة الأموية ، واعتمد فيها نظام وراثة الخلافة كرها عنالأمة ..
اسباب سقوط الدولة الأموية
لقد تشكلت طبقة تعطي نفسها امتيازا غريب الشكل .. فهي لمجرد أنها من البيت الأموي ، حتى ولو افتقدت كل صلاحيات الوجود والحكم بعد ذلك ،لا بد أن تقف في الصف الأول .. وأن تقود وتحكم .. !! والأدهى من ذلك أن هذه الدولة اعتمدت العنصرية العربية المستعلية حقا تتكئ عليه في سيادتها ..وظلمها !!
وهذه الظاهرة .. تلد أمراضا حضارية خبيثة كلها شؤم وبلاء ..فإن هذه الطبقة سرعان ما يحاول كل واحد منها الحصول على حق .. لكي يصل إلى الحكم ، وبالتالي يلجأ إلى الدس والخديعة والقتل والاغتيال ويسود الطبقة الحاكمة جو من الصراع الداخلي يمنعها عن أن تؤدي للأمة أي شيء ، ويكونكل هم الحاكمين أن يحافظوا على الموقع الذي يقفون فيه .. هكذا كان الأمر بينا لأمويين ولا سيما في الأيام الأخيرة من عمرهم .. أيام الوليد بن يزيد، ومروانبن محمد .
ومن الأمراض الخطيرة التي تلدها ظاهرة الانفصام المشئومة استعانة هؤلاء الحاكمين بطبقة تتولى هي في الحقيقة الأمر ، وتستبد بالأمة ، وحين تستغيث الأمة لا تجد من يغيثها ، إذ يكون الحكام في واد آخر بعيد عنها ، بل إن هؤلاءالحكام يعتقدون أنهم بوجودهم في مراكز السلطة مدينون لهؤلاء العمال أو الولاة الغاشمين الظالمين .
وقد زخرت صفحات التاريخ بعديد من هؤلاء الجبابرة الذين أساءوا إلى المسلمين والإسلام إساءات بالغة كالحجاج بن يوسف الثقفي في المشرق ، والوالي عبدالله ابن الحبحاب في المغرب .
ولقد أساءت هذه الطبقة المصطنعة العازلة إلى تاريخ الأمويين نفسه أيما إساءة ، وزينت للخلفاء الأمويين كل جور ، وعملت في المسلمين عمل كسرى وقيصر فيشعبيهما .. وكانت - يعلم الله - بلاء على المسلمين أي بلاء !! وقد كانت سببا في نجاح الخوارج ، وفي إشعال ثورات بربرية ، في ساحة الأندلس والمغرب .
وبتأثير الطغيان الذي ساس به الولاة جماهير المسلمين ، انصرف الناسإلى أمورهم ، تاركين أمور الدولة في يد الفئة الحاكمة بل انصرفوا إلى الاندماج فيكل حركات الخروج على الدولة .. وقد تمخض كل ذلك عن ميلاد تنظيم من أدق التنظيمات في تاريخ الانقلابات السياسية ، وهو التنظيم العباسي الذي رفع الرايةالعلوية ( الرضا من آل البيت ) أيام سريته .. إلى أن وصل إلى الحكم .
ولم يكن هذا التنظيم لينجح ويجد المناخ والعناصر الصالحة إلا نتيجة سياسة الولاة الغريبة عن روح الإسلام .
وقد اختلف المؤرخون في سقوط هذه الدولة العظيمة .. دولة الفتوحات .. وقد رأى بعضهم ، وهم محقون ، أنه النزاع بين المضرية واليمانية ،الذي ابتدأ منذ أيام مؤسس الدولة الأموية معاوية ، قد أدى إلى ضياع بني أمية .
ويرى بعضهم أن مصرع الحسين بن علي في كربلاء كان الداء القاتل الذي تفاقم حتى قضى عليها .
ورأى آخرون أن العامل الهام الذي أدى إلى سقوط بني أمية هو تعصب الأمويين للعرب، مما أدى إلى خروج الموالي على الدولة الأموية وهم غير العرب الذين دخلوا في الإسلام عقب الفتح العربي في فارس ومصر والمغرب .
وما لبث هؤلاء أن أصبحوا أعداء للعرب من بني أمية ولا شك أن سلوك الوليد ابن يزيد الذي أدى إلى مصرعه كان من أبرز الأسباب المباشرة في فسادالأحوال.
كما أن الاستبداد الفردي عامل من عوامل سقوط الدولة قال به كثيرون.
وقد تكون كل هذه الأسباب صحيحة ، بل قد تكون متداخلة ، لكننا نميلإلى سبب جوهري نراه أكبر الأسباب وأبرزها ، وهو العنصرية الأموية التي جعلتهم يرفعون العرب على حساب غيرهم، ويثيرون الأحقاد في بقية الطوائف المسلمة!!
وتبقى عبرة التاريخ الأخيرة في سقوط الدولة الأموية . فإن نصر بنسيار ( والي خراسان ) كان على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين ..وكان نصر هذا .. كما كان مروان .. كان كلاهما من خيرة من أنجبت الدولة الأموية.. هذا في الولاة ، وذلك في الخلفاء .
لكنهما ظهرا بعد أن اتسعت خروق الدولة على أي راقع ، وكان رصيد الدولة من الفساد والتحلل والظلم والضعف ، قد أصبح أكبر وأضخم من طاقة أي إنسان .
لقد كانت حركة التاريخ التي هي من سنة الله قد قالت في الدولة الأموية كلمتها .. وقد حاول " نصر " أن يستعمل ذكاءه في إنقاذ الدولة ، إذ كان يستشف ببصيرته الوقادة أن ثمة أمورا تبينت للدولة ، وأن دولة الأمويين على وشكالرحيل ، وكم كاتب الخليفة الأموي الأخير " مروان " في ذلك .. ولكن دونجدوى .. لقد اتسع الخرق ووجب أن ينهار البناء !!
وكان مروان .. مشغولا بسداد " شيكات " سابقيه من الديون.. في بنك الضياع .. فلم يمكنه أن يستجيب لا " لنصر " ولا لضميره الذيكان يحس بقرب الكارثة .. هكذا تفعل الدول بنفسها .. نتيجة ظلمها . وتراكمهذا الظلم .
وعندما سقطت الدولة الأموية سنة 132ه ، ولقي مروان المسكين مصرعهفي حلوان بمصر .. كان كتاب التاريخ يطوي إحدى صفحاته .. يطويها بعنف لأن أبطالها أرادوا لأنفسهم هذا ... حين راحوا ينفصلون عن ضمير الأمة ووجدانها ،ويعزلون أنفسهم عن شعوبهم - بطبقة من العمال الظالمين الغاشمين وبعنصرية عربيةقومية ظالمة .. لقد فتحوا كثيرا من الأراضي ، لكنهم فشلوا في أن يفتحوا القلوب... والعقول !!
سقوط الدولة الطولونية في مصر
الانتصار في معركة .. والحصول على مكسب وقتي ... والوصول إلى السلطة.. هذه كلها ليست هي قضية التاريخ .. ولا معركة التقدم البشري.. بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضحوضخم.. إن الانتصار في معركة .. قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ،فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر .. يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ،واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية .. هكذاسار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته .. كان النصر بداية الهزيمة ، وكانتالهزيمة بداية للنصر !
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم .. دون أن يكون معدا إعدادا حقيقي للقيادة، ودون أن يكون في مستوى أمته .. يكون وصوله على هذا النحو هو المسمارالأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم .. !
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحولترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !
وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصرانفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254ه ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهارمطامعهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذاالرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنماراح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .
ومنذ استقر في مصر سنة 254ه وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراجالذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم .. فنشأته على النحوالسابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أنتستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغورالشامية .. ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى .. من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض.. وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة .. إلا أنه لم يعد أن يكونمرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أوبالتعبير الدارج .. بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض .
وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصريةأو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذينجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم .. وفي هذهالحال .. لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية .. فتقدمت جيوشهالاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 ه دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة .. ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية .. وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين .. ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم.. لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف .. ودائما ... دائما أثبتت كلتقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب.. وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " !!
الصفاريون وقصة سقوطهم
تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر .
وهو معلم عظيم .. اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة .. ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب .. بللأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ،ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ ..
إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا .. أبدا .. فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين .
والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون ..أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية .. والعقدة ..والنهاية.
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصفالثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها .. كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي " حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة " بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمردعلني .. بل وخروج على الأيديولوجية العباسية .
من الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري لخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254ه وهي السنة نفسها التي برزت فيهاالدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم " الدولة الصفارية "!!
وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاءالخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم " أبا مسلم الخراساني " هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء " سنمار " حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاءالعباسيين أبا مسلم هذا .
وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاءوالمجاملة ، وتركت " لطاهر بن الحسين " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصةالتحكم في خرسان .. له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة .. حربا وسلما .
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة . تمكن " يعقوب بن الليث الصفري " من الاتصال بها ..والسيطرة عليها .. وتحويلها إلى جماعة خادمة له .. نجح بها في تأسيس "الدولة الصفارية".
وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ،فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه معالدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها .. اصطداما فاشلا كاد
يلقى حتفه فيه .. بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التيولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256ه في سابور .
وخلفه أخوه عمرو بن الليث .. وأقرت الخلافة ولايته على خراسانولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان .. فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك معا في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصرالساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد..وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات فيسجنه سنة 287ه .
واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها .
ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمناالتاريخ الإسلامي العظيم أن " الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطورلا مصير له إلا الموت السريع " !!
الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون!!
في قوانين الحضارة : أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا.. وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا .. وأن الخير أو الشريتحولان إلى مادة خام ... لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أوانبثاقة شر .
وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن " الخمرالعتيقة " لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة .. تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلالوالأسماك .. ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى.. أو فيمنح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد ..فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي .. تتحول إلى خميرة حضارة لروما . والحضارةالأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية .
وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركاتالانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرةالخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى . زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين .. الجامعة . متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت .. لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية .
وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية .. فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها " محمد بنطغج " والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ( 323 - 358ه ) ( 935 - 969م ).
وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولةالطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها .. فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضممكة والمدينة إلى دولته .
وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلااسمه .. وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور" " أبا المسك " - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيتبثمانية دنانير .
وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر .. ( وكانت له مع شاعرالعصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة) كما أن هذا العبد الخصي نافس دولةالحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية .
وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعةفي طريقها إلى الموت المحقق .. فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ( أبي الفوارس أحمد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358ه .
ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلاذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم .. يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجديربالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة !! وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " تأشيرة خروج " ولقي حتفه جزاء له .. بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته :
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية " كافور " .
ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود .. لا يكون ثمة مبرر للبقاء .. ولا تفعلا لقوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة " بمبرر الوجود ... ومؤهل البقاء " !
سقوط السامانيين فيفارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئنكان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ،وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم .. لئن كان هذا قد تم لهم .. فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم ..وأصبح الشذوذ هو القاعدة .. وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية.. ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كانيمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .
فحيثما حل العنف واللامشروعية .. وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة .. فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية ..وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أومصطنع .
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين ، فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261ه بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ "قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر. ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهرمن 874 ه إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريينوالصفاريين .. وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هوإسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة.
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع منملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمانوجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا .. وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها .. وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة ... ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخليبين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .
بالإضافة إلى هذا وذاك .. ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم .. ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة.. تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية .. وارتفع نجمها في الدولة ،وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي .. وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق "الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعدتسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية !!.
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثهاالخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308ه بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان !!
البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون !!
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا ..كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل ..وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656ه .
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجردالاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية .. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ... لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة .. لقد كان احتواء لها أو بتعبيرآخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها .. ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء .. يفعل باسمهم كل شيءويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ..وليس هذا وحسب .. بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء .. وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد..
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرونآخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .
فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة (المستكفي ) ولقبه معز الدولة .. وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ،بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنهطارئ لا بد أن يزول .
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة .. وقيادة المسلمين .. وقدفهم الخلفاء أنفسهم هذا ... فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي .. فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمدبن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي .. ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له!!
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال.
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة .. أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيضالانقسام والتناطح الداخلي.. وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيءالكثير .
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ... هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .
لكن تاريخنا .. الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ...
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل .. وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد .. أعاد للخلافة شبابها ،ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 ه في أن يقضي على دولة البويهيين .