عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-04-2006, 08:32 PM
 
رد: مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني

ماهية القصة في الخطاب القرآني
الأستاذ عبد الرزاق المُساوي

لا شك ولا ريب في أن القصة سلوك بشري ونشاط إنساني ككثير من الأنشطة التي رافقت الإنسان بوعي منه وبغير وعي بقصد وبغير قصد، وقد جاء هذا النشاط الإنساني كي يلبي حاجات ورغبات ومتطلبات نفسية وفكرية وروحية واجتماعية وثقافية ودينية وأخلاقية وتعليمية وجمالية وفنية واقتصادية أيضا لدى المبدعين والمتلقين على السواء.. فحتى وإن اختلفت الأزمنة وتغيرت الأمكنة وتطورت الأنشطة الإنسانية بقيت القصة على اختلاف أنواعها وتعدد تجلياتها وتباين مكوناتها وتضارب أشكالها، وما زالت رفيقة الحركة الإنسانية في جميع مراحلها التاريخية تعبر عن الآمال والطموحات، وتصور الآلام والأشجان، وتكشف عن الرؤى المختلفة للحيوات كما استطاعت أن تعبر الأزمنة والقارات وأن تملك العقول والقلوب..
لقد استطاعت القصة أن تساهم في تحليل النفس الإنسانية بما لها من أبعاد متنوعة ومتشعبة ومعقدة أحيانا كثيرة.. تحليلا عميقا ودقيقا، وأن تبين نزعاتها الثابتة والمتغيرة والطارئة من خلال تصوير العواطف والأحاسيس في إطار تأثرها وتفاعلها مع مجموع الظروف الخارجية التي تحيط بها من بعيد أو من قريب.. وأن تبرز تلك الخيوط المتقابلة فيها كالخوف والرجاء والحب والكره والحسية والمعنوية والواقع والخيال وما تدركه الحواس وما لا تدركه والالتزام والتحرر والسلبية والإيجابية والفردية والجماعية(1).. وأن تصور واقعها الداخلي من خلال تصوير ضلالها وهداها وأفراحها وأحزانها وقوتها وضعفها وتفاؤلها وتشاؤمها.. وأن تصور أيضا الحقيقة التي تقوم عليها الحياة من خير وشر وظلام ونور وسعادة وشقاء.. وأن توضح الدوافع والمثيرات والمؤثرات والضوابط والمقومات..
ولكي نلج موضوع السرد القصصي في الخطاب القرآني الكريم، وندخل من بابه الواسع، ولكي نتعرف على المقصود بالقصة فيه، ولكي نقف على دلالاتها ومفاهيمها وما توحي به من معان، وما ترمز إليه من قضايا، سنحاول التعامل معها في الخطاب القرآني الكريم من خلال طرحها بمفهوميها اللغوي والاصطلاحي انطلاقا من الآيات القرآنية التي وردت فيها بعض أشكال وصيغ اللفظة التي وردت في مجموع الخطاب القرآني ستا وعشرين مرة.. ثم نقف على طبيعتها لنسجل كيفيتها وحقيقتها من خلال الوقوف على بعض خصوصياتها، ونعرج على المهام التي أنيطت بها، و الوظائف التي تقوم بها، والأهداف التي صيغت من أجلها، ثم نشخص من خلال نصوصها الكريمة مقوماتها وركائزها ومكوناتها وخصائصها وبنياتها..
مفهومها
أ* الأدبي:
لا يستطيع المرء أن يعطي لكثير من المصطلحات تحديدا جامعا مانعا أو تعريفا شافيا كافيا أو دلالات غير مشكوك في قصورها خصوصا إذا تداولتها العلوم الإنسانية، ولاكتها الألسن الإبداعية، ودخلت في العديد من دروب الفكر البشري والثقافات العالمية، واختلف فيها أكثر الباحثين، وروجها أغلب الدارسين كل حسب رؤيته أو نظرته للأمور أو حسب تخصصه ومجال اشتغاله وحسب منطلقاته الفكرية وقناعاته العقلية..
ولكن هذا لا يمنع الدارس من محاولة الاقتراب – بأي شكل من الأشكال – من وصفها وصفا يتوخى فيه الدقة والجمع بين ما اتحد وما تفرق كي يجعل لها مفهوما أو مفاهيم يشترك فيها مع عدد لا بأس به من المتلقين على الأقل في كثير من مكوناتها.. لذا ارتأينا قبل الدخول في تفاصيل الموضوع "ماهية القصة في القرآن" بشموليته، أنه لابد من الوقوف عند مفهومها- لغة واصطلاحا- أولا وقبل كل شيء، لنقنع به أنفسنا ونعرضه على المتلقي انطلاقا من تفكيكه وإعادة تركيبه ثم نتحرك من خلاله لنرصد هذه الظاهرة القرآنية..
إذن نبدأ بما كثر فيه الكلام وتداولته الأقلام واختلف فيه القيل والقال.. وهو العنوان الكبير لكثير من المؤلفات والفصل الثري لعدد لا يحصى من المجلدات: "ما هي القصة؟" "وما مفهومها؟"..
ولن نعتمد – كما اعتاد بعضهم - مبدأ المقارنة أو التمييز بين مفهوم القصة في الأدب العربي أو الأدب الغربي ونقديهما قديما أو حديثا - ولا حتى على الشكل المعاصر منهما – ومفهومها في القرآن الكريم، وإن كان هذا عملا جميلا بل وجليلا ولا بأس من القيام به إن لم نقل بله هو الواجب.. لأن ذلك في رأينا قد يخدم قضيتنا خدمة كبيرة بعرضها والتعريف بها في الأوساط المثقفة، خصوصا وأن السرد القصصي في الخطاب القرآني تتوافر فيه مجموعة هائلة من المكونات التي يمكن أن تطعم القصة الأدبية من أدوات راقية وأساليب شائقة وبنيات رائعة ترقى بها، إلى مستويات فنية وجمالية عالية..
إلا أن الواقع يعتبر أن لكل من القصة القرآنية والقصة الأدبية خصائصها وخصوصياتها ومميزاتها ومكوناتها ومقوماتها وأسس بنائها، وإن بدا أنهما تجتمعان في بعض الخصائص وتتقاطعان في بعض المكونات وتتحدان في بعض المقومات وتتلامسان في بعض الأسس البنائية، إلا أن للقصة القرآنية تميزها وتوحدها واستقلالها وتفردها وما يجعلها مختلفة عن غيرها، وذلك من حيث:
أولا طبيعة مصدرها أو طبيعة المرسل أو حقيقة الباث أو السارد الذي هو الله جل في علاه..
وثانيا من حيث الطبيعة الرسالية للمرسلة القرآنية وبنيتها النوعية كخطاب رباني..
وثالثا من حيث نوعية وطبيعة المتلقي أو المرسل إليه، والذي يمكن أن يكون فردا كما يمكن أن يأتي بصيغة الجمع..
ورابعا من حيث طبيعة العلاقات الكائنة أو المحتملة بين هذا المركب الثلاثي ثنائيا وثلاثيا..
ولهذا سنعتمد على ماهية القصة من خلال النص القرآني في فهمها وتحديد مفهومها - على الخصوص - دون التنكر لما جادت به بعض الكتب الأدبية والنقدية المعاصر التي يمكن الاستفادة منها، والاستئناس بما جادت به قرائح أصحابها بشكل أو بآخر..
ونبدأ رحلتنا من المفهوم اللغوي – المعجمي، ففي كتاب " تاج العروس من جواهر القاموس" (2) :(() قص عليه الخبر قصا وقصصا: أعلمه به وأخبره ومنه قص الرؤيا يقال قصصت الرؤيا أقصها قصا{...}وقال بعضهم القص البيان {....} والقاص من يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها...()) أما على المستوى الاصطلاحي فيقول بعض الدارسين: (()القصة مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب وهي تتناول حادثة واحدة أو حوادث عدة تتعلق بشخصيات إنسانية مختلفة تتباين أساليب عيشها وتصرفها في الحياة على غرار ما تتباين حياة الناس على وجه الأرض ويكون نصيبها في القصة متفاوتا من حيث التأثر والتأثير ()) (3) ومنهم من يقول (4) : (() هي عرض لفكرة مرت بخاطر الكاتب أو تسجيل لصورة تأثرت بها مخيلته أو بسط لعاطفة اختلجت في صدره فأراد أن يعبر عنها بالكلام ليصل بها إلى أذهان القراء محاولا أن يكون أثرها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه ()) ومنهم من يقول أيضا (5) : (()القصة هي وسيلة للتعبير عن الحياة أو قطاع معين من الحياة يتناول حادثة واحدة أو عددا من الحوادث بينها ترابط سردي ويجب أن تكون لها بداية ونهاية ()).. ومنهم من يقول كذلك (6) : (() فالقصة هي تعبير عن الحياة، الحياة بتفصيلاتها وجزئياتها كما تمر في الزمن، ممثلة في الحوادث الخارجية والمشاعر الداخلية.. {...} فتبدأ وتنتهي في حدود زمنية معينة، وتتناول حادثة أو طائفة من الحوادث بين دفتي هذه الحدود... ()).. ومنهم من يؤيد القول بأن (() القصة هي فن الشخصية()) (7).. على اعتبار أن العمل الأدبي يبدع شخصيات مقنعة على مستوى الحضور الفني والتقني..
لا نريد أن نوغل في متاهات التعريف اللغوي أو الاصطلاحي أو الأدبي.. تلك المتاهات التي يمكن أن تنسينا جوهر موضوعنا ولكن فقط حاولنا أن نشير إلى ما تداولته بعض الأقلام للتعريف بالقصة عند المهتمين بها، وتبيان معانيها ورسم حدودها والوقوف عند خصائصها.. خاصة وأن كثيرا من المفاهيم قد تغيرت وتبدلت بحسب تقلب المفاهيم نفسها وتطور المناهج واختلاف المدارس.. ولنقارن بين ما سبق من اقتباسات وما آل إليه مفهوم القصة في النقد الحديث، ولنأخذ مثالا واحدا فقط على ذلك من كتاب "المصطلحات الأدبية المعاصرة" حيث سنجد مفهوم القصة ذا دلالة مغايرة لما كان مألوفا فهي (11) : (() عالم سيميائي يعتبر موضوعا للمعرفة ويقوم على تمفصل العناصر {...} وهي نسيج سردي يختزل الخطاب إلى منطق أفعال ووظائف ملغيا بذلك أزمنة ومظاهر وأنماط القصة (كما يوضح ذلك تودوروف وبارث) والقصة وصف أفعال عبر حكايات سردية ..())
ما يهمنا إذن في هذا الفصل هو البحث عن مفهوم محدد وبيّن وعن دلالة معينة وواضحة للقصة من خلال الخطاب القرآني ذاته.. وهكذا نطرح سؤالا عريضا: هل نستطيع أن نستنتج مما نجده في القرآن العظيم من آياته الكريمة ومن حكاياته عن الأنبياء والرسل وغيرهم ما يمكن أن يعطينا مفهوما للقصة، أو يبسط لنا الطريق للوقوف عليه أو يسعفنا على تبين ذلك؟..
فالقصة إذا كانت تتمتع بالمفاهيم السابق ذكرها وتـُـفهم على أساسها وتؤخذ معانيها من خلالها – وإن كانت في آخر المطاف موحدة في عمومها – فإنها اكتسبت تلك المعاني والمفاهيم على مستوى الأدبية أي من خلال الرؤية الأدبية قديمها أو حديثها.. فماذا ستكون معاني ومفاهيم القصة على مستوى استخدامها في الخطاب القرآني؟..
ب* القرآني:
تعود لفظة "القصة" كما نعلم إلى الجذر اللغوي " ق ص ص "، ولقد ورد هذا الجذر اللغوي في صيغ مختلفة وأوزان متباينة في النص القرآني حسب ما يتطلبه المعنى الذي يرمي إليه النص/الآية، مما جعل المعاني تتعدد والدلالات تختلف والمفاهيم تتنوع.. فجاءت اللفظة بالمعنى اللغوي الصرف عندما صيغت في الآية القرآنية على الشكل التالي :﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (القصص:10).. تصور هذه الآية أم موسى عليه السلام وهي تقول لابنتها أخت موسى عليه السلام بعد أن ألقت به في اليم خوفا عليه من بطش فرعون وتنفيذا لأمر الله تعالى ووحيه:" قصيه " بمعنى اتبعي أثره.. أثر موسى المولود الجديد في ذلك البيت العتيق من بيوتات بني إسرائيل المهددين في نسلهم بالقتل على عهد فرعون..
" قصيه " وهو في التابوت تجري به مياه النهر وتتقاذفه أمواجه وتعترض سبيله كل ما يمكن أن يطفو على سطح النهر.. " قصيه " اقتفيه وارصدي المكان الذي سيؤول إليه وسيستقر فيه..
" قصيه " لفظة موحية ومعبرة وتحمل في بنيتها الدلالية ما يدل على الحركة – المشي والسير وتتبع الأثر – فكأني بشريط سينمائي يصور التابوت وهو يمشي مع تيار الماء وسط اليم وبموازاته أخت موسى تمشي مع تيار التابوت وتيار الماء معا على الضفة.. إنها تقتفي الأثر وتتبع الحركة وتتأثر بكل التقلبات وتنفعل بكل التموجات وتتخيل كل الاحتمالات وتعيش في قلب الحدث.. وكأنها هي التي في التابوت تقتفي أثر نفسها مع اقتفاء أثر أخيها الموجود حقيقة في التابوت.. وكل هذه العمليات تعتبر من وظائف القصة، فكأن لفظة " قصيه " تحمل هذه المعاني الوظيفية بالذات..
وفي الآية القرآنية الأخرى التي تحكي عن رحلة موسى عليه السلام إلى الرجل الصالح الذي أتاه الله من لدنه علما جاء في بعض آيات القصة قوله تعالى:﴿فارتدا على آثارهما قصصاi (الكهف:63)..أي رجع موسى عليه السلام وفتاه الذي يرافقه في سفره بحثا عن الرجل الصالح الذي أتاه الله من لدنه علما.. رجعا يقتفيان آثارهما التي تدل على أنهما مرا من تلك الأمكنة من قبل حتى يصلا مكانا تركاه وقد قضيا فيه زمنا نسيا فيه حوتهما وكانت هذه هي العلامة الدالة على المكان الذي يقصدانه ويريدان الوصول إليه ليجدا مبتغاهما وليحققها هدفهما ولتكون نهاية رحلة البحث وبداية رحلة التعلم.. فاللفظة بين " قصيه " و " قصصا " تأتي للدلالة على الاقتفاء واتباع الأثر كما يشير الأصل الدلالي المعجمي.. وهكذا " قصيه " اتبعي أثره من بداية القصة إلى " قصصا " الارتداد واتباع الأثر في النهاية/البداية..
وجاءت أيضا دلالة "القص" تشير إلى معنى التلاوة والقراءة في مثل قوله تعال:﴿يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي(الأعراف:33) أي يتلون عليكم ويقرؤون.. لأن فعل القص في هذا النص ارتبط بلفظة "آياتي" التي ترتبط في أصلها التداولي بالتلاوة والقراءة.. مما أفرغ لفظة القص من محتواها الحكائي والروائي.. ويظهر هذا الأمر جليا وأكثر وضوحا في قولهتعالى:﴿ألم يأتيكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم(الزمر: 68) وفي قوله تعالى:﴿كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا(البقرة: 150)..وكذلك يأتي المعنى نفسه للفظة في مثل قوله سبحانه:﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا (الأنعام:131).. أي يتلون عليكم ويقرؤون.. ولذلك نجد لفظة " نتلو" ترد في بعض الآيات بدل " نقص" كما في قوله تعالى:﴿ نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (القصص: 3). أي نقص عليك نبأهم على غرار قوله تعالى: ﴿نحن نقص عليك نبأهم بالحق (الكهف: 13).. والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تأخذ هذا الشكل..
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image001.gif[/IMG][IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image002.gif[/IMG][IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image003.gif[/IMG]
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image004.gif[/IMG][IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image005.gif[/IMG][IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image006.gif[/IMG] ... رسل منكم عليكم....
كما أتت لفظة القص بمعنى الوحي في مثل قوله عز وجل:﴿إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (الأنعام:58) فالقص هنا جاء بمبنى لا يرتبط معناه بحكي الأحداث والوقائع والشخوص والصراع والحوار وما شاكل ذلك، بقدر ما يرتبط بأحكام معينة وقضايا محددة، وبذلك فهي للدلالة حسب السياق، على الوحي أو على نوع من أنواع الوحي.. فالسياق يبين أن هناك خلافا عقيديا وجدالا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه جاءت فيه الآية لتبين أن الله سبحانه ما أوحى به لرسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق وأنه هو سبحانه وتعالى خير الفاصلين فيما يجري من خلاف وفيما يقع من لبس بين الحق والباطل عند كثير من الناس..
وبعد تفصيل قصة نوح عليه السلام في سورة هود تأتي الآية في الختام لتؤكد هذا المعنى الذي أشرنا إليه آنفا قائلة: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا (هود: 49).. نوحيها إليك.. هكذا تأتي إذن بمعنى نقصها عليك عن طريق الوحي إليك..
كما جاءت في نصوص قرآنية أخرى للدلالة على البيان والتبيين يقول تعالى: ﴿وعلى الذينهادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل.. (النحل:118).. وأيضا جاءت بمعنى التوضيح وإبراز القول الفصل في مسائل الخلاف أو الاختلاف، وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون(النمل:78) وما يزيد الأمر وضوحا هو فهم هذه الآية في إطار السياق الذي جاءت به آية أخرى من الذكر الحكيم: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (النحل:64)..

وأخيرا تأتي اللفظة للدلالة على المعنى الذي نقصده ونرمي إليه في هذه القراءة وهو مفهوم الحكي والإنباء والرواية والإخبار وسرد الأحداث وتسجيل ما مر في غابر الأزمان وتوثيق ما عاشته الأقوام ورصد ما أتت به عليهم الأيام.. وقد وردت بهذه المعاني في كثير من الآيات التي جاءت تحمل إحدى صيغ اللفظة منها قوله سبحانه:﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرونi(الأعراف:176) وقوله تعالى:﴿فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف(القصص:25) وقوله عز وجل:﴿ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك (غافر:77) وقوله سبحانه وتعالى:﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإنكنت منقبله لمن الغافلين(يوسف: 3).. وقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام حين قال لابنه يوسف عليه السلام بعد أن قص عليه الرؤيا التي رأى: ﴿.. يا أبتي إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك.. (يوسف:5).. فالقص في هذه الآيات الكريمات أتى يحمل معنى المشافهة بسرد الأحداث والوقائع التي تقوم بها شخوص في إطار ظروف زمانية ومكانية معينة، مصورة بذلك بداية ونهاية من واقع معيش ترك بصماته على كتاب الحياة..

وهكذا يأتي القص يحمل معاني عديدة تربط بين خيوطها بنية الخطاب القرآني، فتجمع متفرقها وتلم شتاتها لتجعل منها خصائص لها تميزها عن غيرها:


[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/LMOUSS%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msoclip1/01/clip_image007.gif[/IMG]







إن القصة في القرآن الكريم أسلوب من أساليب الخطاب الرباني الذي يقوم على مجموعة من الأسس والمقومات ويتميز بعدد من الخصائص والمميزات التي قد لا نجدها في باقي أساليب الخطاب الإلهي في القرآن الكريم.. فهي – أي القصة – عبارة عن نسيج لغوي محبوك، وإيقاع تعبيري مضبوط، ولمسات جمالية رائعة، وتصوير فني متميز وتركيب موضوعاتي مثير أخاذ.. يحمل عالما سرديا يصور مجموعة من الأحداث المتباينة، ويبعث الروح في مجموعة من الأفعال المختلفة والوظائف المتعددة التي تعبر عن الحركة والحياة داخل بنية حكائية أو بين شخوص مختلفة قد تكون إنسانية وقد تكون غير إنسانية.. منسقا بينها في فضائها الزماني والمكاني الخاص بها ومكونا من ذلك أنماطا حياتية ومظاهر وجودية منسجمة فيما بينها لخلق خطاب ذي طابع حركي وتشخيصي وتصويري وغائي وهادف يستأنس به المتلقي وينفعل به ويتفاعل معه..
الهوامش والمراجع:
(1)انظر كتاب الأستاذ محمد قطب "دراسات في النفس الإنسانية" دار الشروق بيروت. الطبعة الرابعة/1980
(2)" تاج العروس من جواهر القاموس" للزبيدي الجزء:18 الصفحة:98. تحقيق عبد الكريم الغرباوي ومراجعة عبد الستار أحمد فراج. مطبعة حكومة الكويت سنة: 1979
(3) " فن القصة" للدكتور محمد يوسف نجم الصفحة: 9 دار الثقافة بيروت لبنان الطبعة السابعة السنة: 1979

(4) " فن القصص" محمود تيمور ص:42 نقلا عن كتاب "التعبير الفني في القرآن" للدكتور بكري شيخ أمين الصفحة:215 دار الشروق الطبعة الرابعة/1980

(5) " القرآن والقصة الحديثة" محمد كامل حسن المحامي دار البحوث العلمية الطبعة الأولى السنة 1970 الصفحة 9

(6) " النقد الأدبي أصوله ومناهجه" سيد قطب رحمه الله دار الشروق الطبعة الرابعة 1980 الصفحة:734

(7) " دراسات في النقد الروائي " لطه وادي الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة الطبعة الأولى/1981 الصفحة:28

الأستاذ عبد الرزاق المساوي