تسللت فجأة يد المنية لوالده وهو في ريعان حياته .
الأب لم يتجاوز عتبة العقد الرابع من عمره .
بعد الوفاة الشبيهة بالصاعقة ، استتب الأمر للفتى الغض الطري ، واستبد بتسيير شؤون البيت .
حرم أهله وأخته فاطمة بالخصوص من حرية التصرف وحق الاختيار وإمكان العيش الرغيد .
ساقه البذخ والترف إلى حياة اللهو والمجون ، فاتخذ بطانة سوء ، وهام على وجهه وراء نزواته .
توقعت فاطمة ضياع تركة والدها .
وبسبب إلحاحها على انتزاع حقوقها في البيت وفي الحياة هددها مرارا وخيرها بين القتل أو الطرد أو الإذعان .
أمه تراقب تصرفه بانزعاج ، وتتحسر على ما آلت إليه أوضاعه ، وانجرفت نحوه طباعه .
لم تعد تستأمنه على نفسها ، كما تخشى منه على ابنتها وكل أهلها .
تآمر يوما مع بعض خلانه على اختلاس متاع حصين .
أنجز السطو خارج سياجه ، على قرية آمنة مستقرة ، فاعترض سبيله أهلها ، وأصابوه إصابات بليغة برأسه ووجهه وكل أطرافه .
حمل بسببها إلى المستشفى فاقد الوعي ، غير قادر على الحركة ، دماؤه تنزف من أنفه ورأسه وركبتيه .
من قسم الإنعاش خرج الطبيب المعالج يخبر من تحلق حوله من أهله ، بأن الفتى يعاني من كسور في عظام رأسه ، ونزيف داخلي في دماغه .
وأنه في حالة حرجة .
ولا زال في وضع الإغماء المستمر .
ولا يمكن الآن رؤيته إلا من وراء الجدار الزجاجي .
وفي اليوم الثاني أكد الطبيب أن الجريح لا زال فاقدا لوعيه .
فقاطعته الأم مستفسرة :
- هل سيكون مضطرا لإجراء عملية جراحية ؟
- لن نبت في نوع العلاج حتى يسترجع وعيه . وأعتقد أن العملية الجراحية ضرورية بالنسبة لأحواله .
- وهل سيطول مكثه بهذا القسم ؟ ومتى ستسمح لنا بزيارته ؟
- لن يغادر القسم حتى يتجاوز حالة الخطر ، قد تمكنا من إيقاف النزيف ، وابتداء من اليوم ،لا بد أن يمكث أحد أقاربه إلى جانبه تحسبا لوقت استرجاع وعيه .
اعتاد أهله التجمع بالقرب من سريره نهارا .
ينتظرون لحظة خروج روحه .
أغلبهم يئس من إمكان بقائه على قيد الحياة .
أمه تلازمه ليل نهار ، تحصي أنفاسه ، وتراقب عن كثب مؤشرات الآلات الموصولة برأسه وصدره وبعض أطرافه .
مطمئنة بما يحدوها من أمل ، ما دامت شاشات الأجهزة الطبية المرتبطة بجسده لم ترسم منحنيات حادة مثيرة ، وما دامت مصابيحها لم تنبض بأضواء حمراء محذرة .
إنها كثيرا ما تلاحظ اضطراب المسعفات ، وسريان أجواء التعبئة بين الأطباء ، لما تنبعث من إحدى الآلات القريبة إشارات ذات لون أحمر مزعج ومهدد .
طال مكث الفتى بقسم الإنعاش .
بدأ القلق ينتاب نفوس جل أقاربه .
في كل ليلة تتطوع إحدى القريبات بالسهر إلى جانب المريض صحبة أمه .
وفي الليلة الثانية بعد العشرين ، مكثت مع الأم أختها الصغرى التي تطمئن لها كثيرا ، وتؤمنها على العديد من أسرارها .
كالعادة ، أخذا مكانهما بجوار سرير المريض ، يرقبان ملامحه بحزن وحسرة ، ويرثيانه بعبرات مسترسلة ، وآهات مجلجلة في أرجاء القاعة .
ويتجاذبان أطراف الحديث ، لمقاومة غلبة النوم ، وتحسس حركة عقارب الساعة المتباطئة .
صمتت الأم هنيهة ، ثم التفتت إلى أختها :
- إني مؤتمنة على وصية من زوجي الله يرحمه. ولا أدري كيفية تنفيذها .
- تقصدين وصية أب ولديك صهيب وفاطمة ؟
- في الحقيقة إن صهيبا ليس ابنه .
صعقت الأخت من مفاجأة الخبر. واتجهت بكل جسدها نحوها
- هو ابن من إذن ؟
- وهل هو ابنك من رجل آخر ؟
- واسترجعت بذاكرتها أنها لم تسمع باقتران أختها برجل غير زوجها الله يرحمه ، ورسمت عدة استفهامات حول الخبر المفاجئ .
- شعرت الأم بتوقعات أختها ، فقطعت عليها سلسلة تناسل الاتهامات وقالت :
- صهيب ليس ابني أنا كذلك
إنه متبنى .
متبنى من المستشفى المركزي .
إحدى المساعدات الاجتماعية هناك طلبت مني تبنيه يوم وضعت ابنتي فاطمة ، لأن أمه طرحته بإحدى القاعات وتخلت عنه بعد ولادته بيومين ، فإدعيت - بالتنسيق مع زوجي - أنهما توأمان ، وبقي بيننا إلى اليوم .
وقد ساءني كثيرا انحرافه وسوء سلوكه ، وخاصة بعد وفاة زوجي .
أفرغت أختها نفسا عميقا ، نفس الرضا على التصرف ، والارتياح للرد ، والراحة من الوساوس التي اقتحمت عليها مجال تفكيرها ، وقاطعتها قائلة :
- وما هي وصية زوجك ؟
- التفتت يمنة ويسرة لتتأكد من خلو المكان ، وقالت :
- منذ أربع سنوات ، بعد الانتهاء من توديع الأهل والاصدقاء المشاركين في حفل تخرج صهيب من الجامعة ، أسر لي زوجي بأنه أدى واجبه كاملا تجاه الابن صهيب ، إلا أنه لم يتبناه كما كنت أظن ، وأبدى رغبة ملحة في مصارحة الولدين صهيب وفاطمة . ولم يتمكن ، فتركها قبيل وفاته - وصية صارمة صريحة - أمانة في ذمتي .
و كم ألححت عليه ليجد مخرجا يجبر به خاطر الولد ، ويواسيه ، بوصية أو بيع أو هبة ، ولكنه أبى ، وأصر على أن يدعى الولد لأمه وتدعى الفتاة لأبويها ، وتصير تركته من بعده لابنته وتنتقل إليها .
ثم نظرت إلى أختها نظرة استعطاف ، وهي تقول :
- أرجو ألا تخبري أحدا بهذا السر .
- اتركيني أتصرف بالشكل اللائق وحسب ظروف الفتى الطريح .
- كوني متأكدة من كتماني لهذا السر ، وأرى أن الله يرحمه تصرف بما يوافق شرع الله .
عند زيارة الصباح الموالي استبشر الطبيب المعالج خيرا لما لاحظ على المريض مخايل الاسترجاع التدريجي لوعيه . فأعد الطبيب العدة لإجراء العملية التي استغرقت عدة ساعات وكللت بالنجاح .
وقبل انتهاء مدة النقاهة ، وفي غفلة من الزائرين والعاملين بالمستشفى ، لملم المريض أغراضه .
وودع الجميع همسا .
وانصرف مستعينا بأحد خلانه .
وخلف وراءه فوق السرير رسالة دون فيها عبارة يتيمة بخط عريض :
" اللقيط ابن أمه غادر ولن يعود "
محمد الطيب
aminwalid