عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-15-2009, 09:24 PM
 
اللقيط ذهب ولن يعود

صهيب وأخته فاطمة





صهيب شاب أشقر اللون ، ضعيف البنية ، سليط اللسان ، عنيد متهور ، نشأ وسط أسرته معززا مدللا .



تسللت فجأة يد المنية لوالده وهو في ريعان حياته .


الأب لم يتجاوز عتبة العقد الرابع من عمره .


بعد الوفاة الشبيهة بالصاعقة ، استتب الأمر للفتى الغض الطري ، واستبد بتسيير شؤون البيت .


حرم أهله وأخته فاطمة بالخصوص من حرية التصرف وحق الاختيار وإمكان العيش الرغيد .


ساقه البذخ والترف إلى حياة اللهو والمجون ، فاتخذ بطانة سوء ، وهام على وجهه وراء نزواته .


توقعت فاطمة ضياع تركة والدها .


وبسبب إلحاحها على انتزاع حقوقها في البيت وفي الحياة هددها مرارا وخيرها بين القتل أو الطرد أو الإذعان .


أمه تراقب تصرفه بانزعاج ، وتتحسر على ما آلت إليه أوضاعه ، وانجرفت نحوه طباعه .


لم تعد تستأمنه على نفسها ، كما تخشى منه على ابنتها وكل أهلها .


تآمر يوما مع بعض خلانه على اختلاس متاع حصين .


أنجز السطو خارج سياجه ، على قرية آمنة مستقرة ، فاعترض سبيله أهلها ، وأصابوه إصابات بليغة برأسه ووجهه وكل أطرافه .


حمل بسببها إلى المستشفى فاقد الوعي ، غير قادر على الحركة ، دماؤه تنزف من أنفه ورأسه وركبتيه .


من قسم الإنعاش خرج الطبيب المعالج يخبر من تحلق حوله من أهله ، بأن الفتى يعاني من كسور في عظام رأسه ، ونزيف داخلي في دماغه .


وأنه في حالة حرجة .


ولا زال في وضع الإغماء المستمر .


ولا يمكن الآن رؤيته إلا من وراء الجدار الزجاجي .


وفي اليوم الثاني أكد الطبيب أن الجريح لا زال فاقدا لوعيه .


فقاطعته الأم مستفسرة :


- هل سيكون مضطرا لإجراء عملية جراحية ؟


- لن نبت في نوع العلاج حتى يسترجع وعيه . وأعتقد أن العملية الجراحية ضرورية بالنسبة لأحواله .


- وهل سيطول مكثه بهذا القسم ؟ ومتى ستسمح لنا بزيارته ؟


- لن يغادر القسم حتى يتجاوز حالة الخطر ، قد تمكنا من إيقاف النزيف ، وابتداء من اليوم ،لا بد أن يمكث أحد أقاربه إلى جانبه تحسبا لوقت استرجاع وعيه .


اعتاد أهله التجمع بالقرب من سريره نهارا .


ينتظرون لحظة خروج روحه .


أغلبهم يئس من إمكان بقائه على قيد الحياة .


أمه تلازمه ليل نهار ، تحصي أنفاسه ، وتراقب عن كثب مؤشرات الآلات الموصولة برأسه وصدره وبعض أطرافه .


مطمئنة بما يحدوها من أمل ، ما دامت شاشات الأجهزة الطبية المرتبطة بجسده لم ترسم منحنيات حادة مثيرة ، وما دامت مصابيحها لم تنبض بأضواء حمراء محذرة .


إنها كثيرا ما تلاحظ اضطراب المسعفات ، وسريان أجواء التعبئة بين الأطباء ، لما تنبعث من إحدى الآلات القريبة إشارات ذات لون أحمر مزعج ومهدد .


طال مكث الفتى بقسم الإنعاش .


بدأ القلق ينتاب نفوس جل أقاربه .


في كل ليلة تتطوع إحدى القريبات بالسهر إلى جانب المريض صحبة أمه .


وفي الليلة الثانية بعد العشرين ، مكثت مع الأم أختها الصغرى التي تطمئن لها كثيرا ، وتؤمنها على العديد من أسرارها .


كالعادة ، أخذا مكانهما بجوار سرير المريض ، يرقبان ملامحه بحزن وحسرة ، ويرثيانه بعبرات مسترسلة ، وآهات مجلجلة في أرجاء القاعة .


ويتجاذبان أطراف الحديث ، لمقاومة غلبة النوم ، وتحسس حركة عقارب الساعة المتباطئة .


صمتت الأم هنيهة ، ثم التفتت إلى أختها :


- إني مؤتمنة على وصية من زوجي الله يرحمه. ولا أدري كيفية تنفيذها .


- تقصدين وصية أب ولديك صهيب وفاطمة ؟


- في الحقيقة إن صهيبا ليس ابنه .


صعقت الأخت من مفاجأة الخبر. واتجهت بكل جسدها نحوها


- هو ابن من إذن ؟


- وهل هو ابنك من رجل آخر ؟


- واسترجعت بذاكرتها أنها لم تسمع باقتران أختها برجل غير زوجها الله يرحمه ، ورسمت عدة استفهامات حول الخبر المفاجئ .


- شعرت الأم بتوقعات أختها ، فقطعت عليها سلسلة تناسل الاتهامات وقالت :


- صهيب ليس ابني أنا كذلك


إنه متبنى .


متبنى من المستشفى المركزي .


إحدى المساعدات الاجتماعية هناك طلبت مني تبنيه يوم وضعت ابنتي فاطمة ، لأن أمه طرحته بإحدى القاعات وتخلت عنه بعد ولادته بيومين ، فإدعيت - بالتنسيق مع زوجي - أنهما توأمان ، وبقي بيننا إلى اليوم .


وقد ساءني كثيرا انحرافه وسوء سلوكه ، وخاصة بعد وفاة زوجي .


أفرغت أختها نفسا عميقا ، نفس الرضا على التصرف ، والارتياح للرد ، والراحة من الوساوس التي اقتحمت عليها مجال تفكيرها ، وقاطعتها قائلة :


- وما هي وصية زوجك ؟


- التفتت يمنة ويسرة لتتأكد من خلو المكان ، وقالت :


- منذ أربع سنوات ، بعد الانتهاء من توديع الأهل والاصدقاء المشاركين في حفل تخرج صهيب من الجامعة ، أسر لي زوجي بأنه أدى واجبه كاملا تجاه الابن صهيب ، إلا أنه لم يتبناه كما كنت أظن ، وأبدى رغبة ملحة في مصارحة الولدين صهيب وفاطمة . ولم يتمكن ، فتركها قبيل وفاته - وصية صارمة صريحة - أمانة في ذمتي .


و كم ألححت عليه ليجد مخرجا يجبر به خاطر الولد ، ويواسيه ، بوصية أو بيع أو هبة ، ولكنه أبى ، وأصر على أن يدعى الولد لأمه وتدعى الفتاة لأبويها ، وتصير تركته من بعده لابنته وتنتقل إليها .


ثم نظرت إلى أختها نظرة استعطاف ، وهي تقول :


- أرجو ألا تخبري أحدا بهذا السر .


- اتركيني أتصرف بالشكل اللائق وحسب ظروف الفتى الطريح .


- كوني متأكدة من كتماني لهذا السر ، وأرى أن الله يرحمه تصرف بما يوافق شرع الله .


عند زيارة الصباح الموالي استبشر الطبيب المعالج خيرا لما لاحظ على المريض مخايل الاسترجاع التدريجي لوعيه . فأعد الطبيب العدة لإجراء العملية التي استغرقت عدة ساعات وكللت بالنجاح .


وقبل انتهاء مدة النقاهة ، وفي غفلة من الزائرين والعاملين بالمستشفى ، لملم المريض أغراضه .


وودع الجميع همسا .


وانصرف مستعينا بأحد خلانه .


وخلف وراءه فوق السرير رسالة دون فيها عبارة يتيمة بخط عريض :



" اللقيط ابن أمه غادر ولن يعود "





محمد الطيب
aminwalid


التعديل الأخير تم بواسطة *GHADA* ; 07-16-2009 الساعة 11:59 AM