شبهات القرآنيين(1)
^المقدمة
الحمد لله رب العالمين –والصلاة والسلام على رحمة الله إلى العالمين ، وعلى إخوانه وآله وأصحابه والتابعين.
أما بعد؛
فلقد بعث الله – سبحانه وتعالى – محمداًe على فترة من الرسل ، وأنزل عليه القرآن الكريم ، فختم الله – تعالى- به الرسل ، وختم برسالته الرسالات ، وختم بكتابه الكتب ، وجعله مصدقاً لما بين يديه منها ومهيمناً عليها .
وقد جاء القرآن المجيد مشتملاً على الدين كله ، بعضه مفصل والكثير منه مجمل . وقد وكل الله - تعالى – تبيين الكتاب المجيد ، وتفصيله إلى رسوله محمد e ، ومن ثم ، جاءت سنة رسول اللهe مبينة لما أبهم ومفصلة لما أجمل . يقول الله -عز وجل- :}وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون {(النحل :44)
ولما كان الكتاب المجيد بحاجة إلى السنة تبينه وتفصله ، فقد كانت السنة من وحي الله –تعالى- إلى نبيه -e - حتى يكون المبيِّن والمبيَّن من مصدر واحد ، وعلى مستوى واحد ، وحاشا الله –تعالى – أن ينزل الكتاب وحيا ، ثم يترك بيان مافيه لبشر بعيداً عن الوحي . فإن المبيِّن له نفس أهمية المبيَّن من حيث هو وسيلة الانتفاع به ، وسبيل العمل بمقتضاه ، من ذلك كان القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة يصدران من مشكاة واحدة ، مشكاة الوحي الإلهي المعصوم . يقول الله –عز وجل- عن رسوله-e- : }وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى {(النجم :3-4)
ومنذ جاءت الرسالة الخاتمة وأعداء الله لها بالمرصاد . وقد اتخذت العداوة لله ورسوله ولدينه صورا مختلفة ، وتلبست أشكالاً عديدة . ونحن نستطيع أن نجمل هذه الصور والأشكال في نوعين اثنين . الأول ؛ أعداء للإسلام أعلنوا عداءهم في وضوح ، ونابذوا المسلمين في جلاء .من أمثال الصليبيين والشيوعيين والعلمانيين وأصناف الملاحدة بعامة ، الذين أعلنوا عن إلحادهم، وهؤلاء ضررهم قليل ، وخطرهم معروف ، لأن عداءهم معلن ، وكفرهم سافر ، فالمسلمون منهم على حذر ، ومن كيدهم ومكرهم على ترقب وتوجس . أما النوع الثاني ؛ فهم المنافقون الذين يظهرون غير ما يبطنون ، يتدثرون بعباءة الإسلام ، ويصطنعون الحرص عليه ، والدعوة إليه والعمل على وحدة الأمة ، وبينما يعلنون ذلك يسعون إلى تحقيق أغراضهم الخبيثة من القضاء على الإسلام عن طريق التشكيك في مصادره الموحى بها من عند الله –عز وجل –وبخاصة السنة النبوية المطهرة . وذلك بإثارة الشبهات ضد سنة رسول الله -e-، والزعم بأنها ليست من الدين ، ولاصلة لها بالتشريع الإسلامي، ويزعمون أن القرآن هو المصدر الوحيد للشريعة الإسلامية .
وهذه الدعوى قديمة ، والعداء لرسول الله -e- ولسنته موروث . لكن الجديد هو هذه الفئة من أعداء الله ورسوله والمسلمين ، منكري سنة رسول الله -e-التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين الميلادي في بلاد الهند ، ثم انتقلت إلى باكستان بعد استقلالها عن الهند ، وما تزال . وأعجب أمر هؤلاء أنهم يُنْسَبون إلى القرآن المجيد ، فهم يحبون أن يسموا أنفسهم "القرآنيون " نسبة إلى القرآن كتاب الله المجيد ظلماً وزورا . وقد اختاروا هذه النسبة إيهاماً للناس بأنهم ملتزمون بكتاب الله القرآن . هذا من جانب ومن جانب آخر يشيرون من طرف خفي إلى أن غيرهم من المسلمين الذين يؤمنون بسنة رسول الله -e- ويعملون بها ليسوا قرآنيين ، وأنهم اشتغلوا بالسنة وتركوا القرآن ،-وأيضاً- حتى يجنبوا أنفسهم المؤاخذة ، ويقطعوا سبل الاعتراض عليهم ، لأنه من ذا الذي يعترض على طائفة أعلنت أنها تنتسب إلى القرآن وتتمسك به ؟.
وليس من المستغرب وجود مثل هذه الطائفة ، فأعداء الإسلام كُثُر ، ومنكرو السنة مضت بهم القرون جيلاً بعد جيل ، وقد أخبر عنهم رسول الله -e-فعن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله -e- قال (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا وإن ماحرم رسول الله مثل ماحرم الله )() لكن الغريب من هؤلاء هي تلك الشبهات التي أثاروها ضد سنة رسول الله -e- ، والتي يزعمون أنها أدلة على أن السنة ليست من الدين ، ولا الدين منها وقد ملأوا بها مؤلفاتهم –وهي في جملتها أوردية-. وندواتهم ومناظراتهم مع الآخرين .. وقد كان لنا حظ من تلك المناظرات على مدى ثلاث جلسات بيننا وبين "البرويزيين" بمدينة"كراتشي "في عام 1983م . وذلك أثناء عملي أستاذاً بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد بباكستان ..
وشبهاتهم هذه المزعومة هي محل الغاية في هذا البحث الموجز الذي عقدناه لمناقشة هذه الشبهات والرد عليها .
نسأل الله –سبحانه- التوفيق والسداد والمعونة والاحتساب ، إنه –سبحانه- ولي ذلك والقادر عيه .
المبحث الأول التعريف بالسنة النبوية
أولاً : السنة في اللغة، هي : الطريقة، وهي السيرة حميدة كانت أو غير حميدة. ومن ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "().. وسنة الله - تعالى - في خلقه : حكمه - سبحانه - في خلقه، وما عودهم عليه(). وذلك كقولهم : سنة الله في خلقه أن يمهل العاصي لعلّه يتوب ويرجع.
ثانياً : السنة في الاصطلاح : يختلف معنى السنة في الاصطلاح حسب تخصص المصطلحين وأهدافهم واهتماماتهم. فهناك المحدِّثون، وهناك الأصوليون، وهناك الفقهاء.
أما علماء الحديث أو المحدِّثون فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الهادي، النبي الرسول، الذي أخبرنا ربنا - سبحانه وتعالى - أنه أسوتنا وقدوتنا، ومن ثم فقد نقلوا كل ما يتصل به - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال وتقريرات، سواء أثبت ذلك حكما شرعياً أم لم يثبت. كما نقلوا عنه - عليه الصلاة والسلام - أخباره وشمائله وقصصه وصفاته خَلْقاً وخُلُقاً. وهذا ما التأمت عليه كتب الحديث، وأنتجته مجهودات المحدثين. ومن هنا فقد عرفوا السنة بأنها : " كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلْقِية أو خُلُقية، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها ".
وأما علماء الأصول، فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشرع الذي يضع القواعد، ويوضح الطريق أمام المجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاهتموا من السنة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته التي تستقي منها الأحكام على أفعال العباد من حيث الوجوب والحرمة والإباحة، وغير ذلك .. ولذلك عرفوا السنة بأنها : ((ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير ". مثال القول ؛ قوله – عليه الصلاة والسلام : - ( إنما الأعمال بالنيات ) (). ومثال الفعل، ما نقل إلينا من فعله – صلى الله عليه وسلم – في الصلوات من وقتها وهيئتها. ومناسك الحج وغير ذلك. ومثال التقرير ؛ إقراره - عليه الصلاة والسلام - لاجتهاد الصحابة في أمر صلاة العصر في غزوة بني قريظة حيث قال لهم : ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) ()، ففهم بعضهم النهي على ظاهره فأخَّر الصلاة فلم يصلِّها حتى فات وقتها، وفهم بعضهم أن المقصود حث الصحابة على الإسراع، فصلوها في وقتها قبل الوصول إلى بني قريظة. وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل الفريقان فأقرهما جميعا().
وأما علماء الفقه فيبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أقواله وأفعاله عن الدلالة على حكم من الأحكام الشرعية. ومن هنا كانت السنة عندهم هي : " ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً غير جازم". أو " ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب". أو " ما في فعله ثواب، وفي تركه ملامة وعتاب لا عقاب ". وهي تقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة لدى الفقهاء .. وقد تطلق السنة عندهم على ما يقابل البدعة، فيقال : فلان على سنة إذا كان يعمل على وفق ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال : فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك. ويطلق لفظ السنة عندهم - كذلك - على ما عمل عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - وجد ذلك في القرآن المجيد أو لم يوجد، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم، لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم. لقوله - صلى الله عليه وسلم : - " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"()().
هذه معاني السنة، أو تعريفاتها والمراد بها في مصطلح العلماء، وقد تبين لنا أن علماء كل فن أو علم من العلوم لهم اهتمام وعمل في السنة يتناسب مع اهتمامهم، ويحقق ما يهدفون إليه في علومهم، دون أن تتعارض هذه العلوم، فالحق أنها كلها في خدمة السنة النبوية وتيسير التعرف عليها والعمل بها، ومن أشرف أهداف القائمين على هذه العلوم هو جمع السنة النبوية وتمحيصها، وتنقيتها مما قد يكون دخيلاً عليها، ثم الدفاع عنها ضد الشاغبين عليها، المعارضين لها، الساعين إلى طرحها والاقتصار في التشريع الإسلامي على مصدر واحد هو القرآن العظيم.
وإذا كنا قد أشرنا إلى عدد من تعريفات العلماء للسنة النبوية الشريفة، فإن التعريف الذي يتوافق مع بحثنا هذا إنما هو تعريف الأصوليين تحديداً، لأنهم الذين يعنون - بالدرجة الأولى - ببيان حجية السنة، ومكانتها من التشريع، وسوق الأدلة على ذلك. وإن كان المحدثون والفقهاء لم يحرموا أجر البحث في هذه الجوانب، ولم يقصروا في بذل المجهود في سبيلها.
455^
التعديل الأخير تم بواسطة alfars33 ; 08-19-2009 الساعة 02:55 AM
سبب آخر: خطا املائى
|