عروبة أردوغان ...........عبد الحليم قنديل بسم الله الرحمن الرحيم لعلها باتت ظاهرة ملفتة، وهي أن دولا في الجوار العربي صارت أكثر عروبية من العرب ذاتهم، فإيران ـ غير العربية ـ هي الدولة الوحيدة التي تدعم بالمال والسلاح حركات المقاومة العربية في لبنان وفلسطين، وتركيا ـ غير العربية ـ تدعم الفلسطينيين، وتدعم حركة حماس سياسيا، وتتحدى إسرائيل بصورة لم تعد تجرؤ عليها دولة عربية واحدة.
وربما يكون السبب أن التيار الإسلامي ـ بدرجة أو أخرى ـ هو الذي يحكم الآن في إيران وتركيا، فإيران تعرف نفسها كجمهورية دينية إسلامية، وتتحرك على أساس فكرة الأمة الإسلامية، وإسلامية إيران هي مفتاح 'عروبية' سياستها في الموضوع الفلسطيني بالذات، وإن كانت فارسيتها ـ الباقية ضمنا ـ هي التي تجعلها في صدام مؤسف عظيم الغباوة مع عروبة الجوار العراقي، وفي تركيا تبدو القصة مختلفة إلى حد ملحوظ، فتركيا ـ بالتعريف ـ دولة قومية علمانية، لكن حزبها الحاكم ـ العدالة والتنمية ـ ذي نزعة إسلامية ضمنية، وأتى تاريخيا من موارد التيار الإسلامي، ويحكم دولة ذات ارتباطات تاريخية متصلة بأمريكا وحلف الأطلنطي وإسرائيل ذاتها، وفيها نفوذ مؤثر للمؤسسة العسكرية الكمالية العلمانية، ومع ذلك بدا رجب طيب أردوغان ـ زعيم تركيا ـ عروبيا أكثر من المتزعمين العرب ذواتهم، ونجح في كسب شعبية بين الجماهير العربية ربما تفوق شعبيته في أوساط الجمهور التركي.
وكلنا يذكر ما جرى في المواجهة الشهيرة بين أردوغان وشمعون بيريس في منتدى دافوس، واللغة القاسية الصريحة التي تكلم بها أردوغان عن إسرائيل، واتهامه لها بالوحشية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حرب غزة، وخروجه غاضبا من القاعة، وقتها لم يجرؤ عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية على الخروج مع أردوغان، وسحبه بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة من يده، وظل يواصل الجلسة مع شمعون بيريس، حينها بدا التصرف موحيا، فعمرو موسى صاحب الرطانة العروبية بدا في وضعه الحقيقي المخاتل، بينما بدت ثورة أردوغان دليلا على كرامته الشخصية واعتزازه التركي ودعمه الصادق للفلسطينيين، وإلى حد تعريض علاقة تركيا بإسرائيل لمخاطرغير مسبوقة، ومن وقتها بدأت علاقة تركيا بإسرائيل تمضي في طريق الانحدار والجفاء المتزايد، ورغم أن إسرائيل جربت سياسة ضبط النفس إزاء تركيا، بدا أن رجب طيب أردوغان مصمم على مواصلة الشوط لآخره، وألغى زيارة لوزير خارجيته أحمد داود أوغلو كانت مقررة لإسرائيل، ولسبب معلن هو رفض تل أبيب طلبا من أوغلو بزيارة غزة عبر معبر إيريز، بدا الطلب التركي بزيارة غزة ولقاء حكومة حماس أمرا متعمدا، وكأنه جزء من مخطط مسبق، وحتى ترفض إسرائيل فتلغى زيارة أوغلو لتل أبيب، ثم كان التطور الثالث أكثر جرأة واقتحاما، وهو منع مشاركة إسرائيل في مناورات 'نسر الأناضول' العسكرية ، رغم أن البلدين تربطهما اتفاقية شاملة للتعاون العسكري جرى توقيعها أواخر التسعينيات، وأصيبت إسرائيل بالصدمة، فهذه أول مرة يجرؤ فيها رئيس وزراء تركي على التدخل في شأن عسكري، ثم زادت الصدمة تأثيرا مع إعلان الجيش التركي عن دعمه لقرار أردوغان، واعتباره أن الحكومة هي صاحبة الشأن، والتطور الأخير عميق المغزى، فهو ينذر بتجميد عملي لاتفاقات التعاون العسكري المبرمة بين تل أبيب وأنقرة، ويحرم المقاتلات الإسرائيلية من فرصة استخدام المجال الجوي التركي، خاصة أن أردوغان بدا معارضا بشدة لتوجيه أي ضربة عسكرية لإيران، وسواء قامت بها إسرائيل أو أمريكا، وبلغ في تأييده لمشروع إيران النووي حدا لايبلغه قادة إيران نفسها، فقد اعتبر أردوغان أن من حق إيران صناعة قنبلة ذرية ما دامت لدى إسرائيل قنابل ذرية.
وتصرفات أردغان على هذا النحو لاتبدو تلقائية ولا موسمية، ولا صادرة عن سياسي محترف يسعى لكسب شعبية عواطف موقوته بين الأتراك أو العرب، بل تكشف عن تصميم مبدئي متعمد، واستثمار ضغط الحوادث الطارئة لتفكيك تدريجي لعلاقة تركيا بإسرائيل، فقبل تداعيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، لم تكن لدولة واحدة في العالم الإسلامي علاقات بإسرائيل سوى تركيا وإيران الشاه، ومع ثورة الخميني في توقيت مقارب لسريان معاهدة كامب ديفيد، انتهت علاقات إيران بإسرائيل، وبدأت مسلسلات انهيار النظام العربي الرسمي، واختراق إسرائيل لجدار المقاطعة في العالمين العربي والإسلامي، وعلى نحو بدت معه تركيا ـ بعلاقاتها الأقدم مع إسرائيل ـ في وضع أقل شذوذا، فلم تكن تعطي التفاتا كبيرا لمصالح العالم الإسلامي وقضاياه، ومؤسستها العسكرية ـ قوية النفوذ ـ تحب إسرائيل وتكره المسلمين، ومع وصول حزب رجب طيب أردوغان إلى السلطة، بدا القلق ظاهرا على علاقة إسرائيل بتركيا، ولم ينتظر أردوغان سير الحوادث من حوله، واتبع تكتيكا متميزا لخفض نفوذ الجيش، طور من سعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكان هدفه الظاهر هو تسريع انضمام تركيا، لكن الهدف الذي تحقق إلى الآن شيء آخر، وهو استفادة حزب أردوغان من معايير الاتحاد الأوروبي التي جرى التفاوض عليها في محادثات المراجعة المتصلة، واستثمار الضغط الأوروبي لدعم نفوذ الحكومة المدنية، وإبعاد الجيش خطوات عن مركزه القديم المتحكم، وكان لذلك أثره في التطورات التي جرت بعدها، فقد استخدم أردوغان نفوذ حزبه في البرلمان لحرمان أمريكا من استخدام تركيا ـ عضو حلف الأطلنطي ـ كجسر بري لغزو العراق، بينما كانت أراضي الدول العربية ـ غير الأعضاء في حلف الأطلنطي ـ جسرا لغزو العراق بريا، وبدت كرامات الديمقراطية التركية ظاهرة، وهو ما شجع أردوغان أكثر على فتح ملف المحرمات، وعلى رأسها علاقة تركيا بإسرائيل، وفي سياق أكبر من الانفتاح على العالم العربي والإسلامي، وفي ضوء تصور استراتيجي صاغه أحمد داود أوغلو مستشار أردوغان الأول ووزير خارجية تركيا الحالي، وانتهى إلى إقامة تحالف استراتيجي لتركيا مع سورية على حساب إسرائيل، وبعد أن دخلت تركيا في وساطة لاستعادة الجولان أحبطتها إسرائيل، وبدت التفاعلات في ظاهرها أقرب إلى معنى ردود الأفعال التركية، لكن التدقيق فيها يكشف عن تصميم مسبق يستخدم الحوادث لتحرير تركيا من عبء العلاقة المميزة مع إسرائيل، ويصوغ بدلا عنها علاقات متميزة مع العالم العربي، ويستحدث دورا تركيا في عالم عربي كانت أنقرة أعطته ظهرها منذ عقود طويلة، ومنذ إطاحة أتاتورك بخلافة العثمانيين، وهو ما يغرى بتوقع تزايد رقعة الصدام العلني المفتوح بين إسرائيل وتركيا في السنوات المقبلة.
وفي الجملة، تبدو تركيا وكأنها تستعيد هويتها الشرقية بدأب واطراد، تحقيقا لمصالح تركيا التي صارت قوة اقتصادية وصناعية وعسكرية يعتد بها، وعدولا ضمنيا عن طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي بات مغلقا بسبب الأكثرية الساحقة للمسلمين في تركيا، وفتحا لطريق السيادة التركية في المشرق الإسلامي، وفي تفاهم محسوس مع القوة الإيرانية الصاعدة، وفي بيئة توتر متزايد مع نزعة إسرائيل العدوانية، وفي غيبة دور أو مشروع عربي نظامي، وفي فراغ عربي تتقدم لملئه 'عروبة' الدور التركي الجديد بقيادة أردوغان. |